الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْلُ الأَوَّل
سقوط الخلافة
بتولية المهدي الخلافة، بدأت القوى المختلفة تحاول الحصول على أسلاب الدولة المنهارة، فقد كان بنو أمية يرون أنهم أصحاب الحق الشرعي في الخلافة، وكان هناك صنائع الدولة العامرية، وأنصارها من الصقالبة ومواليها من الجنود المرتزقة، وكان البربر قد تضخم عددهم في أواخر عصر المنصور ابن أبي عامر، واستقر العديد من زعمائهم في الأندلس، إضافة إلى قوة العامة من أهل قرطبة الذين ساندوا المهدي ونصروه على خصومه، وكانت هذه القوة كثيرة الأهواء والنزعات (1)، ولم يتمكن المهدي في كثير من الأحيان السيطرة عليها أو كبح جماح زعمائهم الذين بدأوا أعمالاً كانت مثار استنكار معظم القوى في البلاد، بعد ما عرضوا أمن البلاد إلى الخطر، وأصابوا العاصمة قرطبة بمزيد من الخراب والدمار.
وكانت دولة محمد بن هشام المهدي تقوم على حد قول ابن عذاري:
على " جنود من العامة المحشودة عورض بها أجناد السلطان أهل الدربة والتجربة، ونكوب وزراء جلة، ونصب أضدادهم تقتحم العين هجنة وقماءة، وجرى هذا كله على يدي بضعة عشر رجلاً من أراذل العامة حجامين وخرازين وكنافين
…
" (2).
وقد بدأ المهدي عصره باضطهاده البربر لأنهم كانوا -حسب رأيه- من المؤازرين للدولة العامرية، فأساء معاملتهم وضيق على زعمائهم عند الدخول إليه، وسعى إلى الحط من مكانتهم لسبب أو لغير سبب، مما شجع الغوغاء من العامة على نهب بعض ممتلكاتهم والاعتداء على حرماتهم، وعلى الرغم مما قيل من أن السلطة حاولت السيطرة على مثل هذه الأعمال، ومعاقبة القائمين عليها، وقدمت اعتذارها لزاوي بن
(1) عنان: دول الإسلام: 2/ 642، 643.
(2)
البيان المغرب: 3/ 74.
زيري، وحبوس بن ماكسن وغيرهما من زعماء البربر، إلا أن هؤلاء لم يأمنوا جانب السلطة، وبدأوا يتوجسون من المهدي وأنصاره خيفة احتاطوا لها استعداداً لكل طارئ.
وكان من أعمال المهدي أيضاً إجلاء أعداد كبيرة من الفتيان الصقالبة عن العاصمة قرطبة، فلجأوا إلى مناطق الأندلس الشرقية، واستثنى منهم الفتى واضح صاحب مدينة سالم الذي أقره المهدي على ولايته.
كما أصابت إجراءاته الخليفة هشام المؤيد، الذي سجن في القصر أولاً ثم نقل إلى أحد دور العاصمة، ثم اصطنع بعد ذلك قصة موته في اليوم السابع والعشرين من شعبان سنة 399 هـ.
وتمادى المهدي في سياسته العنيفة كثيراً عندما سجن ولي عهده سليمان بن هشام وبعض الزعماء العرب، وسرح من الجيش ما يقارب السبعمائة ألف جندي أحالهم جميعاً من مناصبهم وقطع أرزاقهم، فأصبحوا عنصراً من عناصر التوتر والشغب (3).
وأمام هذه الأحوال السيئة، والاضطهاد العنيف الذي أصاب البربر في قرطبة، قام هشام بن سليمان بن الناصر بانقلابه في شوال سنة 399هـ، وأعلن نفسه خليفة على البلاد ولقب بالرشيد، وعلى الرغم من النجاح الذي أحرزه إلا أن انقلابه أحبط أمام تعضيد القرطبيين للمهدي، واستماتتهم في الدفاع عن خلافته، وقبض على هشام بن سليمان وولده وأخيه أبي بكر وآخرين من الزعماء الذين عاضدوهم وتم إعدامهم جميعاً (4).
وعمت العاصمة قرطبة حالة من أعمال الشغب المدمرة استهدفت جميع البربر الساكنين فيها دون تمييز، حتى ذهبت ضحية ذلك الشغب أعداد كبيرة منهم. وقد دفعت هذه الأعمال البربر إلى توحيد قواهم، واختيار أحد الأمراء الأمويين لقيادتهم ليناهضوا به المهدي خليفة قرطبة. فوقع الاختيار على سليمان بن الحكم المستعين (5)، الذي اتخذ من قلعة رباح قاعدة له، ثم خرج منها إلى وادي الحجارة فتمت السيطرة عليها عنوة (6)، وحاصر مدينة سالم مدة ثم تركها، وحاول واضح الصقلبي منع
(3) ينظر: عنان، دول الإسلام: 2/ 642 - 645.
(4)
ابن عذاري: 3/ 81، ابن خلدون: 4/ 150.
(5)
هو سليمان بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر، تمكن من الفرار بعد فشل انقلاب هشام بن سليمان.
(6)
في البيان المغرب: 3/ 85: كاتب سليمان أهل وادي الحجارة يدعوهم للطاعة فأبوا عليه
…
حتى دخلها عنوة.
الإمدادات والمؤن عن قوات المستعين، ونجح بعض الشيء، ولكن الأخير فاوض أمير قشتالة سانشو غورسية وأبرم معه اتفاقاً أنقذه من الحصار الذي يعانيه مقابل شروط فرضها أمير قشتالة (7). وفي ذي الحجة من سنة 399 هـ وقع القتال بين قوات المستعين وقوات واضح الصقلبي في مكان يسمى شرنبة على مقربة من قلعة النهر أو قلعة هنارس الحالية، انتهى بهزيمة واضح الصقلبي وارتداده إلى العاصمة قرطبة (8) تلاحقه قوات المستعين التي تمكنت وبعد معركة عنيفة من اجتياح مدينة قرطبة ودخولها في 13 ربيع الأول سنة 400 هـ/5 تشرين أول 1009 م (9)، وأعلن سليمان المستعين نفسه خليفةً على الأندلس (10).
أما المهدي فقد تمكن من الهرب إلى طليطلة وبدأ من هذه المدينة يعد العدة لهجوم يستعيد به ملكه الضائع، وحاول المستعين إجهاض مساعي المهدي لكنه فشل أمام مدينة طليطلة التي تمسكت بطاعة المهدي، ولقي الفشل نفسه أمام مدينة سالم.
فاضطر إلى سحب قواته والعودة بها إلى العاصمة قرطبة نتيجة لسوء الأحوال الجوية (11). وقد هيأ انسحابه للمهدي ظروفاً تمكن من توظيفها لصالحه، وتمكن من جمع أكبر ما يمكن من الأنصار الموالين لدعوته، إضافة إلى مفاوضة واضح الصقلبي لأمير برشلونة رامون الثالث وأخيه ارمنجول أمير مقاطعة أورخل (12) لإمدادهم بالمرتزقة (13) وقد وافق الأميران المذكوران على مساعدة قوات المهدي مقابل شروط قاسية وافق عليها واضح الصقلبي، وقبلها المهدي مضطراً (14).
(7) منها تسليمهم لأمير قشتالة " ما أحب من مدائن الثغر " ينظر: ابن عذاري: 3/ 86.
(8)
ابن عذاري: 3/ 87؛ عنان: 2/ 646.
(9)
وقعت المعركة في مكان يسمى قنتيش. ينظر: الصوفي، تاريخ العرب في إسبانيا؛ 180 الحاشية رقم (1)، عنان: 2/ 646.
(10)
ابن بسام: ق 1، ج 1: 36، 43.
(11)
ابن عذاري: 3/ 93؛ المراكشي، المعجب:42.
(12)
الصوفي: المصدر السابق: 192 وقارن؛ عنان: 2/ 648 وفي البيان المغرب: 3/ 95 ذكر ابن عذاري ملكهم باسم ارمقند، وقد قتل مع عدد كبير من جنده المرتزقة.
(13)
كانوا بحدود تسعة آلاف فارس.
(14)
من هذه الشروط: أن يتعهد المهدي بدفع مبلغ مائة دينار لكل من الأجيرين يومياً، ولجنودهم من المرتزقة دينارين في اليوم، إضافة إلى مؤونتهم اليومية، ويتعهد طيلة فترة بقائهم معه أن تكون الغنائم التي يحصلون عليها خالصة لهم، ولا يعترض أحد عليهم فيما يأتون من أعمال ضد البربر.
وفي منتصف شوال سنة 400 هـ/ مارس، 1010 م وقع اللقاء بين الطرفين في مكان عقبة البقر (15)، ومع اشتداد أوار المعركة وارتداد قوات البربر؛ توقع سليمان المستعين الهزيمة، فهرب من الميدان نجاة بنفسه (16)؛ ولكن قوات البربر أعادت الكرة وبشدة فخرقت صفوف قوات المهدي، وأنزلت بها الخسائر الفادحة، وارتدوا بعد ذلك إلى قرطبة وأجلوا ذويهم وحملوا أموالهم وأخلوا العاصمة باتجاه وادي آره، ليدخلها المهدي ويعلن خلافته للمرة الثانية (17).
ولكن المهدي لم يكف عن ملاحقة البربر فاصطدم بهم عند وادي آره على نهر الوادي الكبير، ودارت بين الطرفين معركة شديدة انتهت بهزيمته، وارتداده بفلوله إلى العاصمة قرطبة (18)؛ وكان لهذا الإنكسار آثاره السلبية على مكانة المهدي، فقد استمرت قوات البربر تغير على نواحي العاصمة بين الحين والآخر، وضاقت الأحوال بسكانها مع سوء سياسة المهدي وبطانته؛ وقد وجد واضح الصقلبي في هذه الظروف فرصة مناسبة للخلاص من المهدي، فتعاقد مع بعض الفتيان الصقالبة على اغتيال المهدي في ذي الحجة من سنة 400 هـ (19)، وأعادوا الخليفة المؤيد، وأعلنوا بيعته أمام الملأ (20).
" وهكذا استرد هشام المؤيد الخلافة بعد سلسلة من الخطوب والأحداث
…
وكان يومئذٍ كهلاً في نحو السابعة والأربعين من عمره، وكان قد مضى عليه مذ ولي الخلافة صبياً لأول مرة أربعة وثلاثون عاماً، وفي تلك الفترة شهدت الأندلس طائفة من الأحداث الجسام لم تشهد مثلها من قبل " (21).
ولكن سليمان المستعين وقواته من البربر رفضوا الولاء للسلطة الجديدة، وبدأوا ينفذون خطة لاستعادة سلطانهم السابق، فبدأت غاراتهم المرهقة على أطراف العاصمة وبعض المدن الأخرى (22). حتى فقدت البلاد مواردها الإقتصادية، وانفلت الأمن في عمومها (23).
(15) حصن على مسافة عشرين كم شمال قرطبة. وفي المعجب، للمراكشي، 42:" دار البقر ".
(16)
ابن عذاري: 3/ 95.
(17)
ابن عذاري: 3/ 95، ابن خلدون: 4/ 150.
(18)
ابن عذاري 3/ 95، 96، ابن الخطيب، أعمال الأعلام:115.
(19)
ابن بسام: ج 1 ق 1: 45، ابن عذاري: 3/ 100، المراكشي:42.
(20)
ابن بسام: ج 1 ق 1: 45، ابن عذاري: 3/ 100.
(21)
عنان: دول الإسلام: 2/ 649.
(22)
منها مثلاً: مدينة مالقة والبيرة والجزيرة الخضراء وغيرها من المدن والكور الأندلسية.
(23)
ابن عذاري: 3/ 101 وما بعدها؛ المراكشي: 843.
ومع سوء الأحوال، والنقص الشديد في الموارد الأساسية المعززة لصمود المدينة، وتعنت عامة أهل قرطبة ورفضهم المطلق لكل دعاوي الصلح والسلام، بل كانت الدعوة إلى الصلح والتصافي بين الأطراف المتنازعة تثير فيهم أنواعاً من أعمال العنف غير المسوغة حتى سدت جميع أبواب الوساطات (24)، فقد أيقن واضح الصقلبي أن بقاءه في العاصمة يعني انتظاره لمصير مجهول لا تحمد عواقبه، فحاول مغادرتها سراً، لكن أمره افتضح من قبل كبار الجند، فقبض عليه، وتمت تصفية أمواله وإعدامه (25).
وفي أواخر شهر شوال سنة 403هـ، مارس 1013 م اجتاحت قوات المستعين العاصمة قرطبة ودخلتها عنوة، وقبض على الخليفة هشام المؤيد وقتله (26)، وأعلن نفسه خليفة في الأندلس وللمرة الثانية (27)؛ وبدأ سليمان بتنظيم شؤون الحكومة المضطربة " وكانت الفوضى قد سرت إلى جميع النواحي، وتفككت عرى الدولة، وقصر نفوذ الحكومة إلا عن قرطبة وما يجاورها، وقبض البربر الذين رفعوا سليمان إلى (الخلافة) على السلطة الحقيقية، فتولوا مناصب الحجابة والوزارة، وسائر المناصب المهمة. ورأى سليمان إرضاء لهم من جهة، وإبعاداً لهم عن قرطبة من جهة أخرى، أن يقطعهم كور الأندلس، وكانوا ست قبائل رئيسة، فأعطى قبيلة صنهاجة وزعماءها بني زيري، ولاية البيرة (غرناطة)، وأعطى مغراوة جوفي البلاد، وبني برزال وبني يفرن ولاية جيان ومتعلقاتها، وبني دمر وازداجة منطقة شذونة ومورور، وأقر المنذر بن يحيى التجيبي على ولاية سرقسطة والثغر الأعلى
…
وولى بني حمود الأدارسة ثغور المغرب
…
".
ويهمنا هنا أمر بني حمود الصنهاجيين لدورهم في أحداث البلاد بعد ذلك، فقد ولي القاسم بن حمود بن علي الجزيرة الخضراء، وولي أخوه علي بن حمود مدينتي سبتة وطنجة، وتولية بني حمود الصنهاجيين أمر المغرب والجزيرة الخضراء أول بلاد الأندلس سقطة حسبت على المستعين وأذهبت دولته (29)، فقد بلغ الطموح بعلي بن حمود مبلغه
(24) ابن الخطيب: أعمال الأعلام: 117.
(25)
ابن عذاري: 3/ 105.
(26)
تشير بعض الروايات إلى مصير هشام المؤيد، فبعضها يذكر أن المستعين أخفاه فترة في أحد القصور ثم قتله دون علم أحد؛ وتشير أخرى إلى سجنه في أحد القصور، ثم تمكنه من الفرار إلى المرية حتى وافاه الأجل هناك.
(27)
ابن عذاري: 3/ 113؛ ابن خلدون: 4/ 151.
(28)
ينظر، عنان: دول الإسلام: 2/ 653، 654.
(29)
ابن بسام؛ ق 1ج 1: 38، ابن عذاري: 3/ 114.
فقام على الخليفة المستعين يروم قمة السلطة بعد ما تقلب فيها أفراد هم في الحقيقة ليسوا أكثر كفاءة منه، وقد ساعدته على ذلك أسباب وعوامل منها:
1 -
زعمه أن الخليفة هشام المؤيد ولاه العهد من بعده، وأظهر لإثبات ذلك كتاباً نسبه إلى الخليفة هشام، كان قد أرسله إليه خلال فترة حصار مدينة قرطبة من قبل المستعين وقواته (30)، وعدّ ابن حمود ذلك الكتاب المزعوم كافياً لإضفاء الشرعية على خروجه ومطالبته بالخلافة (31).
2 -
تمزق وحدة البلاد، وانتشار السلطة بين قوى متعددة فسح المجال واسعاً لابن حمود لكي ينفذ ما كان يصبو إليه من الوصول إلى قمة السلطة، واستسلاب الخلافة (32)، إضافة إلى كونه ينتمي إلى عائلة مشهورة، ويقود قبيلة من أقوى القبائل العربية البربرية وهي قبيلة زناتة.
3 -
وثمة عامل مساعد مهم هيأه له الخليفة المستعين عندما ولاه أمر المغرب العربي، وولى أخاه القاسم الجزيرة الخضراء، وقد تنبأ معظم المؤرخين بسوء هذه السياسة التي أمضاها المستعين دون مراجعة دقيقة (33).
4 -
كسب ود جميع القوى المتعاطفة مع هشام المؤيد ومنهم الصقالبة ورئيسهم خيران المتغلب على مدينة المرية والذي كان يدعو للخليفة هشام المؤيد، ويناهض الخليفة المستعين (34). وهكذا خلق ابن حمود الجو المناسب للقيام على الخليفة المستعين مع مساعدة الظروف له، فعبر من مدينة سبتة، ونزل الجزيرة الخضراء وسار بقواته ومن انضم إليه من زعماء الكور باتجاه العاصمة قرطبة، حيث التقى مع قوات المستعين في ظاهرها ودارت بين الطرفين معركة شديدة، خسرها المستعين، ودخل ابن حمود قرطبة في الثامن والعشرين من محرم سنة 407 هـ تموز 1016 م.
(30) ينظر: ابن عذاري: 116. والنص: " أخرج كتاباً نسبه إلى هشام بن الحكم يقول فيه: أنقذني من أسر البرابر والمستعين وأنت ولي عهدي ". والمراكشي: 44، والصوفي: 237 والحاشية رقم (2) والنص: " ويقول ابن الخطيب: يقال إن هشاماً المحجوب لما شعر بالهلاك خاطب ابن حمود بسبتة يستنصره ويقلده دمه والطلب بثأره ويفضي إليه بعهده
…
".
(31)
الصوفي: 237.
(32)
عنان: 658.
(33)
ينظر: الهامش رقم (29) فيما سبق.
(34)
ابن عذاري: 3/ 116؛ ابن الخطيب؛ أعمال الأعلام: 128.
وبإعدام المستعين في التاريخ المذكور آنفاً تبدأ سلسلة الخلفاء الحموديين الذين حكموا الأندلس وأولهم:
علي بن حمود، وحكم قرابة سنة قبل مقتله سنة 408 هـ/1018 م (35) ثم تولى بعده أخوه القاسم بن حمود (408 - 412 هـ/1021 م) ثم يحيى بن حمود (412 - 413 هـ/ 1022 م).
ثم القاسم بن حمود وللمرة الثانية (413 - 414 هـ/1023 م)، وفي عهده انتهت خلافة هذه الأسرة (36)، وانتقلت إلى الأسرة الأموية مرة أخرى؛ وأول خلفائهم: عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار الملقب المستظهر بالله، وقد قتل في السنة التي تولى فيها أمر الخلافة - أي سنة 414 هـ/1024 م. ثم أعقبه محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الناصر الملقب المستكفي بالله واستمر حتى مقتله سنة 416 هـ/1025 م (37).
ثم عادت الخلافة إلى الأسرة الحمودية وتولاها منهم:
يحيى بن حمود للمرة الثانية، ثم أفلَ نجم هذه الأسرة لتعود إلى بني أمية مرة أخرى، حتى مل الناس تلك الشخصيات، وثقلت ألقابهم أمام ندرة أعمالهم وقلة تدبيرهم، وانتهى الأمر في سنة 422 هـ/1031 م بعزل هشام الثالث المعتد بالله آخر الخلفاء الأمويين، وإلغاء الخلافة نهائياً عن الأندلس، بعد أن عجزت عن إقرار الأمور، وفرض سلطانها على العاصمة قرطبة، ناهيك عن إقرار تلك السلطات في بقية مدن الأندلس الأخرى؛ وفي قال ابن الخطيب السلماني:" ومشى البريد في الأسواق والأرباض بأن لا يبقى أحد بقرطبة من بني أمية ولا يكنفهم أحد "(38).
وهكذا انحدرت الأندلس، في النصف الأول من القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) عقب سقوط الخلافة العربية إلى درك من التمزق والفوضى، وآلت البلاد بعد أن كانت وحدة موحدة " تمتد من ضفاف دويرة شمالاً إلى مضيق جبل طارق جنوباً، ومن شاطئ البحر المتوسط ومن طركونة شرقاً حتى شاطئ المحيط (الأطلسي) غرباً "(39). إلى أشلاء ممزقة، وولايات ومدن متخاصمة يسيطر على كل منها حاكم
(35) ابن بسام: ق 1 ج 1: 100، ابن عذاري: 3/ 122؛ ابن الخطيب: 151.
(36)
ابن بسام: ق 1 ج 1: 101، 316؛ ابن الخطيب:136.
(37)
ابن بسام: ق 1 ج 1: 48 و 53 و 433، ابن الخطيب:135.
(38)
أعمال الأعلام: 139.
(39)
عنان: 676.
سابق، أو متغلب، أو زعيم أسرة، نزلت إلى ميدان الصراع الذي شمل البلاد كلها.
واستمرت هذه الحالة قرابة ثمانين عاماً حتى دخول المرابطين إلى الأندلس وتمكنهم بعد جهود مضنية من استعادة وحدة البلاد، والوقوف بوجه الممالك الإسبانية الشمالية الساعية إلى غزو البلاد والقضاء على كل معالم عروبتها وحضارتها.
وبعد هذا العرض السريع للأحداث التي توالت على الأندلس يمكن أن ندرج الأسباب التي أدت إلى سقوط الخلافة الأموية بالأندلس على الشكل الآتي:
1 -
غياب القائد، والأداة القادرة على الحسم في الوقت المناسب:
إن غياب القائد والأداة القادرة على الحسم من الأسباب الأصلية التي أدت إلى زوال الخلافة الأموية من الأندلس، وما عدا ذلك من الأسباب فلاحقة بهذا السبب بشكل أو بآخر. فالقائد المطلوب في الأندلس نمط خاص من الرجال وبناء متكامل من العصامية والفروسية والمقدرة الإقتحامية وبناء متكامل من النظرة الشاملة والوعي المقتدر المبدع والسرعة في اتخاذ القرار. وهذا النمط من الرجال يولد حيث توجد الأزمات، والتحديات المصيرية، وعندما يظهر في الميدان يبدو وكأن الكل يعرفه، ومن ثم فهو وحده القادر على توجيه الأدوات في اتجاه الأهداف المركزية للدولة، بعد امتلاكها لجميع القدرات الفاعلة في الرد على التحدي، بتحدٍّ أقوى وأكثر عنفواناً، وبمعنى آخر: إن الأندلس خلال هذه الفترة كانت تحتاج إلى رجال قادرين على التفاعل مع الأحداث، رجال من طراز عبد الرحمن الداخل مؤسس الدولة، وعبد الرحمن الناصر باني مجدها السياسي والحضاري.
2 -
الفصل بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية:
استمر الحاكم في الأندلس " أمير أو خليفة " يجمع بين السلطتين الزمنية والروحية إلى أن سيطر الحاجب المنصور ابن أبي عامر ثم أبناؤه من بعده (عبد الملك وعبد الرحمن) على مقاليد الأمور في عهد الخليفة هشام المؤيد فانتزعوا السلطة الزمنية لأنفسهم، وتركوا الخلافة مجرد رمز لا معنى له في الأصل، وكان هذا الفصل مقدمة لنهاية الخلافة لا سيما بعد أن أجبر عبد الرحمن شنجول الخليفة المؤيد على توليته العهد بعده، وهو أمر خطير، هز الأندلس هزاً عنيفاً وقاد البلاد إلى دوامة الفتن والحروب وتسابق كل الطامعين إلى نيل الخلافة التي أفرغت من مضامينها الأصلية (40).
(40) العبادي: 253.
3 -
التركيبة الإجتماعية في الأندلس:
كان أهل الأندلس يؤلفون أخلاطاً متنافرة من السكان بعضهم عرب وبعضهم بربر، وبعضهم صقالبة، وبعضهم مولدون وبعضهم مستعربون أو يهود وكان كل من هذه العناصر البشرية ميالاً إلى السكن في بؤرات عمرانية خاصة، فنرى أن العنصر الغالب على قرطبة من العرب، والعنصر الغالب على إشبيلية وطليطلة من المولدين، والعنصر الغالب على غرناطة وقرمونة ومالقة من البربر، وكان لهذا أثره الكبير في ميل أهل الأندلس إلى الاستقلال والخروج على السلطة المركزية، مما كان يقضي باستعمال القوة كوسيلة لازمة للوحدة السياسية، ومع ذلك فقد كانت القوة وحدها لا تكفل للأمير الحاكم السيطرة على سائر البلاد، وكان لزاماً على الحاكم أن يصطنع الحزم، لأن الرغبة في الاستقلال والانسلاخ عن جسم الدولة كانت تجعل هناك نوعاً من الحساسية عند الرعية إزاء الحاكم، ثم إنها كانت تدفعهم إلى الثورة عليه كلما لمسوا منه استبداداً بشؤون الدولة أو تعسفاً في معاملته لهم (41).
4 -
الاستعانة بأمراء وملوك الممالك الإسبانية الشمالية:
أفضت المنازعات والفتن إلى استعانة الأطراف بأمراء وملوك الممالك الإسبانية الشمالية مقابل التنازل عن بعض الحصون والمدن الحدودية المهمة، فقد منحت مثل هذه الحصون من قبل المتنازعين مقابل مئات من جنود هذه الممالك كانوا يقاتلون مع هذا الطرف أو ذاك ضد الطرف الآخر، وخلال فترة النزاع الذي أشرنا إليه سابقاً تنازل المتخاصمون عن حصن غرماج، وأوسمة، وشنت اشتبين وغيرها من المناطق المهمة التي بذلت الدولة في عهد الناصر والمنصور ابن أبي عامر جهوداً استثنائية في السيطرة والمحافظة عليها، لأنها نقاط استراتيجية للجيوش العربية المتقدمة باتجاه الممالك الإسبانية الشمالية.
(41) عبد العزيز سالم، المسلمون وآثارهم في الأندلس: 364؛ وينظر أحمد بدر: تاريخ الأندلس في القرن الرابع الهجري، 228 وما بعدها.