الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْلُ الأَوَّل
تاريخ الفكر العربي في الأندلس
بدأ العرب عملية فتح الأندلس في عام 92 هـ، واستكمل فتحها عام 95 هـ وبدأ العصر الإسلامي الأول فيها، والذي يعرف باسم عصر الولاة (95 - 138 هـ). شهد هذا العصر كثيراً من الحملات العسكرية التي سارت إلى الشمال لإخضاع المتمردين الإسبان، أو العبور وراء جبال البرتات لوضع حد لهجوم الفرنجة، أو فتح أراضٍ جديدة وراء هذه الجبال.
وتميز هذا العصر بعدم الاستقرار السياسي بسبب المنازعات القبلية الكثيرة فيه، والذي أدى إلى تعاقب أربعة وعشرين والياً لحكم هذه الولاية (1)، فأدى هذا الأمر إلى عدم استقرار المجتمع الأندلسي في هذا العصر، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن أكثر الداخلين إلى الأندلس في هذه الفترة كانوا جنوداً وحكاماً، اهتموا بالأمور السياسية والعسكرية بالدرجة الأولى.
ومع ذلك فقد عرفت الأندلس في عصر الولاة نوعاً من الثقافة، كانت اللبنة الأولى لبناء صرح حضارة العرب فيها. فقد دخل الأندلس في فترة الولاة مجموعة من الصحابة والتابعين، رافقوا عمليات الفتح أو بعدها (2)، وكان واجبهم الأول بعد الجهاد تفقيه الناس بأمور الدين، وتخطيط المساجد في أمهات المدن الأندلسية المفتوحة، والتركيز على علوم الدين واللغة أولاً (3). ويبدو لنا أن أماكن التعليم في هذا العصر كانت لا تتجاوز حلقات المساجد أولاً، والكتاتيب التي ورد لها ذكر في أواخر عصر الولاة ثانياً (4).
(1) هيكل، الأدب الأندلسي، ص 58 - الحجي، المرجع السابق، ص 207 وما بعدها.
(2)
ينظر، المراكشي، المعجب، ص 19 - 10 - المقري، نفح الطيب، ج 2، س 51 وما بعدها - هيكل، المرجع السابق، ص 60 - 61 - الحجي، المرجع السابق، ص 149 وبعدها.
(3)
صاعد، طبقات الأمم، ص 62.
(4)
كريم عجيل حسين، الحياة العلمية، ص 208، ص 223.
وفي هذا العصر ظهرت البوادر الأولى للأدب العربي المتمثل في الشعر والنثر والخطابة، فهناك أبيات من الشعر نُسبت إلى فاتح الأندلس الأول طارق بن زياد منها:
ركبنا سفيناً بالمجاز مقيَّرا
…
عسى أن يكون الله منّا قد اشترى (5)
ونسب إليه الخطبة المشهورة: " أيها الناس، أين المفر
…
"، فلو صحت نسبة
هذين النصين إلى طارق بن زياد، لقررنا أن هذين النصين كانا أول أدب عربي ظهر في الأندلس خلال عصر الولاة، إلا أن الشك يدور حول نسبة هذين النصين إلى طارق بن زياد، وقد قدم بعض الباحثين دراساتهم في هذا المجال (6).
إلا أن بعض المصادر حفظت لنا بعض الشعراء في عصر الولاة ونماذج من شعرهم، ويأتي في طليعتهم: أبو الأجرب جعونة بن الصمة الذي هجا الصميل بن حاتم زعيم القبائل القيسية ومن ثم مدحه بعد ذلك، وكذلك بكر الكنائي، وقد سأل أبو نواس عباس بن ناصح عندما التقى به في العراق عن هذين الشاعرين وعن نماذج من شعرهما.
ومن شعر جعونة:
ولقد أراني من هواي بمنزل
…
عال ورأسي ذو غدائر أفرعُ
والعيش أغيد ساقط أفنانه
…
والماء أطيبه لنا والمرتع (7)
ومن شعراء هذا العصر أيضاً، الوالي أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبي 125 - 128 هـ/743 - 746 م، والذي كان يلقب بعنترة الأندلس (8)، ومن شعره:
فليت ابن جواس يخبر أنني
…
سعيت به سَعْيَ امرئ غير عاقلِ
قتلتُ به تسعين تحسب أنهم
…
جذوع نخيل صُرِّعت في المسايل
ولو كانت الموتى تباع اشتريته
…
بكفي وما استثنيت منها أناملي (9)
هذه النماذج البسيطة من الشعر قالها شعراء مشارقة وفدوا إلى الأندلس، فهو
(5) المقري، نفح الطيب، ج، ص 124.
(6)
الحجي، المرجع السابق، ص 57 وبعدها - هيكل، المرجع السابق، ص 69 وبعدها، السامرائي، " طارق بن زياد بين الخطبة وإحراق السفن " مجلة آفاق جامعية.
(7)
ينظر، ابن سعيد، المغرب، ج 1، ص 131 - 132 - المقري، نفح الطيب، ج 2، ص 156 - الضبي، بغية الملتمس، ص 261 (رقم، 626).
(8)
الضبي، بغية الملتمس، ص 276 - رقم (686)، الحميدي، جذوة المقتبس، ص 200 رقم (402) - مجهول، أخبار مجموعة، ص 56 - 60.
(9)
الحميدي، المصدر السابق، ص 200 - 201 - ابن القوطية، تاريخ افتتاح الأندلس، ص 18 - 19.
يتناول المدح والهجاء والفخر والحماسة على غرار شعر المشرق، ولا أثر للأندلس على هذه النماذج التي قيلت، سوى أنها قُرئت في أرض الأندلس ليس إلا.
وبجانب الخطبة المنسوبة إلى طارق بن زياد، فإن ظروف العصر تتطلب الخطب الحماسية أولاً في مجال الحروب الجهادية أو في مجال الحروب القبلية، كما أن دعاة الإسلام في الأندلس يتطلب الأمر منهم إلقاء الخطب الدينية في أيام الجمعة أو أوقات الدعوة ثانياً (10).
والكتابة كانت ضرورية تقتضيها ظروف الفتح وإدارة البلاد، وإعطاء المواثيق وكتابة المعاهدات. ومن أشهر كتابات هذا العصر عهد موسى بن نُصير إلى تُدمير، وعهد بنبلونة، ورسالة يوسف الفهري آخر ولاة الأندلس إلى عبد الرحمن الداخل (11). ومن أشهر كتاب هذا العصر خالد بن يزيد كاتب يوسف الفهري، وكذلك أمية بن زيد الذي دخلَ الأندلس مع جنود بلج بن بشر، واتصل بخالد بن يزيد فجعله كاتباً معه (12).
وكانت الخصائص الفنية لهذا النثر هي خصائص النثر المشرقي نفسه الذي كان معروفاً في عصر بني أمية، فهو يميل إلى الإيجاز، ويعنى بقوة العبارة أكثر من عنايته بتجميلها، ثم خلوه من المقدمات الطويلة (13).
وفي الوقت نفسه لم يتوفر لفاتحي الأندلس التأثر بالثقافة القوطية المحلية، نظراً لضعف هذه الثقافة، وضيق أفقها، واقتصارها على المجال الديني بصورة خاصة. إضافة إلى أن ظروف الأندلس السياسية في عصر الولاة، أوجدت فيها جواً لا يلائم أي تقدم في مضمار الثقافة، لانهماك الناس بالمنازعات الكثيرة التي سيطرت على مسرح الأحداث، لذا اقتصر اقتباس الأندلسيين من الثقافة في هذا العصر على ما هو ضروري من المشرق العربى، لتمشية أمور الحياة وفق أحكام الدين الإسلامي. أما في مجال العلوم الصرفة، فكان أهل الأندلس منذ الفتح حتى بداية عصر الإمارة يعتمدون في الطب على كتاب مترجم من كتب المسيحيين يقال له الإبرشيم (المجموع - الجامع)(14).
(10) ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 34 - مؤلف مجهول، أخبار مجموعة، ص 61 - هيكل، المرجع السابق، ص 65.
(11)
ينظر، الحميري، الروض المعطار، ص 62 - 63 - العذري، نصوص عن الأندلس، ص 4 - 5 - السامرائي، الثغر الأعلى، ص 86.
(12)
ابن عذاري، البيان المغرب، ج 2، ص 45 - 46.
(13)
هيكل، المرجع السابق، ص 66 - 67.
(14)
أحمد بدر، دراسات في تاريخ الأندلس، ج 1، ص 169 - 170 - سالم، قرطبة، ج 2، ص 207.
من المعروف أن الحضارة الأندلسية لم تنشأ فجأة، بل مرت في أدوار مختلفة، وخضعت لمؤثرات حضارية مشرقية تربطها بالوطن الأم باعتبارها جزءاً منه، كما خضعت أيضاً لمؤثرات حضارية محلية بحكم البيئة التي نشأت فيها (15).
ففي عصر الولاة كانت الأندلس تابعة للسيادة الأموية سواء في بلاد الشام أم في قرطبة، ولهذا كان من الطبيعي أن تتأثر بالمظاهر الحضارية الشامية جميعاً، وهو ما يسمى بالتقليد الشامي:
فمن الناحية الدينية، اعتنق الأندلسيون في هذه الفترة مذهب الإمام الأوزاعي (عبد الرحمن بن يحمد الأوزاعي 88 - 157 هـ)(16)، الذي كان من المجاهدين الذين رابطوا في مدينة بيروت لصد غارات العدو البيزنطي البحرية، ولهذا اهتم مذهبه بالتشريعات الحربية وأحكام الجهاد، وهذا الاهتمام كان يناسب وضع الأندلسيين في هذه الفترة من حياتهم القائمة على حروب الجهاد، ولهذا اعتنقوا هذا المذهب.
وتختلف الروايات حول العالم الأول الذي نقل مذهب الأوزاعي إلى الأندلس فترجح بين القاضي الغرناطي أسد بن عبد الرحمن (توفى عام 150 هـ) وصعصعة بن سلام الشامي الأندلسي (توفى عام 192 هـ أو 202 هـ)(17) أما الحياة الأدبية في الأندلس في هذا العصر فقد كانت صدى لحياة الشام الأدبية، فالشعر الذي قاله أشهر شعراء هذه الفترة -وقد ذكرنا بعضهم- كان يحاكي شعر الفرزدق والأخطل وجرير بالمشرق (18).
وإذا أخذنا بالتقسيم السياسي لعصر الإمارة 138 - 316 هـ حسب منهج الدكتور أحمد بدر (19)، وهو على الترتيب الآتي:
1 -
عصر التأسيس 138 - 172 هـ/756 - 788 م (عصر عبد الرحمن الداخل).
2 -
عصر التوطيد 172 - 206 هـ/788 - 822 م (عصر هشام الأول 172 - 180 هـ، وعصر الحكم بن هشام 180 - 206 هـ).
(15) العبادي، المرجع السابق، ص 316.
(16)
ابن خلكان، وفيات الأعيان، ج 3، ص 127.
(17)
ابن الفرضي، تاريخ علماء الأندلس، ج 1، ص 74 (رقم 239) - الذهبي، العبر في خبر من غبر، ج 1، ص 309.
(18)
ينظر، ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 1، ص 37 - 47 - السامرائي، " أثر العراق الحضاري على الأندلس "، ص 6.
(19)
دراسات في تاريخ الأندلس، ج 1، ص 72 وما بعدها.
3 -
عصر الاستقرار والازدهار 206 - 273 هـ/822 - 886 م وهو عصر عبد الرحمن الأوسط 206 - 238 هـ وعصر ابنه الأمير محمد 238 - 273 هـ.
4 -
عصر الحرب الأهلية، 273 - 300 هـ/886 - 912 م، وهو عصر الأمير المنذر بن محمد 273 - 275 هـ وعصر الأمير عبد الله بن محمد 275 - 300 هـ، نرى أن الملامح الشامية للحضارة العربية دخلت الأندلس في عصر الولاة وعصر التأسيس من عصر الإمارة، وأن الملامح الحجازية دخلت في عصر التوطيد من عصر الإمارة، كما أن الملامح العراقية دخلت في عصر الاستقرار والإزدهار من عصر الإمارة وما تلاه من عصور (20).
أما التأثير الحجازي، فبدأ في عصر التوطيد، ولعل السبب الذي أدى إلى ضعف التأثير الشامي على الأندلس هو أن سليمان وعبد الله من أولاد الداخل قد تمردوا على أخيهم الأمير هشام، وكان وراءهما الحزب الشامي في الأندلس، فلما انتصر الأمير هشام على إخوانه، هربوا إلى شمالي أفريقية، وضعف الحزب الشامي بالأندلس، فنتج عن ذلك ضعف شأن التأثير الشامي الذي سيطر على الأندلس، وبذلك نجد الأندلسيين، وبخاصة أميرهم، يبحثون عن آفاق حضارية جديدة غير الشامية، فاهتدوا إلى الملامح الحجازية.
وكان الحجاز في القرن الثاني للهجرة مركزاً حضارياً هاماً للفنون والموسيقى، والعلوم الدينية، ففي مجال الفنون، ظهرت الممارسات الموسيقية الأولى في الحجاز وهي عبارة عن الموسيقى العربية الأصلية الممزوجة بالمؤثرات الفارسية والبيزنطية نتيجة حركة الفتوحات العربية، وكان هناك تنافس بين مكة والمدينة في هذا المجال. وسرعان ما انتقل هذا الفن إلى الأندلس عن طريق الجواري والمغنين الذين رحلوا إلى الأندلس ونقلوا معهم هذه المظاهر الحضارية. وفي المقدمة تأتي المغنية (عجفاء) التي أثارت إعجاب الأندلسيين في عهد الأمير هشام، ويأتي بعدها الثنائي الغنائي الحجازي (علون وزقون) في عهد الأمير الحكم (21).
أما في مجال العلوم الدينية، فقد كانت المدينة المنورة مركز العلوم الدينية، وقد توج نضوج هذه العلوم وجود الإمام مالك بن أنس فيها (توفي عام 179 هـ) صاحب
(20) السامرائي، " أثر العراق الحضاري "، ص 2.
(21)
المقري، نفح، ج 3، ص 130 - سالم، قرطبة حاضرة الخلافة، ج 2، ص 86.
كتاب الموطأ الذي يعني (السهل الواضح)، وقد ذاعت شهرة الإمام مالك في العالم الإسلامي، فأقبل الأندلسيون على اعتناق مذهبه في عهد الأمير هشام. وشاع هذا المذهب في الأندلس بعد أن استهوى الأمير هشام ومن حوله من الفقهاء ورواد الحديث، تاركين مذهب الأوزاعي. والروايات تعزو هذا التحول إلى الإعجاب المتبادل بين مالك والأمير هشام، هذا الإعجاب الذي جسده الفقهاء الأندلسيون تلاميذ مالك، دون أن يرى أحدهم الآخر (22). بالإضافة إلى التعاطف بين الأمير هشام ومالك الناجم عن عداوة الاثنين للعباسيين، إذ ساند الإمام مالك ثورة محمد ذي النفس الزكية في المدينة عام 145 هـ ضد الخليفة العباسي المنصور، وقد أفتى مالك بجواز تحلل المسلمين من بيعة المنصور، ولذا لقي كبير عناء من العباسيين (23).
كذلك لا يُنسى دور علماء الأندلس الذين رحلوا إلى الحجاز ودرسوا على يد الإمام مالك، فنقلوا مذهبه إلى الأندلس، وفي مقدمتهم أبو عبد الله زياد بن عبد الرحمن اللخمي (توفي عام 204 هـ أو قبلها) والملقب بـ (شبطون) الذي أدخل مذهب مالك إلى الأندلس، وأخذه عنه يحيى بن يحيى الليثي (عاقل الأندلس) كما لقبه الإمام مالك.
وتذكر الروايات أن يحيى بن يحيى أخذ عن الإمام مالك بالذات وروى عنه الموطأ، وتعتبر روايته من أصح الروايات (24). ويليه عيسى بن دينار الفقيه المشهور، وعبد الملك بن حبيب السلمي الذي أخذ من طبقة أصحاب مالك وعاد إلى الأندلس ليدون كتاب الواضحة (25).
وتعلل الروايات أن الشبه الكبير بين طبيعة أهل المغرب والأندلس وطبيعة أهل الحجاز، من حيث البساطة، كان من أسباب انتشار المذهب المالكي في مغرب العالم الإسلامي. ولهذا إن عقلية أهل المغرب والأندلس كانت تغلب عليها نزعة أهل الحديث، وجانبوا نزعة أهل الرأي والقياس (مذهب أبي حنيفة)(26).
(22) إبراهيم بيضون، الدولة العربية في إسبانيا، ص 224 - بروفنسال، حضارة العرب في الأندلس. ص 43.
(23)
المسعودي، مروج الذهب، ج 3، ص 340 - ابن الأثير، الكامل، ج 5، ص 532.
(24)
ابن فرحون، الديباج المذهب، ج 2، ص 352 - عبد البديع، الإسلام في إسبانيا، ص 40.
(25)
ابن الفرضي، المصدر السابق، ج 1، ص 260 - 271 (رقم 816) - ج 1، ص 203 (رقم 610)، ج 2، ص 180 (رقم 1556) - أحمد أمين، ظهر الإسلام، ج 3، ص 48 - 49 أحمد بدر، المرجع السابق، ج 1، ص 173.
(26)
العبادي، المرجع السابق، ص 326 - 327 - أحمد أمين، المرجع السابق، ج 3، ص 29.
ولم يقف الأمر عند انتشار المذهب المالكي في الأندلس في هذه الفترة فقط، بل تعداه إلى انتشار قراءة أهل المدينة للقرآن - وبالذات قراءة نافع بن عبد الرحمن (توفي عام 169 هـ)(27) للقرآن (قارئ أهل المدينة) في الأندلس. وينسب إلى الغازي بن قيس إدخال هذه القراءة على عهد الأمير الداخل، وقد امتدح الإمام مالك هذه القراءة.
وكذلك قلدت الأندلس الحجاز في تنقيط القرآن وتشكيله (28). وحاول المذهب الحنفي طرق أبواب الأندلس، إلا أن ولاة الأمر فيها وبخاصة الأمير هشام أغلقوا الأبواب دون دخول هذا المذهب (29).
أما الأدب الأندلسي في فترة التأسيس والتوطيد، فسار على النهج التقليدي المشرقي من فخر وحماسة ومدح، إلا أنه أيضاً ظهرت بوادر أوليات الأدب الأندلسي، فهناك التجديد الموضوعي، وتزعمه الشاعر أبو المخشي عاصم بن زيد العبادي، الذي يتحدث في شعره عن محنته حين فقد بصره، فعبر عن هذه المحنة تعبيراً إيحائياً بسيطاً مؤثراً، وذلك حيث ذكر زوجته وخضوعها للأعداء بسبب فقدان عائلها لنور عينيه، وهذا ما يسمى بالتجويد الفني:
خضعت أم بناتي للعدا
…
إذ قضى الله بأمر فمضى
ثم أخذ الشاعر يجسم محنة فقدان البصر، فيجعل من يصاب بها:
وإذا نال العمى ذا بصر
…
كان حياً مثلُ ميت قد ثوى (30)
أما الأمير عبد الرحمن الداخل فكان شاعراً مقلداً، إلا أنه ركز على الجانب العاطفي عند وصفه للنخلة بشعره المعروف (31). ومن شعراء هذا العصر أيضاً الأمير الحكم بن هشام الذي وصف بالبلاغة والفصاحة وغلب على شعره الجانب الحماسي والعاطفي (32). أما الشاعر عباس بن ناصح الثقفي فكانت له رحلة مشرقية، وبعد رجوعه إلى الأندلس عينه الأمير الحكم على قضاء الجزيرة الخضراء مع شذونة، واشتهر شاعرنا
(27) عياض، ترتيب المدارك، ج 3 - 4، ص 348 - الزبيدي، طبقات النحويين، ص 254 - حازم غانم، الحياة العلمية، ص 168.
(28)
ابن الفرضي، المصدر السابق، ج 1، ص 345 (رقم 1015) الحميدي، المصدر السابق، ص 324 (رقم 748) - ابن القوطية، تاريخ، ص 25.
(29)
العبادي، المرجع السابق، ص 327 - 328.
(30)
هيكل، المرجع السابق، ص 86 وبعدها.
(31)
ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 60 - المقري - نفح، ج 2، ص 76.
(32)
ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 79 - 80.
هذا بالمدح والفخر وتناول أحياناً الزهد (33).
وحسانة بنت أبي الحسين التميمية، فهي أولى الشواعر الأندلسيات، وشعرها مزيج من الرثاء والشكوى والمدح وطلب العون، فهو شعر يتسم بالتجويد الفني والتركيز العاطفي (34).
واستمر النثر في هذه الفترة يسير على الأسلوب نفسه، الذي سار عليه في عصر الولاة، فمن نماذج النثر: خطب الأمراء يحثون بها أصحابهم وجنودهم على القتال، ووصايا الأمراء لأولادهم، ومن أشهر الكتاب في هذه الفترة فطيس بن عيسى، وخطاب بن زيد، اللذان كانا كاتبين للأمير هشام ثم لابنه الأمير الحكم، وكذلك حجاج العقيلي كاتب الحكم (35).
وإذا كان الشاعر عباس بن ناصح الثقفي ذا شهرةٍ أدبية، فشهرته العلمية تعادل شهرته السابقة، فقد كان بارعاً في الهندسة والفلك والفلسفة (36).
ونبغ في عهد الأمير الحكم أبو القاسم عباس بن فرناس، الذي برع منذ فتوته في الفلسفة والفلك والكيمياء، وهو أول من استنبط في الأندلس صناعة الزجاج من الحجارة، وضع آلة فلكية تعرف بالميقاتة لتعريف الوقت، وحاول الطيران كما هو مشهور (37). وعاصره أيضاً يحيى بن الحكم الغزال، وبالرغم من اشتهاره بالشعر، إلا أنه كان عالماً بالفلسفة والفلك، وله أرجوزة طويلة في أبواب العلم لم تصلنا (38)، واشتهر هذان العالمان في عصر الأمير عبد الرحمن بن الحكم، أي فترة الإزدهار.
وفي فترة الاستقرار والإزدهار من عصر الإمارة 206 - 273 هـ هبت رياح التأثير العراقي الذي ازدهر في هذه الفترة لعوامل كثيرة، على الأندلس، وفي الوقت نفسه توفرت في الأندلس عوامل جذب لهذه الحضارة، منها: رغبة الأمير عبد الرحمن الأوسط 207 - 238 هـ في ترك سياسة الإنعزال عن العراق التي سار عليها آباؤه، وأن
(33) المقري نفح، ج 1، ص 161 - هيكل، المرجع السابق، ص 105 - 106.
(34)
أيضاً. ج 1، ص 488 - أيضاً، ص 107 وبعدها - سالم، قرطبة، ج 2، ص 170 - بالنشا، تاريخ، ص 57.
(35)
ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 68 - هيكل، المرجع نفسه، ص 110 - 113.
(36)
عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 252 - سالم، قرطبة، ج 2، ص 161.
(37)
ابن الفرضي، تاريخ علماء الأندلس، ص 296 (رقم 881).
(38)
محمد صالح البنداق، يحيى بن الحكم الغزال، ص 28.
يساير حركة الإزدهار الحضاري التي اشتهرت بها بغداد، ففتح أبواب الأندلس أمام التيارات العراقية. بالإضافة إلى بروز مظاهر الترف والرفاه في المجتمع الأندلسي بسبب الإزدهار الاقتصادي الأندلسي، مع الأخذ بنظر الاعتبار إقبال أهل الأندلس على الحياة الفكرية بسبب الاستقرار السياسي وما تبعه من نشاط اقتصادي (39).
ويأتي في مقدمة من اهتموا بالحركة العلمية الأمير عبد الرحمن الأوسط الذي كان عالماً بالشريعة والفلسفة، وقد شبه بالمأمون العباسي في طلبه للكتب الفلسفية (40).
وكذلك ابنه الأمير محمد الذي أنشأ نواة مكتبة القصر، كما أنه أقطع أحد العلماء الوافدين من المشرق إقطاعاً، وعنه روى الحديث (41). وقد ساعد الناس في مسعاهم هذا حصول تطورات ملائمة في عهدهم، منها انتقال صناعة الورق، بعد انتشارها في المشرق، إلى الأندلس وإقامة مراكز لصناعته في مدينة طليطلة وشاطبة (42).
وهناك عوامل عديدة ساعدت على انتقال مظاهر الحضارة العراقية إلى الأندلس في هذه الفترة وهي:
1 -
الوفود:
تذكر لنا بعض الروايات أن الأمير الحكم أو الأمير عبد الرحمن الأوسط أرسل وفداً إلى العراق برئاسة العالم عباس بن ناصح لدراسة الآثار العلمية المنقولة إلى العرب عن اليونان واستنساخها له. وبعد رجوع الوفد حمل معه كتاب الحساب الهندي المعروف عند العرب باسم السند هند (43).
وبذلك دخلت الأرقام الهندية الأندلس، ومنها انتقلت إلى أوروبا، ومعنى هذا أن الوفد الأندلسي عرف هذا الكتاب واطلع عليه في العراق. لأن العرب عرفوا في العصر العباسي الأول كتاب السد هانتا في الرياضيات من الهنود، وقد أمر الخليفة المنصور 136 - 158 هـ بترجمته إلى العربية، فترجمه إبراهيم بن حبيب الفرازي، وعرف هذا الكتاب باسم السند هند، وألف الفرازي على غراره كتاباً عرف باسم السند هند الكبير.
(39) السامرائي، " أثر العراق الحضاري "، ص 9 وما بعدها - سالم، قرطبة، ج 2، ص 161.
(40)
المراكشي، المعجب، ص 48 - السيوطي، تاريخ الخلفاء، ص 522.
(41)
ابن الآبار، التكملة؛ ج 1، ص 8.
(42)
أحمد بدر، المرجع السابق، ج 1، ص 176.
(43)
ابن سعيد، المغرب، ج 1، ص 45 - بروفنسال، حضارة العرب في الأندلس، ص 45 - السامرائي، دراسات في تاريخ الفكر العربي، ص 341 - سالم، قرطبة، ج 2، ص 161.
وفي عصر المأمون 198 - 218 هـ طلب من العالم محمد بن موسى الخوارزمي تصحيح هذا الكتاب، ويذكر الخوارزمي شكلين للأرقام الهندية كان يكتبهما العرب، بقي أحدهما المعروف بالأرقام الهندية، وهو الذي ساد في مشرق العالم الإسلامي، بينما اندثر الشكل الآخر المعروف بالأرقام الغبارية الذي ساد في مغرب العالم الإسلامي، ومنها انتقل إلى أوروبا، وهو أصل الأرقام العربية الآن (44).
2 -
الرحلة في طلب العلم:
قام العديد من طلاب العلم الأندلسيين بالرحلة إلى العراق للتزود بالعلوم من منابعها، وقد أمضى بعضهم سنوات طويلة تجاوزت العشرين سنة أحياناً من أجل هذه المهمة، أمثال محمد بن عبد السلام الخشني (45)، وأنفق الكثيرون القسم الأكبر من ثرواتهم في شراء الكتب التي أدخلوا منها الكثير إلى الأندلس، بالإضافة إلى أن غيرهم حملوا العلم رواية في الصدور (46).
ومن نماذج هؤلاء العلماء يحيى بن الحكم الغزال الذي رحل إلى بغداد ودرس الشعر العربي في العراق هناك وقلّد أبا نواس في شعره (47). وكذلك عبد الله بن محمد بن قاسم الذي رحل إلى العراق ودرس فيه المذهب الظاهري ونقل أصوله إلى الأندلس، وعالم الحديث المشهور محمد بن وضاح، رحل إلى المشرق ودرس على أيدي كبار علماء الحديث ومن أشهرهم الإمام أحمد بن حنبل (48).
كذلك اشتهر عبد الله بن مسرة بن نجيح بالفلسفة وعلم الكلام وقام برحلته المشرقية إلى العراق ونزل البصرة في أواخر عصر الإمارة مع أخيه. وقد وُصف عبد الله هذا بكونه أشقر شديد الحمرة مما جعل أحد شيوخه في البصرة يحذره مازحاً " إياك أن يبيعك أهل البصرة يا صقلبي "، ثم رجع إلى الأندلس يبشر بهذه العلوم التي درسها في العراق (49). وقد ازدهرت مدرسة ابن مسرة الفلسفية في عصر الخلافة.
(44) هونكة، شمس العرب، ص 84 - أحمد نصيف الجنابي، الرياضيات عند العرب، ص 35 - 36 - عبد المنعم ماجد، تاريخ الحضارة الإسلامية، ص 223.
(45)
الحميدي، المصدر السابق، ص 68 - (رقم 100).
(46)
أحمد أمين، المرجع السابق، ج 3 ص 23.
(47)
البنداق، المرجع السابق، ص 57 - 58، ص 82.
(48)
ابن الفرضي. المصدر السابق، ج 1، ص 219 (رقم 655)، ج 2، ص 15 (رقم 1136).
(49)
صاعد الطليطلي، طبقات، ص 28 - 29 - ابن الفرضي، المصدر السابق، ج 1، ص 217 (رقم 652).
3 -
دور التجار:
فتحت أبواب الأندلس أمام التجار المشارقة، وبخاصة في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط، فبجانب نقل التجار للسلع والبضائع إلى الأندلس، نقلوا معهم بعض الكتب العلمية وباعوها في أسواق الأندلس، حيث اشتراها علماء الأندلس واستفادوا منها في تنمية حركتهم العلمية. وقد كان في مقدمة هؤلاء التجار محمد بن موسى الرازي (توفي عام 273 هـ) وهو جد أسرة الرازي التي اشتهرت بكتابة التاريخ في عصر الخلافة (50).
وكذلك دخل كتاب العروض للخليل بن أحمد الفراهيدي إلى الأندلس على يد تاجر أهداه إلى الأمير عبد الرحمن الأوسط، وبدا هذا الكتاب عسير الفهم على أهل البلاط، وبعد أن اطلع عليه العالم عباس بن فرناس فسره وسهل فهمه لأهل الأندلس (51).
4 -
هجرة العلماء إلى الأندلس:
نتيجة الاضطراب السياسي في المشرق، هاجر بعض العلماء إلى الأندلس، فلقوا الترحاب والرعاية في ربوعها، فكان الأمر كما يقول أحمد أمين: "
…
علماء يضيق بهم الشرق من الفاقة فيرحلون إلى الغرب، وعلماء من الغرب يعوزهم العلم فيرحلون إلى الشرق
…
" (52). ومن العلماء الذين رحلوا من المشرق إلى الأندلس في هذه الفترة، محمد بن موسى الرازي وهو من مدينة الري في إيران، ورأس عائلة المؤرخين المشاهير في عصر الخلافة (أحمد بن محمد وابنه عيسى بن أحمد). وكان محمد بن موسى الرازي تاجراً مشرقياً اتصل بالأمير محمد وعمل لديه في التجسس على أوضاع المشرق، وهو الذي ألّف كتاب الرايات في التاريخ (53).
وفي عصر الإزدهار تقدمت العلوم الطبية في الأندلس، وقد ساهم في تقدمها بعض الأطباء المشارقة الذين رحلوا إلى الأندلس، فعلموا أهلها وما وصل إليه أهل العراق في الطب. ويأتي في مقدمتهم إسحاق بن عمران العراقي الأصل الذي رحل إلى الأندلس (54). وإذا كان رائد الحركة الطبية في الأندلس في هذا العصر أحمد بن إياس
(50) ينظر، العبادي، المرجع السابق، ص 34 - أحمد بدر، المرجع السابق، ج 1، ص 177، ص 186.
(51)
أحمد بدر، المرجع السابق، ج 1، ص 184.
(52)
ظهر الإسلام، ج 3، ص 233.
(53)
الحميدي، المصدر السابق، ج 3، ص 104 (رقم: 175) - عبد البديع، المرجع السابق، ص 68.
(54)
أحمد أمين، المرجع السابق، ج 3، ص 233.
(حمدين بن أبا) الذي ينسب إليه يسون حمدين (شراب) وهو يتألف من مائة صنف من الأعشاب، فقد كان أستاذه طبيباً عراقياً من حران هاجر إلى الأندلس في فترة الإزدهار، وهذا الطبيب المشرقي هو الذي أدخل للأندلس معجوناً لأوجاع الجوف، كان يبيع السقية منه بخمسين ديناراً، وكان حمدين أحد خمسة أطباء أخذوا العلم منه (55).
وأدت هذه العوامل إلى انتشار بعض العلوم التي تعتبر عراقية النشأة في الأندلس، وقد شهدت فترة الإزدهار من عصر الإمارة دخول النتاج العربي العراقي من علوم اللغة والنحو، فنرى عبد الرحمن بن موسى الهواري يدرك الأصمعي في العراق ويأخذ منه علم النحو مباشرة، ولكنه لم يكتف بذلك بل سلك مسلك علماء البصرة بأن داخل الأعراب وتردد في بواديها وحفظ الكثير (56).
وكذلك محمد بن عبد السلام الخشني الذي قضى في العراق خمسة وعشرين عاماً، فأخذ علم اللغة والنحو والشعر الجاهلي من شيوخ يروونها عن طبقة المشاهير في هذا الباب كالأصمعي وأبي عبيدة معمر بن المثنى وسيبويه، ومن أشهر شيوخه سهل بن محمد السجستاني والعباس بن الفرج الرياشي (57). كذلك قام جودي بن عثمان النحوي (توفي عام 198 هـ) بلقاء الكسائي والفراء وأبي جعفر الرؤاسي أثناء رحلته للمشرق، وهو أول من أدخل للأندلس كتاب الكسائي (58).
ساهم التأثير الحضاري الشرقي في تطوير حضارة العرب في الأندلس، ابتداءً من فترة الازدهار في عصر الإمارة، وما تلاها من عصور، إلا أن هذا التأثير لقي في البداية معارضة شديدة من بعض العلماء ورجال البلاط ضد علماء الأندلس الذين تأثروا بالحضارة العراقية أمثال العالم والأديب المعروف عباس بن فرناس الذي لقي الأمرين من جراء ذلك، ولم يخفف عن هؤلاء العذاب، إلا رعاية الأمير عبد الرحمن الأوسط لهم (59). كما أن التطور الحضاري في الأندلس خلال هذه الفترة زاد وكبر من حجم
(55) ابن جلجل، طبقات الأطباء، ص 93 - 94 - ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 1، ص 114 (حاشية 1) - سالم، قرطبة، ج 2، ص 211.
(56)
ابن الفرضي، المصدر السابق، ج 1، ص 257 - 258 (رقم 778).
(57)
الحميدي؛ المصدر السابق، ص 68 (رقم 100) - الحموي، معجم الأدباء، ج 11، ص 113 - ج 12، ص 44.
(58)
الزبيدي، طبقات، ص 256 - عبد البديع، المرجع السابق، ص 73.
(59)
ينظر، محمد صالح البنداق، المرجع السابق، ص 37 - العبادي، المرجع السابق، ص 364 - عبد البديع، المرجع السابق، ص 56 - 57.
ظاهرة الاستعراب بالأندلس، أي إقبال الإسبان على تعلم اللغة العربية وآدابها، وتقليد العرب في عاداتهم الإجتماعية. وإزاء هذا الأمر -الذي كان للتيار الفكري العراقي تأثير واضح في كل هذه المتغيرات- كان لبعض رجال الدين الإسبان المتعصبين موقف معادٍ لهذا التيار. وإذا صحت ظاهرة الاستشهاد (الانتحار الديني) في قرطبة 235 - 244 هـ/ 850 - 859 م، ومحورها الطعن بالإسلام ومبادئه وشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم علناً في المساجد والساحات العامة أولاً، ومحاولة إعادة بعض من أسلم حديثاً من الإسبان إلى دينه القديم ثانياً، والتي ذكرتها المراجع الأوروبية (60)، فنحن نميل إلى أن هذه الحملة التي قادها الغُلاة تعود إلى ظاهرة التطور الحضاري الأندلسي في هذا العصر بسبب التأثيرات الحضارية المشرقية (61).
ويعد منهج تفسير القرآن بالمأثور، من أبرز المناهج التي اشتهرت في الأندلس، وتزعم هذا المنهج فيها العالم الفقيه بقي بن مخلد (توفي عام 276 هـ) في أواخر عصر الإزدهار، وقد ألف كتاباً في تفسير القرآن بلغ فيه درجة من الجودة والإتقان (62). له رحلة مشرقية، وبعد عودته إلى الأندلس لاقى الأمرين من بعض الفقهاء ولم ينقذه من هذا الوضع الحرج إلا المناظرة المشهورة لأعدائه الفقهاء (63). واستمرت شهرته في العصور التالية. وعلى الرغم من سوء الأحوال السياسية الداخلية للأندلس التي عَجَّت بالفتن والمنازعات في عصر الحروب الأهلية (273 - 300 هـ) -وهو العصر الأخير من فترة عصر الإمارة-، إلا أن هذه الفترة شهدت تقدماً ملحوظاً في الأدب الأندلسي، وبخاصة في مجال الشعر، الذي ظهرت فيه اتجاهات مختلفة، فهناك الاتجاه القومي العربي، إذ وقف بعض الشعراء العرب يمتدحون العروبة ويمدحون العرب ويفاخرون بهم ضد المولدين، كما وقف بعض الشعراء المولدين موقف المعادي للعرب ودعوا إلى الخلاص منهم، وقد تكون هذه الحركة متأثرة بحركة الشعوبية في المشرق، وهذا هو الإتجاه الثاني قال شاعر العرب:
منازلنا معمورة لا بلاقع
…
وقلعتنا حصن من الضيم مانع
(60) ينظر، بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ص 485 - الحجي، أندلسيات، ج 2، ص 27 - لين بول، المرجع السابق، ص وبعدها - بيضون، المرجع السابق، ص 224 - 245 - Provençal. op. Cit، 1، P:226.
(61)
السامرائي، " أثر العراق الحضاري "، ص 22.
(62)
ابن حزم، رسالة في فضل الأندلس، ص 162 - 163.
(63)
ابن الفرضي، المصدر السابق، ص 91 رقم 283 - ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 109 - 110.
ورد عليه الشاعر الشعوبي المدجني:
منازلهم منهم قفار بلاقع
…
تجاري السفى فيها الرياح الزعازع (64) ..
وبرز أيضاً الشعر الذي وصف المعارك الحربية، نظراً لكثرة المعارك بين الأمراء الأمويين في هذه الفترة والخارجين عليهم، وللشاعر والعالم عباس بن فرناس شعرٌ في هذا المجال وكذلك الشاعر سعيد بن جودي السعدي (65). والاتجاه الآخر في الشعر في هذه الفترة، هو نشأة الموشحات في عهد الأمير عبد الله. وكان مخترع الموشحات في عصر هذا الأمير مقدم بن معافى القبري (66)، وكان هذا الأمر استجابة إلى ازدهار الغناء في الأندلس منذ دخول زرياب الأندلس أولاً، ونتيجة لامتزاج العرب بالإسبان ثانياً (67).
والموشح شعر فصيح، وكلمة الموشح مأخوذة من الوشاح، كالقلادة مُرصع بالجوهر تشده المرأة بين عاتقيها وجنبيها (68). ومن أشهر شعراء هذه الفترة ابن عبد ربه صاحب كتاب العقد الفريد، واستمرت شهرته إلى عصر الخلافة (69).
أما النثر فقد تطور في هذه الفترة، وكثر عدد الأدباء المشتغلين به، فكان للأمير عبد الله، الكاتب موسى بن زياد وعبد الله بن محمد بن أبي عبده وعبد الله بن محمد الزجالي (70)، كما أن بعض المسيحيين ذوي الأصول الإسبانية عملوا في الكتابة للأمير محمد بن عبد الرحمن الأوسط أمثال (قومس بن أنتنيا) الذي أسلم فيما بعد (71).
وقد كان الجاحظ (توفي 255 هـ) ذا شهرة لدى الأندلسيين في هذه الفترة، وقد وصلت بعض كتبه إليهم مثل كتاب البيان والتبيين، كما كان يقصده بعض علماء الأندلس للتلمذة على يديه (72). وقد وجدت نماذج لبعض الرسائل والمحاورات والتوقيعات في هذا العصر تدل على تقدم النثر الأندلسي في هذه الفترة (73).
(64) ابن حيان، المقتبس، ج 3، ص 62 - هيكل، المرجع السابق، ص 143.
(65)
ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 111 - 112 - ابن حيان، المقتبس، ج 3، 29.
(66)
ابن خلدون، المقدمة، ص 584 - سالم، قرطبة، ج 2، ص 99.
(67)
الحجي، تاريخ الموسيقى الأندلسية، ص 38 - 39.
(68)
جودت الركابي، في الأدب الأندلسي، ص 293.
(69)
ابن عبد ربه، العقد الفريد، ج 1، ص والمقدمة.
(70)
ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 120 - ابن حيان، ج 3، ص 6.
(71)
ابن القوطية، تاريخ، ص 82 - 83 - هيكل، المرجع السابق، ص 170.
(72)
معجم الأدباء، ج 16، ص 104.
(73)
ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 154 - حازم عبد الله، النثر الأندلسي، ص 73 - 74 - عنان، دولة الإسلام، 1/ 350.
وفي هذه الفترة دخل الأندلس المذهب الشافعي، ويرجع دخوله إلى الفقيه قاسم بن محمد بن سيار القرطبي (توفي عام 278 هـ)(74). ونشطت كذلك مدرسة ابن مسرة في هذه الفترة، وما يليها من عصور، كما سنوضح ذلك. ونشطت العلوم الطبية في هذه الفترة، ومن أشهر الأطباء (ابن ملوكة النصراني) الذي كان يصنع الأدوية بنفسه، ويفصد العروق، وكذلك (إسحاق الطبيب)(75).
أما عصر الخلافة الأندلسية 300 - 422 هـ، فهو عصر النضوج للعلوم والفكر الأندلسي، ونظراً لطول هذه الفترة أولاً، ولتسهيل دراسة الفكر الأندلسي خلال هذا العصر ثانياً، نقسم هذا العصر إلى ثلاثة أقسام: -
1 -
فترة الخلافة 300 - 366 هـ وتولى الحكم فيها الخليفة الناصر 300 - 350 هـ وابنه الحكم المستنصر، 350 - 366 هـ.
2 -
فترة الحجابة 366 - 399 هـ وهي الفترة التي سيطر فيها الحاجب المنصور وأولاده على الخلافة الأندلسية.
3 -
فترة الفتنة، 399 - 422 هـ والتي أدت إلى قيام عصر الطوائف.
نهضت الحركة العلمية في فترة الخلافة 300 - 366 هـ نهضة شاملة، وكان من مظاهرها اتضاح الشخصية العلمية للأندلس واستقلالها. فقد شجع الناصر وابنه الحكم العلماء المشارقة القادمين إلى الأندلس وأغدقا عليهم العطاء. وكانوا قد جلبوا الكتب القيمة، وترجموا الكتب الأجنبية المهمة، وحثوا على التأليف والبحث في مختلف المجالات. فإذا كان الناصر قد أحسن استقبال الوافد أبي علي القالي وجعله مؤدباً لابنه الحكم، فإن الخليفة الحكم اشتهر بحبه للكتب، فقد كانت له مكتبة تضم 400 ألف مجلد، وكان يحرص على اقتناء الكتب من أي مصدر (76)، فلذلك نهضت الأندلس علمياً في شتى الميادين خلال هذه الفترة:
ففي مجال الترجمة، ترجم إلى العربية خلال هذه الفترة أهم كتابين: الأول كتاب هيروشيش المؤلف باللاتينية، والذي يحوي أخبار الروم في العصور القديمة وسير
(74) ابن الفرضي، تاريخ، ج 1، ص 355 - 357 (رقم 1049).
(75)
ابن جلجل، ص 98 - ابن أبي أصيبعة، ص 488.
(76)
صاعد الأندلسي، طبقات الأمم، ص 66 - المقري، نفح، ج 1، ص 180، ص 186.
ملوكهم (77)، وكتاب ديسقوريدس في الطب والصيدلة (78)، وقد استعانت الخلافة الأندلسية بالدولة البيزنطية من أجل ترجمة هذين الكتابين (79).
أما في مجال اللغة، فقد تأسست في هذه الفترة مدرسة للدراسات اللغوية في الأندلس، وذلك بعد قدوم أبي علي القالي، الذي وفد على الأندلس عام 330 هـ/941 م وحمل القالي إلى الأندلس كثيراً من علم المشرق وأدبه، وبالذات دواوين اُمرئ القيس وزهير والنابغة والخنساء والأخطل وجرير والفرزدق وغيرهم (80). هذا بالإضافة إلى كتب الأخبار واللغة. كما ألف كثيراً في الدراسات اللغوية، وأملى على طلبته الأندلسيين كتابه الأمالي (81). وبالعكس رحل علماء أندلسيون في اللغة إلى بلاد المشرق، أمثال محمد بن يحيى بن عبد السلام (توفي 358 هـ)، رحل إلى مصر ولقي فيها ابن النحاس، وأخذ عنه كتاب سيبويه، وعاد إلى الأندلس (82). ويعني هذا تطور الدراسات اللغوية في الأندلس في هذه الفترة، وبرز علماء أفذاذ في هذا المجال أمثال (أبي بكر الزبيدي) وكان مؤدّباً للأمير هشام بن الحكم المستنصر (83). وأبي بكر بن القوطية المشهور بعلم التاريخ أيضاً (84).
وفي الحقل التاريخي، أشهر من ظهر في هذه الفترة، أحمد بن محمد بن موسى الرازي (توفي عام 324 هـ) ولقب بالتاريخي لكثرة اشتغاله بالتاريخ (85). وله عدة مؤلفات قد ضاعت. وإذا كان كتاب (تاريخ افتتاح الأندلس) لأبي بكر بن القوطية أشهر مؤرخي هذه الفترة يظهر فيه ميل المؤلف إلى القوط أولاً ويكثر الحديث عن المولدين وحركاتهم ثانياً (86)، فإن كتاب (أخبار مجموعة) لمؤلف مجهول الذي ظهر في هذه الفترة يتعصب
(77) ابن خلدون، العبر، ج 2، ص 88 - مؤنس، تاريخ الجغرافية، ص 31.
(78)
ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء، ص 494.
(79)
حازم غانم، الحياة العلمية، ص 165 - سالم، قرطبة، ج 2، ص 166.
(80)
ينظر خليل الكبيسي، " أبو علي القالي "، ص 231 وبعدها - سالم، قرطبة، ج 2، ص 164.
(81)
ينظر، ابن بسام، الذخيرة، 1/ 14 - 15 - ابن خير، الفهرسة، ص 325 - ابن حيان، المقتبس، ج 5، ص 480 - ابن الفرضي، المصدر السابق، ج 1، ص 69 (رقم 223) - الحميدي، المصدر السابق، ص 164 (رقم 303).
(82)
الزبيدي، طبقات، ص 310.
(83)
ابن الفرضي، المصدر السابق، رقم (1357) - ابن خير، الفهرسة، ص 311، ص 345.
(84)
الحميدي، المصدر السابق، ص 76 (رقم 111) - ابن خلكان، وفيات الأعيان، ج 1، ص 512.
(85)
المقري، نفح، ج 4، ص 108 - طه، نشأة التدوين التاريخي، ص 78.
(86)
ينظر، ابن الفرضي، تاريخ، (رقم 1318) - ابن خلكان، وفيات، ج 1، ص 812 - المقري - نفح، ج 2، ص 85.
للعرب عامة ولقريش خاصة، وإلى الأمويين بصورة أخص (87). واشتهر كذلك المؤرخ عريب بن سعيد (توفي عام 369 هـ)، وله كتابه المشهور (صلة تاريخ الطبري). وعريب هذا اشتهر بالطب أيضاً (88). وممن عرفوا بكتابة التراجم في هذه الفترة أبو عبد الله الخُشني (توفي عام 361 هـ) صاحب كتاب (تاريخ قضاة قرطبة)(89).
ومع تطور علم التاريخ في هذه الفترة تطور علم الجغرافية أيضاً، فقد كان أحمد بن محمد الرازي مؤرخاً وجغرافياً في آن واحد، وله كتاب باسم (مسالك الأندلس)(90). ويعاصره الجغرافي محمد بن يوسف الوراق (توفي عام 363 هـ) الذي دخل في خدمة الخليفة الحكم وألف كتاباً عن مسالك إفريقية (91). واشتهرت هذه الفترة بالرحلات الجغرافية، ويأتي في مقدمتها رحلة إبراهيم بن يعقوب الطرطوشي (من أهل القرن الرابع الهجري) قام برحلات إلى بلاد أوروبا وقابل خلالها البابا يوحنا الثاني عشر في عام 350 هـ، وبعدها التقى بإمبراطور ألمانيا أوتو عام 354 هـ (92). وقدم لنا معلومات قيمة خلال هذه الرحلة (93).
أما في مجال العلوم الدينية: فبجانب شيوع المذهب المالكي في الأندلس كما بينا، والذي كان من أقطابه في هذه الفترة، يحيى بن عبد الله بن يحيى الليثي (94)(توفي عام 367 هـ)، وأبو بكر بن القوطية اللغوي والمؤرخ، شاع المذهب الشافعي بعد أن أدخله إلى الأندلس قاسم بن محمد بن سيار (توفي عام 278 هـ)، وأصبح من أقطابه في هذه الفترة أسلم بن عبد العزيز بن هاشم (95)، وأحمد بن عبد الوهاب بن يونس الذي عاصر الحكم المستنصر (96). وكذلك انتشر المذهب الظاهري وكاد من أقطابه المنذر بن
(87) هيكل، المرجع السابق، ص 188.
(88)
بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ص 206 - 207.
(89)
الخشني، قضاة قرطبة، المقدمة - بالنثيا، المرجع السابق، ص 767 - 770.
(90)
ابن حزم، رسالة في فضل الأندلس، ص 156.
(91)
الحميدي المصدر السابق، ص 97 (رقم 160) - مؤنس، تاريخ الجغرافية، ص 73.
(92)
العذري، نصوص عن الأندلس، ص 7 - البكري، جغرافية الأندلس وأوروبا، ص 155 - Al - Hajji، Andalusian، P 228 - 271.
(93)
حازم غانم، الحياة العلمية، ص 210.
(94)
ابن الفرضي، تاريخ، (رقم 1597).
(95)
الحميدي، المصدر السابق، (رقم 322).
(96)
ابن الفرضي، تاريخ، (رقم 154).
سعيد البلوطي خطيب جامع الزهراء المشهور (97). أما في مجال تفسير القرآن، فاشتهر العالم عثمان بن محمد بن محاسن (توفي عام 356 هـ)، وكان له باع طويل في علم التفسير (98)، وكذلك ابن القوطية اللغوي والمؤرخ (99)، واشتهر ابن الحجام يعيش بن سعيد الوراق الذي ألف مسند حديث بأمر الخليفة الحكم المستنصر (100).
أما العلوم العقلية فأخذت مكانها في الفكر الأندلسي خلال هذه الفترة، وكان الطب في مقدمة العلوم التي ازدهرت، ومثل هذا الإزدهار ترجمة بعض الكتب الطبية الأجنبية إلى العربية كما وضحنا، وكذلك شهرة الأطباء ويأتي في مقدمتهم سعيد بن عبد ربه، الذي كانت له طريقة خاصة في معالجة الحميات، وكذلك أحمد بن يونس وأخوه عمر اللذان اشتهرا بتحضير الأدوية وعلاج أمراض العيون (101). واشتهر محمد بن عبدون الجبلي برحلته المشرقية عام 347 هـ/958 م وتزود من علوم البصرة ومصر ثم رجع إلى الأندلس عام 360 هـ/970 م وخدم الخليفة الحكم المستنصر وابنه هشاماً المؤيد بالطب (102). وقد ذاعت شهرة هؤلاء الأطباء وغيرهم، حتى وفد بعض ملوك الإسبان إلى أطباء الأندلس لعلاج ما استعصى من أمراضهم (103). ونتيجة ازدهار الطب والصيدلة في هذه الفترة، أسس الخليفة الحكم المستنصر ديوان الأطباء، يسجل فيه اسم كل طبيب يحترف مهنة الطب والصيدلة، وإذا ما ارتكب خطأ يتوجب العقاب أسقط اسمه من هذا الديوان (104). وتقدمت الدراسات الرياضية في هذه الفترة وكان من روادها عبد الله بن محمد المعروف بالسري أيام الخليفة الحكم، وكذلك أبو بكر بن عيسى الذي كان يعقد مجالس العلم على أيام الخليفة الحكم أيضاً، وكان مشهوراً بالحساب والهندسة والفلك. وكذلك العالم أبو غالب حباب بن عبادة الفرضي (عاش أيام الخليفة الناصر) الذي اشتهر بالحساب وله تأليف جيد في حساب الفرائض (105). واشتهر أبو
(97) المقري، نفح، ج 1، ص 172 - 175، ص 266 - 269.
(98)
ابن الفرضي، تاريخ، (رقم 901).
(99)
أيضاً، رقم 1318.
(100)
أيضاً، رقم 1612 - الحميدي، جذوة، رقم 916.
(101)
ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء؛ ج 2، ص 41، ص 46.
(102)
صاعد الأندلسي، طبقات، ج 81 - ابن جلجل، طبقات، 115 - ينظر عن أشهر أطباء هذه الفترة، سالم، قرطبة، ج 2، ص 212 - 213.
(103)
لين بول، قصة العرب، ص 121.
(104)
ابن أبي أصيبعة؛ عيون الأنباء، ص 494 - سالم، قرطبة؛ ج 2، ص 208.
(105)
صاعد، طبقات، ص 67 - 68.
عبيدة مسلم بن أحمد (صاحب القبلة)(توفي عام 304 هـ) بالأمور الفلكية، وكان عالماً بالحساب والنجوم وقد عارضه ببعض الأمور ابن عبد ربه الأندلسي (106).
أما الفلسفة، فقد ورث هذا العلم محمد بن عبد الله بن مسرة (269 - 319 هـ/882 - 931 م) عن أبيه عبد الله بن مسرة (توفي عام 286 هـ/899 م) حيث ذهب الوالد إلى المشرق، وسار على نهجه الابن الذي رحل أواخر عهد الأمير عبد الله (توفي عام 300 هـ) إلى المشرق أيضاً، ثم عاد إلى الأندلس في مطلع القرن الرابع الهجري، فأظهر الزهد والورع، إلا أنه أخذ يبث تعاليمه بين تلاميذه، فظهرت المدرسة المسرية التي انتمى لها بعض المفكرين الأندلسيين أمثال: محمد بن مفرج المعافري، وخليل بن عبد الملك القرطبي، وطريف الروطي وغيرهم (107)، إلا أن الفقهاء شنوا حملة شعواء ضد المدرسة المسرية اعتباراً من عام 340 هـ/951 م وساعدتهم السلطات الرسمية (108)، إلا أن رعاية هذه المدرسة رجعت في عهد الخليفة الحكم (350 - 366 هـ) نظراً لسياسته المتسامحة مع المفكرين (109).
ونهض الأدب الأندلسي في فترة الخلافة نهضة كبيرة، ساعد عليها ما كان من رقي سياسي ونهوض وتفوق اجتماعي. وأخذت هذه النهضة الأدبية عدة مظاهر منها: ظهور بعض الاتجاهات الجديدة في الشعر. وقد مثله ابن عبد ربه أحسن تمثيل، وكلذلك أبو الحزم جهور بن عبد الله بن أبي عبدة من الأسرة المشهورة (110). وكذلك ظهور الأنواع الجديدة في النثر: فإلى جانب الأسلوب القديم للنثر والذي يسمى النثر الخالص، ظهر نوع جديد من النثر يسمى بالنثر التأليفي ويتألف من فرعين: الفرع الأول يسمى التاريخ الأدبي ويمثله كتاب (أخبار الشعراء بالأندلس) لمؤلفه محمد بن هشام المرواني، وكتاب (شعر الخلفاء من بني أمية) لمؤلفه عبد الله بن محمد بن مغيث، ومن المؤسف أن أكثر هذه المؤلفات قد ضاع (111)، أما الفرع الثاني فهو التأليف الأدبي، ويعني ظهور كتب
(106) ينظر، ابن الفرضي، تاريخ، ترجمة رقم 1420 - الحميدي، جذوة، ترجمة رقم 822 - الضبي، بغية، ترجمة رقم 1372 - سالم، قرطبة، ج 2، ص 209.
(107)
ابن الآبار، التكملة، ج 1، ص 385، ص 309 - هيكل، المرجع السابق، ص 191.
(108)
ابن حيان، المقتبس، ج 5، ص 26 - 29.
(109)
ينظر، حازم غانم، المرجع السابق، ص 244 - هيكل، المرجع السابق، ص 191.
(110)
ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 1، ص 247 وبعدها - المقري، نفح، ج 1، ص 304.
(111)
ابن بشكوال، الصلة ترجمة رقم 546 - الحميدي، جذوة، ترجمة رقم 1959 - بالنثيا، المرجع السابق، ص 385.
أدبية بمفهوم القرن الثالث والرابع الهجري لكلمة أدب، وأحسن نموذج لكتب هذا الفرع، هو كتاب (العقد الفريد) لمؤلفه ابن عبد ربه الأندلسي. ومن مظاهر النهضة الأدبية الأخرى، تطور الإتجاهات الأدبية القديمة المعروفة، وكذلك وفرة النتاج الأدبي وتنوعه، إضافة إلى شيوع الأدب بين الأندلسيين شيوعاً جعله من أبرز سمات الحضارة الأندلسية في هذه الفترة (112). ومن أشهر شعراء هذه الفترة بعد ابن عبد ربه الأندلسي، الشاعر أبو الحسن محمد بن هانئ الأزدي (326 - 362 هـ)(113).
أما فترة الحجابة 366 - 399 هـ/وهي فترة حكم الخليفة هشام الثاني، فقد سيطر الحاجب المنصور وأولاده من بعده على أمور الدولة، وهيمنوا على الخلافة الأندلسية، فكان بداية البوار. ووصف هذا العصر بأنه: " عصر القوة التي تحمل الضعف، والانتصار الذي ينطوي على الهزيمة
…
" (114).
سارت الثقافة الأندلسية في فترة الحجابة، بقوة الدفع التي كانت سائدة في عصر الخلافة. ومن أولى الملاحظات على علوم هذا العصر، أنه لم نر أي تقدم ملحوظ وجد في أي ميدان من ميادين المعرفة، ولا نرى أعلاماً بارزين في أي فرع من فروع الثقافة، باستثناء تلك البقية الباقية من أعلام فترة الخلافة. وربما كان من عوامل استمرار الدفع للثقافة الأندلسية في هذه الفترة، هو أن الحاجب المنصور كان على صلة قديمة بالثقافة، وقد ارتبط بها منذ نشأته، وأنه كان مصاحباً للعلماء، ويروى عنه: بأنه كان له مجلس علمي يضم كبار علماء عصره، وأن هذا المجلس كان يعقد اجتماعات دورية أسبوعية يحضره المنصور طيلة إقامته بقرطبة (115). ولذا نرى نماذج قليلة للعلماء في مجال اختصاصاتهم، ففي العلوم اللسانية (النقلية) نرى استمرار بعض علماء فترة الخلافة إلى فترة الحجابة: ففي علم التفسير نجد محمد بن عبد الله المقري (340 - 420 هـ)(116)، وفي علم القراءات نرى عبد الله بن محمد القضاعي (توفي عام 378 هـ) الذي كان يقرأ على قراءة الإمام ورش (عثمان بن سعيد)(117). ومن أعلام الحديث في هذه الفترة
(112) هيكل، المرجع السابق، ص 194، ص 355 - 356.
(113)
ينظر، الحميدي، جذوة، ترجمة رقم 157 - ابن دحية، المطرب، ص 192 وبعدها - ابن الآبار، التكملة، ترجمة رقم 350.
(114)
هيكل، المرجع السابق، ص 267.
(115)
ابن الآبار، الحلة، ج 1، ص 268.
(116)
السيوطي، طبقات المفسرين، ص 5.
(117)
حازم غانم، المرجع السابق، ص 172.
عبد الرحمن بن محمد بن عيسى بن فطيس (توفي عام 402 هـ)(118)، وألَّف العالم يحيى بن شراحيل (توفي عام 372 هـ) كتاباً في توجيه حديث الموطأ للإمام مالك، واشتهر كتاب تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي في هذه الفترة أيضاً (119).
أما في مجال العلوم الصرفة (العقلية) فاشتهر العالم أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي (توفي عام 404 هـ) وهو صاحب كتاب (التصريف لمن عجز عن التأليف) وهو كبير جراحي الأندلس في هذه الفترة (120). أما إمام العلماء في الرياضيات والفلك في هذه الفترة فهو أبو القاسم مسلمة المجريطي (توفي عام 398 هـ)، وهو الذي عني بزيج محمد بن موسى الخوارزمي وحوله من السنين الفارسية إلى السنين العربية (121).
وثاني الملاحظات على علوم هذا العصر هي: خمول الدراسات الفلسفية ويعود سبب ذلك إلى مقاومة الحاجب المنصور لهذه الدراسات، من أجل إرضاء عامة الناس، وكسب تأييد الفقهاء. ومن أبرز أعماله في هذا المجال إحراقه لكتب الفلك والمنطق والفلسفة التي كانت تمتلئ بها مكتبة الحكم المستنصر (122). وبهذا خمدت روح البحث العلمي، وقيدت الحرية الفكرية، وتهيب الناس من دراسة العلوم العقلية، وقد تخفى بعض العلماء، وهرب القسم الآخر نحو المشرق للتخلص من الاضطهاد (123).
وثالث الملاحظات على علوم هذه الفترة، هي ازدهار الدراسات اللغوية، والتي دفعت بعوامل من المشرق الإسلامي وليس بسبب ذاتي، حيث وَصَل في هذه الفترة اللغوي المشرقي الأديب صاعد البغدادي (أبو العلاء صاعد بن أبي الحسن بن عيسى) إلى الأندلس عام 380 هـ في أيام الحاجب المنصور، فاستقبله المنصور أحسن استقبال (124). ولقي صاعد البغدادي الأمرَّين في الأندلس، وتصدى له بعض علمائها
(118) ابن بشكوال، الصلة، ج 1، ص 309 - بالنثيا، المرجع السابق، ص 395.
(119)
ابن الفرضي، تاريخ ترجمة رقم 1598.
(120)
الحجي، الحضارة الإسلامية، ص 58 - ابن بشكوال، الصلة، ترجمة رقم 573.
(121)
صاعد، طبقات، ص 93 - ابن القفطي، تاريخ الحكماء، ص 326 - طوقان، تراث العرب العلمي، ص 257 هـ حكمت نجيب، دراسات، ص 211 - الحجي، الحضارة الإسلامية، ص 51 - سالم، قرطبة، ج 2، ص 210.
(122)
سالم، قرطبة، ج 2، ص 162 - بالنثيا، المرجع السابق، ص 65.
(123)
ينظر: النباهي، المرقبة العليا، ص 77 - 79 - هيكل، المرجع السابق، ص 270.
(124)
المراكشي، المعجب، ص 19 وما بعدها - المقري، نفح، ج 2، ص 86 وما بعدها - ابن خلكان، وفيات، ج 1، ص 229 - ابن بسام، الذخيرة، ق 4، م 1، ص 8 وما بعدها.
ودخلوا معه في محاورات علمية انحدرت أحياناً إلى درجة المكائد، إلا أن هذه المحاورات وجهود صاعد اللغوية أدت إلى تنشيط الحركة اللغوية في فترة الحجابة.
وكان كتاب الفصوص الذي ألفه صاعد ذا أثر كبير في تغذية الدراسات اللغوية والأدبية في الأندلس (125).
وسار الأدب في فترة الحجابة بقوة الدفع التي كانت في فترة الخلافة، فظل على ما كان عليه من أنواع. بل إن بعض الظواهر الأدبية الجيدة التي أينعت في فترة الخلافة، قد اختفت في فترة الحجابة، وكان ذلك بسبب تأثر الأدب بالظروف السياسية الاستبدادية والأوضاع الثقافية المقيدة. وأهم أنواع الشعر التي نالت حظاً كبيراً في هذه الفترة، هو شعر المجون الذي يعكس حالة المجتمع المتردية، وشعر المديح الذي كان بمثابة أبواق دعاية للحكم الاستبدادي، وشعر الاستعطاف، وشعر النقد السياسي (126). ومن أشهر شعراء الفترة ابن دراج القسطلي، الذي غلب طابع المدح على أغلب شعره (127).
أما النثر، فقد توقف النوع التأليفي، واستمر النثر الخالص، ولكن أهم ما يلاحظ على أسلوب النثر في هذه الفترة، ظهور أثر طريقة ابن العميد (وزير عضد الدولة البويهي توفي عام 360 هـ)(128)، تلك الطريقة التي تميل إلى الإطناب، وتعتمد على السجع والجناس، مع ذكر بعض الأمثال أو الإشارات التاريخية، مع تدعيم النثر بالشعر. وليس من شك في أن حياة الترف ومظاهر الفخامة في فترة الحجابة، كانت من أسباب الاستجابة إلى هذه الطريقة من أسلوب النثر خلال هذه الفترة. وكذلك آثار ابن العميد ومن نحوا طريقته كالصاحب بن عباد الفارسي (من وزراء البويهيين أيضاً توفي عام 385 هـ ولقب بالصاحب لأنه كان يصحب ابن العميد، وكان إسماعيل بن عباد أديباً بارعاً في فن الترسل وله رسائل منشورة)(129)، قد وصلت إلى الأندلس قبيل فترة
(125) المقري، نفح، ج 2، ص 77 - هيكل، المرجع السابق، ص 271 - 272 - سالم، قرطبة، ج 2، ص 164.
(126)
هيكل، المرجع السابق، ص 273 وما بعدها.
(127)
ينظر، ابن دحية، المطرب، ص 156 - ابن حزم، جمهرة أنساب العرب، ص 466 - ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، ج 4، ص 272 - ديوان ابن دراج، ص 37 وما بعدها - الحميدي، جذوة رقم 186 - ابن بشكوال، الصلة، رقم 75 - الضبي، بغية، رقم 342.
(128)
العبادي، ني التاريخ العباسي، ص 171 - 172.
(129)
نشرت رسائل الصاحب بن عباد في القاهرة عام 1947 برعاية شوقي ضيف وعبد الوهاب عزام، ينظر، العبادي، في التاريخ العباسي، ص 172.
الحجابة، فيما وصل من تراث المشرق خلال القرن الرابع الهجري، وبخاصة في فترة الخلافة، ولكن أثر هذه الطريقة قد ظهر في فترة الحجابة (130).
أما فترة الفتنة 399 - 422 هـ، فهي فترة التفكك والانحلال، والتي أدَّت إلى سقوط الخلافة الأندلسية وقيام عصر الطوائف (131).
وكان من نتائج هذه الفتنة، أن تعطل النشاط الثقافي وبخاصة في قرطبة، فأغلقت المدارس وانحلت حلقات الدرس، وقتل بعض العلماء وخاصة ابن الفرضي صاحب كتاب (تاريخ علماء الأندلس) عام 403 هـ، وهاجر البعض من قرطبة إلى شرقي الأندلس كابن حزم حيث يلتمس شيئاً من الأمن.
وعلى الرغم من كل ذلك لم تخمد أنفاس الحركة العلمية في الأندلس خلال هذه الفترة، فقد كانت هناك بقية من العلماء الأندلسيين الذين أدركوا الإزدهار في فترة الخلافة، أو انتفعوا بقوة الدفع في فترة الحجابة، فحفظوا للأندلس كثيراً من علمها وثرائها على الرغم مما كان فيها من فتنة مبيرة كما يقال. ومن أشهر هؤلاء العلماء: أبو عمر أحمد بن محمد بن الجسور وكان أحد شيوخ الحديث (132)، وأبو محمد عبد الله بن يوسف الرهوني وكان مؤدباً محدثاً مجوداً للقرآن (133). كما كان هناك بعض العلماء ممن وفدوا إلى الأندلس من أقطار مشرقية، وكان لهم فيها حينذاك دور علمي كبير، ومن أشهر الوافدين إلى الأندلس في هذه الفترة أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن أبي يزيد المصري، وكان أديباً نسابة، حافظاً للحديث عالماً بالأخبار (134). كذلك كان في بعض الأقاليم الأندلسية البعيدة عن مركز قرطبة، حظ من النشاط العلمي، وقد كان شرقي الأندلس من تلك الأقاليم التي نعمت ببعض الأمن، فعُرفت بعض المدن هناك في هذه الفترة بحياة علميّة لا بأس بها (135). وبرز في الأندلس خلال فترة الفتنة عالمان جليلان لهما دور بارز في ثقافة الأندلس هما: أبو محمد بن حزم (384 - 456 هـ) وأبو مروان بن حيان (377 - 469 هـ). فابن حزم انصرف إلى العلم بعد سقوط الخلافة الأندلسية وتجول في ربوع الأندلس وبخاصة في شرقها ناشراً مذهبهُ الظاهري، ولقي
(130) هيكل، المرجع السابق، ص 334.
(131)
ينظر، السامرائي، علاقات المرابطين، ص 32 وما بعدها.
(132)
هيكل، المرجع السابق، ص 350.
(133)
ابن بشكوال، الصلة، ترجمة رقم 595.
(134)
أيضاً، ترجمة رقم 758.
(135)
كريم عجيل، الحياة العلمية، ص 123 - تشراكوا، مجاهد العامري، ص 143.
الأمرَّين من علماء المالكية وبالذات من أبي الوليد الباجي داعية الوحدة في الأندلس.
أما ابن حيان فعلى الرغم من توليه بعض المناصب الإدارية في هذه الفترة، إلا أنه انصرف إلى كتابة الأدب والتاريخ، واشتهر بكتابه المقتبس (136). وتأثر الأدب بأحداث الفتنة تأثراً كبيراً، فنرى أولاً انتشار أدب التلهي والنفاق والتفاهة، أو ما يسمى بأدب الهروب، وثانياً ظهر أدب التأمل والنقد أو ما يسمى بأدب المراجعة. وقد كان الشعر مجال النوع الأول (أدب الهروب) وكان النثر مجال النوع الثاني (أدب المراجعة)، ومن هنا خطا النثر خطوات واسعة حتى سبق الشعر، فظهرت أنواع نثرية جديدة وجادة، أتاح لها انطواء بعض الأدباء وعكوفهم جواً ملائماً فيه تأمل وفيه مراجعة، مما ساعد على التخيل والنقد والتحليل (137).
ومن أشهر شعراء هذه الفترة أبو عامر بن شُهيد (382 - 426 هـ)(138) وأبو محمد بن حزم الذي سيعاصر الطوائف. وفي مجال النثر، فقد اشتهر هذان العالمان أيضاً، فإبن شُهيد له رسالة التوابع والزوابع وهي قصة خيالية يحكي فيها ابن شُهيد رحلة في عالم الجن (139). أما أبو محمد بن حزم فأشهر كتاب له في هذا المجال، هو طوق الحمامة في الألفة والأُلَاّف، ويتناول فيه دراسة عاطفة الحب بشكل مفصل واعتمد أسس التجربة والتحليل النفسي في منهجه (140).
أما عصر الطوائف 422 - 484 هـ، فعلى الرغم من الفرقة السياسية التي ضربت أطنابها ببلد الأندلس خلال هذه الفترة، لكن رافقها نشاط الحركة العلمية والأدبية وذلك لرعاية ملوك الطوائف العلماء والأدباء، ولأن معظمهم كان من رجال الأدب، فبذلك غدت قصورهم منتديات أدبية ومجامع حقة للعلوم والفنون (141).
وبما أن الأندلس لم تكن دولة موحدة في هذه الفترة. ونظراً لتعدد أمرائها وتفاوتهم في رعاية الحركة الأدبية، فسوف نشير إلى أهم ممالك الطوائف التي رعت الحركة الأدبية:
(136) ينظر، هيكل، المرجع السابق، ص 351 - 363.
(137)
هيكل، المرجع السابق، ص 364.
(138)
الحميدي، جذوة، رقم 232.
(139)
ينظر، أحمد ضيف، بلاغة العرب في الأندلس، ص 48 - زكي مبارك، النثر الفني، ج 1، ص 261 - هيكل، المرجع السابق، ص 377 وما بعدها.
(140)
ينظر، طوق الحمامة، ص 2 وما بعدها - الطاهر أحمد مكي، دراسات عن ابن حزم، ص 225.
(141)
عنان، دول الطوائف، ص 423.
في المقدمة تأتي مملكة بني عباد في إشبيلية فقد كان المعتضد وابنه المعتمد من رواد الحركة الأدبية ولهم أشعارهم المختارة وعاش في ظلهما أشهر شعراء هذه الفترة أبو بكر بن عمار وابن زيدون صاحب ولادة بنت الخليفة المستكفي (هو محمد بن عبد الله بن الناصر 414 - 416 هـ)(142). ويأتي بعدهما شاعران مشهوران هما أبو بكر بن اللبانة وابن حمديس الصقلي (143).
ورعى بلاط المرية الحركة الأدبية (144)، فبالإضافة إلى نبوغ ولاة الأمر فيها بالشعر وهم أسرة بني صمادح، فعاصرهم ومدحهم أبو عبد الله محمد بن عبادة المعروف بابن القزاز، وأبو الفضل جعفر بن شرف القيرواني، وأبو حفص بن الشهيد وغيرهم (145). وكان ملوك بطليوس وهم بنو الأفطس من حماة الأدب والشعر، ومن أشهر الشعراء الذين عاشوا في كنفهم، الوزير الشاعر عبد المجيد بن عبدون، الذي اشتهر بمرثيته لبني الأفطس (القصيدة العبدونية) وبنو القبطرنة الثلاثة، ومن أشهر كتابهم أبو بكر بن قزمان (146).
ورعت مملكة سرقسطة الحركة الأدبية والعلمية والفلسفية، وكان في مقدمة الشعراء الذين احتضنتهم هذه المملكة هو أبو عمر أحمد بن محمد بن دراج القسطلي (147).
ورعى مجاهد العامري أمير مملكة دانية والجزائر الشرقية الحركة الأدبية، وأحاط نفسه بعدد ضخم من الأدباء والشعراء، ومن أشهرهم، أبو عامر أحمد بن شهيد، وأحمد بن رشيق وأبو حفص أحمد بن برد وغيرهم (148) أما الممالك الأخرى فكانت رعايتها للحركة الأدبية أقل مما ذكرنا عن هذه الممالك، وبعضها لم يذكر لها شهرة أدبية (149).
لكن عموماً يمكن القول أن اتجاهات أدبية جديدة ظهرت في هذا العصر -وبخاصة في الشعر- مثل: شعر الرثاء، مثله عبد المجيد بن عبدون، والشعر الفلسفي الذي مثله
(142) ينظر، صلاح خالص، اشبيلية، ص 135 وبعدها.
(143)
ينظر، سعد إسماعيل شلبي، البيئة الأندلسية، ص 335 وبعدها.
(144)
أبو الفضل، تاريخ مدينة المرية، ص 34 وبعدها.
(145)
ينظر، ابن بشكوال، الصلة، رقم 298 - ابن الآبار، الحلة، ج 2، ص 92 وبعدها - إحسان عباس، تاريخ الأدب الأندلسي، ص 71.
(146)
ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 3، ص 236 - المقري، نفح، ج 2، ص 136 - عنان، دول الطوائف، ص 428 - 429.
(147)
الضبي، بغية الملتمس، رقم 342.
(148)
تشراكوا، مجاهد العامري، ص 231 وما بعدها - حازم عبد الله، ابن شهيد الأندلسي، ص 26 وما بعدها.
(149)
ينظر، إحسان عباس، تاريخ الأدب الأندلسي، ص 74 وما بعدها.
ابن حزم، وعبد الجليل بن وهبون المرسي، وشعر الزهد يمثله ابن الريوالي الفقيه وأحمد الإقليشي، وأبو بكر العبدري وغيرهم. وشعر الغزل الذي شاع في هذا العصر نظراً لضعف الوازع الديني، والتحلل من القيم الخلقية، ومثل هذا الإتجاه السراج المالقي شاعر بني حمود، وابن الحداد، وابن زيدون وغيرهم، والشعر الشعوبي الذي مثله أبو عامر أحمد بن غرسية الذي عاش في مملكة دانية. وشعر النكبات، والذي صور نكبة بربشتر بصورة خاصة في منطقة الثغر الأعلى عندما احتلها النورمان عام 456 هـ وعاثوا فيها فساداً (150).
وبجانب الحركة الأدبية ازدهرت العلوم الدينية وبخاصة في بلاط بني صمادح حيث كان المعتصم بن صمادح وغيره يعقدون مجالس الفقهاء في كل جمعة ويتدارسون كتب التفسير والحديث (151)، ورعت مملكة دانية العلوم القرآنية وكان رائدها شيخ القراء أبا عمرو الداني (152)، وتزعم الدراسات الفقهية العالمان أبو محمد علي بن حزم وأبو الوليد سليمان بن خلف الباجي داعياً توحيد الأندلس في أيام الطوائف (153)، وكان من رواد الدراسات النحوية العلامة اللغوي أبو الحسن علي بن سيده (توفي عام 458 هـ) صاحب كتاب (المحكم)(154). واشتهرت الدراسات التاريخية والجغرافية في الأندلس خلال هذه الفترة، وكان من رواد الحركة التاريخية ابن حيان المعروف بكتاب المقتبس، والعالم ابن حزم صاحب كتاب (جمهرة أنساب العرب) و (كتاب نقط العروس)(155)، والعالم أبو عمر يوسف بن عبد البر الذي ألف كتاب (الاستيعاب في معرفة الأصحاب)، وكتاب (الدرر في اختصار المغازي والسير). وكان رائد الدراسات الجغرافية في عصر الطوائف أبا عبيد البكري (ت 487 هـ) وهو صاحب كتاب (المسالك والممالك) وكتاب (معجم ما استعجم)(156).
(150) ينظر، سعد إسماعيل شلبي، البيئة الأندلسية، ص 308 وما بعدها، ص 425 وما بعدها، ص 438 وما بعدها، ص 502 وما بعدها - إحسان عباس، تاريخ الأدب الأندلسي، ص 117 وما بعدها - محمد مجيد السعيد، الشعر في ظل بني عباد، ص 77 وما بعدها.
(151)
إحسان عباس، تاريخ الأدب الأندلسي، ص 71 - أبو الفضل، تاريخ مدينة المرية، ص 248.
(152)
تشراكوا، مجاهد العامري، ص 239.
(153)
السامرائي، " الدعوة إلى توحيد الأندلس في أيام الطوائف "، ص 82 وما بعدها.
(154)
عنان، دول الطوائف، ص 434 - ينظر، كريم عجيل، الحياة العلمية، ص 401 وما بعدها.
(155)
ينظر، الحميدي، جذوة، ترجمة (رقم 874) - كريم عجيل، الحياة العلمية، ص 466 وما بعدها - عمر فروخ، ابن حزم الكبير، ص 101 وما بعدها.
(156)
البكري، جغرافية الأندلس، ص 29 وما بعدها - عنان، دول الطوائف، ص 430.
أما العلوم الصرفة فنالت اهتمام أمراء الطوائف، ويأتي في مقدمتهم المقتدر بن هود وولده المؤتمن أمير سرقسطة، حيث كانا من العلماء البارزين في الرياضيات والفلك والفلسفة (157). وكان العالم أبو الفتوح ثابت بن محمد بن الجرجاني مشرقي المنبت، رحل إلى الأندلس عام 406 هـ وعاش في ظلال مملكة دانية، واشترك في عملية فتح سردانية. اشتهر بالفلسفة والفلك والمنطق (158). واشتهرت بلنسية بطبيبها أبي محمد عبد الله بن محمد المعروف بابن الذهبي (توفي عام 456 هـ)(159). وفي مجال الرياضيات وعلم الفلك، فكان من أشهرهم أبو إسحاق بن إبراهيم بن يحيى الزرقالي صاحب الجداول الفلكية الشهيرة (توفي عام 480 هـ)، وأبو القاسم أصبغ بن السمح الغرناطي (توفي عام 438 هـ) وكان بارعاً في الهندسة والفلك (160). واشتهر أبو عبد الله بن أحمد السرقسطي (توفي عام 488 هـ) بعلم الأعداد والهندسة والنجوم (161). أما إسحاق بن قسطار، فكان يهودياً يعمل في خدمة مجاهد العامري. فله خبرة جيدة بالطب وبعلم المنطق والفلسفة (162).
ورافق ازدهار الحركة الفكرية في الأندلس في عصر الطوائف، ذيوع المكتبات العامة والخاصة التي شملت أنفس وأجود أنواع الكتب، فقد رعت مملكة إشبيلية هذه الظاهرة وكذلك مملكة المرية، ومملكة بطليوس وطليطلة. وأشهر مكتبة خاصة كانت تعود إلى الوزير أحمد بن عباس وزير زهير العامري (163)، واشتهرت مكتبة أبي محمد عبد الله بن حيان بن فرحون الأروشي (توفي عام 487 هـ) في مدينة بلنسية، وكانت له همة عالية في اقتناء الكتب (164).
ويبدو لنا تطور الحركة الفلسفية في عصر الطوائف، وبخاصة بعد دخول رسائل إخوان الصفا على يد أبي الحكم الكرماني (توفي عام 458 هـ) فوجدت في شبه الجزيرة إقبالاً كبيراً (165). ومن الذين كان لهم حس فلسفي في عصر الطوائف ابن حزم
(157) المقري، نفح، ج 2، ص 126 وما بعدها.
(158)
الحميدي، جذوة، رقم 344.
(159)
صاعد، طبقات، ص 109 - كريم عجيل، الحياة العلمية، 478.
(160)
عنان، دول الطوائف، ص 435.
(161)
صاعد، طبقات الأمم، ص 94.
(162)
تشراكوا، مجاهد العامري، ص 251.
(163)
عنان، دول الطوائف، ص 436 - 437.
(164)
ابن بشكوال، الصلة، رقم 634 - الضبي، بغية، رقم 920.
(165)
بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ص 17.
الظاهري، الذي أحدث في الأندلس دوياً علمياً هائلاً بمذهبه الظاهري ومناظرته الفقهاء وأهل الأديان، وكان كثير الوقيعة في العلماء بلسانه وقلمه (166).
إلا أن علم الفلسفة كان من العلوم الممقوتة في الأندلس على أيام الطوائف، ولا يستطيع صاحب هذا العلم إظهاره (167). وقد أحرق المعتضد أمير إشبيلية كتب ابن حزم الظاهري إرضاءً للمالكية وعلى رأسهم أبو الوليد الباجي (168). وكان لابن حزم تلاميذ عاشوا بعده وورثوا بعض علمه، ومنه الحس الفلسفي، ومن أشهرهم ولده (أبو رافع الفضل)، الذي اجتمع عنده بخط أبيه من تأليفه نحو أربعمائة مجلد (169) ويبدو لنا من هذه الرواية أن المعتضد لم يحرق كتب ابن حزم كلها لأن أبا رافع هذا كان من رجال ولده المعتمد واستشهد في معركة الزلاقة عام 479 هـ، وإن اضطهاد المعتضد لهذا العالم لم يكن في أغلب الظن علمياً بقدر ما هو اضطهاد سياسي (170). وهناك من لازم ابن حزم وأكثر الأخذ منه دون أن يتظاهر بذلك أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي (توفي عام 488 هـ) صاحب كتاب (جذوة المقتبس)، ومن تلاميذه أيضاً الراضي بن المعتمد الذي أشرف على المذهب الظاهري وبرع في الأصول (171)، ويبدو أن الفتن التي عصفت بملوك الطوائف شغلت ملوك قرطبة عن تعقب الفلاسفة ومحاكمتهم، ومع ذلك فقد بيعت المكتبات العامة والخاصة التي كانت تزين قصور قرطبة بأبخس الأثمان وتناولها الناس وقرأوا منها بعض بحوث الفلسفة. ولما أمن الناس أظهروا ما لديهم في الفلسفة من كتب وأخذوا يهتمون بالعلم الرياضي وصناعة المنطق، وكان المعتمد نفسه يصدق بالتنجيم (172).
ويظهر أن مملكة سرقسطة بالذات كانت مأوى وحامياً للفلسفة والفلاسفة في عهد المقتدر بن هود (438 - 473 هـ) وابنه يوسف المؤتمن (473 - 477 هـ)(173) وإلى بلاطهما
(166) ابن كثير، البداية والنهاية، ج 12؛ ص 92 - عمر فروخ، ابن حزم، ص 161 وما بعدها.
(167)
المقري، نفح، ج 6، ص 168.
(168)
سعد إسماعيل شلبي. البيئة الأندلسية، ص 47 (ح: 8).
(169)
ابن خلكان، وفيات، ج 3، ص 13.
(170)
السامرائي، علاقات، ص 426 - 427.
(171)
ابن الآبار، الحلة، ج 2، ص 71 - معجم الأدباء، ج 18، ص 282 وما بعدها.
(172)
عبد الوهاب عزام، المعتمد بن عباد، ص 277 - محمد عبد المنعم خفاجة، قصة الأدب في الأندلس، ج 1، ص 159 - 160.
(173)
بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ص 454.
لجأ أبو الحكم الكرماني، وفيها استقر المقام بالفيلسوف ابن باجة، ولقيت رسائل إخوان الصفا إقبالاً كبيراً من أهلها (174).
وأصبحت الأندلس ولاية مرابطية 484 - 540 هـ، فنتج عن ذلك الانفتاح الفكري الأندلسي على المغرب، حيث انتقلت الثقافات الأندلسية المتنوعة إلى المغرب، كما انتقل أبناء المغرب من قادة ورعية لينهلوا من علوم الأندلس والتزود من معارفها (175).
وعلى الرغم من إشارة بعض الروايات إلى ضمور الحركة الفكرية الأندلسية في ظل دولة المرابطين عما كانت عليه أيام ملوك الطوائف (176)، إلا أن الحركة العلمية والأدبية في الأندلس لبثت خلال العهد المرابطي تحتفظ بكثير مما كان لها أيام الطوائف من قوة وحيوية، كما درس أكثر عمال المرابطين في الأندلس على أيدي أشهر العلماء (177).
واعتمد أمراء المرابطين وولاتهم قادة الفكر الأندلسي في تسيير أعمالهم، فنرى اعتماد يوسف بن تاشفين على الأديب الأندلسي عبد الرحمن بن أسباط، ولما توفي عام 487 هـ، استعان أمير المسلمين يوسف بن تاشفين بالعالم محمد بن سليمان الكلاعي الإشبيلي المعروف بابن القصيرة، الذي كان استخدامه في البلاط المرابطي بداية لاحتشاد أعلام الكتابة الأندلسيين للخدمة فيه (178).
واحتشد في البلاط المرابطي إلى جانب ابن القصيرة عدد من أعلام الكتاب وأئمة البلاغة، منهم وزير بني الأفطس وصاحب المرثية المشهورة عبد المجيد بن عبدون الذي كتب ليوسف بن تاشفين وقيل لابنه علي وتوفي عام 520 هـ (179) إضافة إلى الكاتب أبي عبد الله محمد بن مسعود بن أبي الخصال الذي كتب لعلي بن يوسف ثم عزله فيما بعد وتوفي عام 540 هـ (180) ولا ننسى خدمات الفتح بن خاقان الإشبيلي الذي خدم في قصور أمراء الطوائف، ثم التحق بخدمة أبي إسحاق إبراهيم بن يوسف بن تاشفين الذي قتل
(174) سعد شلبي، البيئة الأندلسية ص 49.
(175)
كنون، النبوغ المغربي، ج 3، ص 149 - السامرائي، علاقات، ص 410.
(176)
كنون، النبوغ المغربي، ج 1، ص 74.
(177)
راجع على سبيل المثال، ابن الآبار، المعجم، ج 8، ص 15، ص 20، ص 281 وغير ذلك.
(178)
ابن بشكوال، الصلة، ترجمة (رقم 1253) - الفتح بن خاقان، قلائد، ج 5، ص 104 - عنان، عصر المرابطين، ق 1، ص 440.
(179)
ابن خاقان، قلائد، ص 35 - كنون، النبوغ المغربي، ج 1، ص 87.
(180)
ابن بشكوال، الصلة، رقم 1294 - بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ص 123.
عام 529 هـ بمراكش (181).
ونوى من خلال دراسة ترجمة هؤلاء الكتاب وغيرهم، أنهم كانوا يتمتعون بمكانة مرموقة في البلاط المرابطي ويحملون لقب (ذو الوزارتين) أمثال أبي بكر بن القصيرة، وأبي عبد الله محمد بن أبي الخصال الغافقي (182).
وخلال العصر المرابطي ظهر في الأندلس الكثير من أعلام المحدثين والفقهاء، فقسم منهم تعاون مع ولاة المرابطين في الأندلس، وقسم آخر ذهب إلى مراكش ودخل في خدمة المرابطين هناك، ومن أشهرهم: الفقيه أبو محمد عبد الحق بن غالب المحاربي (توفي 542 هـ) من أهل غرناطة، ويبدو أنه تعاون مع المرابطين في الأندلس ومدحهم بأشعاره (183). والفقيه أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن الأنصاري من أهل المرية، ودخل في خدمة المرابطين في أواخر أيامهم، ثم انحاز إلى دولة الموحدين إلى أن توفي بمراكش عام 559 هـ (184). ومنهم الفقيه عبد الله بن محمد بن عبد الله النفري المعروف بالمرسي (453 - 538 هـ) ولد ودرس بمرسية، ثم انتقل إلى مدينة سبتة وتولى الخطابة بجامعها، ورجع إلى الأندلس وتوفي في قرطبة (185).
كما نبغ في العصر المرابطي بعض أئمة اللغة في الأندلس، ومنهم أحمد بن عبد الجليل المعروف بالتدميري، نشأ في المرية، وسكن بجاية في ظل بني حماد ثم توفي في مدينة فاس عام 555 هـ (186).
وأما عن العلوم، فقد حظيت الأندلس بنهضة علمية في هذه الفترة، والتي كانت امتداداً للنهضة الفكرية التي ظهرت في عصر الطوائف. وكان في مقدمة العلماء الذين ظهروا في عصر السيطرة المرابطية أبو بكر محمد بن يحيى بن الضائع التجيبي المعروف بابن باجة (توفي عام 533 هـ) وأصله من سرقسطة نشأ فيها في أواخر مملكة بني هود، ونبغ في الرياضيات والفلك والفلسفة، ولما ولي الأمير أبو بكر بن إبراهيم المسوفي، وهو ابن عم يوسف بن تاشفين وحكم سرقسطة عام 508 هـ، استوزر أبا بكر بن باجة
(181) ابن الآبار، المعجم، ص 313.
(182)
السامرائي، علاقات، ص 414.
(183)
الضبي، بغية، ترجمة 1103 - ابن دحية، المطرب، ص 91.
(184)
ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص 182.
(185)
ابن بشكوال، الصلة، ترجمة رقم 650.
(186)
ابن الآبار، التكملة، رقم 175.
وأغدق عليه رعايته وعنايته، بالرغم مما كان ينسب إليه من الآراء الفلسفية. ولما سقطت سرقسطة بيد الإسبان عام 512 هـ غادرها ابن باجة إلى إشبيلية ثم إلى شاطبة، ومنها نزح إلى المغرب وتوفي في مدينة فاس عام 533 هـ (187).
واشتهرت أسرة بني زهر بالطب، وكان عميدها عبد الملك بن محمد بن زهر الإيادي، وخلفه في المهنة ولده زهر بن عبد الملك الذي أصبح عمدة عصره في الطب وتوفي عام 525 هـ بقرطبة ودفن في إشبيلية (188). وجاء من بعده ولده عبد الملك بن زهر الذي ذاع صيته في المغرب والأندلس، واتصل بالمرابطين، وصنف للأمير أبي إسحاق بن يوسف بن تاشفين كتابه المعروف (الاقتصاد في صلاح الأجساد)، كما له كتاب في الطب مشهور باسم (التيسير)، توفي في إشبيلية عام 557 هـ (189)، وقد كتب وصفاً دقيقاً لبعض الأمراض وبخاصة التهاب غشاء القلب وأعراض السرطان (190).
وأشهر أطباء العصر أيضاً علي بن عبد الرحمن الخزرجي، من أهل طليطلة برع بالطب إلى جانب تمكنه في الفقه، ولما استولى الإسبان على طليطلة عام 478 هـ، رحل في بلاد الأندلس واستقر أخيراً في قرطبة وتوفي فيها عام 499 هـ (191). وشاركهُ في الاهتمام بالطب أيضاً أمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت (460 - 529 هـ) من أهل دانية، إلا أنه قضى معظم حياته متنقلاً بين مصر وأفريقية (192). واشتهر بالزراعة في الأندلس خلال هذه الفترة العلاّمة الزراعي أبو عبد الله محمد بن مالك التغنري من قرية تغنر من أعمال غرناطة، ودرس العلوم الزراعية على يد ابن البصال الطليطلي، وله كتاب (زهر البستان ونزهة الأذهان)(193).
أما النهضة الأدبية في الأندلس فقد ارتفعت فوق مستوى الانحلال الذي شهده
(187) القفطي، أخبار العلماء، ص 265 - السامرائي، علاقات، ص 416 - 417 ينظر، السامرائي، دراسات، ص 378 - 379 هـ سليم طه التكريتي " ابن باجة " مجلة العربي، العدد 166، ص 166 وما بعدها.
(188)
عنان، عصر المرابطين، ق 1، ص 473.
(189)
ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء، ص 517.
(190)
السامرائي، دراسات في تاريخ الفكر العربي، ص 324 - أنور الرفاعي، الإنسان العربي والحضارة، ص 456 - عز الدين فراج، فضل علماء المسلمين، ص 252.
(191)
عنان، عصر المرابطين، ق 1، ص 471.
(192)
ابن خلكان، وفيات، ج 2، ص 99، القفطي، أخبار العلماء، ص 57.
(193)
عنان، عصر المرابطين، ق 1، ص 474.
عصر الطوائف، لأن دولة المرابطين اعتمدت الدين في كثير من أمورها، وأنها وجهت نشاطها إلى مجاهدة الإسبان، وكذلك مرت الأندلس بفترة من الجد وتركت الحياة التي اعتادت عليها في أيام الطوائف، مما أدى إلى تغير نوعي في مستوى الحياة الأندلسية، وبخاصة الأدبية منها. فلم نر ذلك التحرر والانطلاق في نظم الشعر الذي يمثل التغزل بالطبيعة وجمالها، ووصف جمال المرأة، وبعض مظاهر الحياة الإجتماعية الماجنة (194).
وعلى هذا الأساس وجهت اتهامات إلى المرابطين بعدم الذوق الأدبي، وكسوف شمس الأدب في عهدهم، بل غولي بالأمر إلى حد اتهامهم بعدم معرفة اللسان العربي (195). إن مثل هذا الاتهام يمثل بعض وجوه العصبية الأندلسية لتبيان حالة أهل المغرب بأنهم أقل حضارة وأقل نصيباً في تقدير الشعر من أهل الأندلس، فالأمر لا يعدو أكثر من نقمة الأندلسيين على المرابطين، بأكثر مما يدل على تغير من حال الأدباء والشعراء. فالشعراء الذين كانوا في ظل أمراء الطوائف أكثرهم أدرك عصر المرابطين وعاش الكثير من أحداثه، وبذلك يمكن نفي مثل هذا الاتهام، والجزم بأن الشعر الأندلسي لم يمت في عصر المرابطين، وأن كل ما حدث: أن الشعر كيَّف نفسه بما يلائم الظروف الجديدة التي أحاطت به (196).
لقد كان قدوم المرابطين إلى الأندلس بداية عهد جديد يؤذن بتواري العاهل الأندلسي وقيام عاهل مرابطي لكل منهما ذوقه الأدبي، وموقفه من الشعر والشعراء، فلا ينكر أن طبقة الشعراء أصبحت في الظل على عهد المرابطين وتقدمت عليها طبقة الفقهاء (197). فنرى نتيجة ذلك أن بعض شعراء الأندلس أمثال ابن خفاجة (توفي عام 533 هـ) وابن أخته يحيى بن عطية بن الزقاق (توفي عام 529 هـ) لم يتأثروا كثيراً بقدوم المرابطين، كما كان حالهم في عصر الطوائف (198)، وكذلك دفع الأمر بعض أدباء الأندلس إلى جمع تراثهم الأدبي والحفاظ عليه من الضياع فصنف ابن بسام (توفي عام 542 هـ) كتابه المشهور (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة) وصنف الفتح بن خاقان (توفي عام 535 هـ) كتابي قلائد العقيان ومطمح الأنفس. وقد أشار ابن بسام -بصورة خاصة-
(194) حركات، المغرب عبر التاريخ، ص 394 - الطاهر أحمد مكي، دراسات عن ابن حزم، ص 48 وما بعدها.
(195)
محمد عبد المنعم خفاجة، قصة الأدب في الأندلس، ج 2، ص 338.
(196)
إحسان عباس، تاريخ الأدب الأندلسي، ص 79.
(197)
سعد إسماعيل شلبي، دراسات أدبية في الشعر الأندلسي، ص 153.
(198)
سعد شلبي، دراسات أدبية، ص 154.
إلى أن الكساد قد أصاب الشعر في الأندلس بعد انقراض عصر ملوك الطوائف (199). كما نلاحظ الكثير من شعراء الأندلس في هذا العهد تركوا البلاد وهاجروا إلى الخارج واستقر قسم منهم في الجزائر الشرقية (البليار) وقسم في تونس والجزائر، بعيداً عن سلطان المرابطين أمثال الشاعر ابن اللبانة، والشاعر ابن حمديس الصقلي (200).
وعندما وجد فريق من الشعراء نفسه مضطراً على البقاء في الأندلس، اضطر إلى المداهنة، وإلى توجيه أشعاره إلى الفقهاء والكتاب الأندلسيين الذين تولوا مناصب الوزارة والكتابة للمرابطين. ونظراً لأن هؤلاء لم يكونوا في ثراء ملوك الطوائف أو هيبتهم الأدبية، فقد هبط الشعر الرسمي عن مستواه، وصار سلساً إلى درجة تقرب من الضعف، كما كثر فيه الاستعطاف، والترحيب بالسادة الجدد، والتندر بعيوب ملوك الطوائف (201).
وإذا كان مقدم بن معافى القبري (توفي عام 299 هـ) قد ابتكر الموشحات الأندلسية، فإنها تطورت في عصر الطوائف على يد الشاعر أبي بكر عبادة بن ماء السماء (توفي عام 422 هـ)(202)، ثم تبعه الشاعر ابن اللبانة والأعمى التطيلي وغيرهما، في عصر المرابطين مما يدل على غلبة ذوق العوام، وإلى التهاون في استعمال اللغة العربية (203)، فمال هؤلاء الشعراء الفحول إلى نظم هذه الموشحات لأنهم كانوا يعيشون في مجتمع يميل إلى كل ما هو شعبي (204).
وقد أدى هذا الأمر إلى ظهور شعر الزجل الذي اشتهر به محمد بن عبد الله بن قزمان (توفي عام 554 هـ)(205)، وإذا رأينا الموشح يعتمد نظم القوافي، فالزجل يمثل مظهراً من مظاهر ضعف اللغة العربية وفقدان سلطانها الكامل على الشعراء (206).
(199) السامرائي، علاقات، ص 420.
(200)
سعد شلبي، دراسات أدبية، ص 155 - 156.
(201)
راجع، ديوان ابن خفاجة الأندلسي، ص 116، ص 198.
(202)
محمد مجيد السعيد، الشعر في ظل بني عباد، ص 267 - 268.
(203)
محمد مجيد السعيد، الشعر في عهد المرابطين والموحدين، ص 395 - السامرائي، علاقات، ص 421.
(204)
السامرائي، دراسات، ص 405.
(205)
ابن سعيد، المغرب، ج 1، ص 100 - سالم، قرطبة، ج 2، ص 100.
(206)
نماذج من موشحة ابن اللبانة:
للدموع إذ تقطر. في الخد أسطر. تحفظ الهوى ظاهر. منها النواظر وأشهر نموذج للموشحات، موشحة ابن الخطيب: =
ولكن مع كل هذا فقد رعت دولة المرابطين الحركة الأدبية، وظللت على رجالها وأدخلهم سلاطينها في خدمتهم، فعلي بن يوسف استعان بالوزير أبي القاسم ابن الجد المعروف بابن الأحدب، وبأبي بكر بن محمد المعروف بابن القبطرنة، كما أن الأديب والفيلسوف ابن باجة خدم أمير سرقسطة المرابطي أبا بكر إبراهيم المعروف بابن تافلويت ونظم له الموشح المعروف بمطلعه:
جرر الذيل أيما جر
…
وصل الشكر منك بالشكر
فطرب ابن تافلويت لهذا الموشح الذي ختم بقوله:
عقد الله راية النصر
…
لأمير العلا أبي بكر (207)
ولأمير سرقسطة قصة معروفة مع هذا الأديب (208). كما أن الدولة المرابطية شجعت الحركة الأدبية، ودل على ذلك المؤلفات العديدة التي ظهرت في هذه الفترة مثل: قلائد ابن خاقان، وذخيرة ابن بسام، وصلة ابن بشكوال ومسهب الحجاري وغيرها (209).
هذه الرعاية التي حظي بها أدباء الأندلس من قبل أمراء المرابطين، أثرت في الأدب الأندلسي تأثيراً محسوساً، فظهر بمظهر القوة، واختفت منه عناصر الضعف التي كانت سائدة عليه أيام ملوك الطوائف، فانتحى الشعراء في شعرهم مناحي الجد والتوقر بدل ما كانوا منغمسين فيه من المجون والبطالة، وذلك نتيجة ارتفاع معنويات أهل الأندلس عموماً بما أحرزوه من نصر على أعدائهم بفضل جهود المرابطين، بعدما كانوا أذلة أمام
= جادك الغيث إذا الغيث همى
…
يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلما
…
في الكرى أو خلسة المختلس
ينظر، السعيد، الشعر في ظل بني عباد، ص 258 - السامرائي، دراسات، ص 405 ومن نماذج الزجل.
ما أعجب حديثي
…
اشى هذا الجنون
نطلب وندبر
…
أمراً لا يكون
وكم ذا نهون
…
أمراً لا يهون
ينظر، محمد عبد المنعم خفاجة، قصة الأدب في الأندلس، ج 1، ص 232. كامل كيلاني، نظرات، ص 289 - عنان، عصر المرابطين، ق 1، ص 453 - 454.
(207)
سالم، قرطبة، ج 2، ص 98، ص 184 وما بعدها.
(208)
ابن خاقان، قلائد، ص 3 - 4 - السامرائي، علاقات، ص 423.
(209)
ينظر، ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 2، ص 211 - ابن سعيد، المغرب، ج 2، ص 108 - الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 451.
هجمات الإسبان (210). ومن مميزات الحركة الأدبية في الأندلس في عصر المرابطين ظهور فن المقامات، وأول من تأثر بمقامات الحريري الأديب أبو طاهر محمد التميمي السرقسطي (توفي بقرطبة عام 538 هـ) فله كتاب (الخمسين مقامة اللزومية) وهي المعروفة بالمقامات السرقسطية وقد عارض بها مقامات الحريري، كما وضع الأديب محارب بن محمد الوادي آشي مقامة في مدح القاضي عياض بن موسى السبتي (توفي عام 544 هـ)، كما أن الأديب أبا عبد الله محمد بن القرطبي وضع مقامة سماها المقامة العياضية الغزلية (211).
ولم تلق الحركة الفلسفية رواجاً وتقدماً في الأندلس في العهد المرابطي وذلك لاعتماد هذه الدولة المذهب المالكي أساساً لكل أمورها، وبذلك لا تميل إلى الخوض في علوم الفلسفة (212)، ولكن مع هذا وجد من درس هذا العلم خلال هذه الفترة، أمثال العالم أبي بكر بن باجة المعروف، والعالم أبي الحجاج يوسف بن موسى الكلبي الضرير، من أهل سرقسطة الذي سكن مراكش ومات فيها عام 520 هـ (213). وتوجت دولة المرابطين موقفها من الفكر الفلسفي، بإحراق كتب الإمام الغزالي، وأصدرت أوامرها إلى معظم مدن الأندلس والمغرب في عهد أمير المسلمين علي بن يوسف، بهذا الأمر، لاعتقاد أهل الفقه بأن كتبه مليئة بآراء المتكلمين ومذاهب الصوفية (214).
كما ذهب ضحية سلوك الفقهاء هذا أبو الحسن علي بن جودي (توفي 530 هـ)، وهو تلميذ ابن باجة، حيث اتهم بدينه فلاحقته السلطات، ففر وتحول إلى قاطع طريق مع عصابة تعمل بين الجزيرة الخضراء وقلعة خولان (215).
وأصبحت الأندلس ولاية موحدية 540 - 620 هـ، فبدأ عصر جديد للحركة الفكرية، فقد أعطى الموحدون الحريات للنشاطات العلمية والأدبية، سوى ما يخالف مبادئ فكرة التوحيد التي يعتمدها محمد بن تومرت (216) فقدروا العلماء، واستدعوهم إلى
(210) كنون، النبوغ المغربي، ج 1، ص 92.
(211)
ينظر، إحسان عباس، تاريخ الأدب، ص 195 - حازم عبد الله، النثر الأندلسي، ص 324.
(212)
المراكشي، المعجب، ص 172 - فيليب حتي وآخرون، تاريخ العرب (مطول)، ج 2، ص 645.
(213)
السامرائي، علاقات، ص 429.
(214)
ينظر، ابن القطان، نظم الجمان، ص 14 - 15 - المراكشي، المعجب، ص 173 - بروفنسال، الإسلام فى المغرب والأندلس، ص 153 - السلاوي، الإستقصا، ج 2، ص 57 - محمد مجيد السعيد، الشعر في عهد المرابطين والموحدين، ص 63، ص 72.
(215)
ابن سعيد، المغرب، ج 2، ص 109 - السعيد، الشعر في عهد المرابطين، ص 72.
(216)
عبد الله علي علام، الدعوة الموحدية بالمغرب، ص 151 وما بعدها.
قصورهم وأحاطوهم بالرعاية، ومالوا إلى دراسة مختلف العلوم بما فيه الفلسفة، وبذلك امتاز عصرهم بسعة الأفق وحرية الفكر (217).
ومن الملاحظ في هذا العصر أن الحركة الأدبية في الأندلس وبخاصة الشعر والنثر قد تقدمت على العلوم الأخرى، ومما دفعها في هذا المجال النكبات التي لحقت بأهل الأندلس، خلال العصر الموحدي، وعصر الانهيار الذي أدى إلى قيام مملكة غرناطة، فعبرت النفوس الملتاعة بالمراثي البليغة، من الشعر والنثر، ما يدمي القلوب ويحرق النفوس (218).
في أيام الموحدين انكمش سلطان الفقهاء لابتعاد ولاة الأمر عن علم الفروع واهتمامهم بظاهر النصوص من قرآن وحديث نبوي، فنمت بدلهم طبقة من الصالحين الأتقياء، الذين دفعوا العلوم الدينية إلى الإمام.
ودراستنا للعلوم الدينية في الأندلس من خلال تتبع تراجم رواد هذه العلوم يمكن أن نقسم هؤلاء العلماء إلى ثلاثة أقسام:
1 -
الأول:
الذين اشتهروا بعلوم القرآن والحديث والفقه: العلامة الحافظ أبو الربيع بن سالم الحميري (شهيد معركة أنيشة عام 634 هـ) برع في الحديث والفقه، وهو أستاذ ابن الآبار (219). والأخوان عبد الله وداود أولاد حوط الله الأنصاري، توفي عبد الله عام 612 هـ، وتوفي داود عام 621 هـ، اشتهرا بعلم القراءات وعلم الحديث (220).
ومن أشهر علماء الحديث أيضاً عبد الله بن الحسن الأنصاري ويعرف بابن القرطبي (توفي عام 611 هـ)(221). ومن أعظم فقهاء هذا العصر محمد بن عبد الله بن الجد الفهري، الذي اشتهر بدراسة الفقه والحديث (توفي عام 586 هـ)(222). أما ابن موجوال فاشتهر بدراسة القراءات والحديث، إلى جانب اشتهاره بالورع والزهد توفي عام 566 هـ (223). وغيرهم كثير.
(217) السعيد، الشعر في عهد المرابطين والموحدين، ص 64 - 65.
(218)
عنان، عصر الموحدين، ق 2، ص 649.
(219)
ابن الآبار، التكملة، ترجمة (رقم 1991).
(220)
أيضاً، ترجمة رقم (2099) - ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص 503.
(221)
أيضاً، ترجمة، رقم (2097).
(222)
ابن الآبار، التكملة (رقم 1496).
(223)
أيضاً، ترجمة (رقم 2050).
2 -
الثاني:
العلماء الذين مزجوا بين دراسة الفقه والحديث ودراسة الأدب، ومن أشهرهم محمد بن خير بن عمر (502 - 575 هـ) وهو صاحب كتاب الفهرسة (224). وعبد الله بن يحيى الحضرمي النحوي ويعرف بابن صاحب الصلاة (517 - 578 هـ)، ومن شعره:
وعجل شيبي أن ذا الفضل مبتلى
…
بدهر غدا ذو النقص فيه مؤملا
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
…
بها الحر يشقى واللئيم ممولا (225)
واشتهر بالشعر أيضاً الفقيه والمحدث مفوز بن طاهر المعارفي (517 - 590 هـ).
ومن نظمه:
وقفت على الوادي المنعم دوحه
…
فأرسلت من دمعي هنالك واديا
وغنّت به ورق الحمام عشية
…
فأذكر أياماً مضت ولياليا (226)
3 -
الثالث:
العلماء الذين غلبت عليهم صفة التصوف، ويأتي في مقدمتهم المقرئ والزاهد الورع موسى بن حسين بن عمران الميرتلي، (توفي عام 604 هـ) ومن شعره في الزهد:
سليخة وحصير
…
ليت مثلي كثير
وفيه، شكراً لربي
…
خبز وماء نمير
وفوق جسمي ثوب
…
من الهواء ستير
قررت عينا بعيشي
…
فدون حالي الأمير (227)
وقطب هذا القسم محيي الدين بن عربي (560 - 638 هـ) فبجانب دراسته للحديث، مال إلى التصوف وشغف به حتى ملك عليه كل جوارحه، إضافة إلى هذا كله كان شاعراً مبدعاً له قصائد في الشعر الرقيق الجيد، في العشق الإلهي (228).
(224) ابن خير، الفهرسة، ص ي مقدمة الكتاب.
(225)
ابن الآبار، التكملة رقم 2066 - عنان، عصر الموحدين، ق 2، ص 662.
(226)
ابن الآبار، التكملة، ترجمة رقم 1844.
(227)
أيضاً، ترجمة رقم 1731 - عنان، عصر الموحدين، ق 2، ص 666.
(228)
ينظر، عبد اللطيف الطيباوي، محاضرات في تاريخ العرب والإسلام، ص 230 - عنان، عصر الموحدين، ق 2، ص 679 - 680 - السامرائي، دراسات، ص 287 - بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ص 371 وما بعدها.
أما العلوم اللغوية والنحوية، فقد ازدهرت في الأندلس في هذا العصر، ومما يلفت النظر في عصر الموحدين، هو ظهور أعلام كبار في النحو، لهم اجتهادات وآراء جديدة في هذا الميدان (229). ومن أشهرهم أبو جعفر أحمد بن عبد الرحمن المعروف بابن مضاء القرطبي (توفي عام 592 هـ)(230)، وعلي بن محمد بن علي بن خروف الحضرمي (توفي عام 609 هـ)(231)، ومن علماء اللغة والنحو في هذا العصر أيضاً ابن أبي ركب، مصعب بن محمد الخشني (توفي عام 604 هـ)(232)، وكذلك أبو علي عمر بن محمد الإشبيلي الشلوبيني والذي يعتبر إمام النحويين في هذا العصر (562 - 645 هـ)(233).
ومن أشهر رواد علم التاريخ وكتابه ورواته في الأندلس خلال هذه الفترة محمد بن أبي خالد المري الإلبيري، من أهل غرناطة (533 - 602 هـ) فكان عارفاً بتاريخ من نزل بالأندلس قديماً من العرب (234). أما إمام المؤرخين، وأعظم أقطاب الرواية والتاريخ من هذه الفترة هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله القضاعي المعروف بابن الآبار (595 - 658 هـ) فقد عاصر أحداث الأندلس خلال العصر الموحدي وشارك في مجريات أمورها، وترك لنا مؤلفات في غاية الأهمية منها (الحلة السيراء - التكملة لكتاب الصلة - إعتاب الكتاب) وغيرها (235). ورعت دولة الموحدين العلوم الصرفة. وفي مقدمتها علوم الطب وتزعمت أسرة آل زهر الأندلسية الإشبيلية حركة الطب في هذه الفترة فكان أبو العلاء زهر بن عبد الملك بن زهر (توفي عام 525 هـ) طبيباً خاصاً لعبد المؤمن بن علي أول حاكم للموحدين، وكان هذا الحاكم يكره الأدوية وقد احتاج إلى مسهل فأعطاه هذا الطبيب ثمار العنب بعد أن سقى شجرة العنب بماء فيه دواء مسهل (236). ثم
(229) السعيد، الشعر في عهد المرابطين والموحدين، ص 68.
(230)
ابن فرحون، الديباج المذهب، ج 1، ص 8 - 2 (رقم 92) - أحمد أمين، ظهر الإسلام، ج 3، ص 95 - 98.
(231)
الحموي، معجم الأدباء، ج 15، ص 75 - ابن الزبير، الصلة، ترجمة (رقم 245) - المقري، نفح، ج 3، ص 184.
(232)
ابن الآبار، التكملة رقم 1785 - عنان، عصر الموحدين، ق 2، ص 684.
(233)
ينظر، القلقشندي، صبح الأعشى، ج 5، ص 218 - المقري، نفح، ج 3، ص 490 - ج 4، ص 9، ص 472.
(234)
ابن الآبار، التكملة ترجمة رقم 1530 - عنان، عصر الموحدين، ق 2، ص 655.
(235)
ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 1، مقدمة المحقق ص 13 وما بعدها - ينظر عنان، عصر الموحدين، ق 2، ص 704، ص 705 - 708.
(236)
عمر فروخ، تاريخ العلوم عند العرب، ص 289 - جلال مظهر، حضارة الإسلام، ص 312.
اشتهر من بعده حفيده أبو بكر محمد بن عبد الله بن زهر بن عبد الملك، طبيباً خاصاً للخليفة الموحدي المنصور ومن جاء بعده، ولما توفي عام 595 هـ دفن بروضة الأمراء إكراماً له (237).
ومن أشهر العشابين والنباتيين في الأندلس خلال العصر الموحدي أبو العباس أحمد بن محمد بن مفرج الأموري المعروف بالعشاب وبابن الرومية (561 - 637 هـ)(238)، وخلفه من بعده تلميذه ضياء الدين عبد الله بن أحمد المالقي المشهور بابن البيطار (توفي عام 646 هـ)(239).
ومن أشهر علماء الرياضيات علي بن خلف الأنصاري الشلبي الذي كان حياً عام 565 هـ (240). واشتهر أبو بكر محمد بن أحمد الرقوطي المرسي بالرياضيات والهندسة والطب، ويتقن عدة لغات، وقد بقي في وطنه مرسية بعد تغلب الإسبان عليها عام 664 هـ، ولم يغادرها. وبنى له ملك الإسبان (خايمة الأول) مدرسة علم فيها المسلمين والمسيحيين واليهود العلوم التي برع بها، وحاول ملك الإسبان عبثاً أن يُغريه باعتناق المسيحية، ثم غادر مرسية إلى مملكة غرناطة ودخل في خدمتهم يعلم أبناء المسلمين علومه التي تفوق بها، توفي أواخر القرن السابع الهجري (241). أما الفكر الفلسفي، فدخل عصره الذهبي في عهد الموحدين، وتمتع الفلاسفة بمكانة مرموقة في بلاط الموحدين، وأعطيت لهم الحرية المطلقة في عملهم شريطة ألا تنشر هذه التعاليم على العامة، لأن الموحدين كانوا يعتبرون الفلسفة نوعاً من الحقائق الباطنية المحصورة في فئة المتنورين (242).
واشتهر هذا العصر بأعظم فلاسفة الأندلس، ويأتي في مقدمتهم ابن طفيل (أبو بكر
(237) ينظر، ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء، ج 2، ص 67 - المراكشي، المعجب، ص 142 وما بعدها - ابن الآبار، التكملة، ترجمة (رقم 1499) - المقري، نفح، ج 2، ص 247 - ج 3، ص 434 - ج 7، ص 9.
(238)
ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص 215 وبعدها - ابن فرحون، الديباج المذهب، ج 1، ص 191 ترجمة رقم 69 - المقري، نفح، ج 3، ص 185.
(239)
ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء، ج 2، ص 133.
(240)
ابن الزبير، صلة الصلة، ترجمة رقم 201.
(241)
عنان، عصر الموحدين، ق 2، ص 718.
(242)
أولبري، الفكر العربي، ص 211 - 212.
محمد بن عبد الملك توفي عام 581 هـ) (243). مؤلف رواية (حي بن يقظان)، وكان بطلها حي يعيش في جزيرة لا يسكنها أحد من الناس، وليس له علاقة بأحد من أهل الجزائر الأخرى. بحث بعقله بحثاً منطقياً متدرجاً من البسيط إلى المركب حتى وصل إلى الاعتقاد بالله وغرضه من ذلك: أن يبين أن الشرع يتفق مع العقل (244)، والفيلسوف الآخر المشهور أبو الوليد محمد بن أحمد المعروف بابن رشد شيخ الفلاسفة في الأندلس (توفي عام 595 هـ)(245). ودافع ابن رشد عن الفلسفة في كتابه تهافت التهافت، ورد بعنف على الإمام الغزالي (توفي عام 505 هـ)، ووضح ابن رشد في كتب أخرى بأن الفلسفة لا تتنافى مع الدين، وألف كتاباً صغيراً سماه (فصل المقال فيما بين الشريعة والفلسفة من الاتصال)(246). وقد اتهم ابن رشد بالزندقة لكثرة أبحاثه، فأحرقت كتبه الفلسفية جميعها في عهد دولة الموحدين، على عهد الخليفة المنصور، واحتفظ له بالكتب الطبية والرياضية (247). وكذلك الفيلسوف موسى بن ميمون القرطبي اليهودي الأصل، والذي اعتنق الإسلام ودخل في خدمة الموحدين، وبعدها غادر المغرب إلى مصر ودخل في خدمة البلاط الأيوبي في مصر إلى أن توفي عام 602 هـ (248).
أما الحركة الأدبية فقد ازدهرت في الأندلس خلال عصر الموحدين، وذلك بسبب تذوق الخلفاء الموحدين للشعر الجيد، مع تقديرهم لشعر المديح والإشادة. وبلغ الشعر في الأندلس مستوى عالياً من الإزدهار والقوة، وأظله الموحدون برعايتهم، وتبارى الشعراء الأندلسيون في مدح الخلافة الموحدية والإشادة بها. حتى إن هذه النهضة الشعرية لم تخبُ في عصر الانهيار، أواخر العهد الموحدي - بل زادتها المحنة قوة، فنظم الشعراء قصائد الرثاء والقصائد المبكية، مما يشهد بأن الشعر الأندلسي، قد بلغ
(243) المراكشي، المعجب، ص 311 - أشباخ، تاريخ الأندلس، ص 500 - محمد عبد المنعم خفاجة - قصة الأدب ج 1، ص 147 - أولبري، الفكر العربي، ص 212.
(244)
السامرائي، دراسات، ص 258 - محمد أحمد المليجي " ابن طفيل "، مجلة العربي، العدد 145، ص 127.
(245)
النباهي، المرقبة العليا، ص 111 - ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، ج 6، ص 154 - أولبري، الفكر العربي، ص 213.
(246)
أحمد أمين، تاريخ الفلسفة الإسلامية، ص 158.
(247)
أنور الرفاعي، الإنسان العربي والحضارة، ص 516 - خودا بخش، حضارة الإسلام، ص 148 - أبو رميلة، علاقات، ص 391 - 392.
(248)
عنان، عصر الموحدين، ق 2، ص 723 - 724.
في تلك الفترة الصعبة من حياة الأندلس، ذروة قوته وروعته.
ولما كانت الرغبة لدى الخلفاء الموحدين في سماع المديح، فظهر في الشعر الأندلسي هذا الفن، فلما عبر عبد المؤمن بن علي إلى الأندلس استدعى الشعراء، وسمع من كثير منهم، وكان ممن أنشده من الأندلسيين الأصم المرواني وابن سيِّد (اللص) والرصافي البلنسي وغيرهم، وكانت له ملاحظات نقدية على قصائدهم تدل على تذوقه للشعر ومعرفته الواسعة به (249). والخليفة الموحدي المنصور لما انتصر على الإسبان في معركة الارك عام 591 هـ اجتمع لديه عدد كبير من الشعراء، فلم يكن الوقت يسمح لإلقاء كل شاعر قصيدته، فألقى كل شاعر بيتين أو ثلاثة من قصيدته (250). ولكن بعد خلافة الناصر (610 هـ)، خبا هذا النوع من الشعر لاضطراب أحوال الدولة وعدم تذوق ولاة الأمر شعر المديح (251). وفي هذا العصر عالج شعراء كثيرون فن الغزل، فمنه الغزل العفيف، كقصيدة الفيلسوف والشاعر ابن طفيل الذي زار محبوبته ليلاً بعد نوم الناس، وعلى الرغم من الشوق والتلهف لم ينسيا العفة والخلق الشريف (252).
وشاركه في هذا الاتجاه الشاعر أبو الروح عيسى بن خليل (توفي عام 629 هـ)(253).
ولكن غزل ابن سعيد الأندلسي وغيره، يبتعد عن التحشم والوقار (254). وظهر في هذا العصر في الأندلس شواعر غزلات أمثال حفصة الركونية التي توفيت عام 586 هـ (255)، ويمثل شعرها قصة غرام جريء في مجتمع إسلامي يحرص على سلوك معين وتقاليد وأعراف (256).
وشعر الشكوى ظهر في هذه الفترة، بسبب وقوع الشاعر في الأسر، أو ينفى من بلده لأي سبب. وممن امتحن بالنفي والتغريب عن وطنه الشاعر أبو الحسن سهل بن محمد بن مالك الغرناطي (توفي عام 639 هـ)، فيصور حالته البائسة وهو غريب بعيد عن
(249) المراكشي، المعجب، ص 282، ص 285، ص 286.
(250)
المقري، نفح، ج 4، ص 172 - بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ص 126 - 127.
(251)
السعيد، الشعر في عهد المرابطين والموحدين، ص 88.
(252)
ينظر المراكشي، المعجب، ص 313.
(253)
المقري، نفح، ج 2، ص 608.
(254)
السعيد، الشعر في عهد المرابطين والموحدين، ص 166.
(255)
ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص 499، ص 227.
(256)
السعيد، نفس المرجع، ص 183.
الوطن والأهل (257). واشتهر الشاعر ابن حزمون (توفي عام 614 هـ) بشعر الهجاء حتى وصف بأنه: بذيء اللسان (258). وهناك بعض الشعراء الذين تميزوا بالهجاء السياسي أمثال (أبي عبد الله محمد بن الصفار القرطبي توفي عام 639 هـ) فالبرغم من كونه أعمى مشوَّهاً، هجا المستنصر الموحدي، وتخفى في مدن المغرب من خطره (259).
وبرز في الأندلس خلال هذا العصر شعراء الزهد ويمثلهم أبو عمران موسى بن عمر المارتلي الإشبيلي (260). وكذلك أبو جعفر بن الوكيل (توفي عام 551 هـ)، ومن شعره:
أسير الخطايا عند بابك واقف
…
له عن طريق الحق قلب مخالف
قديماً عصى عمداً وجهلاً وعزة
…
ولم ينهه قلب من الله خائف (261)
وضمن هذا الفن ظهرت القصائد النبوية الطويلة في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعداد معجزاته، والتشوق إلى زيارة ضريحه وإلى غير ذلك، ومن أشهر شعراء هذا الفن ابن الجنان (توفي عام 640 هـ) والشاعر علي بن إبراهيم الأنصاري (توفي عام 571 هـ)، والشاعرة أم السعد بنت عصام الحميري المعروفة بـ (سعدونة) توفيت (عام 640 هـ)(262).
ويعتبر العصر الموحدي في الأندلس عصر بزوغ الشعر الصوفي ونضوجه، وأحسن من يمثله محيي الدين بن عربي (توفي عام 638 هـ) المار ذكره (263).
وبرز في الأندلس خلال العصر الموحدي، ونتيجة استرداد الإسبان لمعظم المدن الأندلسية، وما لحق أهلها من الأذى والضرر، نوع من الشعر يسمى رثاء المدن، مع الصريخ إلى نجدتها، وأحسن من مثل ذلك عالمنا الشهير ابن الآبار بقصيدته السينية المشهورة:
(257) السعيد، أيضاً، ص 235.
(258)
المراكشي - المعجب، ص 373 - عبد الملك المراكشي، الذيل والتكملة، ج 5، ص 240.
(259)
السعيد، المرجع السابق، ص 252.
(260)
ابن سعيد، المغرب، ج 1، ص 406.
(261)
المقري، نفح، ج 2، ص 599.
(262)
ينظر، المقري، نفح، ج 7، ص 432، ص 440 - 470 - أزهار الرياض، ج 3، ص 226 - 282 - ينظر، محسن جمال الدين. احتفالات الموالد النبوية، ص 20 وما بعدها - السعيد، المرجع السابق، ص 269 وما بعدها.
(263)
ينظر، ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، ج 6، ص 339 - أحمد أمين، ظهر الإسلام، ج 3، ص 72 - 73.
أدرك بخيلك خيل الله أندلسا
…
إن السبيل إلى منجاتها درسا (264)
ويشاركه في ذلك أبو البقاء الرندي في قصيدته النونية:
لكل شيء إذا ما تم نقصان
…
فلا يغرّ بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول
…
من سره زمن ساءته أزمان (265)
ومن أشهر كتاب الأندلس في هذا العصر الرحالة ابن جبير البلنسي صاحب كتاب الرحلة المشهور (توفي عام 614 هـ)(266). واشتهرت أسرة بني عياش الأندلسية بالكتابة ودخل أفرادها في خدمة خلفاء الموحدين، أمثال أبي الحسن بن عياش، ومحمد بن عبد العزيز بن عياش وعلي بن عياش (267). ومن أشهر كتاب الأندلس خلال هذا العصر أبو المطرف أحمد بن عبد الله بن عميرة المخزومي صاحب الرسائل المشهورة (268).
واشتهرت الأندلس أيضاً بالمكتبات، مما حدا بخلفاء الموحدين أن يجلبوا من الأندلس أشهر الكتب ووضعوها في الخزانة العلمية بمدينة مراكش (269). وقد نقل الخليفة الموحدي يوسف إحدى المكتبات الخاصة من مدينة إشبيلية إلى مكتبته بقصر الخلافة بمراكش دون علم صاحب المكتبة أو استئذانه (270). واستخدم الموحدون نساخين وخطاطين من أهل الأندلس لنسخ المؤلفات العلمية، فكان من أشهر هؤلاء أبو العباس بن الصغيرة من أهل المرية، وقد عينه الخليفة يوسف أميناً لمكتبته العلمية (271).
أما عصر مملكة غرناطة 635 - 897 هـ، فقد اتخذت هذه المملكة العربية الأخيرة في الأندلس مذهب الإمام مالك أساساً لكل أمورها (272). ولا شك كان للمذهب المالكي دوره الفعال في عملية تنظيم هذه الدولة، وكان لرجال المذهب سلطان قوي في الجانب الفكري والسياسي (273).
(264) المقري، نفح، ج 4، ص 457 - أزهار الرياض، ج 3، ص 207.
(265)
المقري، نفح، ج 4، ص 487 - أزهار الرياض، ج 1، ص 47 - السعيد، المرجع السابق، ص 322 - 323.
(266)
رحلة ابن جبير، ص 23.
(267)
عنان، عصر الموحدين، ق 2، ص 698.
(268)
القلقشندي، صبح الأعشى، ج 6، ص 534 - 535.
(269)
ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص 184 - أبو رميلة، علاقات، ص 397.
(270)
المراكشي، المعجب، ص 238 - 239.
(271)
أبو رميلة، علاقات، ص 399.
(272)
ابن الخطيب، اللمحة البدرية، ص 38.
(273)
فرحات، غرناطة، ص 154.
وكان أبرز علماء المذهب المالكي، الفقيه أبا سعيد فرج بن لب (701 - 782 هـ) وكان من أشهر أساتذة المدرسة النصرية ومن تلاميذه: إبراهيم بن موسى بن محمد الغرناطي (توفي عام 790 هـ) صاحب كتاب (أصول الفقه)، ومحمد بن سراج (توفي عام 848 هـ) وعرف بفتاويه المتعددة، وأبو عبد الله محمد بن علي الفخار الإلبيري، والفقيه محمد بن محمد الأنصاري السرقسطي (توفي عام 861 هـ) وكانت له شهرة واسعة، وقد شارك السلطان النصري في جنازته لما كان يتمتع به من سمعة وشهرة (274). وقد أفتى هذا الفقيه السرقسطي: بأن الإسبان لا يحق لهم من حيث المبدأ بيع أراضي المسلمين التي انتزعوها منهم، لأنهم في الأساس ليسوا أصحابها، وإنما هي أرض إسلامية، ولكن أوضاع المسلمين الذين هم تحت رحمة الإسبان (وهم المدجنون) هي أوضاع خاصة، لذا جاز لهم شراء تلك الأراضي تلبية لحاجاتهم المعيشية (275).
وشهد المجتمع النصري حركة زهد قوية في أوساط العامة والخاصة، فكثر الزهاد والمتصوفون. فبالإضافة إلى أوضاع هذه الدولة الخاصة، ساعد على ازدهار حركة الزهد قدوم مهاجرين من الهند وسمرقند وتبريز وخراسان فاستقروا في الأندلس وساهموا في إبراز تيار الزهد، وقد زارهم ابن بطوطة خلال رحلته الأندلسية (751 - 752 هـ)(276).
ويشير ابن الخطيب إلى وجود رباطات المتصوفين في حي البيازين بغرناطة بإشراف أبي أحمد جعفر الخزاعي الذي كان يجمع المصلين كل ليلة لقراءة القرآن، وعقد حلقات الذكر، وسماع أشعار المتصوفة ولا سيما أشعار الحلاج (277). واشتهرت الزاهدة عائشة بنت عبد الله الأندلسي، التي أمضت حياتها داخل حجرة صغيرة، منصرفة لعبادتها، حتى اتهمت بالجنون (278). وترك أبو عبد الله محمد بن المحروق أحد زعماء مدينة غرناطة الطيبات واعتزل في رباط ابن المحروق، وفي رباط العقاب المشهور على سفح جبل مشرف على غرناطة قضى الزاهد ابن سبعين والششتري قسماً من حياتهما (279).
ومن أقطاب التصوف في مملكة غرناطة، أبو الحسن علي بن فرحون القرشي
(274) المقري، نفح، ج 2، ص 52، ص 699 - ج 3، ص 617 - ج 5، ص 355، ص 429.
(275)
فرحات، غرناطة، ص 155.
(276)
رحلة ابن بطوطة، ج 2، ص 769.
(277)
الإحاطة، ج 1، ص 461 - 463 - فرحات، غرناطة، ص 156.
(278)
المقري، نفح، ج 5، ص 306.
(279)
فرحات، غرناطة، ص 157.
القرطبي (توفي عام 751 هـ)(280) وأبو إسحاق إبراهيم بن يحيى الأنصاري المرسي (توفي عام 751 هـ أيضاً) وله كتاب (زهرة الأكمام) في قصة يوسف، وأبو عبد الله محمد الأنصاري المالقي (649 - 754 هـ) وله كتاب (بغية السالك في أشرف المسالك) في مراتب الصوفية وطرائق المريدين (281).
ومن خلال ما زودتنا به الروايات نفهم أن المراكز الفكرية ودور التعليم المهمة كانت موجودة في المدن الرئيسية كغرناطة ومالقة والمرية ووادي آش، وكانت الكتاتيب منتشرة في القرى والأرياف، وأعظم مدرسة بنيت في هذا العهد المدرسة اليوسفية بغرناطة عام 750 هـ/1349 م بناها السلطان يوسف الأول، كما عرفت باسم المدرسة العلمية والمدرسة النصرية. بدأت أولاً تدرس العلوم الدينية، ثم أصبحت تهتم بأكثر أنواع المعرفة والفكر، وقصدها الطلبة من سائر مناطق مملكة غرناطة، ونالت شهرة واسعة حتى أوفد عليها طلاب العلم من عدوة المغرب، بالإضافة إلى هذا كله وجد المؤدبون الخاصون لأولاد السلاطين (283). وكتب على باب المدرسة بعض الأبيات:
يا طالب العلم هذا بابه فتحا
…
فادخل تشاهد سناه لاح شمس ضحى
واشكر مجيدك من حل ومرتحل
…
إذ قرب الله من مرماك ما نزحا
وشرفت حضرة الإسلام مدرسة
…
بها سبيل الهدى والعلم قد وضحا
أعمال يوسف مولانا ونيته
…
قد طرزت صحفاً ميزانها رجحا (284)
وكانت المدرسة النصرية تعرض لائحة من الكتب مع أسماء الأساتذة الذين يقومون بتدريسها: فالقرآن الكريم يحتل الصدارة، ثم يأتي بعده كتاب الموطأ للإمام مالك.
وبعد ذلك ظهر كتاب (تحفة الحكماء في نقاط العقود والأحكام) للقاضي أبي بكر بن عاصم الغرناطي. واهتمت مدرسة غرناطة بتعليم اللغة والأدب، فاعتمدت كتاب سيبويه وكتاب الأغاني وآثار الجاحظ ومقامات الهمذاني والحريري، كما اعتمدت شعر العرب فكان ديوان الحماسة وديوان المتنبي من الكتب المفضلة. ولا نعرف بالتحديد عدد السنوات التي كان يقضيها الطلاب في هذه المدرسة قبل تخرجهم، إنما المتفوقون منهم
(280) المقري، نفح، ج 5، ص 226.
(281)
عنان، نهاية الأندلس، ص 467.
(282)
فرحات، غرناطة، ص 158.
(283)
المقري، نفح، ج 5، ص 268، - ج 7، ص 108، ص 166، ص 282.
(284)
المقري، نفح، ج 5، ص 457 - فرحات، غرناطة، ص 160.
كانوا يحصلون على إجازة خطية يمنحون بموجبها حق تدريس مادة معينة أو كتاب معروف (285).
وشهدت مملكة غرناطة نهضة علمية كان من روادها محمد بن الرقاح المرسي الذي اشتهر بالهندسة والرياضيات، ومارس الطب أيضاً، وتوفي عام 715 هـ. ونبغ أبو يحيى بن رضوان الوادي آشي وتوفي سنة 757 هـ، ووضع قصيدة في علم الفلك بعنوان (المنظوم من علم النجوم) ووضع رسالة في الاسطرلاب (286).
ومن أشهر أطباء هذا العصر محمد بن إبراهيم الأنصاري المعروف بابن السراج
فكان طبيب السلطان محمد الثاني الخاص، وكان يداوي الفقراء مجاناً ويوزع أمواله على المحتاجين. وكذلك الطبيب يحيى بن هذيل التجيبي حكيم غرناطة وفيلسوفها (توفي عام 753 هـ) وكان استاذاً لابن الخطيب (287). وكان محمد الشقوري طبيب دار الإمارة أيام السلطان يوسف الأول وله كتاب (تحفة المتوسل وراحة المتأمل). وفي المرية لمع اسم الطبيب والشاعر والمؤرخ أحمد بن علي بن محمد بن خاتمة الأنصاري (توفي عام 770 هـ) وله كتاب عن الوباء الذي عصف بالأندلس عام 749 هـ/1348 م بعنوان (تحصيل غرض القاصد في تفصيل المرض الوافد)(288). ولا ننسى في هذا المجال لسان الدين ابن الخطيب، الذي سنذكره فيما بعد، وكان أيضاً من الأطباء المشهورين وله عدة كتب طبية منها:(رسالة تكوين الجنين) و (مقنعة السائل في المرض الهائل) يصف فيه أعراض الوباء الكبير (289). ومن الابتكارات الطبية التي توصل إليها أطباء العصر النصري، منها: ما توصل الطبيب المالقي الحسن بن محمد بن الحسن القيسي حيث قدم دواء ضد سموم الحيات إلى السلطان يوسف الأول (290). واستعان الغرناطيون بحشائش معينة توضع فوق المكان الملتهب فتشفيه وبخاصة مرض النقرس. كما استعملوا الضماد في مداواة عرق النسا. ويؤكد ابن الخطيب في كتابه (مقنعة السائل) أن مرض الطاعون ينتقل بالعدوى ويختفي في ثياب المريض، محاولاً بذلك الإشارة إلى
(285) فرحات، غرناطة، ص 160 - 161.
(286)
فرحات، غرناطة، ص 162.
(287)
المقري، نفح، ج 3، ص 52، ص 258.
(288)
أيضاً، ج 1، ص 24، (حاشية) - ج 6، ص 33 - 37.
(289)
فرحات، غرناطة، ص 163.
(290)
ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص 467.
وجود الجراثيم مما لم يكن معروفاً في ذلك الوقت (291). ووضع الطبيبان ابن خاتمة وابن الخطيب جملة من الإرشادات والنصائح الطبية، من أجل إبعاد سكان مملكة غرناطة من خطر الوباء الكبير أو الطاعون الأسود. وتوجت مملكة غرناطة جهودها الطبية ببناء المستشفى (البيمارستان) في مدينة غرناطة على أيام السلطان محمد الخامس، وبناء دار للعجزة ومأوى للعميان في عصر السلطان محمد الأول (292).
ونالت الحركة اللغوية تقدماً كبيراً في ظل مملكة غرناطة وكان من أشهر روادها: أبو بكر محمد بن إدريس القضاعي (توفي عام 707 هـ) وله كتاب (الختام المفضوض عن خلاصة علم العروض)، والعالم أبو جعفر أحمد بن إبراهيم النحوي (626 - 708 هـ)، وكان عالماً بالقرآن والحديث، وكانت له حظوة عند السلطان أبي عبيد الله محمد بن الأحمر، وله كتاب (صلة الصلة). ومن علماء اللغة كذلك، أبو عبد الله محمد بن علي الفخار الذي كان شيخ النحاة الأندلسيين في عصره، وعليه درس ابن الخطيب وابن زمرك وتوفي بغرناطة عام 754 هـ (293). وابن مالك الأندلسي (640 - 686 هـ) صاحب الألفية المشهورة، من أهل جيان، الذي رحل إلى المشرق تاركاً الأندلس المضطربة (294).
ونالت الدراسات التاريخية حظوة كبيرة في عهد هذه المملكة، ومن الشخصيات المشهورة في حقل التاريخ أبو جعفر أحمد بن علي بن خاتمة الأنصاري (توفي عام 770 هـ) وله كتاب (مزية المرية على غيرها من البلاد الأندلسية). وكذلك القاضي المشهور أبو الحسن علي بن عبد الله النباهي (713 - بعد عام 793 هـ) وكان من خصوم ابن الخطيب ومن الساعين إلى هلاكه، وله كتاب (تاريخ قضاة الأندلس) وكتاب (نزهة البصائر والأبصار) في تاريخ الدولة النصرية (295).
وأما كتب لسان الدين ابن الخطيب (713 - 776 هـ) التاريخية فهي أكثر من أن تُعد، ويأتي في مقدمتها (اللمحة البدرية في الدولة النصرية) وكتاب (الإحاطة في أخبار غرناطة) وكتاب (أعمال الأعلام فيمن بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام) وكتاب (نفاضة الجراب) وكتاب (كناسة الدكان) وغيرها كثير.
(291) فرحات، غرناطة، ص 163.
(292)
فرحات، غرناطة، ص 135، ص 164.
(293)
المقري، نفح، ج 5، ص 355.
(294)
عبد العال سالم مكرم " ابن مالك الأندلسي " مجلة العربي، العدد 166، ص 131 وبعدها.
(295)
المرقبة العليا، ص ط المقدمة.
أما الحركة الأدبية في مجال الشعر والنثر فقد ازدادت في ظل مملكة بني الأحمر وكان روادها لسان الدين ابن الخطيب وابن زمرك، واستمر الإزدهار مرافقاً للوجود العربي حتى سقوط غرناطة، فكأن القلم والسيف تعاهدا على الجهاد ومواصلة الطريق حتى النفس الأخير (296).
والأعلام من الأدباء الذين أوصلوا الحركة الأدبية إلى هذا التفوق في عهد مملكة غرناطة هما:
1 -
لسان الدين ابن الخطيب (توفي عام 776 هـ)، الذي ترك لنا قصائد شعرية في أغراض متنوعة ولا سيما في المدح والسياسة، وله موشحات مشهورة، ومن أهمها:
جادك الغيث إذا الغيث همى
…
يا زمان الوصل بالأندلس
ومن خلال مناصبه السياسية التي تقلدها في دولة بني الأحمر، وكان قريباً من الأحداث ومشاركاً فيها، فجاءت كتبه التاريخية مصادر أساسية لكل ما يتعلق بتلك المرحلة من الوجود العربي من الأندلس، وله رسائل مشهورة منها السلطانية ومنها الفلسفية ومنها الإخوانيات (297).
2 -
أبو عبد الله محمد بن يوسف الصريحي المعروف بابن زمرك (733 - 797 هـ) تلميذ ابن الخطيب، والساعي إلى قتل أستاذه عام 776 هـ وقد ترك لنا ابن زمرك مجموعة قصائد في المدح والوصف والغزل، كما برع في الموشحات (298).
ومن الشخصيات الأدبية التي عاصرت ابن الخطيب أبو سعيد فرج بن لب (توفي عام 782 هـ)، وكان شاعراً يتسم شعره بالرقة والسهولة (299). ويختتم رواد الحركة الأدبية الأمير إسماعيل بن يوسف بن محمد بن الأحمر (توفي عام 807 هـ) صاحب كتاب (نثير فرائد الجمان في نظم فحول الزمان) وفيه تناول سير الكتاب والشعراء المشهورين في القرن الثامن للهجرة، كما له كتاب (نثير الجمان في شعر من نظمني وإياه الزمان) وفيه يتحدث عن شعر الملوك من بني الأحمر وبني مرين وبني حفص وبني عبد الواد، وكذلك عن شعر وزراء الأندلس وقضاتها (300).
(296) فرحات، غرناطة، ص 168.
(297)
عنان، نهاية الأندلس، ص 472 وبعدها - فرحات، غرناطة، ص 176 وما بعدها.
(298)
أيضاً، ص 482 وبعدها - أيضاً، ص 180 وما بعدها.
(299)
المقري، نفح، ج 5، ص 509 - 511.
(300)
عنان، نهاية الأندلس، ص 485 - 486.