الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْلُ الثَّانِي
النظم السياسية العربية في الأندلس
أهم النظم السياسية التي سنتناول دراستها في الأندلس هي:
1 -
نظام الخلافة.
2 -
نظام الحجابة والوزارة.
3 -
نظام الإدارة.
4 -
نظام الشرطة.
1 -
نظام الخلافة:
فتحت الأندلس عام (92 - 95 هـ) على عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك (86 - 96 هـ) فأصبحت ولاية تابعة للخلافة الأموية في بلاد الشام، ولما سقطت الخلافة الأموية بالمشرق عام 132 هـ حاول والي الأندلس يوسف الفهري (129 - 138 هـ) أن يكون أميراً مستقلاً لا يتبع أحداً بعد سقوط خلافة الأمويين. إلا أن وصول عبد الرحمن ابن معاوية بن هشام بن عبد الملك الملقب بالداخل، غير الأمور وجعل الأندلس إمارة أموية بدأ فيها عهد جديد يسمى عصر الإمارة الأندلسية 138 - 316 هـ، وهي إمارة وراثية حكمتها الأسرة الأموية (أسرة عبد الرحمن الداخل) وتولاها الإبن عن والده، أو الأخ عن أخيه، أو الحفيد عن جده كما هو معروف، وعاصرت هذه الإمارة دول إسلامية ذات نظام خلافي، وهي الدولة العباسية 132 - 656 هـ، ودولة الأدارسة 172 - 296 هـ ودول الخوارج وهي دولة بني مدرار في سجلماسة 140 - 296 هـ ودولة بني رستم في تاهرت 144 - 296 هـ والدولة الفاطمية في المغرب 296 - 362 هـ.
فالدولة العباسية يحكمها خليفة من سلالة العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الخليفة الشرعي الذي يعترف بخلافته عموم المسلمين، قياساً إلى وحدة الخلافة الإسلامية من الناحية النظرية، وبقيت الإمارة الأموية في الأندلس تقدر وحدة الخلافة الإسلامية، إلى أن قامت الدولة الفاطمية من منطقة المغرب عام 296 هـ. وعلى الرغم من أن دول الخوارج ودولة الأدارسة تسمي حاكمها الإمام أولاً، وعلى الرغم من أن بعض أئمة الخوارج من سجلماسة أعلنوا ولاءهم للخلافة العباسية، ثانياً (1). فإن الإمارة الأموية في الأندلس لم تخرج من التقليد حتى قامت الخلافة الفاطمية في المغرب، التي أسقطت دول الخوارج ودولة الأدارسة ودولة الأغالبة (184 - 296 هـ) فأصبحت هذه الخلافة وجهاً لوجه مع الإمارة الأموية في الأندلس لا يفصلهما إلا المضيق، ودخلت هاتان الدولتان في صراعات مريرة، من أشهر مظاهرها إعلان الخلافة الأندلسية عام 316 هـ من قبل الأمير عبد الرحمن الناصر (300 - 350 هـ) الذي لقب من هذا العام ولقب الذين جاء من بعده وإلى عام 422 هـ بلقب الخليفة الأندلسي - وبذلك كسرت قاعدة وحدة الخلافة الإسلامية، وأصبحت للخلافة ثلاثة نظم من العالم الإسلامي، وهي: الخلافة العباسية والخلافة الفاطمية والخلافة الأندلسية، وبرر الفقهاء تعدد الخلفاء إذا كانت هناك مصلحة تقتضي ذلك، واعترفوا بشرعية خليفتين للمسلمين في آن واحد بشرط أن يكون بينهما مسافة كبيرة ومسافة شاسعة لمنع الاصطدام والفتن بين المسلمين (2).
من الناحية التاريخية الواقعية كانت الإمارة الأموية في الأندلس، إمارة وراثية مستقلة سياسياً عن خلافة المشرق العباسية، ولها علاقات ودية مع دول الخوارج. إلا أنه من الناحية الروحية فإن الإمارة الأموية في الأندلس لم تعترف بالخلافة العباسية، إلا فترة وجيزة، تراوحت بين عدة أشهر، وعدة سنوات من حكم عبد الرحمن الداخل (138 - 172 هـ) ثم قطعت الخطبة للخليفة العباسي (3).
ويلاحظ أن أمراء بني أمية الذين حكموا الأندلس قبل الناصر، وإن كانوا قد قطعوا
(1) ينظر، ابن خلدون، العبر، ج 6 ص 130.
(2)
ينظر، العبادي، في التاريخ العباسي والأندلسي، ص 379.
(3)
ينظر، ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 1، ص 35 - 36 - ابن الكردبوس، تاريخ الأندلس، ص 60 - 61 - ابن أبي دينار، المؤنس، ص 42 - 43، ص 97. - المقري، نفح، ج 4، ص 59 - العبادي، دراسات، ص 57 - 58.
الدعاء لبني العباس، الا أنهم لم يلقبوا أنفسهم بلقب خليفة واكتفوا بلقب الأمير أو بني الخلائف أو الإمام (4).
وهناك روايات تذكر أن عبد الرحمن الداخل لم يخطب للعباسيين طيلة حياته، ولم يخطب الأمراء من بعده كذلك لبني العباس (5).
ويبدو لنا أن الأمير عبد الرحمن الداخل لم يخطب لبني العباس، ولكن في الوقت نفسه، نراه هو والأمراء الذين تولوا الأندلس من بعده لم يلقبوا بلقب خليفة المسلمين، احتراماً للخليفة الشرعي حامي الحرمين الشريفين، وهو الخليفة العباسي (6). هذا هو الأصل النظري للخلافة الإسلامية، غير أن مجريات الأمور وتغيرات الظروف حتمت كسر هذا الأصل، فقامت الخلافة الأندلسية عام 316 هـ وذلك للأسباب الآتية:
1 -
قيام الدولة الفاطمية في شمال أفريقية عام 296 هـ، وهي ذات أطماع مكشوفة تجاه الأندلس.
2 -
ضعف الخلافة العباسية في المشرق أيام الخليفة المقتدر (295 - 320 هـ) واستبداد القواد الأتراك بها وعبثهم في شؤون الخلافة.
3 -
الاستجابة لرغبة الأندلسيين في أن يكون أميرهم خليفة للمسلمين، وبخاصة بعد قضائه على أهم حركات التمرد، فأصبح الأمير بحاجة إلى رفع مكانة الأمير السياسية والدينية (7).
هكذا لقب الناصر نفسه، " الناصر لدين الله أمير المؤمنين " وأصدر منشوراً يتضمن ذلك (8).
وهكذا تحولت الأندلس من إمارة إلى خلافة، واستمر لقب خليفة في ذرية عبد الرحمن الناصر من بعده حتى سقوط الدولة الأموية في الأندلس عام 422 هـ (9).
(4) ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 58، ص 64، ص 65 - المقري، نفح، ج 1، ص 198.
(5)
ينظر، المسعودي، التنبيه والإشراف، ص 332 - ابن أبي دينار، المؤنس، ص 42 - 43 - فريدة الأنصاري، الإمارة الأموية، ص 85.
(6)
العبادي، دراسات، ص 58.
(7)
ينظر، ابن خلدون، المقدمة، ص 228 - العبادي، في التاريخ العباسي والأندلسي، ص 380 - الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 300.
(8)
ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 198 - سالم، تاريخ المسلمين، ص 319.
(9)
العبادي، دراسات، ص 61.
ونظام الخلافة في الأندلس يقوم على أساس التوريث أيضاً، ويستند إلى السياسة أولاً ثم إلى الدين ثانياً، عكس الخلافة الراشدة التي قامت على الشورى والانتخاب.
وفي الوقت الذي نجد فيه الخليفة العباسي (يحكم بتفويض من الله) كما قال الخليفة المنصور: " إنما أنا سلطان الله في أرضه "، وإن الخليفة الفاطمي يرى نفسه إماماً معصوماً من الخطأ، ولا يسأل عما يفعل، نرى الخليفة الأندلسي يقدم نفسه للناس بصفة، إنسان عادي يخطئ ويصيب، والناس أحرار في نقده، كما فعل قاضي قرطبة المنذر بن سعيد البلوطي (10). الذي أخذ ينتقد الخليفة الناصر على الأموال الطائلة التي صرفها في بناء مدينة الزهراء، وهو جالس في مسجد الزهراء، وكان رد فعل الخليفة الأندلسي أنه أقسم أن لا يصلي وراء هذا القاضي، ورفض اقتراح عزله عن الخطبة والقضاء (11).
من هذا نرى أن نشأة الخلافة الأندلسية تخالف نشأة الخلافة في الممالك الإسلامية الأخرى، فهي عبارة عن عقد بين الحاكم والمحكوم، في حين أن الخلافة العباسية تقوم على أساس الميراث عن العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم، والخلافة الفاطمية تقوم على الحق الطبيعي الموروث الذي يأتي عن طريق فاطمة الزهراء (12).
استمرت الخلافة الأموية في الأندلس تجمع بين السلطتين الزمنية والروحية، إلى أن جاء الحاجب المنصور وأولاده من بعده، فانتزعوا منها السلطة الزمنية اعتباراً من عام 366 هـ، فاستبدوا بالأمر وأصبح حال الخلافة الأندلسية كحال الخلافة العباسية أيام سيطرة البويهيين (334 - 447 هـ) وسيطرة السلاجقة (447 - 590 هـ)، وكحال الخلافة الفاطمية بعد سيطرة الوزراء عليها بعد وفاة الخليفة الفاطمي المستنصر عام 478 هـ.
ومعروف تاريخياً أن فترة الحجابة انتهت عام 399 هـ، وبدأت فتنة الخلافة الأندلسية وتسمى الفتنة المبيرة 399 - 422 هـ، التي كانت مليئة بالفتن والاضطرابات، وتصارعت فيها عناصر البربر والصقالبة وأهل قرطبة، وحكمها عدة خلفاء ضعفاء يتجاوز عددهم 14 خليفة حكم بعضهم أكثر من مرة (13).
وفي سنة 422 هـ سقطت الدولة الأموية بعد عزل آخر خلفائها هشام الثالث المعتد
(10) النباهي، تاريخ قضاة الأندلس (المرقبة العليا)، ص 69 - 70.
(11)
العبادي، دراسات، ص 63.
(12)
العبادي، في التاريخ العباسي والأندلسي، ص 381 - 382.
(13)
ينظر، الحميدي، جذوة المقتبس، ص 18 وبعدها - هيكل، الأدب الأندلسي، ص 342 (هامش 2).
بالله، وإجلاء من تبقى من المروانية عن قرطبة، وأعلن الوزير أبو الحزم بن جهور إلغاء الخلافة وأصبح الأمر شورى فظهرت حكومة الجماعة في قرطبة (14)، ثم قامت دويلات الطوائف في سائر أنحاء الأندلس.
لا ينكر أن معظم ملوك الطوائف كانوا في قرارة أنفسهم يتطلعون إلى الخلافة، فقد كان كل واحد منهم يود أن يصل إليها (15)، وأن تتجمع له الصفات المعنوية التي كان يتمتع بها الخلفاء الأمويون، إلا أنه لم يجرأ أحدهم على ذلك، ولو أنهم تلقبوا بألقاب الخلفاء. فنرى مجاهد العامري صاحب دانية والجزائر الشرقية ينصب (أبا عبد الله بن عبد الله بن الوليد ويعرف بالمعيطي وهو من بني أمية)(16). شبه خليفة، وسماه بأمير المؤمنين المستنصر بالله (17).
كما قام الحاجب إسماعيل بن عباد بإرسال الرسل إلى جميع أنحاء الأندلس يطلب الدخول في طاعة الخليفة المزعوم (هشام المؤيد) الذي اختلفت الروايات في مصيره.
وقد استجاب لذلك الكثير من ملوك الطوائف أمثال: مجاهد العامري صاحب دانية والجزائر الشرقية، وعبد العزيز بن أبي عامر صاحب بلنسية، وأبي الحزم جهور صاحب قرطبة، وبني ذي النون ملوك طليطلة (18).
ولعل هذه الظاهرة التي سمتها بعض المراجع بـ (وهم الخلافة) يقصد بها وجود خليفة يتمتع ظاهرياً بنوع من القوة والنفوذ وذلك إرضاء لعامة أهل الأندلس الذين ما زالوا يذكرون الأوقات الطيبة عن الخلافة الأموية، هذا إلى جانب المظاهر الروحانية والدينية التي تحيط بالخلافة. فقد كان للخليفة وحده حق الإمامة والزعامة الدينية، لذلك لم يكن من السهل على أكثر أمراء الطوائف أن يحتلوا مكان الخليفة، لأنهم كانوا مجرد حكام صغار لا ينحدرون من سلالات معروفة تتناسب مع وقار الخلافة وهيبتها (19).
وقد وجهت انتقادات لاذعة لأمراء الطوائف الذين اتخذوا ألقاب الخلفاء استكمالاً لمظاهر السلطان والعظمة (20)، وقد أشار إلى ذلك الشاعر (أبو علي الحسن بن رشيق) بقوله:
(14) عنان، دول الطوائف، 22.
(15)
السامرائى، علاقات، 40 وما بعدها.
(16)
ابن بشكوال، الصلة، ج 1، ص 269 ترجمة رقم (593).
(17)
ابن الأثير، الكامل، ج 9، ص 280.
(18)
ابن عذاري، البيان، ج 3، ص 278 - 279 - عنان، دولة الطوائف، ص 99.
(19)
تشراكوا، مجاهد العامري، ص 40 - السامرائي، علاقات، ص 46 - 47.
(20)
عنان، دولة الطوائف، ص 14 - 15.
مما يزهدني في أرض أندلس
…
أسماء مقتدر فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها
…
كالهر يحكي انتفاخاً صورة الأسد (21)
انتهى عصر الطوائف، بدخول الأندلس ضمن أملاك الدولة المرابطية فأصبحت الأندلس ولاية مرابطية يحكمها أمراء مرابطيون تابعون لحكام المرابطين في مراكش، إلا أنه يلاحظ أن الدولة المرابطية أعلنت ولاءها المبكر للخلافة العباسية، وبالذات اعتباراً من عام 450 هـ، وأرسل حكام المرابطين السفارات إلى بغداد لهذا الغرض وأشهرها سفارة العالم أبي بكر عبد الله بن محمد المعافري وولده القاضي أبي بكر (485 - 493 هـ). كما اتخذ المرابطون اللون الأسود شعاراً لهم، ومن المعروف أن هذا اللون هو شعار العباسيين، وضربوا على نقودهم لقب الخليفة العباسي، ولقب حاكم المرابطين إسمه باسم أمير المسلمين (22).
ثم خضعت الأندلس لدولة الموحدين، وحكمها ولاة تابعون لحكام الموحدين في المغرب. ورأى الموحدون أنهم أحق الناس بالخلافة، ولأنهم دون غيرهم الموحدون المؤمنون، فأقاموا لأنفسهم خلافة شرعية خاصة، ولقبوا أنفسهم بأمراء المؤمنين، وعززوا ذلك بانتمائهم إلى بيت رسول الله عن طريق الأدارسة، واتخذوا اللون الأخضر شعاراً لهم (23). وكان من أهداف الخلفاء الموحدين النزوح نحو المشرق وفرض خلافتهم على مشرق العالم الإسلامي، ومعنى ذلك أن الموحدين لا يعترفون بالخلافة العباسية (24).
ولما ثار محمد بن هود على الموحدين عام 625 هـ وأقام إمارة مستقلة له، لقب نفسه بأمير المسلمين مقلداً بذلك أمراء المرابطين، فقطع الخطبة للموحدين وخطب للخليفة العباسي، ونشر الرايات السود (25). وفي عام 631 هـ وصل إلى الأندلس أبو علي حسن بن علي الكردي المقب بالكمال قادماً من بغداد رسولاً من قبل الخليفة
(21) ابن الأثير، الكامل، ج 9، ص 284 - ابن عذاري، البيان، ج 3، ص 244 - الحموي، معجم الأدباء، ج 19، ص 37 - 38.
(22)
ينظر، السامرائي، علاقات، ص 377 وما بعدها.
(23)
المراكشي، المعجب، ص 245 - ص 255 - العبادي، دراسات ص 110 - عبد الله علي علام، الدعوة الموحدية بالمغرب، ص 166.
(24)
العبادي، دراسات، ص 114، ص 116.
(25)
أبو رميلة، علاقات، ص 196.
العباسي المستنصر بالله (623 - 640 هـ)، حاملاً كتاب تقليد ابن هود ولاية الأندلس، ولقبه المتوكل أمير المسلمين، والراية السوداء، والخلع والهدايا (26). كذلك لما ثار أبو جميل زيان على الموحدين عام 626 هـ، دعى للخليفة العباسي المستنصر بالله أيضاً (27).
ومملكة غرناطة التي حكمتها الأسرة النصرية بالوراثة، فقد أعلن أمراء هذه الأسرة ولاءهم للخلافة العباسية حيناً ولملوك بلاد عدوة المغرب حيناً آخر، ولقب أمراؤهم بلقب السلطان وأمير المسلمين، مع العلم أن ألقاباً أخرى غلبت على بعضهم كالمخلوع والزُغل والزغيبي. وعرف بعض سلاطينهم بالقوة، ووقع البعض الآخر تحت سيطرة الوزراء (28).
2 -
نظام الحجابة والوزراء:
أ - الحجابة:
الحاجب منصب إداري مشرقي، مهمته إدخال الناس على الخليفة حسب مقامهم وأهمية أعمالهم (29). ولكن هذا المنصب في الأندلس الذي أوجده الأمير عبد الرحمن الداخل (138 - 172 هـ) وقلده أخلص رجاله، من أمثال: يوسف بن بخت وعبد الواحد ابن مغيث الرومي وغيرهم (30)، هو بمثابة رئيس الوزراء الذي يعتبر حلقة الوصل بين الأمير الأموي وبين وزرائه (31).
واعتمدت الإمارة الأموية على أسر معينة فولت رؤساءها الحجابة مثل أسرة أبي عبدة، وأسرة ابن شُهيد وغيرهما. ففي عهد الأمير هشام 172 - 180 هـ تولى الحجابة أبو أمية عبد الغافر بن أبي عبدة، وكان حاجب الأمير الحكم بن هشام 180 - 206 هـ أخاه أبا عبدة عبد العزيز (32). ويخبرنا ابن عذاري بأن حجاب الأمير عبد الرحمن الأوسط (206 - 238 هـ) هما عيسى بن شهيد وابن أبي عبدة (33).
(26) عنان، عصر الموحدين، ص 411 - 412.
(27)
أبو رميلة، علاقات، ص 208.
(28)
فرحات، غرناطة، ص 69 - 72 - أبو رميلة، علاقات، ص 215 - 216.
(29)
حسن إبراهيم حسن وآخر، النظم الإسلامية، ص 186.
(30)
إبراهيم الدوري، عبد الرحمن الداخل، ص 230 وما بعدها.
(31)
ابن خلدون، المقدمة، ص 240 - ظافر القاسمي، نظام الحكم، ج 1، ص 450 - 451.
(32)
ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 2، ص 30 - عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 251.
(33)
البيان المغرب، ج 2، ص 93.
وتولى عيسى بن الحسن بن أبي عبدة الحجابة للأمير محمد (238 - 273 هـ) بعد وفاة الحاجب عيسى بن شُهيد. ووصفت لنا بعض الروايات بساطة هذا الحاجب وسلامة نيته (34).
وشغل أبو عثمان عبيد الله بن محمد بن الغمر بن أبي عبدة حاجب الأمير محمد في عهد والده الأمير عبد الله (275 - 300 هـ). ويبدو لنا أن هذا المنصب الإداري (حاجب أولاد الأمراء) لا يعطي صلاحيات الحاجب نفسها الذي يكون بمثابة رئيس الوزراء. وربما يعني الوزير الخاص للأمير الولد في عهد والده. وقد استغنى الأمير عبد الله عن منصب الحجابة آخر أيامه مكتفياً بوصيفه بدر بن أحمد الصقلبي الذي كان ينظم أموره (35). وكان بدر مولى الأمير الناصر من أشهر حجاب هذا الأمير (300 - 350 هـ)، واشتهر الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي بتولي هذه الخطة على أيام الخليفة الحكم (350 - 366 هـ)(36).
وبعد وفاة الحكم عام 366 هـ سيطر الحاجب المنصور على مقاليد الأمور وعرفت هذه الفترة 366 - 399 هـ بفترة الحجابة تولى أمرها الحاجب المنصور وأولاده من بعده وقد أحاط الحاجب المنصور نفسه بهالة من الأبهة والفخامة حتى إن الوزراء وغيرهم كانوا يقبلون يديه، كما أنه حجر على الخليفة هشام وساواه في المراتب (37).
ولما سقطت الخلافة الأندلسية، وقامت على أنقاضها دويلات الطوائف، اتخذ بعضهم لقب الحاجب مثل سابور الفارسي، وهو أول المستقلين في منطقة بطليوس.
وباديس بن حبوس صاحب غرناطة، وأحمد بن قاسم أمير البونت (38).
وعندما أصبحت الأندلس ولاية مرابطية، لم نر في نظم المرابطين من حمل إسم الحاجب، وكذلك الحال بالنسبة لدولة الموحدين. إلا أن الوزير أحياناً في دولة الموحدين يقوم مقام الحاجب، أي إختصاصه هنا رئيس تشريفات، فهو الذي يحجب الخليفة عن الخاصة والعامة ويأذن للوفود بالدخول عليه مع تقديم كل فرد بذكر إسمه
(34) ابن حيان، المقتبس، ج 2، ص 25 - 29.
(35)
ابن حيان، المقتبس، ج 3، ص 4.
(36)
ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 158، ص 251.
(37)
أيضاً، ج 2، ص 279 - العبادي، دراسات، ص 150.
(38)
الحميري، الروض المعطار، ص 56 - العبادي، دراسات، ص 150 - 151.
ونسبه وبلده (39). ولكن وجد حجاب للمهدي بن تومرت وللخلفاء الموحدين الآخرين، ولكن الذي يبدو أن هؤلاء لم يكونوا بمثابة رئيس وزراء، بل عملهم يقتصر على خدمة الخليفة الموحدي ومرافقته في حله وترحاله (40).
ووجد لقب الحاجب في مملكة غرناطة أي بمعنى رئيس الوزراء، وكان له نفوذ كبير (41). وكان الحاجب يوجه الهيئة الحاكمة ويتولى رئاسة القصر الملكي، والسلطان محمد الرابع هو أول من أوجد هذا المنصب عام 729 هـ/عندما عين أبا النعيم رضوان حاجباً له وسلمه إدارة المملكة السياسية والعسكرية (42).
ب - الوزارة:
وجد نظام الوزارة في الأندلس منذ قيام الإمارة الأموية. وكانت وزارة متعددة المناصب، لها رئيس وزارة يسمى الحاجب، وهو حلقة اتصال بين الوزراء والأمير.
وهذا التعدد في عدد الوزراء لا نجده في المشرق، حيث كانت السلطة مركزةً في يد وزير واحد، وقلما وجد وزيران. أما في الأندلس فلكل ناحية من نواحي الإدارة العامة لها وزير يختص بها، وهناك بيت خاص لانعقاد مجلس الوزراء في قصر الإمارة (43).
وبعد أن توطدت الأمور للأمير عبد الرحمن الداخل (138 - 172 هـ)، إستوزر عدة أشخاص من رجاله الأكفاء منهم: أبو عبده حسان بن مالك وابنه عبد الغافر؛ وشهيد بن عيسى بن شُهيد، وثعلبة بن عبيد الجذامي وغيرهم (44). وعَدّل الأمير عبد الرحمن الأوسط (206 - 238 هـ) نظام الوزراء، فقسمها إلى عدة وزارات مختلفة، وألزم وزراءه الحضور يومياً إلى بيت الوزارة الذي خصصه لهم في قصر الإمارة، وذلك من أجل مشاورتهم في جميع أمور الدولة (45). ومن أشهر وزراء هذا الأمير حسن بن عبد الغافر
(39) ابن صاحب الصلاة، المن بالإمامة، ص 457.
(40)
المراكشي، المعجب، ص 338 - العبادي، دراسات، ص 158 - 159.
(41)
العبادي، دراسات، ص 230.
(42)
فرحات، غرناطة، ص 74.
(43)
ابن خلدون، المقدمة، ص 239 - 40 - ظافر القاسمي، نظام الحكم، ج 1، ص 450 - العبادي، دراسات، ص 144 - 146.
(44)
ينظر، مؤلف مجهول، أخبار مجموعة، ص 76 - ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 1، ص 246 - 247، ج 2، ص 30 - ابن عذاري، البيان المغرب، ج 2، ص 48 - إبراهيم الدوري، عبد الرحمن الداخل، ص 236 وبعدها.
(45)
ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 80 - العبادي، دراسات، ص 142 - 143.
ابن أبي عبدة (46). وأقر الأمير محمد بن عبد الرحمن 238 - 273 هـ حاجب أبيه عيسى ابن شُهيد ومعظم الوزراء الذين كانوا يتولون خدمة أبيه (47).
كما أن الأمير محمد وضع نظاماً جديداً للوزارة يمتاز فيه الوزراء بنوع من التعظيم، وقدم الوزراء الشاميين على الوزراء البلديين وأعلاهم في الجلوس على كراسيهم ببيت الوزارة (48).
وفي عهد الأمير عبد الله (275 - 300 هـ) ازداد عدد الوزراء، واحتلت أسرة أبي عبدة مكانة في هذا العصر حيث تولى خمسة أفراد منها الوزارة في آن واحد (49).
واستمر الأمير عبد الله على سياسة والده الأمير محمد في تقديم الوزراء الشاميين على الوزراء البلديين. فقد اجتمع في عهده وزير شامي وهو موسى بن حُدير، ووزير بلدي وهو عيسى بن أحمد بن محمد أبي عبدة. وأراد عيسى التقدم على صاحبه معتزاً بمكانة أبيه الوزير القائد أبي العباس صاحب الفضل في إنقاذ الإمارة من الضياع، لكن الأمير عبد الله آثر أن يظل الأمر كما رسمه أبوه للوزارة، أي قرر أن يظل بنو حدير متقدمين على بني أبي عبدة (50).
وفي عهد الخليفة الناصر (300 - 350 هـ) استمرت أسرة أبي عبدة تتولى المناصب الوزارية وقد اعتمد عليها الناصر اعتماداً كبيراً في الشؤون الإدارية والحربية (51). وفي عهد هذا الخليفة أطلق لقب (ذو الوزارتين) على بعض الوزراء والحجاب في الأندلس، فقد أطلقه الناصر على وزيره أحمد بن عبد الملك بن شُهيد عام 327 هـ (52)، وهو لقب تشريفي مثل لقب (ذو السيفين) الذي منحه الحكم لقائده غالب بن عبد الرحمن، بعد أن قلده سيفين عقب انتصاره على بقايا الأدارسة عام 364 هـ (53).
(46) ابن حيان، المقتبس، ج 2، ص 29 - عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 274.
(47)
عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 290.
(48)
ابن حيان، المقتبس، ج 2، ص 137 - ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 1، ص 120 - 121.
(49)
ابن حيان، المقتبس، ج 3، ص 5 - 6 - ابن القوطية، تاريخ افتتاح الأندلس، ص 104 - ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 1، ص 146، ص 245، ص 247.
(50)
ابن حيان؛ المقتبس، ج 2، ص 196 - 197 - ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 1، ص 120 - 121.
(51)
ابن حيان، المقتبس، ج 5، ص 97، ص 210، ص 215، ص 242 - ابن عذاري، البيان المغرب، ج 2، ص 158، ص 160، ص 164.
(52)
المقري، نفح، ج 1، ص 333 - 334.
(53)
سالم، دراسات، ص 148 - 149 - Provençal، op. cit، 3، P: 21-22
وفي فترة الحجابة 366 - 399 هـ قلت أهمية الوزير، مما فرض عليه من الخضوع للحاجب وتقبيل يديه، وبذلك ضعفت شخصية الوزير، ومما يدل على ذلك أن زيري ابن عطية زعيم قبيلة مغراوة الزناتية في المغرب احتقر لقب وزير الذي أنعم عليه به الحاجب المنصور، بعد مساعدته في إخماد حركة الحسن بن كنون (54).
ولما سقطت الخلافة الأندلسية وقام عصر الطوائف. انحطت مرتبة الوزير وصار هذا المنصب يمنح للطبقة الوسطى من الموظفين والكتاب وشيوخ القرى. كذلك زاد استعمال الألقاب التشريفية المزدوجة مثل: ذو الوزارتين وذو الرياستين، وذو المجدين وذو السيادتين (55). ولكن مع هذا وجد وزراء مشهورون في هذه الفترة أمثال أبي بكر بن عمار وزير المعتمد بن عباد، والوزير ابن الحضرمي وزير المتوكل بن الأفطس صاحب بطليوس، والوزير ابن الحديدي وزير المأمون بن ذنون صاحب طليطلة. وغيرهم كثير (56).
وأصبحت الأندلس ولاية مرابطية، واحتل الوزير في عهدهم مكاناً مرموقاً، وكان الشخص المقرب من السلطان، وكان يستشيره في كل الأمور (57). ووجد في دولة المرابطين نوعان من الوزراء:
1 -
وزراء عسكريون، وهم من قرابة السلطان، ومن قبائل لمتونة وصنهاجة.
2 -
وزراء كتاب وهم من الفقهاء.
ومن الوزراء الأندلسيين الذين اعتمد عليهم السلطان المرابطي علي بن يوسف، الوزير الفقيه مالك بن وهيب الإشبيلي، وهو الذي أشار على هذا السلطان بقتل محمد ابن تومرت لما استفحل أمره (58). واشتهر كذلك الوزير أبو بكر بن باجة العالم المشهور (59).
وفي عهد الموحدين، اعتمدوا نظام الوزارة بجانب مشيخة الموحدين وعرفوا بإسم
(54) السلاوي، الاستقصاء، ج 1، ص 211 - العبادي، في التاريخ العباسي والأندلسي، ص 448.
(55)
العبادي، دراسات، ص 151.
(56)
ينظر، عنان، دول الطوائف، ص 66، ص 89، ص 98.
(57)
حسن أحمد محمود، قيام دولة المرابطين، ص 362 - العبادي، دراسات، ص 151.
(58)
المراكشي، المعجب، ص 252 - 253.
(59)
السامرائي، علاقات، ص 417.
العشرة أو أهل الجماعة (60). وكان منصب الوزير من المناصب المهمة، وقد شغله عدد من أبناء الخلفاء وإخوتهم ولذا سموا بالسادة أو الأسياد، وهؤلاء الوزراء الأسياد يتخذون غالباً وزراء يعاونوهم (61).
ومن الوزراء أصحاب الأصول الأندلسية الذين وزروا للخلفاء الموحدين، أبو العلاء إدريس بن إبراهيم بن جامع وزير الخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن (558 - 580 هـ)، وكان والده إبراهيم بن جامع من مدينة شريش الأندلسية وكان من أعوان ابن تومرت، وأصبح لأبي العلاء مكانة مرموقة في البلاط الموحدي (62). وكذلك الوزير أبو بكر محمد بن عبد الملك بن أبي العلاء بن زهر الأيادي (توفي عام 595 هـ) الذي كان وزيراً للخليفة يعقوب المنصور (580 - 595 هـ)، وكان دائم التردد بين المغرب والأندلس (63).
وكان وزير الموحدين أحياناً يقوم بمهمة الإشراف على الأندلس وتفقد أحوالها، وبعضهم شارك في معارك الجهاد الأندلسية التي خاضتها القوات الموحدية والأندلسية ضد الممالك الإسبانية، واستشهدوا فيها (64).
ونرى كذلك أن بعض حكام مدن الأندلس الموحدين يُعين لهم وزير يساعده في إدارة الولاية (65).
أما نظام الوزارة في عهد مملكة غرناطة، فكان له مكانة عالية، وكان الوزير دائماً ينوب عن السلطان، وهو الذي يهيمن على شؤون الدولة المدنية والعسكرية، ولذا كثيراً ما كان الوزير الغرناطي يلقب بألقاب تدل على قوة نفوذه مثل: لقب الرئيس وعماد الدولة، وذي الوزارتين وغير ذلك (66). وتقلد منصب الوزارة في مملكة غرناطة أشخاص من علية القوم، وأشخاص عاديون، وأحياناً من أرقاء الإسبان (67).
(60) القلقشندي، صبح الأعشى، ج 5، ص 126 - علام، الدولة الموحدية بالمغرب، ص 67.
(61)
العبادي، دراسات، ص 157.
(62)
المراكشي، المعجب، ص 316.
(63)
السلاوي، الاستقصا، ج 2، ص 179 - 180.
(64)
المراكشي، المعجب، ص 359 - العبادي، دراسات، ص 166، ص 168.
(65)
ابن عذاري، البيان الموحدي، ص 67.
(66)
ينظر، العبادي، دراسات، ص 230.
(67)
ابن الخطيب، اللمحة البدرية. ص 94، ص 115 - فرحات، غرناطة، ص 74 - 75.
وكان لوزراء بني الأحمر أدوار سياسية مهمة من خلال المهمات التي أوكلت إلى بعضهم، فالوزير ابن الخطيب ذهب سفيراً إلى فاس، ثم أرسل مرة أخرى إلى عدوة المغرب كي يطلب عون المرينيين لصد الخطر الإسباني. والوزير ابن زمرك قام بتسع رحلات إلى بلاد الإسبان من أجل عقد معاهدات صلح، وبعض الوزراء قاد بعض الحملات العسكرية أمثال الوزير أبي النعيم رضوان (68).
واكتفى بعض سلاطين غرناطة بوزير واحد، بينما نجد في عهد السلاطين الآخرين عدة وزراء، ووصل عددهم إلى خمسة وزراء، واشتهرت بعض العائلات بتولي أبنائها مناصب الوزارة مثل عائلة آل الأمين وبني عبد البر وبني سراج وغيرهم (69).
3 -
النظام الإداري (ولاية الأقاليم):
ترددت الأندلس، في ارتباطها الإداري، بين ولاية الشمال الأفريقي والإشراف المباشر لمركز الخلافة. وعندما تكون الأندلس تابعة لولاية الشمال الأفريقي يقوم والي القيروان بتعيين ولاة الأندلس، مثل الحر بن عبد الرحمن الثقفي (توفي عام 100 هـ)، وعنبسة بن سحيم الكلبي (توفي عام 107 هـ). ثم اتبعت الأندلس مركز الخلافة الأموية في دمشق أيام الخليفة عمر بن عبد العزيز (99 - 101 هـ) من أجل الإسراع في الإنجاز والإشراف المباشر، فعين السمح بن مالك والياً عليها (توفي عام 102 هـ)(70). لكنها عادت ولاية تابعة لأفريقية في ولاية عنبسة (استشهد عام 107 هـ)، ومن جاء بعده (71).
وهكذا ترددت تبعية الأندلس بين الإشراف المباشر للخلافة عليها، وبوساطة ولاية الشمال الأفريقي، حسب مقتضيات الأمور (72).
لكن قد تفرض ظروف الأندلس أحياناً تعيين والٍ بسرعة، فيتفق أهل الأندلس على شخص معين يولونه أمر الأندلس، حتى يأتي غيره، ويؤيد الخليفة أو والي أفريقية هذا.
كما حدث بعد مقتل عبد العزيز بن موسى، إذ عين أهل الأندلس الوالي أيوب بن حبيب اللخمي (رجب - ذو الحجة 97 هـ). كذلك الحال عند استشهاد السمح (عام 102 هـ).
(68) أيضاً، ص 122 - ابن خلدون، العبر، ج 7، ص 306.
(69)
ابن الخطيب، اللمحة البدرية، ص 52، ص 63، 71، ص 79 - فرحات، غرناطة، ص 77.
(70)
ابن عذاري، البيان، ج 2، 26.
(71)
ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 29.
(72)
الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 132، ص 137.
وفي هذه الحال يكتب بالأمر إلى والي الشمال الأفريقي لإقراره أو تعيين غيره (73).
وكانت الأندلس، أغلب فترة الولاة (95 - 138 هـ) تابعة لولاية أفريقية، وكانت مدينة أشبيلية قاعدة الولاية، ثم انتقلت إلى مدينة قرطبة ذات الموقع المتوسط بين الساحل والداخل (74).
استفاد عرب الأندلس من النظام الإداري الذي وجدوه بالأندلس، فعدلوا به بعض الشيء، في عصر الولاة (95 - 138 هـ)، بحسب ما اقتبسوه من النظم الإدارية المشرقية، ومال أهل الأندلس في التنظيم الإداري نحو الأقسام الإدارية الصغيرة تسهيلاً لتوفير الأمن وتنظيم الأمور المالية (75).
ويبدو أن النظام الإداري للأندلس لم تتضح معالمه إلا في أواخر عصر الولاة، وذلك عندما قسم الوالي يوسف الفهري (129 - 138 هـ) الأندلس إلى خمس ولايات وهي: ولاية الأندلس (ولاية باطقة) وتقع بين نهر وادي يانة والبحر المتوسط، وأشهر مدنها قرطبة، وقرمونة، إشبيلية، ومالقة، والبيرة، وجيان، وإستجة. وولاية طليطلة (ولاية قرطاجنة القديمة) وتمتد بين جبال قرطبة حتى نهر دويرة، وأشهر مدنها: طليطلة ومرسية ولورقة وشاطبة ودانية وبلنسية ووادي الحجارة وقونقة. وولاية ماردة (ولاية جليقية القديمة - لوجدانيا) وتمتد فيما وراء نهر وادي يانة شرقاً حتى المحيط الأطلسي غرباً، وأشهر مدنها: ماردة وباجة وأشبونة وإسترقة وسمورة وشلمنقة. وولاية سرقسطة (ولاية كانتبرية القديمة) وتمتد من ساحل البحر المتوسط عند طركونة وبرشلونة إلى جبال البرنية وبلاد البشكنس، وأشهر مدنها: سرقسطة وطركونة وبرشلونة ولاردة وطرطوشة ووشقة. وولاية أربونة (ولاية الثغر) في الأراضي الفرنسية وتشمل مصب نهر الرون، وأشهر مدنها: أربونة وقرقشونة ونيم وماجلونة (76).
نلاحظ من كل هذا أن الوالي الكبير في قرطبة مسؤول عن الولاة الخمسة لهذا التنظيم الإداري، وكل والٍ فرعي مسؤول عن ولايته، لأن كل ولاية تتبعها مجموعة مدن وهي الكور، وكل كورة يتبعها عدة أقاليم (قرى كبيرة)، وكل إقليم يتبعه عدة أجزاء
(73) مؤلف مجهول، أخبار مجموعة، ص 25 - ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 27، ص 29.
(74)
الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 132 - سالم، قرطبة، ج 1، ص 30 - 31.
(75)
مؤنس، فجر الأندلس، ص 554، ص 577.
(76)
عنان، دولة الإسلام، ج 1 ص 132 - 133.
(أرياف)(77). وقد أورد لنا العذري الكثير من أسماء الأقاليم والأجزاء التابعة لكورة بلنسية ولكورة سرقسطة، وذكر لنا أقاليم البيرة وأجزاءها، وكدلك أقاليم إشبيلية، وأقاليم قرطبة (78).
في عصر الإمارة (138 - 316 هـ)، أصبحت الأندلس إمارة مستقلة قاعدتها قرطبة، وتولى أمرها الداخل وذريته من بعده، كما هو معروف. ويبدو لنا خلال هذه الفترة أن النظام الإداري في الأندلس بقي على حاله السابق، واعتمد الداخل والأمراء من بعده في إدارة الثغور والولايات والكور على جماعة مختارة من الأعوان المخلصين، ومن أفراد البيت الحاكم، مع الاعتماد على أسر اشتهرت في الأندلس، مثل أسرة أبي عبدة، وأسرة بني شُهيد وأسرة مغيث الرومي وغيرهم. فمثلاً أعطى عبد الرحمن الداخل ولاية إشبيلية إلى حسان بن مالك (أبو عبدة)، وقضى هذا الوالي على حركات التمرد هناك، وضبط أحوال الولاية، وأصبح لهذه الأسرة (أسرة أبي عبدة) نفوذ كبير في هذه الولاية (79).
وخلال عصر الإمارة هذا استجدت عدة ظواهر فيما يتعلق بالنظام الإداري:
1 -
الظاهرة الأولى:
فقدت الأندلس ولاية أربونة (ولاية الثغر)، حيث استرجعتها فرنسا، كما زحفت عبر جبال البرتات وسيطرت على مدينة برشلونة عام 185 هـ/801 م، وجعلت هذه المدينة قاعدة لولاية فرنسية تسمى بالثغر القوطي أو المارك الإسباني ويتألف من مدن جيرونة وسولسونة وبرشلونة وأربونة وغيرها. وبذلك أصبحت هذه الولاية الفرنسية سداً حاجزاً بين المسلمين في الأندلس وبلاد فرنسا، وحاولت إمارة الأندلس استرجاع هذه المناطق فلم تلق نجاحاً كبيراً، ما عدا حملات عسكرية جهادية تكتفي بالنصر أحياناً على الأعداء دون استرجاع المدن (80).
(77) مؤنس، فجر الأندلس، ص 579 وما بعدها.
(78)
نصوص عن الأندلس، ص 17، ص 20، ص 24، ص 90، ص 109، ص 124.
(79)
ينظر، ابن حيان، المقتبس، ج 3، ص 68 - مؤلف مجهول، فتح الأندلس، ص 67 - ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 1، ص 146 - ابن خلدون، تاريخ - ج 4، ص 135.
(80)
ينظر، النويري، نهاية الأرب، ج 22، ص 21 - عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 223 السامرائي، الثغر الأعلى ص 241 - Provençal، op، cit، I، 128. - رينو، غزوات، ص 165 - 166.
2 -
الظاهرة الثانية:
في أواخر عصر الولاة، وبداية عصر الإمارة بدأت الفلول الإسبانية تجمع نفسها، فأقامت لها إمارات صغيرة في الشمال الإسباني مستغلة سوء الأحوال في الأندلس، فظهر المارك الإسباني، وقامت إمارة النافار، وإمارة أشتوريش (إمارة ليون)(81). فظهرت إمارات حدودية أندلسية مقابلة لهذه الإمارات الإسبانية، تسمى بالثغور الأندلسية، وهذه الثغور ثلاثة هي:
1 -
الثغر الأعلى:
ويشمل في الجغرافية الأندلسية ولاية سرقسطة وأعمالها. وتعتبر مدينة سرقسطة قاعدة لهذا الثغر، ويواجه هذا الثغر المارك الإسباني وإمارة النافار.
2 -
الثغر الأوسط:
يشمل ولاية طليطلة، وكانت قاعدته الأولى مدينة سالم ثم أصبحت مدينة طليطلة، ويواجه هذا الثغر إمارة ليون بالدرجة الأولى.
3 -
الثغر الأدنى:
ويشمل المنطقة الواقعة بين نهر دويرة ونهر التاجة، ومن أشهر مدن هذا الثغر مدينة قورية ومدينة قلمرية، وكانت مدينة قورية عموماً قاعدة لهذا الثغر. وأصبح مدلول مصطلح الثغور في الجغرافية الأندلسية يعني هذه الثغور الثلاثة (82). ومن سكنها يطلق عليه لقب ثغري (83).
وتأتي أهمية هذه الثغور من كونها أصبحت المراكز المهمة التي تنطلق منها الجيوش الأندلسية لمجاهدة الإمارات الإسبانية التي ظهرت في الشمال والتي أخذت تسترجع المدن الأندلسية تباعاً. كما أصبحت هذه الثغور مركزاً مهماً لحركات التمرد ضد حكومة الإمارة في قرطبة، وقد أحرجت مركزها في كثير من الأحيان.
(81) أرسلان، الحلل السندسية، ج 2، ص 113 - السامرائي، الثغر الأعلى، ص 159.
(82)
ينظر: ابن بشكوال، الصلة، ج 1، ص 14.
(83)
السامرائي، الثغر الأعلى، ص 39 وما بعدها.
3 -
الظاهرة الثالثة:
فتح الجزائر الشرقية عام 290 هـ/903 م بقيادة عصام الخولاني وذلك في عهد الأمير عبد الله (275 - 300 هـ). وأصبحت هذه الجزائر تابعة إدارياً إلى الأندلس وعين عصام الخولاني أول عامل أندلسي عليها (84).
ويبدو لنا أن النظام الإداري أصيب بالإرتباك خلال عصر الأمير عبد الله، نظراً لقيام حركات التمرد في سائر أنحاء الأندلس، ولم يبق لحكومة الإمارة في قرطبة سلطان حقيقي إلا في منطقة العاصمة وأحوازها (85).
وقد بذل هذا الأمير قصارى جهده من أجل إعادة سلطان قرطبة على الولايات، وكذلك فعل الأمير عبد الرحمن الناصر (300 - 316 هـ) قبل أن يعلن الخلافة الأندلسية، وقد بدأ عصره بقمع هذه الفتن وسار بنفسه يعاونه خيرة قوّاده في إخماد حركات التمرد، وقد أفلح في ذلك (86). ولعل القضاء على حركات التمرد هذه من الأسباب التي دفعت هذا الأمير إلى إعلان الخلافة (87).
ويبدو خلال عصر الخلافة (316 - 422 هـ) أن النظام الإداري هو استمرار لهذا النظام منذ عصر الإمارة، ولكن الشيء الجديد الذي استحدث خلال عصر الخلافة، هو إيجاد إمارة الثغور إيجاداً مستقلاً، وأعطيت إمارة الثغر الأعلى أهمية كبيرة (88). وبعد الهزيمة المنكرة التي لحقت بالخليفة الناصر وجيشه أمام جيوش مملكة ليون الإسبانية عام 327 هـ/939 م في معركة الخندق (89)، اهتم الناصر بأمور الثغور الأندلسية واستمر في إعطاء إدارتها إلى الأسر المتنفذة فيها وهي أسرة بني تُجيب وأسرة بني ذي النون وبني الطويل وبني رزين، وكان يغدق عليهم الصلات والهدايا، وكان يزودهم كل عام بالعدد والسلاح من أجل الاستمرار في مدافعة ممالك الإسبان (90).
(84) ابن خلدون، العبر، ج 4، ص 164 - السامرائي، " الجزائر الشرقية "، ص 16.
(85)
عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 323.
(86)
ينظر، نهلة شهاب أحمد " أسرة أبي عبدة ودورها في تاريخ الأندلس " حيث وضح دور هذه الأسرة في قمع الفتن الداخلية خلال عصر الإمارة.
(87)
العبادي، في التاريخ العباسي والأندلسي، ص 380.
(88)
الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 315.
(89)
المسعودي، مروج، ج 1، ص 162 - مجهول، أخبار مجموعة، ص 156 - ابن الأثير، الكامل، ج 8، ص 358 - ابن الخطيب، أعمال، ص 36 - المقري، نفح، ج 1، ص 363.
(90)
عنان، دولة الإسلام، ج 2، ص 421.
وفي عام 335 هـ/946 م عني الناصر بتجديد مدينة سالم وهي أقصى مدن الأندلس الشمالية الغربية على حدود مملكة ليون، فحصّنها وزودها بالعتاد والرجال، وكانت قد خربت من جرّاء غزوات الإسبان المتكررة (91).
وسار عبد الرحمن الناصر على خطى جده الداخل في الاسترابة من القبائل العربية، وأقصى زعماءها عن مناصب النفوذ والإدارة، فعهد الخليفة الناصر المناصب المهمة إلى الموالي والصقالبة (92)، ولكن في عهد ولده الخليفة الحكم المستنصر (350 - 366 هـ) اعتمد على خيرة الرجال في الجيش والإدارة، سواء من العرب أو البربر، ويأتي في مقدمتهم الحاجب المنصور والحاجب جعفر بن عثمان المصحفي. وكان القائد غالب بن عبد الرحمن الناصري والي مدينة سالم من رجالات الحكم المهمين، وهو الذي قلده الخليفة الحكم سيفين مذهبين من ذخائر سيوفه وسماه (ذا السيفين)(93). واعتمد الحاجب المنصور على نظام إداري متين مما مكنه من مواصلة الجهاد المستمر للممالك الإسبانية والانتصار عليها دائماً، ولذا وصف بمواصلة الحزم والحذر، ودائم السهر، لمراقبة أحوال البلاد (94).
واضطرب النظام الإداري على ضوء اضطراب الأندلس السياسي خلال عصر الفتنة 399 - 422 هـ، كما هو معروف، وأصبح ولاة المدن في حل من تبعيتهم لقرطبة عاصمة الخلافة، واستقل كل والٍ وحاكم في منطقته وبذلك قام عصر الطوائف. وفي هذا العصر لم يتوفر في الأندلس نظام إداري موحد، بل إن كل مملكة من ممالك الطوائف لها نظامها الإداري، فهناك الأمير المقيم في قاعدة الإمارة، ولديه مجموعة من العمال أو الولاة الذين يعينهم لإدارة المدن والحصون التابعة لإمارته، ومن أجل ضمان السيطرة العسكرية على جميع أنحاء الإمارة الطائفية، نظراً لحرج هذه الإمارات بعضها أمام بعض، وأمام الممالك الإسبانية في الشمال (95).
لذا نرى أن ملوك الطوائف يعهدون إدارة المدن والحصون المهمة إلى إخوانهم وأبنائهم وإلى أعوانهم المخلصين. ولكن حب الزعامة أولاً وبعد العامل عن مراقبة سيده
(91) الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 304.
(92)
عنان، دولة الإسلام، ج 2، ص 450.
(93)
ابن حيان، المقتبس، تحقيق الحجي، ص 236.
(94)
ابن الخطيب، أعمال الأعلام، ص 58، ص 74 - 75.
(95)
محمد بن عبود، التاريخ السياسي والاجتماعي لإشبيلية، ص 107.
ثانياً، وضحت لنا ظاهرة تمرد العمال على أسيادهم في عصر الطوائف، كما هو الحال في مملكة غرناطة ومملكة إشبيلية ومملكة سرقسطة ومملكة بطليوس وغيرها (96).
وأصبحت الأندلس ولاية مرابطية تتبع مراكش في عدوة المغرب، وعين لها قائد أعلى وهو الحاكم العام أو أمير الأندلس، وللمدن قادة آخرون خاضعون للقائد العام، ومهمة هؤلاء الإشراف على النواحي العسكرية والإدارية بالدرجة الأولى.
وكانت الأندلس أيام المرابطين مقسمة إلى ست ولايات هي: غرناطة وقرطبة وإشبيلية وبلنسية ومرسية وسرقسطة (سقطت عام 512 هـ قبل انتهاء العصر المرابطي).
وكانت مدينة قرطبة عاصمة الإمارة المرابطية ثم انتقلت في أوائل عهد علي بن يوسف إلى غرناطة، وفي أواخر عهده أعاد العاصمة إلى قرطبة مرة أخرى (97).
وكانت مناصب الولاية المحلية في الأندلس، وقفاً على الأمراء والقادة المرابطين، ولا سيما أقرباء الحكام، وكان في مقدمة هؤلاء الأمير سير بن أبي بكر اللمتوني والي إشبيلية، ومحمد بن الحاج والي بلنسية وسرقسطة والأمير أبو محمد مزدلي والي قرطبة، والأمير وأنور بن بكر والي الجزائر الشرقية (98). وكان اختيار الوالي يقوم على أساس مكانته وعدالته وعلمه، وإذا أظهر شيئاً من التقصير يعزل أو ينقل إلى مكان آخر. وكان التأكيد والتوصية بحسن السيرة والرفق بالناس أمراً أساسياً، سواء بالنسبة لحاكم الدولة المرابطية أم للولاة والحكام المحليين (99).
وأصبحت الأندلس ولاية موحدية، وكانت قاعدة الحكومة الموحدية في الأندلس مدينة إشبيلية، لأنها كانت أول قاعدة أندلسية نادت بطاعة الموحدين، ولأنها أول مدينة سيطر عليها الموحدون. إلا أن عبد المؤمن بن علي في أواخر أيامه أمر ولده أبا يعقوب يوسف والي إشبيلية، أن ينتقل إلى قرطبة ويتخذها قاعدة الحكم الموحدي في الأندلس لأنها تقع في وسط الأندلس. وبعد فترة قصيرة رجعت إشبيلية قاعدة للحكم طيلة العهد الموحدي (100). وإذا كانت نظم الحكم المرابطية للأندلس يغلب عليها الطابع العسكري،
(96) ينظر، عنان، دول الطوائف، ص 64، ص 88، ص 272.
(97)
عنان، عصر المرابطين، ص 60، ص 144، ص 415.
(98)
أيضاً، ص 415.
(99)
ينظر، الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 448 - 449.
(100)
عنان، عصر الموحدين، ص 618 - 619، ص 641.
فإن النظم الموحدية كانت أميل إلى الطابع المدني. وكانت ولاية الأندلس في العهد الموحدي تنقسم إلى عدة ولايات وهي: ولاية الغرب وتشمل شلب ويابره وباجة وماردة وبطليوس. وولاية إشبيلية وتشمل شريش وشذونة وقرمونة وإستجة وقرطبة وجيان، وولاية غرناطة وتشمل وادي آش والمنكب والمرية ومالقة والجزيرة الخضراء. وولاية بلنسية وتشمل قسطلونة وشاطبة ودانية والجزائر الشرقية. وولاية مرسية وتشتمل على لقنت ولورقة وأريولة (101). وكان يتولى حكم هذه الولايات عادة أبناء الخليفة الموحدي وإخوته أو أقرباؤه وأصهاره. وكان يتولى منصب الحاكم العام للأندلس على الأغلب واحد من أبناء الخليفة أو إخوته، وكان أول من تولاها من أبناء الخليفة السيد أبا يعقوب يوسف بن عبد المؤمن وذلك في عام 551 هـ. وكان لكل ولاية أندلسية حكومتها المحلية التي تضم إلى جانب الوالي الموحدي، الوزير والكاتب وصاحب الجباية عدا المناصب الدينية (102).
ومملكة غرناطة الواقعة في الطرف الجنوبي من الأندلس، شملت ثلاث ولايات كبيرة ولاية غرناطة في الوسط وفيها العاصمة غرناطة، وولاية المرية في المشرق، وولاية مالقة في الجنوب والغرب (103). ومجموع أقاليم هذه المملكة كما يخبرنا ابن الخطيب ثلاثة وثلاثون إقليماً (104). وكانت هذه الأقاليم خاضعة لسلطة العمال والولاة الذين يختارهم السلطان النصري من ثقات رجاله، فيتخذ الولاة من قصبة المدينة (قلعتها) مقراً لولايتهم. ولكن بعض الولاة كانوا بحكم نفوذهم وقوتهم يفرضون أنفسهم على الأقاليم ويتوارثون حكمها فيقرهم السلطان على مقاطعاتهم بعد أن يظهروا الطاعة ويؤدوا الأموال (105)، ولعب الكثير من حكام الأقاليم دوراً كبيراً في تقرير مصير الحكم خلال هذا العصر، كما حصل خلال حكم السلطان محمد الثاني الفقيه (672 - 701 هـ) مثلاً (106).
(101) عنان، عصر الموحدين، ص 641.
(102)
ينظر، الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 498، ص 500 - عنان، عصر الموحدين، ص 642.
(103)
ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص 115 - 119 - عنان، نهاية الأندلس، ص 55.
(104)
اللمحة البدرية، ص 28.
(105)
فرحات، غرناطة، ص 84.
(106)
ابن الخطيب، اللمحة البدرية، ص 58 وبعدها. ينظر، ص 66 - 67، ص 75.
4 -
نظام الشرطة:
بدأت ولاية الشرطة في الأندلس منذ عصر الأمير عبد الرحمن الداخل، (138 - 172 هـ) بعدما شعر بخطر اليمانية عليه بعد الانتصار في معركة المسارة، وذلك عندما منعهم من نهب قصور قرطبة (107). وأسند إدارتها إلى عبد الرحمن بن نعيم، ومن بعده للحصين بن الدجن العقيلي (108). وأول من تولى قيادة الشرطة من أسرة أبي عبدة هو عبد الغافر بن أبي عبدة، حيث تولاها للأمير هشام (172 - 180 هـ)(109).
والأمير عبد الرحمن الأوسط (206 - 238 هـ) هو الذي ميز ولاية السوق عن أحكام الشرطة المسماة بولاية المدينة، فأفردها وقرر لواليها ثلاثين ديناراً في الشهر، ولوالي المدينة مائة دينار (110). ويبدو أن صاحب المدينة كان يشرف على الخدمات العامة في العاصمة، إضافة إلى صلاحيات ولاية الشرطة العليا، ويستخدم سلطة جهاز الشرطة أيضاً في التحقيقات المدنية (111). وقسمت ولاية الشرطة إلى قسمين: ولاية الشرطة العليا (الكبرى) وجعل لصاحبها الحكم على أهل المراتب السلطانية والضرب على أيديهم في الظلامات، وعلى أيدي أقربائهم من أهل الجاه. وجعل لصاحبها كرسياً بباب دار الإمارة، وفي خدمته عدة رجال ينفذون أوامره. وولاية الشرطة الصغرى.
وجعل لصاحبها الحكم على عامة الناس (112). وأخبرتنا بعض الروايات، أنه في عام 317 هـ/930 م استحدث منصب ولاية الشرطة الوسطى التي أعطيت إلى سعيد بن سعيد ابن حدير (113).
وفي عهد الأمير عبد الله (275 - 300 هـ) تولى ولاية الشرطة العليا (صاحب المدينة) أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي عبدة، وكذلك أبو عثمان عبيد الله بن محمد الغمر بن أبي عبدة (114). وفي بداية عهد الأمير عبد الرحمن الناصر (300 -
(107) إبراهيم الدوري، عبد الرحمن الداخل، ص 251.
(108)
ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 2، ص 355.
(109)
ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 61.
(110)
خلاف " صاحب الشرطة " ص 63.
(111)
ابن خلدون، المقدمة، ص 251 - 252 - بدر، دراسات، ج 1، ص 165.
(112)
أيضاً، ص 251 - خلاف، " صاحب الشرطة "، ص 64، ومجلة أوراق، ص 73.
(113)
ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 202.
(114)
ابن القوطية، تاريخ، ص 104 - ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 1، ص 146.
350 هـ) حصرت ولاية الشرطة العليا في أولاد الوزير القائد أبي العباس أحمد بن محمد، فتولاها أولاده الثلاثة: عباس وعبد الله وعيسى، وتولاها كذلك حفيده أحمد ابن عيسى (115).
ونجد في أحداث القرن الرابع الهجري أن صاحب المدينة كان مستقلاً عن صاحب الشرطة، ونستدل على ذلك بما قاله ابن حيان في أحداث عام 361 هـ:" نظر الوزير صاحب المدينة بقرطبة جعفر بن عثمان مع صاحب الشرطة والسوق أحمد بن نصر فيما عهد إليه الخليفة المستنصر بالله "(116). واستمر كذلك أيام الحكم المستنصر (350 - 366 هـ) الأنواع الثلاثة للشرطة، العليا والوسطى والصغرى (117).
وأعطيت لصاحب الشرطة صلاحيات واسعة في الأندلس، تصل أحياناً إلى تنفيذ حكم الإعدام دون الرجوع إلى الحاكم (الخليفة)(118). وقد أشار ابن عبدون لهذه الخطة وسمى صاحبها الحاكم، وذكر لنا الصفات الجليلة التي يجب أن تتوفر فيه (119). ويبدو أن هذه الصفات كانت نظرية، فوجد عملياً من تولى أمر الشرطة من وصف بالتأخر في عقله وعلمه أمثال أمية بن أحمد بن حمزة القرشي الأموي (توفي عام 393 هـ)(120)، ومحمد بن يحيى بن قاسم القيسي (توفي عام 411 هـ)، وحسن بن محمد بن ذكوان (توفي عام 451 هـ)(121).
ووجدت لدينا روايات تشير إلى أن صاحب الشرطة قد كلف بأعمال خارج اختصاصه، فمثلاً نرى صاحب الشرطة أحمد بن نصر شارك مع غيره في تشييد محراب المسجد الجامع على عهد الخليفة الحكم المستنصر (122). كما كلفه الخليفة المستنصر - بعد أن أعطاه ولاية السوق، بتوسيع المحجة العظمى بسوق قرطبة لضيقها وهدم
(115) ينظر، ابن حيان، المقتبس، ج 5، ص 97، ص 107، ص 210، ص 215 - ابن عذاري، البيان المغرب، ج 2، ص 159 - 160، ص 167، ص 193، ص 196 - 197.
(116)
ابن حيان، المقتبس، تح الحجي، ص 66.
(117)
أيضاً، ص 59 - خلاف، " صاحب الشرطة " ص 65، ومجلة أوراق، ص 72 - 76.
(118)
ابن عذاري، البيان، ج 3، ص 54.
(119)
ثلاث رسائل أندلسية في الحسبة، ص 11.
(120)
ابن الفرضي، تاريخ، ترجمة رقم 266.
(121)
ابن بشكوال، الصلة، ترجمة (312)، ترجمة رقم (1102).
(122)
ابن الفرضي، تاريخ، ترجمة رقم 167.
الحوانيت من أجل التوسيع، وكذلك كلفه بنقل دار البرد من غربي قرطبة إلى دار الزوامل التي بالمصارة من طرف قرطبة. وكلف أيضاً بقضاء كورة جيان (123). وشارك أصحاب الشرطة أيضاً في عصر الحكم المستنصر في عمليات الجهاد حيث خرجوا عام 364 هـ مع جيش الصائفة (124). وكان صاحب الشرطة أحياناً هو قائد الجيش في بعض الولايات الأندلسية، حيث يكلفه الخليفة في بعض المهام، كما هو حال صاحب الشرطة العليا وقائد بلنسية وطرطوشة هشام بن محمد بن عثمان (125). وفي عام 361 هـ أعطى الخليفة الحكم الشرطة الوسطى لمحمد بن أبي عامر وجعله أيضاً قاضي القضاة (126).
وكان الخليفة الحكم يعهد لصاحب الشرطة والسوق بأعمال البر كتوزيع الأموال على الفقراء والمساكين (127).
ومارس صاحب الشرطة بعض المهام الدبلوماسية، ففي عام 360 هـ كلف الخليفة الحكم صاحب الشرطة هشام بن محمد بن عثمان وقائد طرطوشة وبلنسية أن يصحب الوفود الإسبانية الوافدة إلى العاصمة، وربما كان ذلك لقرب منطقة عمله من الممالك الإسبانية (128).
وتخبرنا بعض النصوص أن وظيفة صاحب الشرطة وصاحب المدينة كانت تجمع في وظيفة واحدة أحياناً في عهد الخليفة هشام المؤيد، حيث جمعت لمحمد بن أبي عامر (129)، الذي عم في زمنه الأمن في مدينة قرطبة (130). وتولى خطة الشرطة بعض العلماء والفقهاء في فترة الحجابة أمثال سعيد بن أحمد بن حدير الذي تولى الشرطة في بداية عهد هشام المؤيد (131). والأديب أحمد بن أبان المتوفى عام (382 هـ)(132)، وغيرهم.
(123) ابن الفرضي، تاريخ، ترجمة رقم 167 - ابن حيان، المقتبس، تح الحجي، ص 66، ص 71.
(124)
ابن حيان، المقتبس، تح الحجي، ص 216.
(125)
أيضاً، ص 47 - 48.
(126)
ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 247.
(127)
ابن حيان، المقتبس، ص 77.
(128)
ابن حيان، المقتبس، ص 20 - 21 - خلاف، " صاحب الشرطة "، ص 70.
(129)
ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 266 - المقري، نفح، ج 4، ص 88.
(130)
أيضاً، ج 2، ص 266 - خلاف، " صاحب الشرطة "، ص 70 - 71.
(131)
ابن الفرضي، تاريخ، ترجمة رقم 190.
(132)
أيضاً ترجمة رقم 531 - ابن بشكوال، الصلة، ترجمة رقم 6.
ونرى من خلال تراجم أصحاب الشرطة في عصر الحكم المستنصر والحاجب المنصور، أن صاحب الشرطة قام بأكثر من عمل إداري ودبلوماسي وعمراني وعسكري إلى جانب عمله الرئيسي (133)، وذكرت بعض المصادر التاريخية (134)، بتلقب ابن حيان المؤرخ بصاحب الشرطة، ويبدو أن هذا اللقب كان لقباً فخرياً أو تشريفياً ليس إلا (135).
وفي عهد الفتنة 399 - 422 هـ، تعرض صاحب الشرطة للعزل والقتل نظراً لتعاقب الخلفاء في هذه الفترة، والذي كان كل خليفة جديد يعمل على تعيين صاحب شرطة من رجاله وعزل السابق وربما يقتله، حيث صلب الخليفة محمد بن هشام حاكم المدينة عبد الله بن عمر عندما سيطر على قرطبة عام 399 هـ (136). وفي أيام الخليفة محمد المهدي تولى الفقيه أحمد بن عبد الرحمن بن غالب بن حزم الحكم بالجانب الغربي من قرطبة (137). ولعل هذه الرواية تدل على أن خلفاء الفتنة ربما قسموا قرطبة إلى مناطق وعينوا على كل منطقة منها صاحب شرطة، أو أن كثرة الحوادث في الجانب الغربي كانت مدعاة لهذا التعيين، أو ربما لأن الجانب الغربي هو الذي تقع فيه بيوت الأغنياء فهي بحاجة إلى حماية (138).
وذكر لنا ابن بشكوال في ترجمته لمحمد بن قاسم بن محمد الأموي (الجالطي) أنه تقلد أحكام الشرطة للخليفة هشام بن الحكم، وكان محموداً في عمله، وقتله البربر يوم دخولهم قرطبة عام 403 هـ (139)، وكذلك قتلوا صاحب الشرطة الآخر العالم عبد الله بن حسين (ابن الغربالي)(140).
وممن ولي الشرطة في عهد الفتنة وذكرهم ابن بشكوال دون أن نستطيع تحديد وقت عملهم في هذه الخطة: محمد بن يونس (توفي عام 418 هـ)(141)، ومحمد بن
(133) خلاف، " صاحب الشرطة "، ص 72.
(134)
ابن خير، الفهرسة، ص 326 - المقري، نفح، ج 2، ص 102.
(135)
ابن حيان، المقتبس، ج 2، مقدمة المحقق، ص 44.
(136)
ابن عذاري، ج 3، ص 54 - 55.
(137)
ابن بشكوال، الصلة ترجمة رقم 86.
(138)
خلاف، " صاحب الشرطة "، ص 74 - مجلة أوراق، ص 77.
(139)
الصلة - ترجمة، رقم 1060.
(140)
ابن الآبار، التكملة، ترجمة رقم 1277.
(141)
الصلة، ترجمة رقم 1109.
يحيى (ابن الخفارية) توفي عام 411 هـ (142). وأحمد بن الحسين (143)، ومحمد بن محمد ابن إبراهيم القبسي (144).
وفي عصر الطوائف اتسمت خطّة الشرطة بالاستقرار، واعتمد كل أمير من أمراء الطوائف على صاحب شرطة، واختاروه من البيوتات الأندلسية المعروفة (145). ففي مملكة غرناطة في عهد أسرة بني زيري شغل هذه الوظيفة بربر صنهاجة، وأيضاً اليهود.
وفي قرطبة عهد أبو الوليد بن جهور إلى الفقيه حسن بن محمد بن ذكوان (توفي عام 451 هـ) أحكام الشرطة والسوق ثم رفع إلى قاضي الجماعة (146). وتولى أيضاً في هذا العهد الفقيه عبد الرحمن بن مخلد أحكام الشرطة والسوق حتى وفاته عام 437 هـ (147).
وتولاها أيضاً في عهد الجهاورة مضافة إلى خطة السوق الوزير أبو بكر محمد بن الليث ابن حريش، والذي استمر يمارس هذه الوظيفة في عهد الطوائف بعد سقوط إمارة الجهاورة، حيث نراه يمارس أعماله في عام 457 هـ وعرضت عليه مجموعة قضايا في مدينة قرطبة، وعندما تختلف عليه الأمور يشاور الفقهاء والقضاة وغيرهم لحل الإشكال (148).
وفي مملكة بني عباد تولى أحكام الشرطة الفقيه محمد بن مكي (توفي عام 474 هـ) وجمعت له مع السوق والأحباس وأمانة الجامع (149).
وأصبحت الأندلس ولاية مرابطية، وتزودنا الروايات بأن عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن مخلد تولى الأحكام بقرطبة مدة طويلة وتوفي سنة 515 هـ (150). وإذا أخذنا بنظر الاعتبار رسالة ابن عبدون (توفي عام 520 هـ) في الحسبة، وهو من الذين خدموا في بلاط علي بن يوسف، والتي تشير إلى منع طوائف الحشم والعبيد التابعين لولاة
(142) أيضاً ترجمة رقم 1102.
(143)
أيضاً ترجمة رقم 127.
(144)
أيضاً ترجمة رقم 1142.
(145)
خلاف، " صاحب الشرطة "، ص 75.
(146)
ابن بشكوال، الصلة، ترجمة رقم 312.
(147)
أيضاً، ترجمة رقم 703.
(148)
ينظر، خلاف، " صاحب الشرطة في الأندلس "، مجلة أوراق، ص 78 وما بعدها.
(149)
أيضاً، ترجمة رقم 1210.
(150)
ابن بشكوال، الصلة، ترجمة رقم 746.
الأمر من التلثم -وهو شعار المرابطين- وأن لا يتلثم إلا صنهاجي أو لمتوني أو لمطي، فهذا يدل على مراقبة المرابطين لأحوال الرعية، وربما كلف بالأمر صاحب الشرطة أو صاحب السوق (151).
وكان منصب صاحب الشرطة من المناصب الإدارية المهمة في الدولة الموحدية، وتبدو أهميته خاصة عند اضطراب الأمور، وكان يشغل هذا المنصب رجال من ذوي المكانة الرفيعة في الدولة ومن كابر الوزراء.
ويبدو لنا من الرسالة التي وجهها عبد المؤمن بن علي عام 543 هـ إلى الأعيان والمشيخة في الأندلس، والتي تنحصر في خمسة أمور هي:
وجوب التزام الدقة في تطبيق الأحكام الشرعية، ووجوب الكف عن أخذ أية مغارم أو مكوس لا تبيحها الشريعة، ولا يجوز الحكم في مواد الحدود بالإعدام أو تنفيذه قبل الرجوع إلى الخليفة، ويجب تحريم الخمور ومطاردتها في سائر أنحاء الدولة، ويجب حماية أموال الدولة وعدم التصرف بها بدون حق (152)، يتبين لنا من هذا كله الإشارة إلى بعض اختصاصات صاحب الشرطة والمدينة والسوق وتحديدها، على الرغم من عدم ورود اسمهم. وقد سار خلفاء الموحدين على هذا النهج فيما بعد كما فعل الخليفة يوسف بإصدار رسالة مشابهة في عام 561 هـ موجهة إلى أخيه والي قرطبة (153).
وفي مملكة غرناطة، أعطيت صلاحيات واسعة للقاضي. وكان يعاونه في تصريف القضايا الثانوية قاض مساعد يعرف بصاحب الأحكام، ولعله هو صاحب الشرطة (154).
ويعاونه أيضاً صاحب السوق المسؤول عن أمور السوق بصورة عامة، كما أنه مسؤول عن تطبيق فروض الدين، وملاحقة المنكرات (155). ومن أبرز رجال الحسبة والشرطة في مملكة غرناطة القاضي أبو بكر محمد بن فتح الأنصاري الإشبيلي (توفي عام 698 هـ)(156). وكان صاحب الشرطة يعرف في مملكة غرناطة باسم متولي الشرطة، وصاحب المدينة وصاحب الليل. وكان يساعده حراس يجوبون الشوارع ويراقبون
(151) عنان، عصر المرابطين، ص 432 - 433.
(152)
عنان، عصر المرابطين، ص 400 - 401.
(153)
عنان، عصر الموحدين، ص 619 - 620.
(154)
النباهي، تاريخ قضاة الأندلس، ص 5.
(155)
فرحات، غرناطة، ص 101 - 102.
(156)
النباهي، تاريخ قضاة الأندلس، ص 125 - 126.
الطرقات، وقد أطلق عليهم إسم الدرابين الذين كانوا يحملون السلاح وتصحبهم الكلاب (157).
النظم العسكرية:
وندرس فيها الجيش والبحرية:
1 -
الجيش:
عندما بدأ طارق بن زياد بتنفيذ خطة فتح الأندلس، عام 91 هـ/710 م أرسل حملة استطلاعية بقيادة أبي زرعة طريف بن مالك المعافري، وكانت هذه القوة الاستطلاعية تتألف من أربعمائة راجل ومئة فارس (158).
وفي رجب من عام 92 هـ/711 هـ عبر القائد طارق بن زياد على رأس جيش من العرب والبربر قوامه سبعة آلاف رجل، ثم أنجدهم موسى بن نصير بخمسة آلاف مقاتل من العرب والبربر، وضمت الحملة أيضاً سبعمئة رجل من السودان (159).
وفي رمضان عام 93 هـ/712 م عبر موسى بن نصير إلى الأندلس يرافقه جيش عربي قوامه ثمانية عشر ألف رجل، معظم هؤلاء من القبائل اليمانية، وبقية العشائر العربية الأخرى التي كانت موجودة في القيروان، وضمت الحملة أعداداً كبيرة من رجال قريش البارزين، إضافة إلى الإداريين ورجال الدين (160). ومعنى هذا أن الجيش الإسلامي الذي قام بعملية فتح الأندلس يتألف من العرب والبربر وقليل من السودانيين.
فتحت جنوب ووسط الأندلس خلال الأعوام 92 - 94 هـ/711 - 713 م، ودارت معارك عنيفة كمعركة وادي البرباط والمعارك الجانبية التي تم بها فتح قرطبة أو إشبيلية وغيرها من مدن الجنوب والوسط (161)، أما الشمال الإسباني فتم فتحه في فترة لا تتجاوز ثمانية أشهر من عام 95 هـ وإذا استعرضنا النصوص المتوفرة لدينا فيما يخص سير
(157) فرحات، غرناطة، ص 90.
(158)
المقري، نفح، ج 1، ص 254.
(159)
ينظر، مجهول، أخبار مجموعة، ص 7 - ابن الأثير، الكامل، ج 4، ص 561 - 563.
(160)
ذنون، الفتح، ص 162.
(161)
ينظر، مجهول، أخبار مجموعة، ص 15 - ابن عذاري، ج 2، ص 13 - المقري، نفح، ج 1، ص 277.
الجيش في الشمال الإسباني يتبين لنا أن معظمه قد فتح صلحاً، وأن معاقله الحصينة فتحت أبوابها للمسلمين دون مقاومة، ما عدا بعض المدن الواقعة على البحر قاومت الفتح، وارتضوا دفع الجزية وعاشوا بسلام في ظل الحكم العربي، عكس ما رأيناه في جنوبي الأندلس حيث بذل الفاتحون طاقات كبيرة في فتح مدنه، حيث بقي موسى بن نصير أكثر من عام يفتح أو يعيد فتح المدن في جنوبي الأندلس قبل أن يلتقي مع قائده طارق بن زياد قرب طليطلة (162).
كما أن أراضي الشمال الإسباني والتي حددت بالأراضي الواقعة شمالي نهر الوادي الكبير (163)، فقد فتحت صلحاً ورضي أهلها بدفع الجزية والعيش بسلام في ظل حكم العرب كما بيّنا، أما الأراضي الجنوبية فتعتبر أرض عنوة، أي فتحت بالحرب، فوزعت على المحاربين وأعطيت لهم سجلات بتمليكها (164). أما فيما يخص سكن المسلمين في أراضي الشمال الإسباني، أرض الصلح، فقد أشار المقري بقوله:" وكان العرب والبربر كلما مر قوم منهم بموضع استحسنوه حطوا به ونزلوه قاطنين "(165)، ويعني هذا أنهم استقروا خاصة في المناطق التي تعد غير مأهولة بالسكان، وزاولوا فيها الزراعة، ويبدو أنهم كانوا يؤدون العشر إلى الدولة (166).
ومنذ بداية عصر الولاة 95 - 138 هـ تدخل الجيش في أمر إدارة الأندلس، عندما قام قادة الجند بقتل والي الأندلس عبد العزيز بن موسى عام 97 هـ، وولوا مكانه أيوب ابن حبيب اللخمي (167). الذي لم ينعم بالولاية طويلاً، فاستبدل بالحر بن عبد الرحمن الثقفي (97 - 100 هـ) الذي وصل إلى قرطبة ومعه أربعمئة رجل، وأول عمل قام به إصلاح الجيش ومطاردة المعتدين من الجند واتبع معهم سياسة شديدة الوطأة (168).
ويبدو أن عملية اصطحاب الأتباع كلما يأتي والٍ إلى الأندلس، مع اهتمامه في إصلاح شؤون الجيش أصبحت خطة ثابتة خلال عصر الولاة، لأن بقاء المسلمين في الأندلس
(162) السامرائي، الثغر الأعلى، ص 89.
(163)
مؤنس، فجر الأندلس، ص 625.
(164)
ينظر، نص الرسالة الشريفية، ص 207 - 208 - الغساني، رحلة الوزير، ص 113.
(165)
نفح، ج 1، ص 276.
(166)
مؤنس، فجر الأندلس، ص 628.
(167)
ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 24.
(168)
عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 73.
كان متوقفاً على قوة الجيش ومدى مقارعته للأعداء من الإسبان في الشمال، أو المتمردين في داخل الولاية.
وبذلك أصبح الاهتمام بالجيش -وهو جيش غير نظامي قائم على إمداد القبائل العربية والبربرية حكومة الوالي بالرجال عند الجهاد- وتنظيم رجاله من أولى الأعمال المهمة التي يقوم بها والي الأندلس، فنرى مثلاً اهتمام عبد الرحمن الغافقي في ولايته الثانية بالجيش، وعني بإصلاحه وتنظيمه، وأنشأ فرقاً قوية مختارة من فرسان البربر بإشراف نخبة من ضباط العرب (169). وهذا ما مكنه من قيادة الجيش عبر الأراضي الفرنسية فكانت موقعة بلاط الشهداء المعروفة عام 114 هـ.
ومن الأمور الأخرى التي يمكن ملاحظتها خلال عصر الولاة، أن الولاة الذين حكموا الأندلس بعد معركة بلاط الشهداء عام 114 هـ، يصطحبون معهم جيشاً منتخباً من جند أفريقيا لتعزيز حكمهم أولاً، ولإخماد حركات التمرد في الشمال الإسباني ثانياً.
والظاهرة الأخرى التي برزت في عصر الولاة، هو قيام الكور المجندة، وهي الأماكن التي وزع فيها الجيش الشامي (جيش بلج بن بشر القشيري)، بعد أن لعب الوالي بلج دوراً كبيراً في أحداث ولاية الأندلس المعروفة، وفي عهد الوالي أبي الخطار حسام بن ضرار الكلبي (125 - 127 هـ) فرق الجند الشامي في الكور مقابل أن يؤدوا خدمة عسكرية (170)، وقد حرص الوالي أبو الخطار في هذا التوزيع على أن تكون الكور التي ينزلون بها مشابهة إلى حد كبير للأماكن التي جاءوا منها من المشرق، ولعل ذلك محاولة من هذا الوالي لبعثرة طاقاتهم بعد أن رأى خطرهم يكمن في وجودهم بمنطقة واحدة (171). فأنزل أهل حمص في مدينة إشبيلية، وأهل دمشق أنزلهم غرناطة، وأهل الأردن أنزلهم مالقة، وأهل مصر أنزلهم مرسية (تدمير)، وأهل قنسرين أنزلهم جيان، وفرض على كل قبيلة أن تجبي غلة تلك الناحية التي نزلت فيها، وتأخذ عطاءها منها والزيادة لبيت المال (172). وتعهدت حكومة الولاية بعدم التدخل في شؤونهم أو شؤون الإقليم (173).
وما يلاحظ كذلك في عصر الولاة، أن قادة جيوش الثغور زجوا أنفسهم في
(169) عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 85.
(170)
بدر، دراسات، ج 1، ص 59.
(171)
بيضون، الدولة العربية، ص 125.
(172)
ينظر، ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 1، ص 61 - 62 - ابن القوطية، تاريخ، ص 45 - الحميري، الروض المعطار، ص 181 - ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص 109.
(173)
مؤنس، فجر الأندلس، ص 221، ص 511 - 512.
الخلافات الداخلية، بدل أن يصرفوا طاقاتهم لصد خطر الأعداء. فنرى عبد الرحمن بن علقمة عامل أربونة أقصى ثغور الأندلس يشارك بجيشه ضد جيش بلج القشيري والتقى الجيشان في موقع (أقوة بر طوره) من إقليم ولبه، واستطاع عبد الرحمن بن علقمة من إصابة بلج مما أدى إلى موته في اليوم التالي، ولكن خسر عبد الرحمن العدد الكبير من جيشه (174)، فخسرت بذلك قاعدة أربونة خيرة المجاهدين (175).
رجع والي أربونة إلى قاعدته في عهد الوالي أبي الخطار، إلا أن عامل أربونة تمرد مرة ثانية على الوالي يوسف الفهري (129 - 138 هـ) مما أدى إلى مقتله، ففقدت قاعدة أربونة واليها الشجاع، وأصبحت عرضة لهجمات القوات الفرنسية التي استرجعتها عام 141 هـ (176).
أما الجيش في عصر الإمارة 138 - 316 هـ، فبدأ الأمير الأول الداخل بإنشاء جيش يعتمد عليه في تثبيت حكمه وحشد له المتطوعة والمرتزقة من سائر الطوائف، وبلغت قواته نحو مائة ألف مقاتل، هذا عدا الحرس الخاص الذي يتكون من الموالي والبربر والرقيق الصقالبة، وقد بلغت قواته نحو أربعين ألف (177). وبدأ الداخل ينظر بعين الريبة إلى الجند العربي فأسقط ألويتهم بعد أن قامت ضده ثورات عربية أشهرها التي قادها العلاء بن مغيث (178). واعتمد الداخل بالدرجة الأولى على البربر بناءً على مشورة أحد أقربائه، وأحسن استقبال من وفد إليه من بربر العدوة الذين انخرطوا في جيش الداخل.
فكانوا يده الحديدية التي يضرب بها أعداءه (179)، كما استعان بعنصر الصقالبة الذين كانوا يشترون بالمال ويدربون على أعمال الفروسية والقتال وعلى الطاعة العمياء للدولة والإخلاص لها (180).
(174) ينظر، ابن عبد الحكم، فتوح، ص 100 - مجهول، أخبار مجموعة، ص 141 - 44 - ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 33.
(175)
مؤنس، فجر الأندلس، ص 287.
(176)
ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 38 - المقري، نفح، ج 3، ص 26 - السامرائي، الثغر الأعلى، ص 149.
(177)
ينظر، المقري، نفح، ج 3، ص 37، ج 4، ص 36 - عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 200.
(178)
الحميري، الروض، ص 36.
(179)
ابن سعيد، المغرب، ج 1، ص 60 - إحسان عباس، تاريخ الأدب الأندلسي، ص 21.
(180)
دوزي، تاريخ مسلمي إسبانيا، ج 1، ص 235 - إبراهيم الدوري، عصر عبد الرحمن الداخل، ص 250.
وإذا كان الأمير هشام 172 - 180 هـ قد اهتم بالجيش، وهيأه لمعارك الجهاد، إلا أنه في الوقت نفسه رتب في ديوان الجند أرزاقاً لأسر الشهداء، كما افتدى أسرى المسلمين ولم يبق في عهده منهم أحد في قبضة العدو (181). ولكن نرى الأمير الحكم (180 - 206 هـ) يستكثر الموالي والحشم في الجيش، وأنشأ الحرس الخاص، وفي عهده أكثر من جلب الصقالبة، وكان هؤلاء الصقالبة على الأغلب من الرقيق والخصيان الذين يؤتى بهم من بلاد الفرنج وحوض نهر الدانوب وغيرها، وكان يؤتى بهم أطفالاً من الجنسين ويربون تربية إسلامية، ثم يدربون على أعمال الفروسية والإدارة، وتولوا مناصب مهمة، وبلغ عددهم في عهد الحكم زهاء خمسة آلاف (182). وكان للحكم فرقة من الحرس الخاصة معظمهم من فيء أربونة ورثهم عن والده هشام، وقد أبلوا في الدفاع عنه يوم الربض أحسن البلاء. وكانت للحكم ألفا فرس من الجياد الصافنات مرتبطة على شاطئ النهر تجاه القصر، ويشرف عليها جماعة من العرفاء الجيدين (183).
ومعنى هذا أن الأمير الحكم أسس فرقاً من الجيش النظامي وخاصة بعد فشل ثورة الربض عام 202 هـ التي قام بها الفقهاء ضده، والتي كادت تطيح بعرشه، فكوّن لنفسه فرقة من الحرس الخاص عرفوا باسم الصقالبة، وسموا أيضاً الخرس لعجمة ألسنتهم (184). واستمر أمراء الأندلس من إكثار الموالي والصقالبة وجعلهم حرساً خاصاً لهم، فقد اصطفى الأمير عبد الرحمن الأوسط مثلاً خمسة آلاف مملوك، ثلاثة آلاف فارس يرابطون إزاء باب القصر فوق الرصيف، وألفا رجل على أبواب القصر المختلفة (185). واهتم الأمير محمد بتقوية الجيش وذلك نتيجة الظروف الصعبة التي مرت بها الأندلس في عهده، وتلقي الأرقام عن عدد الفرسان الذين يحشدون في مختلف الكور والمدن لغزوات الصوائف، ضوءاً على مدى قوة الجيش الأندلسي في عهده، فكورة غرناطة (2900)، وجيان (2200)، وقبره (1800)، وباغه (900)، موتاكرنا (269) والجزيرة (290) وأستجة (1200)، وقرمونة (185)، وشذونة (6790)، ورية (2607)، وشريش (342) وفحص البلوط (400)، ومورور (1403)، وتدمير (200)، أما قرطبة
(181) مجهول، أخبار مجموعة، ص 120 - عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 229.
(182)
ابن الأثير، الكامل، ج 6، ص 128 - المقري، نفح، ج 1، ص 159.
(183)
مجهول، أخبار مجموعة، ص 129 - ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 79.
(184)
ابن خلدون، العبر، ج 4، ص 277 - السامرائي " التعبئة العسكرية "، ص 40.
(185)
عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 277.
العاصمة فكانت تختار الرقم قياساً لقدراتها، ويحشد أبناؤها بطريق التطوع خلافاً لأهل النواحي الأخرى. وكانت هذه الفرق تسمى بفرق الفرسان المستنفرين الذين يجري استنفارهم أوقات الصوائف، أو كلما بدرت من العدو حركة اعتداء على أهل الثغور، ويضاف إلى هذه الفرق حشود المتطوعين في سبيل الله. وبذلك ندرك مدى حجم جيش الأندلس خلال هذه الفترة، والذي كان هذا الأمير دائماً يقود الجيش إلى أرض العدو ويمكث فيها أكثر من ستة أشهر (186).
ويلاحظ في عصر الإمارة أنها اعتمدت على قادة عسكريين مشهورين ينتمون إلى أسر أندلسية معروفة، فكان لهم دور كبير في قمع الفتن الداخلية أولاً، ولهم الدور نفسه في محاربة الممالك الإسبانية ثانياً. فمثلاً أسرة ابن أبي عبدة، اشتهر رجالها في إخماد حركات التمرد وبخاصة في عهد الأمير عبد الله (275 - 300 هـ) التي عجت الأندلس بحركات المتمردين، فتصدّى رجالها لهذه الحركات التي كان من أشهرها حركة عمر بن حفصون وإبراهيم بن حجاج، واشتهر في هذه الأسرة أبو العباس أحمد بن محمد أبي عبدة الوزير وأولاده عباس وعيسى. فقد اعتمد هذا القائد بالدرجة الأولى على نخبة مختارة من رجاله يبلغ عددهم ثلاثمئة فارس يعتمد عليهم في حروبه، من مجموع جيشه الذي استكثر فيه الرجال وشجعان أهل الثغور، وابتاع العبيد حتى بلغ عدد جيشه خمسة آلاف فارس عدا المشاة (187).
كما اشتهرت هذه الأسرة في مجاهدة الممالك الإسبانية، وأحرز أفرادها النصر في كثير من المعارك (188)، واستشهد بعض رجالها في معارك الجهاد أمثال الوزير أبي العباس أحمد بن محمد بن أبي عبدة (189). كما كان لها دور بارز في صد هجوم النورمان على الأندلس عام 245 هـ في أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن (238 - 273 هـ)(190).
وأسرة مغيث الرومي أيضاً اشتهرت بحروب الجهاد ضد الممالك الإسبانية واشتهر
(186) ينظر، ابن عذاري، ج 2، ص 111 - عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 311.
(187)
ينظر، ابن القوطية، تاريخ، ص 107 - 108 - ابن حيان، المقتبس، ج 3، ص 129.
(188)
ينظر، ابن حيان، المقتبس، ج، ص 319 - 320 - ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 98 - 99 - النويري " نهاية الأرب، ج 22، ص 55.
(189)
ينظر، ابن حيان، المقتبس، ج 5، ص 135 - 136 - السامرائي. الثغر الأعلى، ص 222.
(190)
ينظر، ابن حيان، المقتبس، ج 2، ص 308 - العذري، نصوص عن الأندلس، ص 118.
من رجالها القائد عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث وبخاصة في عهد الأمير الحكم والأمير عبد الرحمن، وأخيه القائد عبد الملك (191).
كما اعتمدت حكومة الإمارة على أسر عربية ومولدة وبخاصة في مناطق الثغور، وكلفتها مهمة مجاهدة الممالك الإسبانية القريبة من أراضيها، أمثال أسرة بني تُجيب العربية وأسرة بني الطويل وبني عمروس وأسرة بني قسي المولدة في منطقة الثغر الأعلى، وأسرة بني سالم البربرية وأسرة بني ذي النون البربرية في منطقة الثغر الأوسط.
وعلى الرغم من وجود علاقات متشابكة بين هذه الأسر أولاً وبينها وبين حكومة قرطبة وصفت أحياناً بالعداء، إلا أن هذه الأسر وبخاصة في عصر الإمارة كان لها دور مشرف في مجاهدة الممالك الإسبانية المجاورة لها أحياناً بمفردها، وأحياناً بالإشتراك مع قوات قرطبة الزاحفة إلى الشمال (192).
ومما يلاحظ أيضاً في عصر الإمارة أن الأمير الأندلسي أحياناً يخرج بنفسه إلى الشمال الإسباني في حملات الصوائف من أجل تأديب الممالك الإسبانية، أو رد اعتدائها على الأراضي الأندلسية، وأحياناً أيضاً يرسل ولي عهده في قيادة الجيش مع صحبة خيرة قواته. فمثلاً الأمير الناصر خرج عام 311 هـ إلى بلاد النافار وسميت هذه الغزوة بغزوة بنبلونة، ورجع إلى قرطبة بعد أربعة أشهر، بعد أن دمر أهم مدن وحصون النافار (193). والأمير عبد الرحمن الأوسط سار بنفسه عام 225 هـ إلى مملكة ليون وافتتح الكثير من حصونها (194). وفي عام 235 هـ أرسل الأمير عبد الرحمن الأوسط إبنه المنذر إلى مملكة ليون أيضاً، وأحرز النصر هناك (195)، وهناك عشرات الأمثلة لهذا الأمر.
وبقيت هذه المظاهر العامة نفسها، مستمرة في عصر الخلافة 316 - 422 هـ. وقد بدأ الخليفة الناصر (300 - 350 هـ) اهتمامه بالجيش الذي أصبح عماد الدولة وسياج الملك، فسهر على إصلاح الجيش الذي أضناه الكفاح ضد حركات التمرد وضد الممالك الإسبانية، وحشد له الجند من سائر أنحاء الأندلس والمغرب، واستكثر من
(191) ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 81 - 82 - ابن الخطيب، أعمال، ص 19 - السامرائي، الثغر الأعلى، ص 166، ص 168، ص 201.
(192)
ينظر، السامرائي، الثغر الأعلى، ص 337 وما بعدها.
(193)
ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 189.
(194)
ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 85 - النويري، نهاية الأرب، ج 22، ص 46.
(195)
ابن الأثير، الكامل، ج 7، ص 51.
الأسلحة والذخائر. وقد صقلت الحروب والغزوات المستمرة كفاءة الجيش ودرّبته، وأمدته بطائفة من أمهر القادة وأشدهم بأساً في الحروب، وكان إقدام الخليفة على تولي قيادة الجيش بنفسه مجدداً لعهد الحماسة الحربية والانتصارات الباهرة (196).
واستمر الخليفة الناصر يعتمد على الصقالبة في جيشه وبوّأهم مكانة مرموقة في الجيش والقصر. وكان لهذه السياسة التي أسرف الناصر في اتباعها، أسوأ الأثر في نفوس الزعماء العرب، وفي انحلال قوى الجيش المعنوية. وهذه الأمور من الأسباب التي أدت إلى هزيمة الناصر في معركة الخندق عام 327 هـ/939 م التي خاضها ضد مملكة ليون. والتي نجا منها وقليل من أتباعه بأعجوبة (197). وبعد هذه المعركة لم يخرج الناصر إلى محاربة الأعداء، واكتفى بتزويد الأسر المتنفذة في منطقة الثغر الأعلى والثغر الأوسط بالمال والعتاد والرجال لكي يقوموا بواجب الجهاد سنوياً ضد الممالك الإسبانية المجاورة (198).
واستمر الخليفة الحكم المستنصر 350 - 366 هـ يعتمد على الصقالبة، وأعطاهم قيادة الجيش وأهم المناصب. وكان في الوقت نفسه يراقب تحركات الممالك الإسبانية بدقة، على الرغم من ميل هذه الممالك إلى المهادنة والسلم مع حكومة قرطبة (199).
ومع هذا كان الخليفة الحكم يقود أحياناً الجيوش بنفسه إلى الشمال الإسباني، كما حصل في عام 352 هـ، وأحياناً يعهد قيادة الجيش إلى القائد غالب بن عبد الرحمن، وحيناً آخر يكلف قادة أسرة بني تجيب العربية أمراء سرقسطة بهذه المهمة (200).
وفي فترة الحجابة 366 - 399 هـ وعندما سيطر الحاجب المنصور على الأمور، قام بتنظيم الجيش، فأنشأ فرقاً جديدة من البربر وبخاصة من زناتة وصنهاجة، ومن الجند الإسبان من ليون والنافار وقشتالة، وبذل لهم الأموال السخية، واجتذب قلوبهم بماله وعدله. وغير الحاجب المنصور أنظمة الجيش القديمة، فقدم رجال البربر، وأخر زعماء العرب وأقصاهم من مناصبهم، وفرق جند القبيلة الواحدة في صفوف مختلفة، وكانوا
(196) عنان، دولة الإسلام، ج 2، ص 446.
(197)
ينظر، ابن حيان، المقتبس، ج 5، ص 435.
(198)
عنان، دولة الإسلام، ج 2، ص 421.
(199)
عنان، دولة الإسلام، ج 2، ص 512، ص 514.
(200)
ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 236، ص 241.
من قبل ينتظمون في صف واحد. وإذا كان الخليفة الناصر قد بدأ بسحق القبائل العربية وإضعاف قوتها، فإن الحاجب المنصور كمّل المهمة نهائياً (201).
كما أنه عمل على تصفية الصقالبة، وخصومه الآخرين، ولما توفي عام 392 هـ كان عدد الفرسان المرتزقة عنده، والذين حارب بهم عشرة آلاف وخمسمائة، وفرسان الثغور مقارب من هذا العدد أيضاً (202). واشتهر الحاجب المنصور بغزواته المتكررة إلى الشمال الإسباني، وزودتنا الروايات بالكثير من أسماء هذه الغزوات التي اعتمد فيها على قوة جيشه المرتزق، والتي لم يهزم في أحدها (203).
وكان عدد الجيش المرابط يتضاعف وقت الصوائف بما ينضم إليه من صفوف المتطوعة، وقد بلغ عدد الفرسان في بعض الصوائف ستة وأربعين ألفاً، وكان عدد المشاة يتضاعف كذلك، وقد يبلغ المائة ألف أو يزيد. وكان المنصور يقتني الخيول لاستخدامها في الجهاد، ومطايا الركوب، ودواب الأحمال، وقد بلغت وحدها أربعة آلاف جمل خصصت لحمل الأمتعة والأثقال. وأما عن عدة الحرب، فقد كان المنصور يحتفظ بكميات عظيمة من الخيام والسهام والدروع، وعدد من المجانيق وغيرها من آلات الحصار (204). ومما يؤثر عن علاقة المنصور بجيشه، أنه كان لقوة ذاكرته، يعرف كثيراً من جنده بالإسم، أو يعرف على الأقل كثيراً مما امتاز منهم خلال المعارك بالشجاعة، ويدعوهم إلى مائدته باستمرار عقب كل انتصار (205).
خلال فترة الفتنة 399 - 422 هـ، وقع الصراع بين جند الأندلس الذين انقسموا إلى فريقين متصارعين، الأندلسيون في جانب، والبربر في جانب آخر. وقد لحق البربر خلال هذه الفترة أذى كبير، إلا أنهم استعادوا قواتهم ودخلوا قرطبة وسيطروا عليها عام 403 هـ. وهناك ظاهرة أخرى في هذه الفترة هي استعانة بعض خلفاء هذه الفترة بالجند المرتزقة من نصارى الشمال الإسباني، الذين لعبوا دوراً كبيراً في أحداث هذه الفترة (206).
(201) عنان، دولة الإسلام، ج 2، ص 531.
(202)
ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 286، ص 301.
(203)
العذري، نصوص عن الأندلس؛ ص 74 وما بعدها.
(204)
ابن الخطيب، أعمال، ص 99، ص 101 - 102 - عنان، دولة الإسلام، ج 2، ص 571.
(205)
عنان، دولة الإسلام، ج 2، ص 572.
(206)
السامرائي، علاقات، ص 34 وما بعدها.
ثم قام عصر الطوائف، وتحولت فيه الأندلس إلى دويلات متنازعة. فهناك دويلات الأندلسيين، ومن أشهرها بنو عباد في إشبيلية وبنو جهور في قرطبة وبنو هود في سرقسطة، وبنو صمادح في المرية والعامريون في بلنسية والمرية، ودويلات الصقالبة، إمارة مجاهد العامري في دانية، وإمارة خيران وزهير في المرية ومرسية ونبيل في طرطوشة، وهناك دويلات البربر، وهم بنو زيري في غرناطة، وبنو برزال في قرمونة، وبنو يفرن في رندة وبنو الأفطس في بطليوس، وبنو ذي النون في طليطلة (207).
امتازت هذه الدويلات بأن كل مجموعة منها اعتمدت على عناصر عسكرية من بني جلدتها. ومن ثم دخلت في حروب داخلية، لأن كل أمير يريد أن يوسع ملكه ويمد سلطانه على حساب جيرانه من أمراء الطوائف سواء بالقوة أو بالحيل السياسية. وهناك ظاهرة أخرى نراها في هذا العصر هي استعانة أكثر أمراء الطوائف بالممالك الإسبانية التي كانت ترسل لهم فرق المرتزقة لكي تعين بعضهم على البعض الآخر، ليس من أجل تحقيق هدف سامي، بل من أجل العمل على تمزيق وحدة الصف العربي في بلد الأندلس وقد نجحوا (208). وكلنا يعرف الخدمات التي كان يقدمها الكمبيادور الفارس القشتالي لبلاط سرقسطة حتى استأسد على بعض ملوك الطوائف وسيطر على بلنسية وعاث فيها فساداً وما جاورها من الممالك (209). وتوجت الأحداث هذا العصر بسقوط طليطلة عام 478 هـ بأيدي قوات الفونسو السادس ملك قشتالة الإسباني، واتخذها عاصمة لدولته، حينها أدرك أمراء الطوائف خطر التوسع الإسباني، فاستنجدوا بالإخوة المرابطين فكانت معركة الزلاقة عام 479 هـ، حيث بدأ دور الجهاد المشترك بين دولة المرابطين وملوك الطوائف ضد الممالك الإسبانية (479 - 483 هـ) حيث قامت معركتان مهمتان هما معركة الزلاقة عام 479 هـ ومعركة حصن الييط عام 481 هـ (210).
ثم أصبحت الأندلس ولاية مرابطية بعد عزل أمراء الطوائف من قبل أمير المسلمين يوسف بن تاشفين المرابطي. وقد اعتمدت الدولة المرابطية على الجيش في تأسيس كيانها أولاً، وفي الجهاد المشترك مع أمراء الطوائف ضد الممالك الإسبانية ثانياً، وفي خلع ملوك الطوائف والإنفراد في مجاهدة الإسبان ثالثاً. ولما كان الجهاد أساس وجود
(207) ينظر، تشراكوا، مجاهد، ص 52 - 55.
(208)
ينظر، السامرائي، علاقات، ص 69 وما بعدها.
(209)
ينظر، كريم عجيل، الحياة العلمية، ص 128 وما بعدها.
(210)
السامرائي، علاقات، ص 170 وما بعدها.
القوات المرابطية بالأندلس، فقد رابط في الأندلس سبعة عشر ألف فارس مرابطي، سبعة آلاف بإشبيلية وقواعد الغرب، وألف فارس بقرطبة، وألف فارس كذلك بغرناطة، وأربعة آلاف فارس في الشرق، والأربعة آلاف الباقية موزعة على مختلف القواعد والثغور لرد هجمات الممالك الإسبانية. وكان الفارس المرابطي في الأندلس يتقاضى خمسة دنانير في الشهر، غير نفقته الخاصة وعلف فرسه، ومن أظهر منهم شجاعة وتفوق عهد إليه بولاية موضع ينتفع بفوائده (211).
أما جند أهل الأندلس في الجيش المرابطي داخل الأندلس، فعبارة عن وحدات خاصة، تحمل أعلام المدن التي تنتمي إليها، مثل أشبيلية وقرطبة وغرناطة ومالقة وبلنسية ومرسية وغيرها. إلا أن القوات الأندلسية لم يكن لها شأن كبير في الجيش المرابطي الذي كان يعتمد على نفسه وقيادته بصورة خاصة (212).
وكان عماد الجيش المرابطي الفرسان الذين بلغوا في عهد يوسف بن تاشفين نحو مئة ألف فارس من مختلف القبائل، هذا غير المشاة من الرماة وغيرهم. وأنشأ يوسف حرسه السود الخاص من عبيد الصحراء من غانة ويتألف من نحو ألفي مقاتل، دربوا أحسن تدريب حتى غدوا قوة ضاربة، وأبلوا بلاءً حسناً في معركة الزلاقة، وأنشأ يوسف بن تاشفين قوة كبيرة خاصة من فرسان زناتة ولمطة وجزولة عرفت باسم الحشم، كما أنشأ فرقة خاصة لحرسه من الإسبان، ومعظمهم من المعاهدين الذين اعتنقوا الإسلام، وقد نمت هذه الفرقة في عهد ولده علي، حتى غدت فرقة كبيرة في الجيش المرابطي، ويقودها فارس قشتالي يسمى الربرتير، واشتركت هذه الفرقة (تسمى أيضاً الجند الروم) مع الجيش المرابطي في معارك عديدة (213).
وفي معارك الجهاد التي خاضتها القوات المرابطية ضد الممالك الإسبانية اشتركت معها عناصر من عرب بني هلال -الذين جاؤوا إلى إفريقية بالأصل لتدمير مملكة بني مناد الصنهاجية مدفوعة من قبل الدولة الفاطمية، إلا أن هذه القبائل وظفت من قبل المرابطين والموحدين في معارك الجهاد- (214) وقد استشهد الكثير منهم وبخاصة في
(211) الحلل الموشية، ص 57 وما بعدها - عنان، عصر المرابطين، ص 419 - 420.
(212)
روض القرطاس، ص 89، عنان، عصر المرابطين؛ ص 419.
(213)
عنان، عصر المرابطين، ص 418 - السامرائي، علاقات، ص 286 - ينظر، محمد ولد داده، مفهوم الملك في المغرب، ص 120.
(214)
ينظر، ابن الآبار، الحلة، ج 2، ص 21 - ابن خلدون، العبر، ج 6، ص 13 - السامرائي، علاقات، ص 358 وما بعدها.
معركة إقليش عام 501 هـ التي انتصر فيها الجيش المرابطي ضد مملكة ليون الإسبانية (215).
وعندما تقوم القوات المرابطية بواجب الجهاد في سبيل الله في الأندلس ينضم إليها صفوف المتطوعة من العلماء ومن عامة الناس، وكان لهؤلاء المتطوعة دور كبير في بعض المعارك (216).
كانت قيادة الجيش المرابطي في الأندلس تعهد إلى خيرة قادة المرابطين، والذين كان معظمهم من أفراد البيت المرابطي، وقد اشتهروا في معارك الجهاد الأندلسية، واستشهد بعضهم. وفي الوقت نفسه يقوم أمير المسلمين المرابطي أو ولي عهده بتفقد القطعات المرابطية في الأندلس ويصلح من أحوالها، وأحياناً يقودها بنفسه في بعض معارك الجهاد. ونظراً لكل هذه الأمور فقد فقدت دولة المرابطين خيرة رجالها الشجعان في بلد الأندلس أثناء قيامها بواجب الجهاد، وهذا من جملة الأسباب التي أدت إلى ضعف أمر هذه الدولة مبكراً (217).
وبعد سقوط دولة المرابطين، وقيام دولة الموحدين، أصبحت الأندلس ولاية موحدية، وورث الموحدون مهمة مجاهدة الممالك الإسبانية ببلد الأندلس. ولذا نرى أن دولة الموحدين تعتمد على قبائل مصمودة أولاً في إعداد الجيش، ومن ثم استعانت بقبائل بني هلال ثانياً والتي استخدموها في معارك الجهاد بالأندلس (218). وكذلك كانت القوات الأندلسية تؤلف بالجيش الموحدي بالأندلس جناحاً هاماً، وتشترك في سائر الغزوات التي قادتها الجيوش الموحدية ضد الممالك الإسبانية، وكانت هذه القوات الأندلسية تشتهر بشجاعتها وتفانيها في معارك الجهاد في سبيل الله من أجل الدفاع عن بلدها الأندلس، وكانت تقاتل في طليعة الجيوش الموحدية لخبرتها في قتال الإسبان، وكثيراً ما تكون سبباً في إحراز النصر، ونرى كذلك أن القادة الموحدين يستمعون باستمرار إلى مشورة القادة الأندلسيين العسكرية (219).
واستعان الموحدون بفرق عسكرية من المرتزقة الإسبان، وكان من أشهر قادتها
(215) ابن القطان، نظم الجمان، ص 9 - 10 - مؤنس، " الثغر الأعلى "، ص 129.
(216)
السامرائي، علاقات، ص 280.
(217)
ينظر، السامرائي، علاقات، ص 250 وما بعدها.
(218)
عنان، عصر الموحدين، ص 635.
(219)
عنان، عصر الموحدين، ص 636.
علي بن الربرتير (220).
وكان الخلفاء الموحدون يعبرون باستمرار إلى الأندلس لتفقد أحوالها العسكرية، وقد بنوا قواعد عسكرية جديدة فيها مثل مدينة الفتح في منطقة جبل طارق، وقاد بعضهم الحملات الجهادية أو عهد بقيادتها إلى أحد أولاده، وكان أفراد البيت الموحدي هم قادة الجيش الموحدي المرابط في الأندلس. فقد رأينا قيادة الخليفة المنصور الموحدي لمعركة الأرك عام 591 هـ الذي انتصر فيها على مملكة قشتالة (221). واشترك الخليفة الموحدي الناصر في معركة العقاب عام 609 هـ ضد مملكة قشتالة، فاندحر المسلمون فيها كما هو معروف (222).
ولم تصمد مملكة غرناطة هذه الفترة الطويلة أمام هجمات الإسبان، لو لم يكن لها جيش منظم قوي أولاً، تسانده جموع المتطوعة في سبيل الله التي ترى أن بقاءها مقتصر على حملها للسلاح ثانياً. وقوة هذا الجيش النصري تعتمد على: جودة التحصينات النصرية في مملكة غرناطة التي تتألف من الأبراج والحصون والقلاع وبخاصة أبراج الطلائع وهي أبراج للمراقبة (223).
كان السلطان النصري قائداً للجيش أو يعهد بقيادته إلى أفراد الأسرة الحاكمة، أو أشهر رجالات الدولة، وقد عني السلاطين بهذا الجيش الذي يتوقف عليه بقاء المملكة، وأنشأوا له ديواناً يرعى مصالحه (224).
وبجانب الجيش النصري توجد مشيخة الغزاة: وتتألف من المجاهدين المغاربة الذين أرسلتهم الدولة المرينية إلى مملكة غرناطة لمساعدتها في حروب الجهاد، ولها رئيس من بني مرين يسمى بشيخ الغزاة، وكان لهذه المشيخة دور مشرّفٌ في معارك الجهاد بالأندلس (225)، ومع هذا زجوا أنفسهم في الخلافات الداخلية مع سلاطين بني الأحمر (226). وفي أواخر العصر النصري وبعد اشتداد الضغط الإسباني على مملكة
(220) ابن القطان، نظم الجمان، ص 96 - ابن الآبار، الحلة، ج 2، ص 193.
(221)
ينظر، الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 490 - أبو رميلة، علاقات، ص 236 وما بعدها.
(222)
أبو رميلة، علاقات، ص 255 وما بعدها.
(223)
ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص 115، ص 125.
(224)
فرحات، غرناطة، ص 87.
(225)
ينظر، ابن خلدون، العبر، ج 7، ص 771 - ابن الخطيب، الإحاطة، ج 2، ص 16، ص 38 - المقري، نفح، ج 4، ص 385 - عنان، نهاية الأندلس، ص 107.
(226)
ينظر، ابن الخطيب، اللمحة البدرية، حيث يذكر شيخ الغزاة عند كلامه عن سلاطين غرناطة.
غرناطة عمد رؤساء الجند إلى إنشاء فرق صغيرة لها تنظيمها الخاص وهي شبه مستقلة عن الجيش النظامي، تباغت معسكرات العدو وتلحق به الدمار (227). وفي أواخر العهد النصري أيضاً ظهر سلاح البارود في مملكة غرناطة، وعند الإسبان، فكانت المدن تختزن منه كميات كبيرة، كما دخلت المدفعية ميادين الحرب في مجال الدفاع عن المدن (228).
التعبئة العسكرية في الأندلس:
فتح المسلمون الأندلس (92 - 95 هـ) وأفادوا من وديان أنهارها الممتدة على هيئة خطوط مستعرضة بين الشرق والغرب، وجعلوا منها خطوطاً دفاعية لحماية دولتهم من أخطار الدول الإسبانية. فاتخذوا من وادي نهر الأبرو خطاً دفاعياً أول وسموه بالثغر الأعلى، كما اتخذوا من وادي نهر التاجة خطاً دفاعياً ثانياً وسموه بالثغر الأوسط والأدنى (229). وقد كان الثغر الأعلى أسبق الثغور الأندلسية في الظهور، وبخاصة بعد انتهاء موسى بن نصير وطارق بن زياد من إتمام فتح الشمال الإسباني، فظهر الثغر الأعلى مجاوراً لأرض العدو وهي بلاد فرنسا، وامتد هذا الثغر في عصر الولاة (95 - 138 هـ) إلى مدينة أربونة التي تعتبر أقصى ثغر بالأندلس (230). أما الثغران الأوسط والأدنى فقد ظهر بعد قيام الممالك الإسبانية من الركن الشمال الغربي من إسبانيا وبداية توسعها على حساب أراضي الأندلس وبخاصة عند بداية عصر الإمارة. وبذلك بدأ الصراع المستمر بين المسلمين والإسبان ولهذا اعتبرت الأندلس في نظر المسلمين ثغراً للدولة الإسلامية وأرضاً للجهاد والمرابطة، ولقد فرض هذا الوضع عليها أن تجند أبناءها منذ الصغر ليكونوا على أهبة الاستعداد (231). ولما لم يكن في الأندلس بادئ الأمر جيش نظامي قائم بذاته فقد كانت القبائل العربية والبربرية التي سكنت الأندلس تمد الدولة بالجيوش اللازمة للجهاد. وقد استمر هذا النظام العسكري إلى أيام الأمير الحكم (180 - 206 هـ)، فقد رأى هذا الأمير أن يؤسس فرقاً من الجيش النظامي وبخاصة بعد فشل حركة الربض عام 202 هـ التي قام بها الفقهاء، والتي كادت تطيح بعرشه، فكون
(227) فرحات، غرناطة، ص 90.
(228)
فرحات، غرناطة، ص 95.
(229)
البكري، جغرافية الأندلس، ص 95 (هامش 4).
(230)
تقويم البلدان، ص 183.
(231)
السامرائي، " التعبئة العسكرية "، ص 40.
لنفسه فرقة من الحرس الخاص عرفوا باسم الصقالبة، وسموا أيضاً الخرس لعجمة ألسنتهم (232).
إن معظم الحملات العسكرية التي خرجت من قرطبة إلى الشمال الإسباني كان لها نظام خاص في التجمع والسير. فكان النفير العام يعلن في جميع أنحاء البلاد للخروج إلى الجهاد، فيتوافد الجنود من مختلف ولايات الأندلس متجهين إلى العاصمة. وفي منطقة في شرقي قرطبة كان يعسكر هذا الحشد الكبير في مكان متسع يسمى (ساحة العرض أو ساحة الحشد أو فحص السرادق)(233). وبعد أن يكتمل شمل الجنود يخرج إليهم الأمير الأموي من قصره وسط الهتاف والتكبير فيعسكر مع جنده ويستعرض أسلحتهم المختلفة، ويعين قائد الحملة. وقبل الرحيل كان الأمير أو الخليفة وجنوده يقيمون صلاة عامة في المسجد الجامع بقرطبة، يتبعها الدعاء بالنصر، ثم يخرج الجيش براياته وأعلامه إلى الجهة المرسومة له. وخلال سيره ينضم إليه قواد وأمراء الثغور الأندلسية وعمال المدن بجيوشهم وأتباعهم، ثم يتقدم الجميع لملاقاة العدو (234).
ولما كانت المنطقة التي يسير فيها الجيش من مناطق الثغور إلى الممالك الإسبانية، منطقة جبلية وعرة، فكان من العادة أن يتقدم الجيش فرقة استطلاعية لمعرفة أخبار العدو ومعرفة المسالك والممرات الصحيحة بين الجبال الوعرة؛ ويختار لهذه المهمة الرجال الموثوق بأمانتهم وإخلاصهم لتهيئة المسالك الصالحة لسير الجيش وسط هذه الجبال الوعرة - وقد صادف خلال سير العمليات العسكرية إلى الشمال الإسباني، أن الجيش الأندلسي في إحدى حملاته ضل الطريق فأصابه كبير عناء، ومات عدد كبير من أفراده وذلك في عام 178 هـ (235).
ويبدو ومن سير العمليات العسكرية أن المسلمين في الأندلس أثناء لقائهم العدو - وعلى عادة المسلمين في حروب الجهاد. يرددون شعارات إسلامية معينة تحفزهم على الاستبسال في الجهاد. فتذكر بعض الروايات أن مسلمي الأندلس كانوا يرددون شعار (يا محمد) صلى الله عليه وسلم بينما الإسبان يرددون شعار (ياسنتياجو)(236)، وكانوا يتصايحون ويولولون
(232) ينظر، ابن خلدون، العبر، ج 4، ص 277 - العبادي، الصقالبة في إسبانيا، ص 7 - 11.
(233)
ابن حيان، المقتبس، تح الحجي، ص 43 - سالم، تاريخ المسلمين، ص 300.
(234)
السامرائي، " التعبئة العسكرية "، ص 40.
(235)
ابن الأثير، الكامل، ج 6، ص 144.
(236)
العبادي، " صور لحياة الحرب والجهاد "، مجلة البينة، العدد 9، ص 92.
ليضعفوا قلوب المسلمين (237). وسنتياجو هذا هو القديس يعقوب أحد أتباع السيد المسيح عليه السلام، الذي اخترع الإسبان وجوده في أقصى شمال غربي إسبانيا لتعزيز مقاومتهم ضد المسلمين، وقامت حول هذا المزار مدينة نمت بسرعة هي مدينة شنت ياقب المقدسة (238)، وغدا هذا المزار من أشهر المزارات الإسبانية. وعندما يفكر الإسباني في سنتياجو فإن قلبه ينبض بالعزة الوطنية وتتملكه الحماسة الدينية (239). وقد أقسم أكثر من ملك أو قائد إسباني بأنه رأى سنتياجو رأي العين قبل المعركة أو خلالها ممتطياً جواداً أبيض وملوحاً بسيف براق، ثم يأخذ في معاونتهم على قتال المسلمين في المعركة حتى يكتب لهم النصر، ولهذا أطلقوا عليه إسم قاتل المسلمين (240).
وقد زودتنا الروايات بمعلومات جيدة عن تعبئة الجيش الأندلسي عند لقاء العدو، حيث يتقدم الرجالة بدروعهم ورماحهم الطوال، وخلفهم الرماة المهرة، ثم تليهم الخيالة. كما وصفت هذه الروايات التعبئة العسكرية التي يتمسك بها كل قسم من أقسام هذا الجيش، وأشارت إلى وجود مبارزات فردية قبل وقوع المعركة (241). وقد وضحت صور التعبئة العسكرية الأندلسية عندما أصبحت الأندلس ولاية مرابطية وولاية موحدية.
كان ترتيب المعركة عند المرابطين يقوم على نظام خماسي، فيتقدم الجيش الجند المشاة ووحدات الفرسان الخفيفة وحملة القسي والرماة، ويرتبون في الجناحين.
ويتكون القلب من وحدات الفرسان الثقيلة، وهي التي تحسم المعركة عموماً، وكانت قوات المؤخرة يقودها أمير المسلمين -إذا كان مصاحباً للجيش- أو قائده المكلف، وتتألف من صفوة الجند وقوى الحرس الخاصة، وكان لكل قسم من القوات المقاتلة قائده الخاص (242). وقد طبق هذا النظام أمير المسلمين يوسف بن تاشفين في معركة الزلاقة. فقسم الجيش إلى مقدمة وعليها المعتمد بن عباد، وميمنة وعليها المتوكل بن الأفطس، وميسرة وعليها أهل شرقي الأندلس ومؤخرة وعليها سائر أهل الأندلس. أما المرابطون فجعلهم في كمائن متفرقة تخرج من كل جهة عند اللقاء (243). وقد قضى الليل
(237) ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 177.
(238)
الحميري، الروض المعطار، ص 115.
(239)
لودر، إسبانية شعبها وأرضها، ص 61.
(240)
السامرائي، " التعبئة العسكرية "، ص 41.
(241)
الطرطوشي، سراج الملوك، ص 331 وما بعدها.
(242)
عنان، عصر المرابطين، ص 418 - 419.
(243)
الحلل الموشية، ص 47.
كله يرتب الصفوف ويعد العدة لكل احتمال حتى أنه غير مواضع قواته دون أن يشعر به أحد (244). وعندما تقدمت طلائع الإسبان بقيادة البرهانس وهاجمت القوات الأندلسية من أجل القضاء عليها لكي تتفرغ لمهاجمة الجيش المرابطي والقضاء عليه (245). إلا أن يوسف بن تاشفين أنقذ الجيش الأندلسي بإمداده بقوات مرابطية بقيادة داود بن عائشة، وأردفها بأخرى بقيادة سير بن أبي بكر (246)، وعمل يوسف بن تاشفين على تطويل المعركة من أجل إجبار الإسبان على ترك مواقعهم. وبالفعل تركت الجيوش الإسبانية مواقعها وتتبعت قوات أهل الأندلس، فباغت أمير المرابطين معسكر الإسبان من الخلف واستولى عليه وأضرم فيه النار، فاضطرت القوات الإسبانية إلى التراجع لإنقاذ معسكرها. وما كاد جيش أهل الأندلس يعلم بذلك حتى انقلب من الفرار إلى الهجوم وأطبق على الإسبان من الخلف، فأصبحوا بين القوات الأندلسية والقوات المرابطية (247). وأردف بطل المعركة هذه الخطة، بخطط عسكرية أخرى ألقت الرعب في صفوف الإسبان، فقد نظم يوسف بن تاشفين فرق من المشاة السودان المسلحين بالسهام ودرق اللمط (248)، والذين طعنوا خيول الإسبان بسهامهم فجمحت بركابها وولت الأدبار، كما تتبع بعضهم الفونسو السادس وطعنه في إحدى ركبتيه (249). كما استعمل يوسف بن تاشفين الجمال التي أرعبت خيول الإسبان، واستعمل الطبول التي كان لها دويّ مرعب تهتز له الأرض، وترتعد له فرائص الفرسان (250).
ومعنى هذا أنه طبق معظم الخطط العسكرية المرابطية في هذه المعركة التي أحرز بها المسلمون النصر المبين على مملكة قشتالة عام 479 هـ.
واهتمت الدولة الموحدية بالجيش وأوكلت شؤونه إلى ديوانين، الأول يسمى ديوان العسكر ويشرف على كل ما يتعلق بشؤون الجيش، والثاني ديوان التمييز، وهو جهاز تطهير الخصوم والمتخاذلين وإبعادهم من الجيش. وكان الخليفة الموحدي عندما يعتزم الجهاد يقوم بزيارة قبر مهدي الموحدين، وقبور آبائه في منطقة تينملل، يستمد من هذه
(244) ابن أبي زرع، روض القرطاس، ص 94.
(245)
محمود، قيام دولة المرابطين، ص 277.
(246)
ابن عذاري، البيان، ج 4، ص 138 - الحميري، الروض المعطار، ص 92.
(247)
ابن أبي زرع، روض القرطاس، ص 95 - 96 - السامرائي، علاقات، ص 178.
(248)
ابن خلكان، وفيات، ج 2، ص 367.
(249)
ابن عذاري، البيان، ج 4، ص 138.
(250)
السامرائي، علاقات، ص 179.
الزيارة البركة والتشجيع (251). واعتمدت الجيوش الموحدية خطة المربع في التعبئة العسكرية وخلاصتها: تصنع دارة مربعة في بسيط المعركة، يقف من جهاتها الأربع صف من الرجال بأيديهم القنا الطوال، ومن ورائهم أصحاب الدروق والحراب صفاً ثانياً، ومن ورائهم أصحاب المخالي المملوءة بالحجارة صفاً ثالثاً، ومن وراء هؤلاء الرماة رابعاً. وفي وسط المربعة ترابط قوى الفرسان. وكانت صفوف الفرسان تخصص لها أمكنة معينة في جميع جوانب المربع، وتفتح لها مخاريج سريعة تستطيع أن تنطلق منها ثم تعود إلى أماكنها الداخلية دون أن تخل بنظام المشاة.
وعند المعركة يقوم بالهجوم الأول قوات المتطوعة المجاهدة، تؤازرها القوات الخفيفة، فإذا استطاع العدو أن يرد هؤلاء، وأن يتقدم حتى مواقف الجنود النظامية، وقف حملة الحراب أمامه كالسد الحديدي الذي لا يخترق، واستقبله الرماة من حملة القسي والنبال بسيل من الحجارة والسهام. وإذا استطاع العدو أن يخترق الصف الأول وهم حملة الحراب استقبله حملة السيوف والدروع، ويبادر الفرسان إلى معاونتهم. وإذا استطاع العدو بعد كل ما تقدم، أن يتغلب على القلب والجناحين، فعندئذ يقوم الجيش الموحدي بالضربة الأخيرة، وتتقدم قوات الضلع الرابع من المربع وهي الاحتياطي المكون من صفوة الجند ولا سيما الحرس الخاص ويقودها الخليفة بنفسه، وهذه القوة الاحتياطية (الساقة) كثيراً ما تحرز النصر للقوات الموحدية، وكانت هذه القوة كثيراً ما تمتنع داخل نطاق من السلاسل الحديدية، تبرز من خلالها الحراب الطويلة، فتتصدى للعدو في حالة الاقتراب منها (252). وعندما يعبئ الخليفة الموحدي جيشه للقتال تنصب له قبة حمراء يرفع فوقها العلم الموحدي الأبيض، وتحاط بالسلاسل الحديدية الضخمة، وعادة تضرب هذه القبة في مؤخرة الجيش، ويحف بها الحرس الخاص الذين يحملون الرماح الطويلة. وكان الخليفة الموحدي متى ما رأى قواته خلال المعركة في حاجة إلى العون يقود الساقة (المؤخرة) بنفسه ويشد أزر قواته، ويعاونها بذلك على إحراز النصر.
وقد تقع الكارثة فيهلك الخليفة كما حدث لأبي يعقوب يوسف في نكبة شنترين، أو يلجأ إلى الفرار، كما حدث للناصر في موقعة العقاب (253).
واستعملت الطبول في الجيش الموحدي، وكانت تضرب عند الرحيل وعند بدء
(251) ينظر، عنان، عصر الموحدين، ص 638.
(252)
ينظر، أشباخ، تاريخ الأندلس، ص 448، عنان، عصر الموحدين، ص 634.
(253)
عنان، عصر الموحدين، ص 636 - ينظر، روض القرطاس، ص 239.
المعركة (254). واعتمد الجيش الموحدي على نظام التطوع أيضاً، وتسمى جموعهم بالمطوعة (255).
وأهم ما تمتاز به الجيوش الموحدية تفوقها في فن الحصار، ومقدرتها على اقتحام المدن المنيعة، ورأينا لهم أمثلة بارزة في حوادث حصار وهران والمهدية بالمغرب، وحصار طرش وحصن القصر (قصر أبي دانس) وشلب بالأندلس. ومما يلفت النظر أن الموحدين لم يقتصروا على استعمال الآلات القديمة في الحصار، بل استعملوا آلات جديدة قاذفة، تقذف الحجارة والكرات الحديدية الملتهبة. فنراهم في حصار لبلة بالأندلس استخدموا آلات تقذف الحديد والحجارة على القوات الإسبانية، وكان يصحبها دوي كالرعد (256).
وفي مملكة غرناطة، يتألف الجيش النصري من أقسام أو مجاميع. وكل مجموعة تتألف من خمسة آلاف محارب لها أمير، ولها راية كبيرة تميزها، والمجموعة تقسم إلى خمس وحدات، وكل وحدة تتألف من ألف محارب لها قائد، ولها علم أصغر حجماً من الراية. ثم إن كل وحدة تقسم بدورها إلى خمس فرق، وقوام كل فرقة مئتا محارب يقودها نقيب يحمل لواء الفرقة. والفرقة تقسم إلى خمسة أقسام صغيرة، كل قسم يتألف من أربعين رجلاً، وعلى رأس كل قسم عريف يحمل بنداً مميزاً. والقسم يتفرع إلى مجموعات أو زمر تتألف من ثمانية جنود يرأسها نظير، ويربط في رأس رمحه قطعة قماش تسمى العقدة، والتحرك العسكري لهذه الأقسام يجري وفق أوامر تصل من الأعلى إلى الأدنى (257).
ويلتحق بالجيش مجموعة الأدلاء الذين كانوا في الغالب من سكان المناطق الحدودية ذوي الخبرة بمسالك البلاد. كما كان سلاطين غرناطة يبثون العيون داخل الممالك الإسبانية لمعرفة أخبارها وبخاصة العسكرية؛ ويمنحون عيونهم هؤلاء المكافآت ويعفونهم من الضرائب لأنهم في الغالب ما يكونون من التجار اليهود والإسبان (258).
وقد زودتنا بعض الروايات بملابس وأسلحة الجيش النصري وفرسان مشيخة الغزاة (259).
(254) الحلل الموشية، ص 115.
(255)
عنان، عصر الموحدين، ص 637.
(256)
عنان، عصر الموحدين، ص 493، ص 640.
(257)
فرحات، غرناطة، ص 91 - 92.
(258)
أيضاً، ص 91.
(259)
ابن الخطيب، اللمحة البدرية، ص 23 - المقري، نفح؛ ج 1، ص 223.
وكانت خطة الهجوم التي تعتمدها القوات النصرية هي الغارات السريعة في عمق أرض العدو مع تجنب اللقاء بالجيش النظامي. وفي المعارك النظامية حافظ الفرسان المغاربة على الأساليب التقليدية، فاعتمدوا طريقة الكر والفر والدوران حول العدو ومباغتة نقاط الضعف فيه (260).
البحرية:
لما كان مضيق جبل طارق فاصلاً بين عدوة المغرب وبلاد الأندلس، فإن الحملات الاستطلاعية الأولى التي قادها أبو زرعة طريف بن مالك، وحملات الفتح التي قادها طارق بن زياد وموسى بن نصير، ومن ثم تعاقب الجيوش من وإلى الأندلس، فإن كل هذه الأمور تحتاج إلى أساطيل كبيرة لنقل المجاهدين وخيولهم وعتادهم، ولم يقتصر الأمر في أداء هذه المهمة على مراكب يوليان حاكم سبتة (261)، ولا على مراكب تجار الروم التي كانت تختلف إلى الأندلس (262).
بل كان الاعتماد الأول وقبل كل شيء على الأساطيل العربية التي كانت تحت إمرة موسى بن نصير على طول الساحل المغربي (263). وقد قدمت دراسات مطولة حول هذا الأمر وحول إحراق طارق بن زياد للسفن، وكل أبدى رأيه (264).
وعندما أكمل المسلمون فتح الأندلس (92 - 95 هـ) وبدأ عصر الولاة 95 - 138 هـ أطلت جيوش المسلمين على سواحل أندلسية طويلة، تشرف على البحر المحيط (الأطلسي) وخليج بسكاي، وعلى البحر المتوسط، مما يجعلها عرضة لأي هجوم بحري أوروبي معادي. ولذا اعتمد المسلمون على دور الصناعة القديمة التي وجدوها في طرطوشة وطركونة ودانية وإشبيلية والجزيرة الخضراء، كما استفادوا من خدمات الخشب والحديد اللازمة لبناء السفن، فكان ذلك ولا زال موجوداً في الأندلس (265).
ولدينا خبر يشير إلى توفر وجود السفن أو صناعتها في الأندلس بعد فتحها، مفاده أن
(260) ينظر، ابن خلدون، المقدمة، ص 271 - فرحات، غرناطة، ص 94.
(261)
مجهول، أخبار مجموعة، ص 6 - المقري، نفح، ج 1، ص 238.
(262)
ابن عذاري، البيان، ج 1، ص 8.
(263)
العبادي، دراسات، ص 17.
(264)
الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 62 - السامرائي، " طارق بن زياد بين الخطبة وإحراق السفن " مجلة آفاق جامعية عام 1977.
(265)
ينظر، الحميري، الروض المعطار، ص 102، ص 110، ص 124.
عياش بن شراحيل " دخل الأندلس وقدم بالسفن منها إلى إفريقية سنة مئة "(266).
وعندما أراد بلج بن بشر القشيري العبور إلى الأندلس، ورفض واليها ذلك صنع بلج قوارب ركبها أتباعه، فهاجموا دار الصناعة بالجزيرة الخضراء، وأخذوا ما فيها من المراكب والسلاح فرجعوا بها إليه، وبعد ذلك استخدمها في عملية العبور إلى الأندلس، كما هو معروف (267).
وخلال عصر الولاة، عندما قررت جيوش الفرنجة استرجاع مدينة أربونة عام 120 هـ، وكان عاملها عبد الرحمن بن علقمة القائد المشهور، فلما وصلت هذه الأنباء إلى والي الأندلس عقبة بن الحجاج السلولي أرسل جيشاً بحرياً لنجدتها بقيادة عامر بن الليث (268). وقدم هذا الجيش عن طريق البحر نظراً لوجود قبائل البشكنس والقبائل الجبلية الأخرى على طول جبال البرتات والتي تكون حائلاً أو خطراً على الجيش الأندلسي الذاهب إلى فرنسا (269). فلما عرف جيش الفرنجة بقدوم هذا الجيش هاجموه بغتة وقتلوا القائد وانهزم بعض المسلمين إلى أربونة، والبعض الآخر ركبوا سفنهم وقد تعقبتهم بعض مراكب الفرنجة وأصابوا الكثير منهم (270). وعلى الرغم من أن الأسطول الأندلسي لم يكن قوياً في هذا العصر، حيث ظهر الاهتمام به في عصر الإمارة، فمن المؤكد أن مدن برشلونة وطركونة البحرية قد ساهمت في إرسال سفن النجدة لفك حصار أربونة، هذا إذا علمنا أن مثل هذه المدن كان يكمن عندها المسلمون عند " طلب الفرصة في الغزو "(271).
وأدرك الوالي يوسف الفهري (129 - 138 هـ) خطورة وضع المسلمين في أربونة المحاصرة من قبل الجيوش الفرنسية، فأرسل جيشاً بقيادة ابنه عبد الرحمن لضبط المدينة وما يليها (272). فلم يوفق هذا الجيش في مهمته وذلك بسبب المقاومة الشديدة التي أبدتها القبائل الإسبانية على طول جبال البرتات (273)، ويبدو أن المسلمين لم يستخدموا
(266) الحميدي، جذوة، ص 322 (رقم 742) - ابن الفرضي، تاريخ، رقم 1014.
(267)
ابن القوطية، تاريخ، ص 16.
(268)
رينو، غزوات، ص 138 - سالم، تاريخ المسلمين، ص 148 - مؤنس، فجر الأندلس، ص 283.
(269)
السامرائي؛ الثغر الأعلى، ص 144.
(270)
رينو، غزوات، ص 138 - مؤنس، فجر الأندلس، ص 283.
(271)
الحميري، الروض المعطار، ص 126.
(272)
سالم، تاريخ المسلمين، ص 150.
(273)
رينو، غزوات، ص 144.
البحر هذه المرة، لأن الفرنسيين سيطروا على مدينة ماجلون التي تعتبر مرسى أميناً للسفن الإسلامية القادمة من إسبانيا (274)، وبعدها سقطت أربونة بيد الفرنسيين عام 141 هـ، كما هو معروف.
وفي عصر الإمارة، 138 - 316 هـ، اهتم الداخل بثغر الجزيرة الخضراء وعهد إدارتها إلى الرماحس بن عبد الرحمن (والي شرطة مروان بن محمد)، واشتهر أفراد هذا البيت بقيادة الأسطول الأندلسي على عهد الأمويين (275). كما اعتمد الأمويون بالأندلس على اليمنيين القضاعيين في الأمور البحرية في باديء الأمر، وأنزلوهم في المناطق الساحلية الشرقية وعهدوا إليهم حراسة ما يليهم من البحر وحفظ السواحل، وقد سمي هذا الإقليم بـ (أرش اليمن أي أعطيتهم من الأرض) وكانت بجانة أهم قاعدة لهم في هذا الإقليم (276)، ولذا لقب أهلها بالبحريين (277). وكان بيت بني الأسود من البيوت البحرية المشهورة في مدينة بجانة، وقد ظهر اسم خشخاش ووالده سعيد بن أسود ضمن قادة الأساطيل التي قاتلت النورمان في عهد الأمير محمد الأول، وسوف نذكرهم فيما بعد. وازداد النشاط البحري في عهد الأمير هشام الأول (172 - 180 هـ) على الساحل الشرقي للأندلس، وكان قوام هذا النشاط حملات بحرية قام بها جماعات من البحارة والمجاهدين، هاجموا فيها بعض الثغور والجزر القريبة (278). وقد زاد هذا النشاط أيضاً في عهد الأمير الحكم (180 - 206 هـ) حيث ذكرت بعض الروايات؛ بأن الحكم الأول وجه حملتين إلى الجزائر الشرقية عام 182 هـ وعام 200 هـ (279)، مع نشاط بحري.
هاجم جزر كورسيكا وسردينية وإيطاليا في عام 190 هـ، وعام 191 هـ، وعام 193 هـ (280). وفي عام 205 هـ خرج أسطول أندلسي من ثغر طركونة وسار صوب جزيرة سردينية، فتصدى له أسطول فرنسي، فتغلب عليه الأسطول الأندلسي وأغرق ثمانية مراكب منه وأحرقوا مراكب أخرى (281). ولما فتح الأغالبة جزيرة صقلية عام
(274) طرخان، المسلمون في أوروبا، ص 163.
(275)
العذري، نصوص عن الأندلس، ص 81.
(276)
الحميري، الروض المعطار، ص 37 - 38 - العبادي، دراسات، ص 248.
(277)
العذري، نصوص، ص 86.
(278)
عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 266 - السامرائي، " الجزائر الشرقية "، ص 157.
(279)
طرخان، المسلمون في أوروبا، ص 103.
(280)
محمود إسماعيل، الأغالبة سياستهم الخارجية، ص 154 - 155 - العدوي، الأساطيل العربية، ص 76.
(281)
رينو، غزوات، ص 190 - 191.
212 هـ، بدأت الأساطيل البيزنطية تهاجم القوات الإسلامية فيها، ففي عام 214 هـ وجه الأمير عبد الرحمن الأوسط (206 - 238 هـ)، حملة بحرية خرجت من ميناء طرطوشة إلى صقلية لتعزيز الحامية الإسلامية فيها (282).
وفي عام 221 هـ خرج أسطول أندلسي من ثغر طركونة والجزائر الشرقية، وهاجم مرسيلية وما حولها وأثخن فيها، فكانت هذه الحملة مقدمة لحملات أخرى متعاقبة أفلحت في إقامة مراكز عربية في جنوب فرنسا وشمالي إيطاليا (283). ويبدو لنا أن الجزائر الشرقية (البليار) عقدت عهداً مع حكومة الإمارة، على الأقل فيما يتعلق بشؤون البحر، ودليلنا على ذلك أن الأمير عبد الرحمن الأوسط سير أسطولاً من ثلثمائة مركب عام 234 هـ إلى أهل الجزائر الشرقية لنقضهم العهد، وإضرارهم بمن يمر بهم من مراكب المسلمين (284). ويبدو أنها كانت حملة تأديبية وليست فتحاً منظماً بدليل قدوم رسالة من أهل الجزائر إلى الأمير في عام 235 هـ يستعطفون فيها الأمير ويطلبون السماح، فاستجاب لهم (285).
مع كل هذا، فإن البحرية الأندلسية كانت لا تزال محدودة في إمكانياتها ووسائلها، فلم تكن لديها القواعد والمحارس والسفن الكافية لحماية جميع سواحلها ولا سيما الغربية منها، ولهذا عجزت عن حمايتها عندما هاجمتها أساطيل النورمان عام 229 هـ وعاثت فساداً في السواحل الغربية، وفي مدينة إشبيلية (286). ولما كان الأسطول الأندلسي مرابطاً على الساحل الشرقي، فقد اعتمدت حكومة الإمارة في صد خطر النورمان على جيوشها البرية، واستعانت بقوات من الثغر الأعلى المدربة على حرب العصابات (287).
وكان لهذا الهجوم النورماني أثر كبير على الأندلس، حيث أدى إلى الاهتمام بالسواحل الغربية للأندلس وبناء التحصينات فيها، حيث بني سور إشبيلية (288)، كما
(282) ابن الأثير، الكامل، ج 6، ص 238 - ابن عذاري، البيان، ج 1، ص 104 - مؤنس، المسلمون في حوض البحر المتوسط، ص 100.
(283)
عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 266.
(284)
ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 1، ص 89 - ابن الخطيب، أعمال الأعلام، ص 18.
(285)
ابن حيان، المقتبس، ج 2، ص 4 - ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 89.
(286)
العذري، نصوص عن الأندلس، ص 98 - ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 87 - ابن سعيد، المغرب، ج 1، ص 49 - مؤنس، غارات، ص 31.
(287)
السامرائي، الثغر الأعلى، ص 273.
(288)
البكري، جغرافية الأندلس، ص 112 - الحميري، الروض، ص 20.
أنشأوا الرباطات على السواحل وأصبحت مركزاً للجهاد (289)، وكانت النتيجة المهمة هي إنشاء دار صناعة إشبيلية، وإنشاء المراكب، وزودها بالآلات وقوارير النفط، ووسع على رجال البحر المدربين (290).
وفي عهد الأمير محمد الأول (238 - 273 هـ) عاد النورمان مرة أخرى وهاجموا ساحل الأندلس في (62) مركباً عام 245 هـ، فوجدوا هذه السواحل قد حرست بالسفن الحربية، وحاولوا اختراق نهر إشبيلية فلم يفلحوا، ثم واصلوا سيرهم إلى الجزيرة الخضراء وأحرقوا مسجد الرايات فيها، ثم عاثوا فساداً في الساحل الإفريقي، ثم توجهوا صوب الساحل الشرقي للأندلس، فاشتبكوا مع القوات الأندلسية في عدة معارك بحرية وبرية، ثم ساروا إلى بلاد فرنسا، وأمضوا فصل الشتاء هناك، ثم رجعوا إلى الجنوب بمحاذاة الساحل الشرقي للأندلس (291). وأثناء رجوع سفن النورمان هذه هاجمتها الأساطيل الأندلسية عند مدينة شذونة، وأسرت مركبين من مراكبهم (292)، وأحرقت مركبين آخرين، واستشهد جماعة من المسلمين (293). ثم سارت مراكب النورمان شمالاً وهاجمت بنبلونة عاصمة النافار وأسرت ملكها غرسية بن ونقة، والذي افتدى نفسه بالمال (294). ثم ظهر النورمان مرة ثانية في عهد هذا الأمير عام 247 هـ قرب شواطئ الأندلس، لكنهم وجدوا هذه السواحل قد حرست بالسفن الحربية، كما أن أمواج البحر دمرت لهم 14 مركباً ولم يظفروا بشيء ورجعوا إلى بلادهم (295).
وفي عهد الأمير عبد الله (275 - 300 هـ) قام جماعة من المجاهدين الأندلسيين يقدرون بحوالي عشرين شخصاً في عام 276 هـ، ونزلوا الساحل الفرنسي، ولجأوا إلى غابة كثيفة، ثم سيطروا على المناطق المجاورة واستقروا بها، ودعوا إخوانهم من الثغور البحرية للقدوم إليهم، وأرسلوا في طلب العون والتأييد من حكومات المغرب
(289) مؤنس، غارات، ص 41 - العبادي، دراسات، ص 296 وما بعدها.
(290)
ابن القوطية، تاريخ، ص 88 - العبادي، دراسات، ص 263.
(291)
ينظر، العذري، نصوص، ص 119 - ابن حيان، المقتبس، ج 2، ص 308 - ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 97 - ابن الخطيب، تاريخ المغرب العربي - ص 173 - 174.
(292)
النويري، نهاية الأرب، ج 22، ص 54.
(293)
ابن الأثير، الكامل، ج 7، ص 90.
(294)
ابن حيان، المقتبس، ج 2، ص 309 - العذري، نصوص، ص 119 - السامرائي، الثغر الأعلى، ص 280.
(295)
ابن حيان، المقتبس، ج 2، ص 311 - العذري، نصوص، ص 119.
والأندلس (296). وعلى مر الزمن أنشأوا لهم سلسلة من المعاقل والحصون أشهرها قلعة فراكسنتيوم الواقعة شمالي مدينة طولون (297)، والتي يسميها الجغرافيون المسلمون باسم دويلة جبل القلال (298). واستمرت هذه الدويلة إلى عام 365 هـ، وسيطرت على مناطق مهمة من فرنسا وسويسرة وشمالي إيطاليا (299).
وفي عهد هذا الأمير سير قوة بحرية عام 290 هـ إلى جزيرة ميورقة بقيادة عصام الخولاني، الخبير بشؤون هذه الجزيرة، فحاصرها أياماً وفتحها، وبذلك أصبحت هذه الجزائر ولاية جديدة تابعة للأندلس وتولى أمرها عصام الخولاني 290 - 300 هـ (300).
وفي عصر الخلافة 300 - 422 هـ، نرى أن الإمبراطور البيزنطي بالتعاون مع هوجو ملك إيطاليا وبروفانس، حاولوا استرجاع قلعة جبل القلال عام 331 هـ، فهاجموها براً وبحراً، إلا أن الاضطرابات الداخلية في مملكة إيطاليا أجبرت هوجو على الانسحاب ومهادنة المسلمين فيها (301).
ويفهم من رواية العذري أن أسطولاً أندلسياً كبيراً بقيادة محمد بن رماحس ومعه غالب بن عبد الرحمن وسهل بن أسيد خرج من ثغر المرية وغزا سواحل إفرنجة في عام 331 هـ، إلا أن عاصفة هوجاء قذفت به بعيداً عن تلك السواحل (302). ويعتقد أن هذه العمليات البحرية التي قام بها الأسطول الأندلسي، كانت تهدف إلى معاونة قاعدة جبل القلال (303). وقد جرت مراسلات وسفارات طويلة بين حكومة الناصر بالأندلس وبين أوتو الأكبر إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة حول أمر هذه القاعدة. على أية حال فإن أمر هذه السفارة استمر إلى سنة 344 هـ، لحصول مشكلة دبلوماسية (304).
(296) ينظر، السامرائي، الثغر الأعلى، ص 263.
(297)
الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 313.
(298)
ابن حوقل، صورة الأرض، ص 185 - الحموي، معجم البلدان، ج 1، ص 273.
(299)
ينظر، رينو، غزوات، ص 208 وما بعدها - عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 425 وما بعدها - El-Hajji، Andalusian، p: 207-227.
(300)
ابن خلدون، العبر، ج 4، ص 164 - السامرائي " الجزائر الشرقية "، ص 162.
(301)
العبادي، دراسات، ص 271.
(302)
نصوص، ص 81.
(303)
العبادي، دراسات، ص 272.
(304)
رينو، غزوات، ص 228 وما بعدها - عنان، دولة الإسلام، ج 2، ص 415.
وبين الخليفة الناصر للسفير الأوروبي بأن حكومته ليست لها أية علاقة ولا أية سلطة على جبل القلال، وأنها لا تتحمل تبعة أعمالها. وبذلك أعطت خلافة قرطبة للسلطات الألمانية مطلق الحرية في اختيار السبل المناسبة لعلاج هذه المشكلة (305).
وفي عهد الخليفة الناصر تولى عبد الله بن عصام الخولاني حكم الجزائر الشرقية 300 - 350 هـ (306). ويبدو أن هناك عمالاً تولوا إمارة الجزائر الشرقية خلال هذه الفترة، ومن أشهرهم، رشيق مولى الناصر (مات غريقاً عام 343 هـ)، وكذلك جعفر بن عثمان المصحفي الذي تولى أمر الجزائر عام 333 هـ (307).
وأمر الخليفة الناصر عام 344 هـ بتأسيس مدينة المرية لتكون القاعدة البحرية المهمة في شرق الأندلس، وأصبحت هي وبجانة بابي الشرق كما يقول ياقوت (308). ونظم الخليفة الناصر شؤون البحرية فأنشأ عدداً كبيراً من دور الصناعة في مدن الأندلس: المرية - طرطوشة - الجزيرة الخضراء - مالقة وشلب وغيرها (309).
ونجح الأسطول الأندلسي في عصر الخلافة بإحباط محاولات المهدي الفاطمي ودعم حركة عمر بن حفصون عام 301 هـ، ثم تمكن الأسطول الأموي من الاستيلاء على مدينة مليلة سنة 314 هـ ومدينة سبتة عام 319 هـ، وكذلك مدينة طنجة. وكرر هذا الأسطوال هجومه البحري على بلاد عدوة المغرب عدة مرات في عام 333 هـ وفي عام 345 هـ (310).
وفي عهد الخليفة الحكم 350 - 366 هـ فقد أكد على ناحيتين: الأولى الاحتفاظ بسيطرة الأندلس على مضيق جبل طارق، والثانية صد الخطر النورماندي.
وعندما تمرد الحسن بن كنون (من بقايا الأدارسة) عام 361 هـ ضد الخليفة الحكم سير إليه الجيوش بقيادة وزيره محمد بن القاسم بن طلمس، ثم لحقت به الأساطيل الأندلسية بقيادة قائد البحر عبد الرحمن بن رماحس. وفي البداية أحرزت القوات
(305) السامرائى، الثغر الأعلى، ص 264.
(306)
ابن خلدون، العبر، ج 4، ص 164.
(307)
ينظر، ابن الآبار، التكملة، ج 1، ص 13 ترجمة (رقم 16) - الحلة السيراء، ج 1، ص 257 - ابن عبد الملك المراكشي، الذيل والتكملة، ج 1، ص 116 ترجمة رقم (154).
(308)
معجم البلدان، ج 5، ص 119.
(309)
ينظر، أبو الفضل، تاريخ مدينة المرية، ص 56 - 57.
(310)
ينظر، العبادي، دراسات، ص 73 - أبو الفضل، تاريخ مدينة المرية، ص 63.
الأندلسية النصر، إلا أن الهزيمة لحقت بها عام 362 هـ وقتل الوزير القائد محمد بن القاسم، فاستاء الحكم لذلك فأرسل قوات الثغور إلى المغرب بقيادة الوزير القائد غالب ابن عبد الرحمن، عام 362 هـ، ثم كتب إلى قائد أسطوله المرابط في طنجة عبد الرحمن ابن رماحس ومعاونيه سعد وقيصر، وغيرهم من القواد الدخول تحت إمرة القائد غالب.
وعندما أبحر غالب بجيوشه من الجزيرة الخضراء هبت عاصفة شديدة فرجع إلى ساحل الجزيرة وبعد أيام تحسن الجو فعبر القائد بالأسطول إلى عدوة المغرب، وفي الوقت نفسه اتجه قائد البحر ابن رماحس بأسطوله من طنجة إلى أصيلا كي يتعاون مع الأسطول الأندلسي المرابط هناك، ولكي يكون قريباً من القائد الأعلى غالب، وقد امتدح الخليفة الحكم هذه الخطة. وبتعاون الجيوش المشتركة فشلت حركة الحسن بن كنون عام 363 هـ، واستمرت الأندلس تفرض سيطرتها على مضيق جبل طارق (311).
وفي عهد الحكم المستنصر هاجم النورمان الأندلس عام 355 هـ، فعاثوا فساداً في منطقة قصر أبي دانس، ودارت معارك بحرية بين الطرفين قتل فيها الكثير. وبعدها تمكن أسطول إشبيلية من اللحاق بالأسطول النورماندي عند مصب وادي شلب فحطم معظمه، واسترد أسرى المسلمين (312). أما الغارات النورماندية الأخرى في عام 360 هـ وعام 361 هـ فيبدو أنها لم تستطع النزول إلى الشواطئ الأندلسية بفضل يقظة الأسطول الأندلسي الذي استطاع أن يبدد شملها بسهولة (313). وفي سنة 364 هـ استرد الفرنجة حصن فراكسنتيوم (جبل القلال)(314).
أما الجزائر الشرقية فتولى أمرها الموفق مولى الخليفة الناصر 350 - 359 هـ وجاء من بعده كوثر مولى الخليفة الحكم (359 - 389 هـ) ثم مقاتل مولى الحاجب المنصور 389 - 403 هـ (315).
اهتم الحاجب المنصور بالأسطول، واستخدمه في تثبيت الحكم الأموي الأندلسي في عدوة المغرب، فبواسطة هذا الأسطول نقل القوات الأندلسية إلى المغرب والتي قضت على حركة الحسن بن كنون عام 375 هـ، وعلى حركة الزعيم المغربي زيري بن
(311) ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 244 - العبادي، دراسات، ص 279 وما بعدها.
(312)
ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 239.
(313)
أيضاً، ج 2، ص 239 - ابن خلدون، العبر، ج 4، ص 314 - العبادي، دراسات، ص 286.
(314)
العبادي، دراسات، ص 304 - 305.
(315)
السامرائي، " الجزائر الشرقية "، ص 163.
عطية عام 389 هـ. وكانت مدينة سبتة هي القاعدة البحرية الرئيسية للعمليات الحربية الأندلسية في المغرب، فقد اهتم المنصور بتحصينها وتزويدها بالرجال والسلاح (316).
واستخدم الحاجب المنصور بعض وحدات الأسطول في حملاته على ساحل قطلونية عام 374 هـ، وفي نقل المشاة من جنوده في المحيط الأطلسي في حملته على جليقية عام 387 هـ وهي الحملة التي دمرت مدينة شنت ياقب (317). وفي عام 387 هـ أنشأ المنصور أسطولاً كبيراً في الموضع المعروف بقصر أبي دانس وحمل الأقوات والأسلحة إليه وجهزه بالبحارة المشهورين (318). وبعد أن تخلص المنصور من قادة البحر المشهورين عبد الرحمن بن رماحس، وغالب بن عبد الرحمن، لم يتول إمرة البحر من بعدهم ممن يملك كفاءتهم، فبدأ الأسطول الأندلسي بالأفول (319).
وجاء عصر الطوائف، وتقاسم ملوكه ورثة الأسطول الأندلسي واقتصر النشاط البحري على مراكز المرية ودانية والجزائر الشرقية في الشرق، وإشبيلية في الغرب.
استمرت المرية في رعايتها للأسطول سواء في ظل الزعيم الصقلي خيران العامري وأخيه زهير أو في ظل بني صمادح، ولكن هذا الأسطول لم يقم بعمل عسكري بحري كبير كما قام به أسطول دانية والجزائر الشرقية، ما عدا استخدامه للهروب إلى عدوة المغرب من قبل حاكم المرية معز الدولة بن المعتصم بن صمادح عام 484 هـ.
استهوى البحر الأمير مجاهد العامري (400 - 436 هـ)، وقرر أن يمد نفوذه البحري وراء هذه الجزائر، وكان نظره يصبو إلى سردينية. فجدد دار الصناعة القديمة. واستكثر السفن والمعدات الحربية. وبدأ مشروعه عام 406 هـ، حيث سار بأسطول مؤلف من 120 مركباً بأحجام مختلفة، وأعطى قيادته لأمير البحر (أبي خروب). وكانت المسافة بين دانية والجزائر الشرقية وبين سردينية تستغرق ثمانية أيام (320). وعندما وصل الأسطول الأندلسي لقي مقاومة من أهل الجزيرة، إلا أن القوات الأندلسية استطاعت فتح الجزيرة (321). وتم ذلك في ربيع الثاني عام 406 هـ وبدأ مجاهد بتأسيس مدينة فيها،
(316) أبو الفضل، تاريخ مدينة المرية، ص 73.
(317)
ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 295.
(318)
العبادي، دراسات، ص 289.
(319)
ينظر، العذري، نصوص، ص 82.
(320)
ينظر، ابن الخطيب، أعمال، ص 219 - عنان، دول الطوائف، ص 190.
(321)
جذوة المقتبس، ص 353.
وانتقل إليها بأهله وولده وبقي مجاهد وجيشه في سردينية ما يقارب سنة (322). وبعدها بدأ مجاهد العامري بمهاجمة سواحل إيطاليا القريبة، فقررت المدن الإيطالية إحباط هذا المشروع وتحالفت مع البابا لتحقيق الأمر. فسارت الأساطيل الإيطالية والأوروبية فحاصرت الجزيرة. ومما أحرج مركز المسلمين فيها تمرد الجند المرتزقة الإسبان في أسطول مجاهد، مع هبوب العواصف العاتية. فحلت الهزيمة المنكرة بالأسطول الأندلسي عام 407 هـ وقتل معظم رجاله، وأسر بعضهم ومنهم ولده علي وأمه (جود) الإسبانية، وأخوه وبعض نسائه (323)، ففشل هذا المشروع الكبير، وذكرت بعض الروايات أن مجاهداً العامري هاجم سردينية في عام 410 هـ وعام 441 هـ وأنه وقع أسيراً في أيدي الأعداء، وهذه روايات لا سند لها، لأن مجاهد توفي عام (436 هـ)، إلا أنها تدل على مقدار الفزع الذي أثاره هذا البحار المغامر في سواحل البحر المتوسط الغربية والشمالية بعد حملة سردينية (324). ومن الطريف، أن مجاهد العامري كان يحتفل بجزيرة ميورقة في صيف كل عام بعيد المهرجان (عيد العنصرة) في 24 حزيران، فيقوم الأسطول بعرض ومناورات وألعاب يحضرها مجاهد نفسه وأمراء الجزيرة فيما بعد، وقد امتدح الشاعر أبو بكر الداني المعروف بابن اللبانة هذا الاحتفال (325).
في الفترة المبكرة من عهد المرابطين ساهمت الخدمات البحرية التي قدمتها الأندلس وبخاصة إشبيلية إلى يوسف بن تاشفين هي التي مكنته في القضاء على إمارة سقوت البرغواطي صاحب الأسطول القوي. بعد أن تمت سيطرة المرابطين على سبتة وطنجة أفادوا من دور الصناعة القديمة فيها وأصلحوا سفنها (326). وقبيل عبور المرابطين إلى الأندلس لنجدتها تنازل المعتمد بن عباد عن ميناء الجزيرة الخضراء إلى يوسف بن تاشفين، وبذلك تحكم المرابطون في مضيق جبل طارق (327). وبعد خلع أمراء الطوائف، أصبحت الأندلس ولاية مرابطية، فأفاد المرابطون من إمكانياتها المادية والبشرية والاستراتيجية في تقوية أسطولهم البحري سواء فيما يتعلق بوجود الموانئ والربط ودور الصناعة والمواد الأولية اللازمة لصناعة السفن، أو توظيف قدرات الأسر
(322) السامرائي، " الجزائر الشرقية "، ص 169.
(323)
جذوة المقتبس، ص 353 - عنان، دول الطوائف، ص 193.
(324)
ينظر، عنان، دول الطوائف، ص 194.
(325)
المراكشي، المعجب، ص 215 - العبادي، دراسات، ص 315 - 316.
(326)
ينظر، العبادي، دراسات، ص 218 - 220.
(327)
ابن الخطيب، أعمال، ص 282.
الأندلسية التي كان عالمها المفضل البحر مثل أسرة بني ميمون المشهورة (328).
وعندما ضم يوسف بن تاشفين الأندلس إلى دولته، لم يتعرض بسوء لأمير الجزائر الشرقية (مبشر بن سليمان 486 - 508 هـ) لأن هذه الإمارة تقف حائلاً أمام هجمات الأساطيل الأوروبية ضد الأندلس.
لم تصمد الجزائر الشرقية طويلاً أمام هجمات الحملة الأوروبية البحرية الكبيرة عام 508 هـ، وأثناء الحصار توفي أمير الجزائر مبشر، فتولى أمرها أبو الربيع سليمان بن ليون الذي واصل المقاومة، وحاول مغادرة الجزيرة لطلب العون من المرابطين، إلا أنه وقع أسيراً بأيدي الأعداء، فدخلت القوات الأوروبية الجزائر الشرقية عام 508 هـ وعاثت فيها فساداً (329).
إلا أنّ الأسطول المرابطي لم يصل إلى الجزائر الشرقية، إلا بعد سيطرة العدو عليها (330)، وكان الأسطول المرابطي بقيادة أمير البحر (ابن تاقرطاس)، فلما علم الإيطاليون وحلفاؤهم باقتراب هذا الأسطول، انسحبوا من الجزيرة مثقلين بالسبي والغنائم، بعد أن أدركوا أنهم سيخوضون معركة غير مأمونة العواقب، وبعدها دخل المرابطون الجزيرة وشرعوا في تعميرها وذلك من عام 509 هـ (331). وبذلك تصبح الجزائر الشرقية ولاية مرابطية يديرها (وانور بن أبي بكر اللمتوني) الذي حكمها إلى سنة 520 هـ، ثم حكمها من بعده بنو غانية وأقاموا فيها إمارة مستقلة (332).
ولما سيطر روجار الأول على صقلية عام 485 هـ، أخذ النورمان يشنون هجماتهم البحرية على المهدية قاعدة بني زيري في تونس، فاستنجد الزيريون بأبناء عمومتهم المرابطين، فأرسل إليهم أمير المسلمين علي بن يوسف أسطوله البحري بقيادة أبي عبد الله بن ميمون فهاجم صقلية وفتح بعض المدن فيها وسبى الكثير من نسائها وأطفالها انتقاماً لأبناء جلدته في أفريقية. وكان ملوك النورمان في صقلية يتوجسون خيفة
(328) ينظر، المراكشي، المعجب، ص 279 - ابن الكردبوس، تاريخ الأندلس، ص 123 - العبادي، دراسات، ص 321.
(329)
ينظر، ابن الكردبوس، تاريخ الأندلس، ص 123 - الحميري، الروض المعطار، ص 188.
(330)
القلقشندي، صبح الأعشى، ج 5، ص 257.
(331)
السامرائي، " الجزائر الشرقية "، ص 181.
(332)
ينظر، ابن خلدون، العبر، ج 4، ص 165 - الحميري، الروض المعطار، ص 188 - محمود علي مكي، " وثائق تاريخية جديدة "، ص 161 - 162.
من الأسطول المرابطي، ولذا نراهم لم يحتلوا المهدية إلا بعد سنة 543 هـ أي بعد سقوط دولة المرابطين بقليل (333).
ورث الموحدون الأندلس من المرابطين، بما في ذلك الأسطول، وقد خضعت الأجزاء الغربية والوسطى للموحدين بسهولة، وبقي شرقي الأندلس يعارض الانضمام إلى المغرب. فقامت فيه إمارات بحرية مستقلة: أولاها إمارة المرية والتي أصبحت قاعدة بحرية لمهاجمة شواطئ إسبانيا الشمالية وإيطاليا وفرنسا، ونظراً لخطورتها هذه سيطرت عليها الأساطيل والجيوش الإسبانية والأوروبية عام 542 هـ وأصبحت تحت سيطرة الفونسو السابع (السليطين)، إلا أن الموحدين أعادوا المرية إلى حوزتهم عام 552 هـ (334). وثانيهما إمارة بني غانية المرابطية التي استقلت في الجزائر الشرقية، وبقيت تقاوم الحكم الموحدي في الأندلس وشمالي إفريقية فترة طويلة كما وضحنا ذلك. ومع هذا فكثيراً ما قامت هذه الإمارة بمهاجمة سواحل قطلونية وجنوبي فرنسا، كما كانت تربطهم بمدن جنوه وبيزا علاقات تجارية طيبة، وفي الوقت نفسه كانوا يهادون الموحدين دفعاً لخطرهم، إلى أن خضعت هذه الجزر لسلطة الموحدين عام 599 هـ (335).
وعزز الخليفة الموحدي الأول عبد المؤمن بن علي (524 - 558 هـ) سيطرة أسطوله على مضيق جبل طارق من أجل تأمين عبور أساطيله باستمرار بين المغرب والأندلس، فبنى مدينة الفتح على سفح جبل طارق عام 555 هـ (336). واهتم هذا الخليفة بتدريب شباب المغرب والأندلس على أعمال الفروسية، وتعلم السباحة وخوض المعارك البحرية، وأولى اهتماماً كبيراً بتدريبهم على ركوب السفن وكيفية قيادتها واستخدامها أثناء القتال (337). واهتم بالأسطول كذلك الخليفة الموحدي أبو يعقوب يوسف (558 - 580 هـ) وأولاه عنايته، واستخدمه في ضرب أوكار القراصنة في غربي الأندلس أولاً، كما شاركت أساطيله في معارك الجهاد ضد مملكة البرتغال الإسبانية وقاد
(333) ينظر: ابن عذاري؛ البيان، ج 4، ص 68 - ابن أبي دينار؛ المؤنس، ص 92 - العدوي، المجتمع المغربي، ص 284 - السامرائي، علاقات، ص 375 - 376.
(334)
أشباخ، تاريخ الأندلس، ج 1، ص 234.
(335)
المراكشي، المعجب، ص 344 - العبادي، دراسات، ص 321 - 322.
(336)
المراكشي، المعجب، ص 282 - ابن صاحب الصلاة، المن بالإمامة، ص 129 وما بعدها.
(337)
العبادي، دراسات، ص 343.
الأسطول الموحدي غانم بن مردنيش ودمر بعض سفن البرتغاليين وذلك في عام 575 هـ. وتبادل الطرفان النصر والهزيمة في حروب البحر، وقد أسر في إحداها غانم وأخوه أبو العلا وأطلقا بفدية كبيرة (338). وأراد هذا الخليفة أن يقود الجيوش بنفسه لتأديب مملكة البرتغال فعبر إلى الأندلس وحاصر مدينة لشبونة براً وبحراً، ثم حاصر مدينة شنترين، إلا أنه أصيب بهزيمة منكرة، واستشهد على أثرها عام 580 هـ (339). ومن أشهر قادة أساطيله أمير البحر أبو العباس الصقلي، وعلي بن الربرتير اللذان قادا أساطيله في معارك الجهاد هذه (340). وفي عهد الخليفة يعقوب المنصور (580 - 595 هـ) بدأ الأسطول البرتغالي بالتعاون مع الأساطيل الصليبية الأخرى الفرنسية والألمانية، بمهاجمة ثغور الأندلس الغربية وبخاصة مدينة شلب فسيطروا عليها عام 585 هـ، مما زاد في حراجة أمر الأسطول الموحدي. واستطاع هذا الخليفة الرد على هذا الهجوم الصليبي بأن عبر بقواته إلى الأندلس وهاجم أساطيل البرتغال في غربي الأندلس وانتصر عليها وذلك في عام 586 هـ، فاسترد مدينة شلب وقصر أبي دانس (341).
وفي عهد الخليفة الناصر (595 - 611 هـ) سيطرت الدولة الموحدية على الجزائر الشرقية عام 599 هـ بعد إعداد حملة بحرية كبيرة خرجت من دانية بقيادة ابن عمه أبي العلاء إدريس بن يوسف بن عبد المؤمن، والتي أفلحت في هذه المهمة (342). كما هاجم الأسطول الموحدي مملكة أرغون وأحرز على أساطيلها النصر وذلك عام 607 هـ (343).
وبعد هزيمة هذا الخليفة في معركة العقاب عام 609 هـ، بدأت المدن الأندلسية تتساقط بأيدي الممالك الإسبانية، وبدأ بعض زعماء الأندلس بالاستقلال أمثال محمد بن يوسف بن هود في مرسية، ومحمد بن يوسف بن نصر بن الأحمر في أرجونة وغرناطة.
وقد اعتمد ابن هود على الأسطول الأندلسي في هذه الفترة، وقد وضحنا كيف سيطر على سبتة ورباط الفتح وسلا في عدوة المغرب بعض الوقت. وبعد اغتيال ابن هود عام 635 هـ، بدأت مملكة غرناطة في الظهور على مسرح الأحداث.
أما الممالك الإسبانية فقد سيطرت على قرطبة عام 633 هـ، وعلى إشبيلية وقادس
(338) ينظر، ابن صاحب الصلاة، المن بالإمامة، ص 232 - العبادي، دراسات، ص 347 وما بعدها.
(339)
ابن أبي زرع، روض القرطاس، ص 141 - أشباخ، تاريخ الأندلس، ج 2، ص 74.
(340)
ابن القطان، نظم الجمان، ص 96 - العبادي، دراسات، ص 354 - 355.
(341)
المراكشي، المعجب، ص 356 - العبادي، دراسات، ص 362 - 364.
(342)
المراكشي، المعجب، ص 394.
(343)
العبادي، دراسات، ص 369.
عام 646 هـ، فصار لهم منفذ إلى مضيق جبل طارق، كما سقطت بلنسية عام 636 هـ، وجزيرة ميورقة عام 627 هـ وجزيرة يابسة عام 633 هـ وجزيرة منورقة عام 686 هـ (344)، وبقيت مملكة غرناطة فترة من الزمن تجاهد الإسبان إلى أن سقطت.
وملكت مملكة غرناطة ساحلاً طويلاً يمتد من المرية إلى مضيق جبل طارق والجزيرة الخضراء، مما جعلها تعتمد على أسطول قوي في مجاهدة الإسبان، كما جاهدتهم في البر. ومن قادة الأسطول الغرناطي المشهورين أسرة بني الرنداحي، وكذلك القائد الوزير أبو الحسن بن كماشة (345). وفي أعوام 706 هـ، 707 هـ، 708 هـ عمد السلطان محمد الثالث النصري (701 - 708 هـ) إلى مهاجمة جزر البليار، كما ضربت أساطيله سواحل مملكة أرغون الإسبانية (346). وأولت هذه الدولة رجال الأسطول برعايتها وأعطتهم أجوراً عالية (347). وحرصت مملكة غرناطة باستمرار على أن يكون مضيق جبل طارق مفتوحاً أمام النجدات المغربية، وبعيداً عن سيطرة الإسبان، كي يضل اتصالها بالعدوة المغربية مستمراً. وقد أضطرت غرناطة إزاء هذا الأمر إلى التنازل للمغرب عن بعض قواعدها الجنوبية المطلة على المضيق مثل جبل طارق والجزيرة الخضراء وطريف، ويتولى المغرب مهمة الدفاع عن هذه القواعد. وقد أدركت الممالك الإسبانية أهمية هذا الأمر فحاولت فرض سيطرتها على المضيق واحتلال قواعده كي تحول دون وصول الإمدادات المغربية إلى الأندلس (348).
النظم الاجتماعية:
خلال وبعد إتمام فتح الأندلس هاجرت أعداد كبيرة من المسلمين إليها، وكان أكثرهم من شمال إفريقية واستقروا في سائر أنحاء الأندلس. وليس من الصحيح أن المسلمين العرب استأثروا بأحسن النواحي في الأندلس (349). وإذا وجد بأن بعض مسلمي البربر قد سكنوا بعض النواحي الجبلية، فإن هذا يتناسب مع ما اعتادوا عليه من
(344) ينظر، ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 2، ص 318 - 319 - ابن الخطيب، أعمال الأعلام، ص 275 - 277 - العبادي، دراسات، ص 373 - 375.
(345)
ابن خلدون، العبر، ج 7، ص 247 - ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص 200.
(346)
فرحات، غرناطة، ص 96.
(347)
العبادي، دراسات، ص 399.
(348)
ينظر، فرحات، غرناطة، 96 - العبادي، دراسات، ص 400 - 401.
(349)
عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 71 - مؤنس، فجر الأندلس، ص 128، 388.
الشمال الإفريقي (350). مع العلم بأن هناك نواحي سهلة خصبة سكنها مسلمون من البربر (351)، مع غيرهم من المسلمين مثل كورة فحص البلوط الواقعة شمالي قرطبة ومدينتها غافق، وكورة السهلة وحاضرتها شنتمرية (شنتمرية الشرق)، والتي كان بنو رزين البربر من سكانها (352). وسكنها كذلك قبائل هوارة ومديونة البربرية، وتقع هذه الكورة بين سرقسطة وطليطلة والتي وصفت بالخصب (353). كما كان من رجالات البربر الداخلين الأندلس في حملة طارق بن زياد ومنهم (رزين البرنسي) كانت له أراضٍ زراعية بجوار قرطبة اشتهرت بزراعة الزيتون، وقد اشتراها عبد الرحمن الداخل من ورثته (354).
هذا مع الأخذ بنظر الاعتبار أن هناك أراضٍ في الشمال الإسباني كانت توصف بالخصب ووفرة الخيرات (355).
وخلاصة القول: أن سكنى المسلمين في الأندلس من عرب وبربر كانت حسب الرغبة قياساً لنوع الحياة السابقة وطبيعة الأرض التي اعتادوا عليها قبل العبور. فقد كانت الأرض الجبلية تناسب البربر لأنهم يرغبون سكنى الجبال والصحاري (356). كما يلاحظ أن بعض العرب سكنوا الجبال، وبعض البربر سكنوا السهول. وهذا حسب ما يرغب كل فريق دون إجبار أو إكراه (357). وسمي المسلمون الأوائل الذين عبروا مع موسى بطالعة موسى أو البلديين، وأغلبهم من القبائل اليمانية أصحاب الميل إلى التعمير والاستقرار، فقويت الصلات بينهم وبين الأرض وأهلها (358). ثم تبعتهم هجرات عربية أخرى بقيادة بلج بن بشر القشيري ودخلت الأندلس عام 123 هـ بما يقارب عشرة آلاف وعرفوا بطالعة بلج أو الشاميين (359). ثم الطالعة الثانية أو المسماة عسكر العافية التي رافقت الوالي أبا الخطار (125 - 127 هـ)(360). وقد وزع هذا الوالي طالعة بلج على
(350) بدر، دراسات، ج 1، ص 49 - 50.
(351)
ينظر، ابن حزم، جمهرة أنساب العرب، ص 499 - 502.
(352)
ابن سعيد، المغرب، ج 2، ص 427 - ابن حزم، جمهرة، ص 500.
(353)
ابن الآبار، الحلة، ج 2، ص 108 - ابن عذاري، البيان، ج 3، ص 181.
(354)
ابن حيان، المقتبس، ج 2، ص 234 - المقري، نفح، ج 1، ص 446 - 468.
(355)
مؤنس، رحلة الأندلس، 351.
(356)
ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 7، ص 23.
(357)
مؤنس، فجر الأندلس، ص 370 وما بعدها، ص 387 - الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 139.
(358)
مؤنس، فجر، ص 215 - ذنون، التنظيم الإجتماعي في الأندلس، ص 2.
(359)
مجهول، أخبار مجموعة، ص 37 - ابن الأثير، الكامل، ج 5، ص 251.
(360)
ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 34.
الكور والتي سميت بالكور المجندة (361).
وإذا عرفنا بأن ولاة الأندلس اهتموا بإدارة البلاد وتنظيمها مع حسن السياسة بالرعية، فلا بد أنهم اهتموا بنشر الإسلام والدعوة له بين الإسبان. ويجد الباحث أخباراً لمثل هذا الأمر في عملية فتح الشمال الإفريقي حيث يرسل الدعاة والفقهاء بجانب الجيش الفاتح لشرح مبادئ الإسلام (362). وربما نستدل من ذلك أن حملة طارق بن زياد إلى الأندلس ضمّت عدداً من الفقهاء مهمتهم تفقيه الجند ونشر الإسلام بين سكان المدن المفتوحة بجانب الجهاد في سبيل الله. ولعل الإثني عشر رجلاً من العرب في جيش طارق بن زياد هم الفقهاء (363). كما أن جيش موسى الذي عبر به إلى الأندلس بأعداده (18 ألف) مقاتل فيهم صحابي واحد وهو المنيذر الإفريقي، وعدد من التابعين (364). إن دور هؤلاء الفقهاء من التابعين -ما عدا الحربي- يدور حول تفقيه الناس أمور الإسلام وشرحه بيسر للإسبان الذين بدأوا يعتنقون الإسلام الذي أزال عنهم الحالة السيئة التي كانوا يعيشون بها قبل الفتح. وبجانب هدا الدور بنيت المساجد، فنرى موسى بن نصير يبني أول مسجد في الجزيرة الخضراء عرف بمسجد الرايات (365).
كما أسس حنش بن عبد الله الضعاني -مهندس المساجد في الأندلس- مساجد مدن البيرة وقرطبة وسرقسطة وغيرها (366). ومعروف لدينا في العصر الأول دور المسجد، الذي يتجاوز مراسيم العبادة، إلى دورِه العلمي والثقافي في نشر تعاليم الإسلام قبل ظهور المدارس.
كما وردت إشارة إلى المعلمين في عصر الولاة الذين يعلمون الصبيان قراءة القرآن، مما يدل على اهتمام واسع بنشر الإسلام (367). وتخبرنا الروايات عن انتشار
(361) ينظر، ابن القوطية، تاريخ، ص 20 - مجهول، أخبار مجموعة، ص 46 - ابن الآبار، الحلة، ج 1، ص 61 - 62 - ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، 102 - 104 ذنون، التنظيم الإجتماعي، ص 3.
(362)
الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 145.
(363)
المقري، نفح، ج 1، ص 239.
(364)
ينظر، ابن الآبار، التكملة ترجمة رقم 1847 - ابن الفرضي، تاريخ، ترجمة رقم 383، رقم 391، رقم 633، رقم 915 - ابن الكردبوس، تاريخ الأندلس، ص 49.
(365)
العذري، نصوص، ص 118 - الحميري، الروض المعطار، ص 75.
(366)
ينظر، جذوة المقتبس ترجمة رقم 403 - بغية الملتمس ترجمة رقم 687 - العذري، نصوص، ص 22 - 23 - ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص 92.
(367)
ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 1، ص 68.
الإسلام المبكر في الأندلس وكثر اتباعه، فلما رغب الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز (99 - 101 هـ) في نقل المسلمين من الأندلس، وشاور بذلك والي الأندلس السمح بن مالك الخولاني، تخلى عن هذه الفكرة عندما عرف بأن المسلمين قد كثروا في الأندلس وأنهم في قوة ومنعة (368). كما تشير الروايات إلى أن الوالي عقبة بن الحجاج السلولي (116 - 121 هـ) كان عندما يؤسر الأعداء يعرض عليهم الإسلام، فأسلم على يديه ألفا رجل (369).
ونظراً لسماحة تعاليم الإسلام، وعدالة رجاله، أقبل الإسبان على الدخول في الإسلام، وقد رجحنا إسلام يوليان المبكر حاكم سبتة، كما أن الرواية العربية تشير إلى إسلام قسي الزعيم البشكنسي الذي ذهب إلى الشام وأسلم على يدي الوليد بن عبد الملك (370). ومهدي بن مسلم، وهو من قدماء قضاة قرطبة، ومن أبناء المسالمة (الإسبان الذين دخلوا الإسلام، وأطلق على أولادهم لقب المولدين) أيام والي الأندلس عقبة بن الحجاج السلولي، وكان من أهل العلم والورع (371). كما كان اختلاط الإسبان بالمسلمين بأساليب مختلفة ساعد على نشر الإسلام بين الإسبان، ومن هذه الأساليب: المصاهرات والتي بدأت مبكرة في عصر الولاة، ولدينا بعض الأمثلة تدل على هذه الظاهرة، فتخبرنا الروايات أنه لما اختلفت سارة القوطية بنت المند بن غيطشة (ملك القوط قبل لذريق) مع عمها أرطباس (372)، ذهبت إلى الخليفة هشام بن عبد الملك تشكو ظلامتها من عمها فأنصفها. والظاهر أنها أسلمت ثم تزوجت في الشام من عيسى ابن مزاحم وقدما إلى الأندلس وسكنا مدينة إشبيلية (373). وقد أنجبت سارة من عيسى: إبراهيم وإسحاق، ولما توفي عيسى عام 138 هـ تزوجها عُمير بن سعيد فولدت له حبيب (374) كما تزوج والي الأندلس الأول عبد العزيز بن موسى من أيلة ( Egiliona) أرملة لذريق آخر ملوك القوط، وتسميها الرواية العربية أم عاصم (375). وبعض الروايات
(368) ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 26 - ابن القوطية، تاريخ، ص 39.
(369)
أيضاً، ج 2، ص 29 - المقري، نفح، ج 3، ص 19.
(370)
ابن حزم، جمهرة، ص 502 - الحجي، أندلسيات، ج 2، ص 11.
(371)
الخشني، قضاة قرطبة، ص 9 - النباهي، المرقبة العليا، ص 42.
(372)
ينظر، مؤنس، فجر الأندلس، ص 504.
(373)
المقري، نفح، ج 1، ص 267 - الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 159 - 160.
(374)
ابن القوطية، تاريخ، ص 30 - 32.
(375)
مجهول، أخبار مجموعة، ص 20 - ابن القوطية، تاريخ، ص 37 - ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 23 - المقري، نفح، ج 1، ص 281.
تجعلها ابنة لذريق، ويفهم من رواية ابن عذاري أنها بقيت على دينها (376). ولكن يستبعد أن تبقى أم عاصم غير مسلمة، والأكثر قبولاً -إذا كان أمر هذا الزواج موثوقاً- أن زواجه بأرملة لذريق قد تم بعد إسلامها (377). كما أشارت الروايات إلى أن أحد قواد الوالي وهو زياد بن نابغة التميمي تزوج إحدى بنات أمراء الإسبان أيضاً (378). وربما حصل لكثير من رجالات الأندلس في هذا العصر أمثال هذه المصاهرات، إذا عرفنا أن فاتحي الأندلس دخلوها رجالاً دون نساء على العموم.
وحين بدأ عصر الإمارة عام 138 هـ كان الإسلام قد تثبتت أركانه بعد أن دخل الإسبان فيه، كما رأوا من سماحة الإسلام وحسن خلق أهله، ومن بقي على دينه (العجم أو المستعربون من النصارى) ارتضى حكم المسلمين، وقد أشاد الكثير من الباحثين الغربيين بسياسة الفتح العربي لإسبانيا وآثارها الاجتماعية التي حطمت سلطة الأشراف والطبقات العليا، وحسنت أحوال الطبقات الفقيرة (379).
ومعنى هذا أن المجتمع الأندلسي في عصر الولاة أصبح يتألف من العرب (البلديون والشاميون) والبربر، والمسالمة المولدون والموالي (وهم موالي بني أمية من العرب والبربر وغيرهم) العجم أو المستعربون واليهود (380). وقد عاشت جميع هذه الفئات تحت ظل راية الإسلام وتجمعها سماحة العرب في الحكم والنظم ببلد الأندلس، وساهمت في تطور نظمه الاجتماعية.
ومن الملاحظ أن الهجرات العربية إلى الأندلس انتهت بنهاية عصر الولاة، فلم يفد منهم إلى الأندلس بعد ذلك إلا أفراد أو بيوت أو جماعات قليلة. أما البربر فقد كان تيار هجرتهم متصلاً، بحكم الجوار أولاً، وبحكم الجاذبية الخاصة التي كانت للأندلس على بربر الشمال الإفريقي ثانياً، ولأسباب سياسية وعسكرية ثالثاً (381).
(376) ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 24.
(377)
الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 159.
(378)
ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 23.
(379)
ينظر، عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 63 وما بعدها - الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 171 - سالم، تاريخ المسلمين، ص 130.
(380)
عن هذه العناصر وتكويناتها ينظر، سالم، تاريخ المسلمين، 119 وما بعدها - ذنون، التنظيم الاجتماعي 2 وما بعدها.
(381)
مؤنس، فجر الأندلس، ص 379.
أما عصر الإمارة 138 - 316 هـ، فقد حدثت فيه تطورات اجتماعية مهمة، ففترة التأسيس 138 - 172 هـ (عصر الداخل) وفترة التوطيد 172 - 206 هـ (عصر هشام والحكم)، تميزت بعدة ظواهر اجتماعية منها: كسر شوكة الأرستقراطية العربية، التي بدأ بها الأمير الداخل، وأحل محلها وحدة اجتماعية تشمل عصبية القبائل، وقد استخدم أمراء هذه الفترة الموالي بكثرة، واستعانوا بأقوام أعجمية في الجيش وبخاصة الصقالبة الذين أكثر منهم الأمير الحكم كما وضحنا. وفي هذه الفترة أيضاً برزت فئة المولدين وأصبح لها كيانها ومكانتها في المجتمع الأندلسي. ولا شك أن وجود مثل هذه الفئة قد زاد من الأكثرية الملمة بالأندلس، وصبغ الحياة الإسبانية بصبغة أكثر إسلامية وعروبة (382). ولكن في الوقت نفسه زاد تمرد المولدين في هذه الفترة مما أحرج مركز الإمارة وكلفها الكثير، فتمردوا في مدينة ماردة عام - 190 هـ وفي مدينة طليطلة عام 181 هـ، أي إنهم تمركزوا في مناطق الثغور لمناعتها العسكرية، وقد اجتمعت هذه الحركات على التخلص من حكم قرطبة مع إجماعها على كره العرب (383)، كتيار شعوبي.
ومن مظاهر هذا العصر ظهور شخصية المرأة في مجال الفن، وهذا بداية التأثير الحجازي على الأندلس. فقد استقدم الداخل بعض الجواري المدنيات وأسس لهن بالقصر داراً عرفت بدار المدنيات، لأن أغلبهن كن في المدينة التي اشتهرت بفنون الموسيقى والغناء. وكان من هؤلاء المغنيات المدنيات: فضل وعلم والعجفاء. كما كانت الجارية قلم وأصلها إسبانية من سبي البشكنس، ولكنها أُدبت في المدينة، لها دور مميز في هذه الفترة وعملت في دار المغنيات مع صواحبها (384). ويأتي بعدهما الثنائي الغنائي الحجازي (علون وزرقون) في عهد الأمير الحكم (385).
وشهدت الأندلس في هذه الفترة بداية الترف الاجتماعي المتمثل في بناء المنيات (قصور ريفية) خارج قرطبة كقصر الرصافة الذي بناه الداخل على سفح جبل قرطبة، وكذلك القصر الذي بناه ابنه عبد الله في مدينة بلنسية وأطلق عليه إسم الرصافة أيضاً (386). وقد حرص الداخل على جعل قرطبة صورة من دمشق في منازلها البيضاء
(382) هيكل، الأدب الأندلسي، ص 76.
(383)
بدر، دراسات، ج 1، ص 130 وما بعدها.
(384)
المقري، نفح، ج 2، ص 118 - كحالة، أعلام النساء، ج 4، ص 219.
(385)
أيضاً، ج 3، ص 130 - سالم، قرطبة، ج 2، ص 86.
(386)
بدر، دراسات، ج 1، ص 158.
ذات الأحواش الداخلية المزينة بالأزهار والورد ونافورات المياه، واشتهر الداخل بأنه كان يرسل بعض رجاله إلى المشرق لجلب أشجار الفاكهة من بلاد الشام (387). وقد أدى هذا الاستقرار الاجتماعي إلى أن يفتح المجتمع الأندلسي عيونه على بواكير الحضارة المشرقية (388).
وفي فترة الازدهار 206 - 273 هـ، تقدمت الأندلس في مجال الرقي الاجتماعي والحضاري، وقد ساعد على هذا رغبة أمراء هذه الفترة في الإصلاح والانفتاح أولاً، كما ساعد عليه كذلك ازدهار اقتصاديات الأندلس ثانياً. وقد أدى هذا الازدهار الاقتصادي إلى بروز مظاهر الترف والرفاه في حياة الأمراء وأقرانهم من أثرياء المجتمع الأندلسي على الأقل. ويتمثل هذا الترف في فتح أبواب الأندلس لتجارة العراق، فدخلته البضائع العراقية كالملابس وأدوات الزينة، وتذكر لنا بعض الروايات أن الأمير عبد الرحمن الأوسط اشترى من أحد التجار عقداً كان للسيدة زبيدة زوجة هارون الرشيد بمبلغ عشرة آلاف دينار، وأهداه إلى زوجته (389). وبالإضافة إلى مظاهر العيش الواسع للأمراء وكبار رجال الدولة الذي وفرته الأموال التي حصل عليها أفراد المجتمع الأندلسي، وانعكس هذا على شراء الجواري المشرقيات الحاذقات بالأدب وفنون الغناء كجواري الأمير عبد الرحمن الأوسط اللواتي جلبهن من بغداد (390). وانعكس أيضاً على بناء عدة منى (جمع منية) وهي عبارة عن قصر ريفي في ضواحي المدينة ضمن حدائق غناء (391). كما جاءت هجرة زرياب إلى الأندلس عام 206 هـ فأحدث في مجتمعها تغييراً كبيراً بما أدخله من عادات جديدة، وبما أشاعه من تقاليد راقية، وبما بعثه في المجتمع الأندلسي من روح التأنق والتجمل، بالإضافة إلى إشاعة الموسيقى والغناء وتأسيس أول مدرسة أندلسية لهذين الفنين (392).
(387) ينظر، ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 1، ص 37 - ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 60 - العبادي، في التاريخ العباسي والأندلسي، ص 318.
(388)
هيكل، الأدب الأندلسي، ص 77.
(389)
ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 91.
(390)
المقري، نفح، ج 1، 136 - ج 4، ص 136.
(391)
السامرائي، " أثر العراق الحضاري "، ص 13.
(392)
ينظر، ابن حيان، المقتبس، ج 2، ص 87 - المقري، نفح، ج 4، ص 118 - بروفنسال، حضارة العرب في الأندلس، ص 48 وما بعدها - لين بول، قصة العرب في إسبانيا، ص 79 - الحجي، تاريخ الموسيقى الأندلسية، ص 33 وما بعدها.
ولقد كان من نتائج وفود زرياب وانتشار مستحدثاته الاجتماعية والفنية أن شاع في المجتمع الأندلسي حب الترف والتأنق والأخذ بمتع الحياة، كما شاع كذلك الشغف بالموسيقى والتعلق بالغناء، والتورط أحياناً في اللهو والمجون. وقد ساعد على ذلك تحرر بعض الأمراء في هذه الفترة، مع وفرة الأموال، وانتشار الكروم والترخص في عصر الأنبذة وشربها، ثم كثرة القيان من مشرقيات وإسبانيات، مع وفرة الغلمان وخاصة من الصقالبة (393). ومما لا شك فيه أن هذا الأمر قد أدى إلى نوع من التحلل الاجتماعي وبعض الشرور التي أصابت الإمارة في هذه الفترة.
نتيجة الانفتاح الفكري والاجتماعي الأندلسي على المشرق في هذه الفترة، هبت التيارات المشرقية إلى الأندلس وأثرت في عقلية شعبها. ونرى هناك ظاهرة إقبال الإسبان في هذه الفترة على تعلم اللغة العربية وآدابها وتقليد عرب الأندلس في عاداتهم من مأكل وملبس وأمور اجتماعية أخرى. إزاء هذا الأمر كان لبعض رجال الدين الإسبان موقفٌ مُعادٍ لهذا التيار، أطنبت الروايات الغربية في ذكرها. هذا الموقف تصفه هذه الروايات بظاهرة الاستشهاد أو الانتحار الديني، وانحصرت أهداف هذه الظاهرة التي قامت منذ عام 235 هـ وإلى عام 244 هـ في محورين: الأول - محاولة إعادة بعض من أسلم حديثاً إلى دينه القديم من جديد، والثاني: الطعن بالإسلام ومبادئه وشتم رسول الله علناً في المساجد والساحات العامة. وقد عالجت حكومة قرطبة هذه الظاهرة بحكمة وحنكة فزال خطرها بعد حين (394).
وفي فترة الحرب الأهلية 275 - 300 هـ، ساد المجتمع الأندلسي نوع من الاضطراب بسبب اشتعال نواحي الأندلس بحركات التمرد والتي قاد معظمها المولدون -الذين يحملون عناصر الكره للعرب باستمرار، وكان زعيمهم عمر بن حفصون- وغيرهم، والذين تعاونوا مع الممالك الإسبانية من أجل إسقاط الحكم العربي بالأندلس، فظهرت في المجتمع الأندلسي خلال هذه الفترة ظاهرة الزهد، وتزعمها بعض العلماء والفقهاء وحتى بعض أفراد البيت الأموي أمثال الزاهد أحمد بن معاوية الملقب بالقط، فرابطوا في الثغور احتجاجاً على روح التحلل والفساد التي سادت
(393) هيكل، الأدب الأندلسي، ص 121 - 122 - ينظر، خالد الصوفي، تاريخ العرب في الأندلس (منشورات الجامعة الليبية)؛ ص 221 وما بعدها.
(394)
ينظر، لين بول، العرب في إسبانيا، ص 28 وما بعدها - بيضون، الدولة العربية، ص 244 وما بعدها - سالم، تاريخ المسلمين، ص 241 - 242. Provençal، op. cit; p: 255-239
المجتمع الأندلسي (395). كما أن حالة الفوضى التي عمت بلد الأندلس خلال هذه الفترة دفعت بعض النفوس إلى طلب الطمأنينة والبحث عن الأُنس في مجلس غناء أو حلقة سماع أو جماعة ندمان، هروباً من الحالة المتردية التي يعيشها المجتمع الأندلسي (396).
بالإضافة إلى أن حالة التحضر الاجتماعي بقيت مستمرة في المجتمع الأندلسي خلال هذه الفترة، حتى في حالة اضطراب الحالة السياسية. وكان من المظاهر الاجتماعية لهذه الفترة تمزق المجتمع الأندلسي وانفصام عرى الوحدة بين أبنائه فنرى تكتل العرب في جهة، والإسبان تكتلوا أيضاً وكذلك البربر والمولدون، فبرزت فيهم زعامات تؤيد الفرقة وتذكي نار العنصرية (397).
إلا أن هذا الأمر حسم في عصر الخلافة 300 - 422 هـ فقد استطاع عبد الرحمن الناصر أن يعيد إلى العرب في الأندلس وحدتهم، فقضى على كل الزعامات، وبرزت بصورة واضحة ظاهرة القومية الأندلسية.
فإذن الظاهرة الاجتماعية الأولى التي يمكن ملاحظتها هي وحدة المجتمع العربي في الأندلس، ومن ثم انصراف سكانه إلى العمل بجد ونشاط، فتكاثرت الأموال سواء للدولة أو للأفراد. مما أدى إلى أن يتأنق الأندلسيون حكاماً وشعباً في البناء. فبنى الناصر مدينة الزهراء ومدينة المرية وغيرها، وقد أطنبت الروايات التاريخية في وصف هذه المدن (398). كما وصلت العاصمة قرطبة في هذه الفترة إلى أوج جمالها وأناقتها فازدحمت بالقصور والحدائق الغناء والنافورات الكثيرة والحمامات الوفيرة وغيرها (399).
ومما يشير إلى الرخاء الاقتصادي في عصر الخلافة، تلك الهدايا الثمينة التي قدمها الوزراء إلى الناصر والحكم المستنصر، فهدية الوزير أحمد بن عبد الملك بن شهيد عام 327 هـ إلى الخليفة الناصر وهدية الحاجب جعفر المصحفي إلى الخليفة الحكم المستنصر، تعتبران من أشهر الحوادث الاجتماعية في هذا العصر، وتدلان على رفاء المجتمع الأندلسي أيضاً (400)، على الرغم من وضوح ظاهرة الاستغلال في جمعها.
(395) ينظر، بدر، دراسات، ج 1، ص 262 - 263.
(396)
ينظر، ابن حيان، المقتبس، ج 3، الخاص بعصر الأمير عبد الله، ففيه نماذج بمثل هذه الأمور.
(397)
هيكل، الأدب الأندلسي، ص 122، 181 - 182.
(398)
ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 231 - نجلة العزي، مدينة الزهراء.
(399)
سالم، قرطبة، ج 2، ص 19 وما بعدها - سالم، تاريخ المسلمين، ص 292 وما بعدها.
(400)
ينظر، ابن خلدون، العبر، ج 4، ص 138، ص 144 - عنان، دولة الإسلام، ج 2، ص 460، ص 512.
ويلاحظ في فترة الخلافة أيضاً علاقات المصاهرة مع الإسبان ويروى أن الخليفة الناصر كان حفيد سيدة نافارية، وكان هو نفسه ابن جارية إسبانية تسمى مزنة (401). وأطرف ما في الأمر أن طوطة ( Toda) الملكة الوصية على عرش النافار (توفيت عام 349 هـ) كانت عمة الناصر من جهة الأمومة كما تذكر بعض الروايات اللاتينية (402). والخليفة الحكم المستنصر تزوج من امرأة نافارية وهي صبح (أم الخليفة هشام المؤيد)، وهي التي ساعدت الحاجب المنصور على تمكنه من السلطة من الأندلس (403).
كما كانت هناك علاقات مصاهرة بين أسرة بني قسي المولدة حكام الثغر الأعلى وبين حكام النافار في الشمال الإسباني (404). وبطبيعة الحال فإن الأمر ينعكس على عامة الشعب، وبخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار حالة الجهاد المستمرة في هذه الفترة مع الممالك الإسبانية فيقع الكثير من الأسرى بيد المسلمين.
وفي فترة الحجابة تزوج الحاجب المنصور من تريسا إبنة برمودة الثاني ملك ليون (405). ومن ثم تزوج من إبنة شانجة الثاني بن غرسية ملك النافار والمسماة عبدة، وكانت من خيرة نسائه ديناً وجمالاً وكان ولده عبد الرحمن (شنجول) لقب على هذا الأساس تصغيراً لإسم جده لأمه شانجة (406).
وحفل عصر الحجابة بالمنشآت العمرانية كمدينة الزاهرة ذات القصور المنيفة والحدائق الغناء. ومن ثم ابتنى إلى جانبها مدينة جميلة ذات قصر وحدائق رائعة وكان يرتادها للنزهة وسماها العامرية، كما اشتهر ببناء القناطر وغيرها (407).
كما عرف عصره بمجالس الأنس والراحة، وكان للحاجب المنصور مثل هذه المجالس، وكان يشاركه وزرائه في رحلات أنس في نهر الوادي الكبير (408). ووصف
(401) ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 156.
(402)
الحجي، أندلسيات، ج 1، ص 83 - 84 - Provençal، op. cit، I، P: 392
(403)
ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 253 - ابن سعيد، المغرب، ج 1، ص 194.
(404)
ينظر، السامرائي، الثغر الأعلى، ص 340 وما بعدها.
(405)
الحجي، أندلسيات، ج 1، ص 79.
(406)
ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 3، ص 38 - ابن الخطيب، أعمال، ص 66، ص 73 - عنان، دولة الإسلام، ج 2، ص 583.
(407)
ينظر، البيان، ج 2، ص 287 - 288، ص 299 - عنان، دولة الإسلام، ج 2، ص 575.
(408)
ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 299.
بمعاقرة الخمر، ولازمته هذه الصفة طوال حياته (409). وربما نميل إلى أنها من التهم التي ألصقت به. وبسبب حملات الجهاد الكثيرة التي قادها الحاجب المنصور والتي تكلل معظمها بالنصر، فقد امتلأت الأندلس في عصره بالغنائم والسبي من بنات الإسبان، فأقبل الناس على الزواج من الإسبانيات تاركين بنات الأحرار، فكان الرجل صاحب البنت يغالي في تجهيز بنته من أجل الإقبال على الزواج منها (410).
وهكذا عادت إلى المجتمع الأندلسي في فترة الحجابة بعض الأمراض الاجتماعية التي كان قد برئ منها في عصر الخلافة. فقد أدى استخدام الحاجب المنصور للمرتزقة من البربر والصقالبة ومسيحيي الإسبان، إلى نوع من الانفصال بين الشعب والجيش، وأحياناً إلى وجود الكراهية بينهما. كما أن سلوك الحاجب المنصور في الوصول إلى السلطة، قد أدى إلى تفشي روح الطمع، وشيوع التطلع إلى الغلبة، هذا بالإضافة إلى مجالس اللهو والشرب التي ولع بها الحاجب المنصور مع ظهوره بمظهر المتعصب للدين والحامي لمبادئه (411).
وازداد تفكك المجتمع الأندلسي خلال فترة الفتنة 399 - 422 هـ، وساد الاضطراب والقلق عامة الناس بسبب الصراعات السياسية المريرة، واختلف الناس في مشاربهم من أجل التخلص من هذا الوضع المضطرب، فمنهم من غرق في الملذات أمثال محمد بن هشام بن عبد الجبار الذي وصف بالخلاعة والمجون (412).
ومنهم من يميل إلى العزلة، ومنهم من جارى الأحداث ودخل في معترك الفتنة وذاق خيرها وشرها (413).
ثم سقطت الخلافة الأندلسية عام 422 هـ وقام بالأندلس عصر الطوائف فاهتز المجتمع الأندلسي المتعدد الأجناس والذي يتألف من العرب والبربر والصقالبة والمستعربين وغيرهم. فمع انتشار القلق الاجتماعي وشيوع الاضطراب والعنف، تشكلت التكتلات العرقية فأصبحت الوسيلة الوحيدة للحصول على الأمن، فقامت
(409) عنان، دولة الإسلام؛ ج 2، ص 578 - هيكل، الأدب الأندلسي- ص 268.
(410)
ينظر، المراكشي، المعجب، ص 84.
(411)
ينظر، هيكل، الأدب الأندلسي، ص 268 - 269.
(412)
ابن عذاري، البيان، ج 3، ص 79 - 80.
(413)
ينظر، هيكل، الأدب الأندلسي، ص 348 - 349.
إمارات الطوائف المعروفة. وامتاز هذا العصر بالحروب المستمرة بين أمراء الطوائف، وحتى بين الإمارات ذات الأصل الواحد (414). وكان الجشع الفردي والحرص على الكسب وإيثار المصلحة الشخصية عوامل تطغى أحياناً على جميع الاعتبارات الأخرى في هذه الفترة، وأحياناً داخل الإمارة نفسها (415).
وأفرز هذا الوضع السياسي للأندلس، وجود طبقة الخاصة التي كبرت وتنوعت في كل بلاط من بلاطات أمراء الطوائف، وهناك الطبقة العامة. وتخلل هذا العصر وجود طبقة واعية أدركت مصير الأندلس وما وصل إليه من تفكك، فجابت بلاد الأندلس تدعو إلى الوحدة ولمّ الشمل ومن أبرز زعماء هذه الطبقة ابن حزم وأبو الوليد الباجي (416).
وقد قاسى الشعب الأندلسي في ظل حكم أمراء الطوائف الأمرّين. فبجانب الفتن الداخلية، قاسى الشعب من جشع ملوك الطوائف الذين جعلوا من إماراتهم ضياعاً خاصة وجعلوا رعاياهم عبيداً، ينهبون أموالهم، وثمار كدهم، إرضاءً لشهواتهم في إنشاء القصور الباذخة، واقتناء الجواري والعبيد، والانهماك في حياة الترف، هذا بالإضافة إلى دفع الإتاوات إلى ملوك الإسبان والارتماء في أحضانهم من أجل البقاء والمحافظة على كرسي مهزوز، فأصيب الشعب بخيبة أمل مريرة (417)، وساد التمزق النفسي في المجتمع الأندلسي وعلت أصوات الرحيل عن الأندلس، وبخاصة بعد سيطرة النورمان على مدينة بربشتر عام 456 هـ، وسيطرة ألفونسو السادس على طليطلة عام 478 هـ (418). وبرزت في هذا العصر عصابات الأشرار التي قادها الكمبيادور وغيره والتي عاثت في بلد الأندلس فساداً، كما ظهرت مجموعة من الشخصيات القلقة المغامرة التي قدمت خدماتها لأي أمير تلقى عنده العون والتأييد، أمثال شخصية الشاعر ابن عمار وزير المعتمد بن عباد، وبعض الفقهاء الذين أوقع عليهم بعض المؤرخين مسؤولية تضييع الأندلس (419).
وكان أكثر ملوك الطوائف يتسمون بضعف الإيمان والعقيدة، والاستهتار بأحكام
(414) ينظر، محمد بن عبود، التاريخ السياسي، ص 30.
(415)
ينظر، كتاب التبيان، ص 90، ص 95، ص 106 وما بعدها.
(416)
ينظر، السامرائي " الدعوة إلى توحيد الأندلس "، ص 82 وما بعدها.
(417)
إحسان عباس، تاريخ الأدب الأندلسي، ص 39، ص 41.
(418)
ينظر، السامرائي، علاقات، ص 47 - 48.
(419)
إحسان عباس، الأدب الأندلسي، ص 34، ص 37.
الدين، وهو ما سجله عليهم ابن حزم في كتاباته، وكانت قصورهم المترفة الأنيقة تزدان بمجالس الشعر والأدب، وتحفل في الوقت نفسه بمجالس الأنس والطرب، والنساء والغلمان والخمر (420)، وهذه أمور شغلت حيزاً كبيراً في آداب هذا العصر وشعره.
وكانت مجتمعات الطوائف المرهقة المنحلة تتأثر بهذه الروح الإباحية، وتميل إلى اقتناء المتعة المادية واللذة الحسية بمختلف ضروبها، وكان هذا الانحلال الشامل يجتاح يومئذ سائر طبقات المجتمع الأندلسي (421). ومع كل هذا فقد احتلت المرأة الأندلسية مكانة محترمة في عصر الطوائف، وألف فيها الأندلسيون الكتب مثل كتاب (طوق الحمامة في الألفة والأُلاّف) لابن حزم (422). كما نالت نصيبها الوافر من العلوم والفنون والآداب (423)، كولادة بنت الخليفة المستكفي مثلاً (424).
وتمتعت الأندلس منذ انضوائها تحت سيادة المرابطين باستقرار سياسي وهدوء إجتماعي، فتحررت في ظل هذا العهد من كثير من المكوس والمغارم الظالمة التي فرضها ملوك الطوائف لإرضاء جشع ملوك الإسبان من جانب، وللإنفاق على قصورهم المترفة التي شهدت أنواع البذخ والإسراف (425).
وقد شعر عامة الشعب الأندلسي في هذا العهد بنوع من التحسن المادي في حياته لأنهم انصرفوا إلى الأعمال السلمية، وإلى تحصيل أقواتهم في هدوء وسلام بينما حمل المرابطون مسؤولية الجهاد بالدرجة الأولى، وبذلك عم الرخاء والعيش الرغيد بلد الأندلس في عهد يوسف وإبنه علي (426).
وليس من السهل بمكان تصور المكانة الاجتماعية للمرأة الأندلسية في العصر المرابطي، إذ أن الروايات التي أشارت لهذا الموضوع اهتمت فقط بمنزلة المرأة الصنهاجية والتي تمتعت بنصيب كبير من الحرية سمح لها بالتدخل في مناحي الحياة
(420) ينظر ابن عبدون، في القضاء والحسبة، ص 47.
(421)
عنان، عصر الطوائف، ص 424.
(422)
ينظر، الطاهر مكي، دراسات عن ابن حزم، ص 224 وما بعدها.
(423)
سعد شلبي، البيئة الأندلسية، ص 58.
(424)
المقري، نفح، ج 5، ص 336 وما بعدها - السامرائي، علاقات، ص 459.
(425)
جرجي زيدان، تاريخ التمدن الإسلامي، ج 5، ص 159 - 161 - سعد شلبي، البيئة الأندلسية، ص 54 - 55.
(426)
ينظر، الحلل الموشية، ص 59.
المختلفة (427). وليس في هذه الروايات ما يوضح مقدار انعكاس ذلك على المرأة الأندلسية، فانتقال التقاليد والقيم الاجتماعية لا يتم بصورة سريعة، وإنما يتطلب وقتاً طويلاً لتقبل تلك الأمور واستساغتها (428). ولكن يمكننا أن نستنتج من هذه الروايات منزلة المرأة وقيمتها الاجتماعية في الأندلس خلال هذه الفترة، فالقصائد المدبجة بمدحهن أو رثائهن تشير بلا شك إلى ما يكنه الرجل إتجاههن من ود واحترام، وتدل على ما كان لهن من سلطة واسعة في الحياة الإدارية (429). ثم نحس بارتفاع صوتها الأدبي وحريتها في التعبير عن مشاعرها بصراحة في مجالس تعقدها مع شعراء العصر كالمجالس الني ذكرتها المصادر للشاعرة (نزهون الكلاعية) مع الشاعر الأعمى المخزومي (430).
وكان الأندلسيون يحترمون المرأة ويقدرونها، سواء كانت زوجة أو جارية. فنستدل من تشددهم في بيع الجواري - بحيث يتطلب شرائهن حضور كاتب العقود وتبيان الأسباب المقنعة التي تطلب الجارية من أجلها بكل دقة (431)، على مدى تقديرهم للمرأة، وقد قوى المرابطون في الأندلس الشعور باحترام المرأة ربة الدار ومحاربة الكثير من وسائل اللهو والمجون التي سادت في عصر الطوائف، وذلك طبقاً لما يقتضيه المثل الأعلى البربري الذي ظل متعلقاً بنظام إجتماعي أولي يقوم على الأمومة أولاً، وتشدد المرابطون في تطبيق مبادئ الإسلام ثانياً (432).
كما أن بعض الأحداث السياسية دفعت يوسف بن تاشفين أن يتبع سياسة مشددة ضد اليهود في الأندلس، وبخاصة يهود اليسانه (433)، ولكن هذا لم يمنع من استخدام اليهود في أعمال الكتابة في الأندلس. فتشير بعض المصادر إلى أن والي غرناطة المرابطي (أبو عمر ينالة اللمتوني) كان له كاتب يهودي (434). كما وجدت طائفة من اليهود في المغرب تزاول أعمالها نهاراً في المدن المغربية، وقد حرم عليهم أمير
(427) بروفنسال، الإسلام في المغرب والأندلس، ص 299.
(428)
السعيد، الشعر في عهد المرابطين والموحدين، ص 49.
(429)
إحسان عباس، تاريخ الأدب الأندلسي، ص 31.
(430)
ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص 424 - 426.
(431)
حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام، ج 4، ص 643.
(432)
السامرائى، علاقات، ص 461.
(433)
أشباخ، تاريخ الأندلس، ص 482.
(434)
ابن عذاري، البيان، ج 4، ص 77.
المسلمين علي بن يوسف المبيت فيها ليلاً، وذلك كإجراء وقائي من خطر اليهود (435).
كما شهدت منطقة المغرب العربي في ظل المرابطين وفود طائفة جديدة من النصارى المعاهدين الذين غُرِّبوا من الأندلس عام 520 هـ، وذلك نتيجة تعاون هؤلاء مع ألفونسو الأول المحارب ملك أرغون أثناء حملته المدمرة على الأندلس 519 هـ، وقد أفتى قاضي الجماعة أبو الوليد محمد بن رشد بتغريبهم ونفيهم إلى المغرب (436).
ولا ينكر أن هذا التغريب لم يشمل جميع المعاهدين، كما أن أمراء المرابطين حرصوا على حسن الرعاية لهؤلاء سواء في الأندلس أو المغرب. فقد حصل أن معاهدي غرناطة رفعوا عريضة إلى علي بن يوسف ضد عاملها المرابطي (أبو عمر حفيد يوسف بن تاشفين) يحتجون فيها على سوء سيرته معهم، فاستدعاه علي إلى مراكش وأحاله إلى جلسة تحقيقية انتهت بالحكم عليه بالسجن (437).
إزاء هذه الأحداث، أشارت بعض المراجع إلى أن أهل الذمة عاشوا مضطهدين في دولة المرابطين (438). ولكن الأمر لا يعدو، وكما بيناه أعلاه، إلا احتياطات ضرورية للأمن، إضافة إلى أنّ اليهود والمسيحيين عملوا في جباية الأموال في ظل دولة المرابطين (439).
ثم مال المرابطون إلى ألوان الترف بعد اختلاطهم بالأندلسيين واطلاعهم على أساليب الحياة في المدن الأندلسية، وبخاصة وأن عهد الطوائف عرف صوراً كثيرة من المجون والخلاعة (440)، مما جعلهم يتأثرون بحياة الرفاهية والمتعة التي كان يحياها أبناء الأندلس (441). وقد استنكر محمد بن تومرت هذه الأحوال على المرابطين وحاربها بشتى الوسائل (442).
ولما كان اللثام شعار المرابطين، فقد اتخذ بعض العامة وبخاصة في الأندلس اللثام
(435) عبد العواد، الحياة الإدارية، ص 414.
(436)
ابن الآبار، المعجم، ص 160 - سالم، قرطبة، ج 1، ص 144.
(437)
ميراندة، " علي بن يوسف "، ص 174 - 175.
(438)
ينظر، حتي، تاريخ العرب، ج 2، ص 646 - بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، ج 2، ص 188 - عبد البديع، الإسلام في إسبانية، ص 34 - 35.
(439)
أشباخ، تاريخ الأندلس، ج 2، ص 238.
(440)
أحمد ضيف، بلاغة العرب في الأندلس، ص 43.
(441)
حسن أحمد محمود، قيام دولة المرابطين، ص 422 - 423.
(442)
السامرائي، علاقات، ص 464.
زياً لهم تطاولاً على الناس وترفعاً (443)، ومن هنا حتم ابن عبدون بأن اللثام لا بد أن يكون خاصاً بالصنهاجي أو اللمتوني أو اللمطي بالأندلس (444).
وخلال الحكم المرابطي للأندلس تلوح لنا ظاهرة اجتماعية جديرة بالإشارة وهي ظاهرة المدجنين، أي الأندلسيين الذين بقوا في مدنهم تحت سيطرة الممالك الإسبانية.
هذه الممالك التي بدأت تسيطر على أهم قواعد الأندلس اعتباراً من عام 478 هـ حيث سيطر ألفونسو السادس على مدينة طليطلة واتخذها عاصمة لمملكته. وتلا هذا التاريخ سيطرة الإسبان على قواعد أندلسية خلال الحكم المرابطي. وقد تعرض هؤلاء المدجنون إلى الاضطهاد والتنصير والإفناء بعد انتصار المرابطين في معركة الزلاقة عام 479 هـ. وبمرور الزمن تعرضت هذه الجماعات إلى الانحلال والانقراض بتوالي الأجيال، وانقطاع الصلة بمواطن العروبة والإسلام، فأخذوا يفقدون الكثير من أخلاقهم وتقاليدهم ولغتهم. ومع ذلك فقد ظلت بقايا قليلة منهم، رغم الإرهاب، محتفظة بعروبتها حتى أواخر القرن السادس عشر الميلادي (445).
وانضوت الأندلس تحت الحكم الموحدي القائم على الدين أيضاً، فسادت حياة الجهاد والخشونة على البلاد في البداية، وكرس خلفاء الموحدين جهودهم في إشاعة الأمن والاستقرار في ولاياتهم. ولما بلغ الخليفة عبد المؤمن عودة بعض الناس إلى مجالس الغناء والطرب أصدر مرسوماً عام 556 هـ إلى ولاته بمطاردة هؤلاء وإزالة المنكرات (446). وسار على نهجه ولده أبو يعقوب يوسف (558 - 580 هـ) فنعمت الأندلس في عهده بالاستقرار والهدوء، ووصف هذا الخليفة بالتدين ورغبته في الجهاد (447)، وتوفي متأثراً بجراحه كما هو معروف. وفي عهد الخليفة المنصور (580 - 595 هـ) جاهر بالمذهب الظاهري وجعله المذهب الرسمي. وطارد علم الفروع، وحارب المذهب المالكي وعمل على إزالته من المغرب والأندلس (448). وهذا الأمر رغم كونه عقائدياً، إلا أن له صفة إجتماعية تتعلق بمعتقدات الناس اليومية.
كما نشط هذا الخليفة بمطاردة مظاهر الفساد والفجور حتى أنه منع صنع الثياب
(443) إحسان عباس، تاريخ الأدب الأندلسي، ص 46.
(444)
ثلاث رسائل أندلسية، ص 28.
(445)
بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ص 507 وما بعدها.
(446)
أبو رميلة، علاقات، ص 430.
(447)
السعيد، الشعر في عهد المرابطين والموحدين، ص 31.
(448)
المراكشي، المعجب، ص 354 - 355.
الحريرية (449). وقد نال هذا الخليفة إعجاب عامة الناس وأنزلوه منزلة الأولياء وحاكوا حوله الأساطير، التي تعبر عن خيال العامة التي ازداد تعلقها بهذا الخليفة (450). وبعد موت هذا الخليفة أخذت دولة الموحدين بالأفول، ولا سيما بعد معركة العقاب عام 609 هـ. وتولى بعد الناصر ملوك ضعفاء لعبت بهم الأهواء وتجاسرت عليهم العامة، فأوجدت هذه الحالة نوعاً من القلق والتمزق النفسي في بلد الأندلس، فأكثر الشعراء من الشكوى، الشكوى من الدهر ومن الظلم ومن الفقر ومن الفساد (451). هذا بالإضافة إلى ميل ولاة الأمر إلى شراء الجواري وتعليمهن الغناء، فقد كان لدى (أبو علي بن يبقى) والي مالقة جارية علمها الغناء فطلبها منه أبو العلاء المأمون فلم يستجب لطلبه، فلما تولي المأمون الخلافة عام 626 هـ أحضر إليه أبا علي وضرب عنقه في إشبيلية (452).
وكان للمرأة مكانة مرموقة بالأندلس في عصر الموحدين، وهو استمرار للعصر السابق، ونستدل من آراء ابن رشد فيلسوف الموحدين علو المكانة التي وصلت إليها المرأة. فإبن رشد يرى أنه لا اختلاف بين الرجال والنساء في الطبع وإنما هو اختلاف في الكم، أي أن طبيعة النساء تشبه طبيعة الرجال، ولكن النساء أضعف من الرجال في الأعمال. فطالب بإفساح المجال للنساء بالعمل وإعطائهن حرية التفكير (453). ولعل هذه النظرة هي التي شجعت الشعراء على رثاء زوجاتهم دون أي خجل، وخير مثال رثاء ابن جبير زوجته أم المجد بديوان شعر كامل (454). وفي عصر الموحدين يلمع إسم الشاعرة حفصة الركونية، وأخريات غيرها (455)، كن يقلن غزلاً صريحاً دون حرج أو خوف من عرف إجتماعي (456).
وتزوج الخلفاء الموحدون من سبايا الإسبان، واعتباراً من عهد الخليفة أبي يعقوب يوسف، ولهذا كان بعض أولاده وأولاد أولاده من هؤلاء الإسبانيات (457). وتميز هذا
(449) عنان، عصر الموحدين، ص 142 - ينظر، أبو رميلة، علاقات، ص 431.
(450)
المقري، نفح، ج 4، ص 382 - السعيد، الشعر في عهد المرابطين، ص 33.
(451)
السعيد، الشعر، ص 217 وما بعدها.
(452)
أبو رميلة - علاقات، ص 431.
(453)
أحمد أمين، ظهر الإسلام، ج 3، ص 257.
(454)
عبد الله المراكشي، الذيل والتكملة، ج 5، ص 608.
(455)
ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص 491 وما بعدها - المقري، نفح، ج 1، ص 292.
(456)
السعيد، الشعر، ص 51.
(457)
المراكشي، المعجب، ص 336، ص 404.
العصر أيضاً بإسلام بعض أمراء الإسبان، وبخاصة من مملكة قشتالة، حيث لجأ إلى الموحدين وأعلن إسلامه وتسمى باسم (أبو زكريا) وأصبح قائداً في الجيش الموحدي.
ووجد بالمقابل أن أحد أمراء الموحدين اعتنق المسيحية (458). واضطهد خلفاء الموحدين يهود الأندلس، وخيرهم عبد المؤمن بن علي بين الموت أو الهجرة إلى الشمال الإسباني أو الإسلام. فأسلم منهم طائفة ولحقت أخرى بدار الحرب (الشمال الإسباني)، وشمل الأمر المسيحيين كذلك (459). وهذا يدل على سياسة متعصبة تنافي سماحة تعاليم الإسلام وموقفه من أهل الذمة. كما أجبر الخليفة أبو يوسف يعقوب (580 - 595 هـ) يهود المغرب على التحلي بزي خاص، يميزهم عن غيرهم (460). ومن الطبيعي أن ينسحب هذا الأمر على ولاية الأندلس الموحدية.
وعلى كل حال فإن النصارى في الأندلس كانوا أكثر حرية من اليهود، فلم يميزوا بلباس معين، كما أن الشعب الأندلسي يحس تجاههم بروابط عريقة لا يمكن أن يقارن بموقفه من اليهود (461).
وفي عصر مملكة غرناطة، فإن العناصر السكانية في المجتمع النصري تتألف من العرب والبربر وبعض الجاليات الإسلامية التي وصلت الأندلس قادمة من الهند وخراسان وإيران وسكنت ضواحي غرناطة (462). وهذه العناصر تشكل طائفة المسلمين بالمملكة.
وسادت في هذه المملكة موجة الاعتزاز بالعروبة وبالانتماء إلى قبائلها وخصائصها (463).
وحظي المسيحيون برعاية هذه المملكة وحمت الكثير من سكان الشمال الإسباني الذين لجأوا إليها واعتنق قسمٌ منهم الإسلام. كما سهلت هذه المملكة للمسيحيين الإسبان حرية التجارة (464). وبالإضافة إلى هؤلاء وجد الأسرى الذين كثر وجودهم في مملكة غرناطة بسبب حروب الجهاد. وقسم من هؤلاء الأسرى اعتنق الإسلام فعرف هؤلاء بالمرتدين، وقد لاقوا الأمرين بعد سيطرة الإسبان على مدن هذه الدولة (465).
(458) أبو رميلة، علاقات، ص 463 - 464.
(459)
ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، ج 5، ص 281.
(460)
المراكشي، المعجب، ص 383.
(461)
السعيد، الشعر، ص 53، ص 58.
(462)
ينظر، ابن بطوطة، الرحلة، ج 2، ص 769.
(463)
ينظر، المقري، نفح، ج 1، ص 447 - ج 5، ص 7، ص 16، ص 479.
(464)
فرحات، غرناطة، ص 108، ص 110.
(465)
أيضاً، ص 112.
ووجدت طائفة في مملكة غرناطة تسمى (الفكاكين) ومهمتها تسهيل تبادل الأسرى بين مملكة غرناطة والممالك الإسبانية، وقد عرف الفكاكون بالاستقامة والصدق وتمتعوا بثقة الطرفين، ونالوا أجوراً عالية بدل أتعابهم (466).
وفي الوقت الذي استقبل فيه السلطان محمد الخامس عام 766 هـ ثلاث مائة عائلة يهودية هربت من اضطهاد القشتاليين، مع لجوء يهود البليار وقطلونية إلى مملكة بني الأحمر، إلا أن بعض سلاطين بني الأحمر أجبروا اليهود على وضع شارة تميزهم عن المسلمين، ومنعوا من ركوب الجياد (467)، ولقي هؤلاء اليهود الاضطهاد عندما سقطت مملكة غرناطة بيد الإسبان.
وكانت للمرأة مركز جيد في مجتمع غرناطة، وقد عرف هذا المجتمع عدداً منهن اشتهرن في ميادين الأدب والعلم والسياسة، ومثال على ذلك: مريم أم إسماعيل التي كانت محظية لدى يوسف الأول، وكان لها الدور البارز في خلع محمد الخامس.
وتزعمت الصراع على السلطة عائشة الحرة زوجة أبي الحسن علي بن الأحمر وخليلته ثريا، وهذا ما دفع بملك بني الأحمر إلى الهاوية. ومن النساء اللواتي اشتهرن في اللغة والأدب حمدونة بنت زياد وحفصة بنت الحاج الركونية، وأم الحسن بنت أبي جعفر الطنجالي التي لمع إسمها في حقلي الطب والأدب (468).
وعلى الرغم من عدم الاستقرار السياسي في هذه المملكة فقد ظهرت فيها مجالس اللهو والترف حيث الشراب والرقص والغناء. ومعنى هذا أن المجتمع الغرناطي لم ينس حياة المرح حتى في أيام المحن، ولم تغمره الكآبة إلا عندما دق الإسبان أبواب غرناطة (469).
وكان الطاعون الأسود الذي انطلق من آسيا الوسطى عام 735 هـ ووصل إلى أوروبا ماراً ببلاد إيطاليا وفرنسا ومنها إلى إسكندنافيا في عام 748 هـ، وصلت رياحه إلى البليار وبرشلونة وبلنسية والمرية في عام 749 هـ، ثم انتقل إلى مالقة، فحصد آلاف الناس من سكان مملكة غرناطة، وبخاصة مدن غرناطة وبلش ومالقة. كما عرف المجتمع النصري
(466) فرحات، غرناطة، ص 113 - 114.
(467)
ينظر، ابن الخطيب، اللمحة البدرية، ص 84 - المقري، نفح، ج 1، ص 223 - فرحات، غرناطة، ص 115 - 116.
(468)
ينظر، المقري، نفح، ج 4، ص 318 - فرحات، غرناطة، ص 122.
(469)
فرحات، غرناطة، ص 138 - 139.
الاهتمام بالصحة العامة، واشتهر المارستان في غرناطة والذي بني في عهد السلطان محمد الخامس، وكان هذا البناء مؤلفاً من جناحين واحد للرجال وآخر للنساء وكل جناح يتألف من طبقتين. بينهما بهو كبير في وسطه بركة ماء تصب فيها النافورات (470).
كما كانت رياضة الصيد وسباق الخيل ورمي الجريد من أهم أعمال التسلية في المجتمع النصري، ولعلها تمارين عسكرية مبسطة يتدرب عليها أفراد المجتمع الذي تتطلب ظروفه اليقظة والحذر والبسالة على الدوام (471).
النظم القضائية:
تعتبر خطة القضاء بالأندلس من أعظم الخطط عند الخاصة والعامة وذلك لتعلقها بأمور الدين، مع احترام ولاة الأمر فيها لهذه الخطة وتطبيقها على أنفسهم وحاشيتهم إذا اقتضى الأمر ذلك (472).
وخلال عصر الولاة 95 - 138 هـ كانت الأندلس في فترة قلقة تعتمد الجهاد في سبيل الله في الشمال الإسباني أو وراء جبال البرتات، بالإضافة إلى بعض الصراعات الداخلية. ومعنى هذا أن صفة الجندية كانت غالبة على أهلها. ولهذا سمي القاضي في هذه الفترة بقاضي الجند (473). وهذا تقليد قضائي موجود في شمال إفريقية خلال هذه الفترة (474).
وأشهر قضاة الجند المسلمين في الأندلس خلال عصر الولاة ثلاثة هم: القاضي مهدي بن أسلم، وهو من أبناء المسالمة، والقاضي عنترة بن فلاح والقاضي يحيى بن زيد التجيبي (475). ومن خلال تراجم هؤلاء القضاة يتبين لنا ما يلي:
1 -
إن بعضهم، القاضي يحيى بن زيد، على رواية إنه تولى قضاء الأندلس بأمر من الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز (99 - 101 هـ)(476). وفي رواية أخرى إن والي
(470) ينظر، فرحات، غرناطة، ص 134 - 135.
(471)
ينظر، ابن الخطيب، اللمحة البدرية، ص 90 - المقري، نفح، ج 7، ص 174.
(472)
ينظر، المقري، نفح، ج 1، ص 217 - الحجي، القضاء، 211.
(473)
الخشني، قضاة قرطبة، ص 14.
(474)
ينظر، المالكي، رياض النفوس، ج 1، ص 57 - الدباغ، معالم الإيمان، ج 1، ص 202.
(475)
ينظر، الخشني، قضاة قرطبة، ص 8 - 14 - النباهي، المرقبة العليا، ص 42 - 43 - ابن الآبار، التكملة، ج 2، ص 731.
(476)
النباهي، المرقبة العليا، ص 43 - الخشني، قضاة قرطبة، ص 14.
إفريقية حنظلة بن صفوان الكلبي إلى الأندلس الوالي أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبي (125 - 128 هـ) ووجه معه يحيى بن يزيد التجيبي قاضياً (477).
2 -
والي الأندلس هو الذي يعين قاضي الجند، كما هو حال القاضي مهدي بن أسلم الذي ولاه هذا المنصب والي الأندلس عقبة بن الحجاج السلولي (116 - 121 هـ)(478).
3 -
وصف جميع هؤلاء القضاة بالورع والتقوى، مع تميزهم بالتحري عن الحق، وإرجاعه إلى أهله، مع براعتهم في البلاغة والخطابة (479).
4 -
كان هؤلاء القضاة يتقبلون النقد من الناس، ويصلحون أمورهم على ضوء هذا النقد، لأن القاضي يجب أن يكون صافي السريرة كورعه وتقواه في الظاهر، كما حصل للقاضي عنترة بن فلاح (480).
5 -
وجد تقليد قضائي أندلسي خلال هذه الفترة بكتابة عهد تولية القاضي من قبل الوالي، ووجد أيضاً من باب إكرام القاضي أن القاضي نفسه كتب عهد التولية لنفسه كما حصل للقاضي مهدي بن أسلم (481). ومن خلال هذا العهد نرى:
أ - التلطف مع الخصوم والاستماع لكل ما يقولون، وهذا تقليد إسلامي منذ فجر الإسلام.
ب - تعقد مجالس القضاء في المسجد.
ج - وردت في العهد وظائف تابعة لمنصب القضاء وهي:
1 -
وظيفة الفتيا والمشورة وأعوان القاضي (المعينون).
2 -
الشهود والمزكون (الذين يزكون حجج الخصوم).
3 -
الاستعانة بالقاضي إبراهيم بن حرب. ولا توجد لدينا معلومات عن هذا القاضي (482)، لكن يبدو لنا أن هذا القاضي كان قاضي الجماعة في قرطبة، وأن مهدي
(477) الخشني، قضاة قرطبة، ص 14.
(478)
النباهي، المرقبة العليا، ص 42.
(479)
الخشني، قضاة قرطبة، ص 9 - النباهي، المرقبة العليا، ص 43.
(480)
أيضاً، ص 13.
(481)
ينظر، الخشني، ص 9 وما بعدها.
(482)
مؤنس، فجر الأندلس، ص 648.
ابن أسلم والقضاة الآخرين كانوا قضاة الجند الذين يفصلون في أمر الجند في العاصمة أو عندما يخرجوا معهم في معارك الجهاد، ودليلنا على ذلك، أنه على الرغم من وضوح منصب قاضي الجماعة بقرطبة في عصر الإمارة (483)، لكن بقي منصب قاضي الجند بقرطبة وتولاه محمد بن بشير (توفي عام 198 هـ)(484).
6 -
واحترم الحكم العربي في الأندلس خلال هذه الفترة أهل الذمة من اليهود والمسيحيين، وجعل لهم الحرية الكاملة في اختيار قضائهم وفض المنازعات التي تقع بينهم بموجب قوانينهم الخاصة ولا تتدخل الدولة في أمورهم، ولهذا وجد اسم قاضي العجم أو القومس. وفي الحالات التي يقع فيها الخصام بين مسلم وذمي يقوم القاضي المسلم بفض المنازعات، ولذا يجلس هذا القاضي في رحبة المسجد لكي يتمكن أهل الذمة الوصول إليه بيسر (485).
وفي عصر الإمارة 138 - 316 هـ، استقرت الدولة العربية في الأندلس وبدأت نظمها تظهر أكثر وضوحاً مما كانت عليه في عصر الولاة. ولذا نرى في هذا العصر الاهتمام بنظم القضاء، وقد سار عبد الرحمن الداخل وأولادهُ وأحفادهُ الذين حكموا الأندلس من بعده على اختيار القضاة الجيدين الذين لا تأخذهم في الحق لومة لائم.
ولهذا نرى من خلال كتب التاريخ التي تترجم حياة كل أمير أموي تشير إلى أهم قضاته (486)، ونرى من خلال الكتب الأندلسية التي اهتمت بالقضاء أنها تروي حياة القاضي مشيرة إلى اسم الأمير الذي ولاه القضاء (487).
ولنظام القضاء في هذا العصر عدة مميزات أهمها:
1 -
قاضي العاصمة قرطبة يسمى قاضي القضاة أو قاضي الجماعة وكانت سلطته لا تتجاوز حدود الإقليم أو المدينة نفسها. وكان للمدن والأقاليم الأندلسية الأخرى قضاة لا علاقة لهم بقاضي الجماعة، ولكن أحياناً كان الأمير يستشير قاضي الجماعة في تعيين
(483) الخشني، قضاة قرطبة (المقدمة ز).
(484)
النباهي، المرقبة العليا، ص 21.
(485)
ينظر، مؤنس، فجر الأندلس، ص 447، ص 526 - الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 141، ص 158.
(486)
ينظر، ابن عذاري، ج 2، ص 48 وما بعدها - الخشني، قضاة قرطبة، ص 15 وما بعدها.
(487)
ينظر، النباهي، المرقبة العليا، ص 43 وما بعدها - الخشني، قضاة قرطبة، ص 15 وما بعدها.
قضاة الأقاليم، وأحياناً يقوم بمهمة التحقيق مع قضاة الإقليم عندما يكلفه الأمير بذلك (488).
وقاضي الجماعة يقيم في العاصمة، وبقي منصب قاضي الجند الذي يرافق الجيوش في حلها وترحالها، وربما جمع المنصبان في شخص واحد كالقاضي يحيى بن زيد التجيبي فإنه كان قاضي الجماعة وقاضي العسكر لخروجه مع الأمير في الغزوات (489).
2 -
ومن خلال دراسة نظام القضاء في عصر الإمارة، نرى إحجام عدد كبير من الفقهاء والعلماء على تولي خطة القضاء، وقد تذرعوا بحجج كثيرة للتخلص من تولي هذا المنصب، فمنهم من هرب بعد إجباره على تولي القضاء، ومنهم من تعرض للخطر بسبب امتناعه، لأن هذا الامتناع كان يغضب الأمير الأموي، الذي يوشك أن يفتك بهذا الرجل، ومنهم من مد عنقه لضربه بالسيف تحدياً لسلطة الأمير وامتناعاً عن قبول هذا المنصب. وأكثر الأحيان يخضع الأمير الأموي لرغبة الممتنع، ولكن يترجاه أن يشير عليه بمن يصلح أن يتولى هذا الأمر (490).
3 -
من المعروف أن للقاضي راتباً حددته له الدولة من بيت المال (491)، ولكن نرى في الأندلس أن بعض القضاة أمثال محمد بن إسحاق بن السليم كان يصيد السمك في نهر قرطبة ويقتات من ثمنها ولا يؤخذ رزقاً من الدولة (492). ووجد من قضاة الأندلس من امتنع عن أخذ الأجور عن يوم العطل والجمع، وعن الأيام التي لم ينظر فيها للقضاء بسبب انشغاله بأمور أخرى أمثال القاضي سليمان بن أسود الغافقي، وعمر بن شراحيل المعافري وغيرهم، ومنهم من بقي على حاله لم يغيره المنصب أمثال القاضي محمد بن سلمة الذي بقي يسكن داراً للإيجار (493).
4 -
وجد في نظام القضاء الأندلسي خلال عصر الإمارة، نظام المناوبة على منصب
(488) الخشني، قضاة قرطبة، المقدمة ح.
(489)
مؤنس، فجر الأندلس، ص 645 - إبراهيم الدوري، عبد الرحمن الداخل، ص 244.
(490)
ينظر، النباهي، المرقبة العليا؛ ص 12 وما بعدها.
(491)
ظافر القاسمي، نظام الحكم، ج 1، ص 218.
(492)
ابن سعيد، المغرب، ج 1، ص 214 (هذا نموذج في عصر الخلافة ضربناه مثلاً للتدليل).
(493)
ينظر، الخشني، قضاة قرطبة، ص 22 - 73، ص 95.
قاضي الجماعة بقرطبة، فيعطى عاماً لقاضي، وعاماً لقاضي آخر، وقد تناوب على هذا المنصب القاضي معاوية بن صالح الحضرمي والقاضي عمر بن شراحيل المعافري، وإذا نسي الأمير (وبخاصة في عصر الداخل) عملية المناوبة يذكره القاضي صاحب الدور بهذا الأمر (494).
5 -
وعهد إلى القاضي بجانب منصبه الرسمي أعمالاً أخرى، فالأمير عبد الرحمن الداخل كلف القاضي معاوية بن صالح الحضرمي بأن يذهب إلى بلاد الشام لجلب أخته أم الأصبغ، وهو الذي جلب للأندلس بعض تحف أهل الشام منها الرمان والذي عرف فيما بعد بالرمان السفري (495).
وبجانب القضاء تولى هذا القاضي أيضاً الصلاة في المسجد الجامع وكذلك الخروج في الجيش للجهاد في سبيل الله، حيث خرج هذا القاضي مع الأمير الداخل في غزوة سرقسطة التي حارب بها ابن الأعرابي. والقاضي الفرج بن كنانة الذي خرج مع القائد عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث إلى الشمال الإسباني يمارس الجهاد ورابط هناك (496).
6 -
ونرى من خلال دراستنا لنظام القضاء الأندلسي في عصر الإمارة، تميز القضاة بصفة الورع والتقوى والصلابة التي تصل أحياناً إلى تحدي الأمير وحاشيته. فنرى مثلاً القاضي نصر بن طريف اليحصبي يقف بصلابة أمام الأمير عبد الرحمن الداخل حول قضية حبيب القرشي (497). وكذلك القاضي المصعب بن عمران قاضي الأمير الحكم الذي حكم عدلاً في قضية ضيعة أحد أهالي جيان متحدياً الأمير وقريبه العباس بن عبد الملك الذي اغتصب هذه الضيعة (498). وكذلك القاضي محمد بن بشير المعافري الذي تولى القضاء للأمير الحكم على شروط منها: أن أحكامه تطبق على الجميع من الأمير إلى حارس السوق. وبالفعل نفذ أحكامه على الأمير الحكم حول رحى القنطرة، ورفض كذلك شهادة الأمير الحكم في قضية سعيد الخير بن الأمير عبد الرحمن الداخل (عم
(494) أيضاً، ص 22.
(495)
أيضاً، ص 17.
(496)
ينظر، الخشني، قضاة قرطبة، ص 17 - 18، ص 91 - المرقبة العليا، ص 54.
(497)
النباهي، المرقبة العليا، ص 44.
(498)
أيضاً، ص 46 - الخشني، قضاة قرطبة، ص 26.
الأمير الحكم) (499).
وكان الموقف الصلب الذي وقفه القاضي سليمان بن الأسود الغافقي في وجه الأمير محمد والي ماردة، في عهد أبيه الأمير عبد الرحمن، في قضية الجارية التي تعود لليهودي، هذا الموقف هو الذي دفع الأمير محمد عندما تولى الحكم أن يعين هذا القاضي، قاضياً للجماعة بقرطبة (500).
7 -
كان قضاة الأندلس، وبالذات قاضي الجماعة، إذا أشكل عليهم أمرٌ قضائي أو فقهي، استعانوا برأي زملائهم قضاة المشرق، وهذا يدل بوضوح على الصلات الفكرية المتصلة التي تتجاوز الخلافات السياسية. فنرى القاضي يحيى بن معمر قاضي الأمير عبد الرحمن الداخل إذا أشكل عليه أمرٌ كتب به إلى القاضي أصبغ بن الفرج وزملائه في مصر. وكذلك القاضي محمد بن بشير المعافري قاضي الأمير الحكم إذا أشكل عليه الأمر كتب إلى القاضي عبد الرحمن بن القاسم. هذا بالإضافة إلى رحلة بعضهم إلى المشرق بنفسه كرحلة القاضي عامر بن معاوية قاضي الأمير المنذر (501).
8 -
من المعروف لدينا، أن علماء الأندلس عموماً كانوا يشدون الرحال إلى المشرق للتزود بالعلوم ومن ثم الرجوع إلى الأندلس لينشروها في ربوع بلادهم. ولكن وجد لدينا ومن خلال دراسة نظام القضاء في عصر الإمارة، ونظراً للمكانة الجليلة التي وصل إليها قاضي الجماعة في قرطبة، أن علماء من المشرق رحلوا على الأندلس، وأخذوا منه العلم، أمثال القاضي معاوية بن صالح الحضرمي الذي رحل إليه زيد بن الحباب من الكوفة فسمع منه بالأندلس حديثاً كثيراً (502).
9 -
وجد خلال دراستنا للقضاء في هذا العصر تهاون بعض القضاة في أحكامهم مما دفع الأمراء إلى عزلهم والاستغناء عن خدماتهم، وهذا التهاون تراوح بين الاستعجال في الأحكام مثل القاضي معاذ بن عثمان الشعباني (503)، أو التهاون في إقامة حد شرعي، كتهاون القاضي محمد بن زياد اللخمي في سفك دم ابن أخ عجب حظية
(499) النباهي، المرقبة العليا، ص 48 - 49 - الخشني، قضاة قرطبة، ص 29.
(500)
ينظر، أيضاً، ص 56 - 57 - أيضاً، ص 73.
(501)
ينظر، النباهي، المرقبة العليا، ص 45، ص 48 - الخشني، قضاة قرطبة، ص 35، ص 90.
(502)
النباهي، المرقبة العليا، ص 43.
(503)
النباهي، المرقبة العليا، ص 55.
الأمير الحكم الذي اتهم بالزندقة (504).
10 -
ويبدو كذلك، أن نظام القضاء في الأندلس واعتباراً من عصر الإمارة كان مكتمل الجوانب، فهناك مجلس الشورى أو المشاورة الذي يجمعه الأمير في أمر جلل، ويشمل قاضي الجماعة وفقهاء الأندلس وسمي هذا المجلس بالأندلس بـ (مجلس النشمة)، هذا المجلس هو الذي نظر في قضية ابن أخ عجب المارة الذكر (505). وكان كذلك للقاضي أعوان يسمون بـ (أعوان القاضي) وهم الذين يستدعون الخصوم إلى مجلس القضاء في المسجد الجامع (506).
وهم الذين يسمون أيضاً بـ (القَوَمة)، وهناك الأمناء الذين يعتمد عليهم القاضي وهم الذين يشرفون على التركات والودائع (507). كما كان للقاضي كاتب، كما وجد السجن لمعاقبة المخالفين. وهناك صاحب الوثائق الذي يقدم وثائق الدعاوى لكي ينظر فيها القاضي (508).
وفي عصر الخلافة 316 - 422 هـ، استمرت هذه القواعد العامة للقضاء ثابتة الأركان، تنمو وتزدهر تحت رعاية خلفاء قدروا أهمية القضاء فاختاروا لهذا المنصب أفقه الناس وأكثرهم علماً وتديناً. فنرى القاضي الصلب الذي لا يخشى في الحق لومة لائم أمثال المنذر بن سعيد البلوطي الذي تعرض للناصر علناً وانتقده على إسرافه في بناء مدينة الزهراء، وكان رد فعل الناصر أنه أقسم أن لا يصلي وراءه في مسجد الزهراء.
وكان يذهب إلى قرطبة ويصلي في مسجدها (509). ونجد كذلك الصلاحيات الواسعة التي أعطيت للقاضي، فكان الناصر إذا خرج من العاصمة استخلف على قصره القاضي أسلم ابن عبد العزيز، بالإضافة إلى تكليف القاضي بمهمات أخرى مثل السفارات إلى كبار الأمراء، والإشراف على الثغور، وقيادة الجيوش إلى الشمال الإسباني أمثال القاضي محمد بن عبد الله بن أبي عيسى، والقاضي الحسن بن عبد الله الجذامي (510).
(504) الخشني، قضاة قرطبة، ص 59 وما بعدها.
(505)
ينظر، الخشني، قضاة قرطبة، ص 59، ص 92، ص 101.
(506)
النباهي، المرقبة العليا، ص 57 - الخشني، قضاة، ص 108.
(507)
ينظر ظافر القاسمي، نظام الحكم، ج 2، ص 417، ص- 42 - الخشني، قضاة، ص 110.
(508)
الخشني، قضاة، ص 114 - 115.
(509)
النباهي، المرقبة العليا، ص 66 وما بعدها - ص 83.
(510)
أيضاً، ص 60 - ظافر القاسمي، نظام الحكم، ج 2، ص 294.
من المميزات المهمة التي ظهرت في النظام القضائي خلال عصر الخلافة هي: 1 - أسرف بعض القضاة أمثال القاضي أسلم بن عبد العزيز في ضرب الجناة والمخالفين بالسياط (511)، ويبدو أن هذه الظاهرة أصبحت مكروهة لدى القضاة الآخرين، فلهذا نرى القاضي أحمد بن بقي بن مخلد والقاضي محمد بن يبقى بن زُرب، لم يضربا أحداً بالسياط، إلا من استحق ذلك من الفسقة والمارقين (512).
2 -
تولى القاضي مهمات جديدة خلال هذه الفترة، وهي مطاردة المذاهب الفلسفية بالأندلس، وبخاصة مطاردة أتباع مدرسة ابن مسرة الفلسفية المشهورة، فتولى هذه المهمة القاضي محمد بن يبقى بن زرب بمطاردة أتباع هذه المدرسة، ومقارعتها فكرياً كذلك بوضع كتاب يرد فيه على آراء ابن مسرة (513). كما تولى بعض قضاة قرطبة محاربة الملاهي ومجالس الطرب، ويأمر أتباعه بكسر أدواتهم (514).
3 -
في عصر الخلافة وبالذات في فترة الحجابة، سمي قاضي الجماعة بقرطبة بقاضي القضاة وأول من تسمى به القاضي أبو العباس أحمد بن عبد الله بن ذكوان، وهو الذي شارك المنصور في معظم غزواته، وأفرد له بيتاً خاصاً داخل القصر لكي يكون قريباً من الحاجب المنصور حتى يشاوره في معظم الأمور (515).
4 -
ضمت إلى قاضي القضاة مناصب أخرى مهمة كمنصب الوزارة الذي أضيف إلى ابن ذكوان (516)، وصاحب المظالم (ولاية المظالم) التي أعطيت إلى القاضي أبي المطرف عبد الرحمن بن محمد بن فطيس، مع خطة الوزارة أيضاً والصلاة (517)، وهي صلاحيات واسعة جداً كما نرى.
وخلال فترة الفتنة 399 - 422 هـ نرى أن نظام القضاء أصابه الخلل الذي عم سائر نظم الأندلس، ومن المميزات الجديدة التي ظهرت في هذه الفترة:
(511) الخشني، قضاة قرطبة، ص 108 - ص 113.
(512)
النباهي، المرقبة العليا، ص 63، ص 78 - الديباج المذهب، ج 2، ص.
(513)
أيضاً، ص 78.
(514)
الخشني، قضاة قرطبة، ص 119.
(515)
النباهي، المرقبة العليا، ص 84.
(516)
أيضاً، ص 86.
(517)
أيضاً، ص 87 - ظافر القاسمي، نظام الحكم، ج 2، ص 577.
1 -
انتهاك حرمة القضاء، وإهانة القاضي الذي أصبح أضحوكة وألعوبة بيد الغوغاء، كما حصل للقاضي يحيى بن وافد اللخمي الذي تخلص من الصلب بأعجوبة، إلا أنه سجن ومات في سجنه عام 404 هـ (518).
2 -
تعطيل خطة القضاء أكثر من ثلاث سنوات خلال هذه الفترة وبالذات في عهد حكم سليمان بن الحكم (المستعين 403 - 407 هـ) وقد أعادها بنو حمود مرة أخرى وعهدوا بها إلى القاضي عبد الرحمن بن بشر (519).
ولما سقطت الخلافة الأندلسية عام 422 هـ كان للقضاة نصيب وافر من تركتها، فأبو الحزم بن جهور قاضي الجماعة في قرطبة أسس دولة الجهاورة فيها (520). والقاضي إسماعيل بن عباد قاضي إشبيلية، أسس بها إمارته فقامت إمارة بني عباد فيها (521).
والقاضي محمد بن الحسن الجذامي النباهي الوزير القاضي في إمارة بلقين بن باديس في غرناطة ومالقة، حيث تولى خطة القضاء والوزارة في جميع كورة رية (522) ونرى خلال عصر الطوائف عدة مظاهر فيما يتعلق بالقضاء:
1 -
جرف تيار الفتنة بعض القضاة، وركضوا وراء أهوائهم فأيدوا الفرقة والانقسام، وكانوا أكبر عضد لأمراء الطوائف في تبرير طغيانهم وظلمهم وتزكية تصرفاتهم (523).
2 -
تزعم صالح العلماء وخيرة القضاة الدعوة إلى توحيد الأندلس في أيام الطوائف، مدفوعين للقيام بهذا العمل سواءً حسبة لله تعالى، أو بتكليف من بعض أمراء الأندلس ويأتي في مقدمة هؤلاء القضاة الصالحين: القاضي أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي (524). وشاركه في هذه المهمة ابن حزم الأندلسي من خلال نقده اللاذع لملوك الطوائف، وكذلك ابن حيان (525).
(518) النباهي، المرقبة العليا، ص 88 - 89.
(519)
أيضاً، ص 89.
(520)
عنان، دولة الطوائف، ص 21 وما بعدها.
(521)
محمد ابن عبود، التاريخ السياسي، ص 44 وما بعدها.
(522)
النباهي، المرقبة العليا، ص 92.
(523)
ينظر، عنان، دولة الطوائف، ص 420 - 421.
(524)
السامرائي، " الدعوة إلى توحيد الأندلس "، ص 82 وما بعدها.
(525)
ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 3، ص 254 - المقري، نفح، ج 4، ص 453 - الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 345.
3 -
تزعم بعض القضاة ثورة بعض المدن الأندلسية ضد حكامها الخاضعين لملوك الإسبان. وتأتي في مقدمة هذه المدن، مدينة بلنسية التي ثار أهلها على حاكمها القادر ابن ذي النون بقيادة قاضيها أبو أحمد جعفر بن عبد الله بن جحاف المعافري، فقتلوه عام 485 هـ، وتولى أمرها هذا القاضي (526).
حاصر الكمبيادور بلنسية على أثر هذه الثورة واستمر حصاره لها من عام 485 هـ إلى عام 487 هـ فدخلها غاضباً، وأهان أهلها، وأحرق علمائها، وأول من وقع عليه الحرق قاضيها ابن جحاف المعافري وذلك في عام 488 هـ (527).
4 -
ساهم الفقهاء والعلماء والقضاة في تهيئة الأمور لعبور المرابطين إلى الأندلس خلال عصر الطوائف. سواء أولئك الفقهاء الذين عبروا إلى عدوة المغرب يطلبون العون من أمير المرابطين، أم أولئك القضاة الذين أرسلهم بعض أمراء الطوائف إلى المغرب وهم: قاضي بطليوس أبو إسحاق بن مقنا، وقاضي غرناطة القليعي، وقاضي إشبيلية أبو بكر بن أدهم، إلى يوسف بن تاشفين للاتفاق معه على خطة العبور إلى الأندلس (528).
وأصبحت الأندلس ولاية مرابطية، واعتمدت الدولة المرابطية الدين في جميع أحكامها واعتمدت كثيراً على العلماء والفقهاء. ومن مميزات قضاء الأندلس خلال هذه الفترة:
1 -
اشتراك القضاة في حروب الجهاد ضد الممالك الإسبانية التي دخلت حرباً ضروساً ضد المرابطين في الأندلس. فلما انهزمت القوات المرابطية أمام قوات ألفونسو الأول المحارب ملك أرغون عام 514 هـ في معركة قتندة، استشهد كثير من المسلمين في هذه المعركة ومن بينهم العديد من العلماء والفقهاء منهم القاضي أبو على الصدفي (452 - 514 هـ) والقاضي أبو عبد الله محمد بن يحيى المعروف بابن الفراء قاضي المرية (529). وممن حضر هذه المعركة أيضاً القاضي الإشبيلي أبو بكر بن العربي (530).
(526) ينظر، ابن الكردبوس، تاريخ الأندلس، ص 103 - ابن عذاري، البيان، ج 4، ص 31 - 32 - ابن الخطيب، أعمال الأعلام، ص 179، ص 182، ص 203 - The cid and his Spain، P: 295-300
(527)
ينظر، كريم عجيل، الحياة العلمية، ص 135 وما بعدها.
(528)
ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 2، ص 98 - 99 - السامرائي - علاقات، ص 157، ص 167 - 168.
(529)
ينظر، ابن بشكوال، الصلة، ترجمة (رقم 330) وترجمة رقم (1261) - المقري، نفح، ج 2، ص 90 - 93 - أزهار الرياض، ج 3، ص 153 - 154.
(530)
المقري، نفح، ج 4، ص 461 - أزهار الرياض، ج 3، ص 154.
2 -
مشاركة القضاة في هذا العصر في أحداثه السياسية المهمة، وأفتوا بأمور خطيرة أقرتها دولة المرابطين. يتمثل هذا بدور قاضي الجماعة بقرطبة أبو الوليد محمد بن أحمد ابن رشد الذي عبر إلى الأندلس وقابل أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين، وشرح له أحوال الأندلس، وما أصابها من حملة ألفونسو المحارب المدمرة عام 519 هـ بسبب استدعاء المعاهدين له، فأفتى بتغريبهم وإجلائهم من أوطانهم عقاباً لهم على هذا التآمر (531).
أخذ علي بن يوسف بهذه الفتوى، وصدر عهده إلى جميع بلاد الأندلس بتغريب المعاهدين إلى عدوة المغرب، فنفيت منهم جموع غفيرة في رمضان عام 521 هـ (532).
3 -
في عام 503 هـ صدرت أوامر علي بن يوسف بحرق كتب الغزالي وبخاصة كتاب إحياء علوم الدين، فتم إحراقها في المغرب والأندلس، واستمرت دولة المرابطين في سياستها هذه إلى آخر عهدها، حيث وجهت رسالة في عام 538 هـ من قبل تاشفين ابن علي إلى أهل بلنسية، يحدد فيها مناط الفتيا ومصدر الأحكام وهو مذهب مالك، ومحاربة البدع وكتبها وبخاصة كتب الغزالي (533). وقد استند الفقهاء في تبرير ذلك إلى احتواء كتاب الإحياء على علم الكلام والفلسفة. وهذا الأمر يدل على أن الدولة كانت خاضعة لسلطة الفقهاء، ويدل أيضاً على أن المذهب المالكي كانت له السيطرة على الجميع (534). وربما كان ذلك بسبب ما وجد في كتاب الإحياء من هجوم على طبقة العلماء والفقهاء الذين يتخذون من العلم والدين مطية لتحقيق أطماع دنيوية من ثراء وجاه. وقد عارض بعض قضاة الأندلس عملية الإحراق هذه، ويأتي في مقدمتهم قاضي المرية أبو الحسن البرجي (535).
4 -
كلفت الدولة المرابطية بعض قضاة الأندلس بمهمات سياسية ودبلوماسية كبيرة. فقد أرسل أمير المسلمين يوسف بن تاشفين عبدَ الله بن محمد العربي المعافري
(531) ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 4، ص 72 - 73 - النباهي، المرقبة العليا، ص 98 - 99 - ابن فرحون، الديباج المذهب، ج 2، ص 248 ترجمة (رقم 72).
(532)
ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص 114.
(533)
ابن القطان، نظم الجمان، ص 14 - 15 - السامرائي، علاقات، ص 430 - 431.
(534)
كنون، النبوغ المغربي، ج 1، ص 76.
(535)
السامرائي، علاقات، ص 431.
وولده محمد الملقب أبو بكر قاضي إشبيلية في سفارة إلى بغداد (485 - 493 هـ) من أجل إحضار تفويض الخلافة العباسية بصحة ولاية يوسف بن تاشفين، ووجوب طاعته، وإحضار فتوى من الإمام الغزالي بهذا المعنى (536). وقد أفلحت هذه السفارة في مهمتها (537).
5 -
تزعم الفقهاء والقضاة ثورة أهل الأندلس على المرابطين في السنوات الأخيرة من الحكم المرابطي بالأندلس. وكان من الزعماء الفقيه محمد بن المنذر الذي سيطر على مدينة باجة (538). وكذلك القاضي حمدين بن محمد بن حمدين التغلبي الذي سيطر على قرطبة ولقبوه أمير المسلمين المنصور بالله (539). وتزعم قاضي غرناطة الثورة ضد المرابطين وهو (أبو الحسن علي بن عمر بن أضحى)(540). وفي مدينة مالقة ثار قاضيها (أبو الحكم بن حسون) على المرابطين ودعا لنفسه وحاصر المرابطين في المدينة حتى أخرجهم منها (541). وكذلك ثار في جيان قاضيها يوسف بن عبد الرحمن بن جزي وأنشأ بها حكومة مستقلة (542). وفي بلنسية تجمع الثوار تحت زعامة قاضيها أبي عبد الملك مروان بن عبد العزيز الذي قبل الأمر مكرهاً (543).
ومن الملاحظ أن أكثر ثوار الأندلس ضد المرابطين هم من الفقهاء والقضاة وأعلام الأدب، وهذا يعود إلى المركز والنفوذ الذي تمتعوا به في ظل دولة المرابطين حتى تركزت فيهم عناصر الزعامة المحلية، فلما بدأ سلطان المرابطين بالأفول قام هؤلاء الفقهاء والقضاة بزعامة مدنهم من أجل استرداد سلطانهم القومي. إلا أن معظم هذه الثورات تم القضاء عليها إما بواسطة القوات المرابطية المتواجدة في ولاية الأندلس، أو بانضواء قادتها تحت لواء الدولة الموحدية الجديدة (544).
(536) ينظر، النباهي، المرقبة العليا، ص 105 وما بعدها.
(537)
ينظر، السامرائي، علاقات، ص 389 وما بعدها.
(538)
ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 2، ص 203.
(539)
النباهي، المرقبة العليا، ص 103 - علام، الدولة الموحدية، ص 154.
(540)
ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 2، ص 211 - 212.
(541)
السامرائي، علاقات، ص 331 - 332.
(542)
ابن الخطيب، أعمال، ص 259 - عنان، عصر المرابطين، ص 321.
(543)
ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 2، ص 219 - علام، الدولة الموحدية، ص 166.
(544)
عنان، عصر المرابطين، ص 318 - إحسان عباس، تاريخ الأدب الأندلسي، 39.
ثم أصبحت الأندلس ولاية موحدية، وتميز النظام القضائي فيها بعدة مميزات وأهمها:
1 -
يقوم الخليفة الموحدي بتعيين قضاة الجماعة في سائر المدن الكبرى، دون تدخل ولاة هذه المدن. وشمل هذا الإجراء الأندلس التي يعين لها قضاة من أبنائها، إلا أن الدولة الموحدية أحياناً تولي القضاء ببعض المدن الأندلسية بعض المشهورين من قضاة المغرب، ومثال على ذلك أن أبا عبد الله محمد بن يخلفتين التلمساني ولي قضاء مرسية ثم قضاء قرطبة، وأن ابن جبل الهمداني من أهل وهران ولي قضاء إشبيلية عام 592 هـ (545). وفي الوقت نفسه كان الخليفة الموحدي يختار لقضاء الجماعة بمراكش بعض القضاة البارزين من أهل الأندلس أمثال أحمد بن يزيد بن عبد الرحمن بن أحمد ابن بقي بن مخلد قاضي القضاة بالمغرب وهو من أهل قرطبة، وغيره (546). وهذا يعود إلى تفوق القضاة الأندلسيين في الفقه المالكي، وفي ممارسة الأحكام وتطبيقها (547).
2 -
عانت الأندلس خلال حكم الموحدين من خطر الممالك الإسبانية، ودارت رحى الحرب بين الطرفين على أراضيها، وقد شارك الكثير من قضاة الأندلس خلال هذه الفترة في معارك الجهاد أمثال القاضي محمد بن حسن صاحب الصلاة الذي استشهد في وقعة العقاب عام 609 هـ، وكذلك القاضي إبراهيم بن أحمد الأنصاري الذي استشهد في جزيرة ميورقة عام 627 هـ عندما هاجمتها الأساطيل الأوروبية والإسبانية، والقاضي أبو الربيع سليمان بن موسى الحميري الكلاعي الذي استشهد عام 634 هـ في معركة أنيشة قرب بلنسية (548).
3 -
في هذه الفترة التي شهدت ثورات ابن هود وابن غانية على الموحدين. فإن هؤلاء الأمراء اهتموا بالقضاء وولوه خيرة القضاة في مناطق نفوذهم. فالأمير محمد بن يوسف بن هود عهد بقضاء مالقة إلى القاضي محمد بن الحسن بن محمد بن الحسن النباهي، وكذلك ولّى قضاء قرطبة للقاضي ربيع بن عبد الرحمن الأشعري (549) أما الأمير
(545) ينظر، ابن الآبار، التكملة، ترجمة رقم 1616، ورقم 1719.
(546)
النباهي، المرقبة العليا، ص 117.
(547)
عنان، عصر الموحدين، ص 628.
(548)
ينظر، النباهي، المرقبة العليا، ص 115، ص 117، ص 119.
(549)
النباهي، المرقبة العليا، ص 112، ص 118.
إسحق بن محمد بن غانية أمير ميورقة، فعهد بقضاء الجزيرة إلى إبراهيم بن أحمد الأنصاري الشهيد (550).
4 -
أعطيت صلاحيات واسعة لبعض القضاة بالأندلس، فأضيفت إلى أعمالهم أيضاً النظر في الحسبة والنظر في أمر الشرطة وغيرها من الأعمال. ومن القضاة الذين تولوا مثل هذه الأمور القاضي عبد المنعم بن محمد بن عبد الرحيم الخزرجي الملقب بابن الفرس (524 - 597 هـ)(551).
وفي عصر مملكة غرناطة كان يطلق على رئيس القضاة اسم قاضي الجماعة وقاضي الحضرة وقاضي غرناطة. ويليه مرتبة قضاة مالقة والمرية ووادي أش ورندة وبسطة وسواها من المدن الكبرى في المملكة، ولقاضي الجماعة سلطة على سائر القضاة فيشرف على أعمالهم ويرشدهم، ويراقب سلوكهم، ويتأكد من صحة الأحكام التي تصدر عنهم. إلا أن تلك السلطة كانت مبدئية لأن السلطان النصري كان يصدر مرسوماً يعرف باسم (ظهير ملكي) يعين بموجبه قضاة الأقاليم دون الرجوع إلى قاضي الجماعة (552).
ومن أشهر قضاة الجماعة بغرناطة في هذه الفترة القاضي يحيى بن عبد الرحمن الأشعري (توفي عام 639 هـ)، والقاضي أبو بكر محمد الأشبرون، الذي تولى أيضاً السوق والشرطة (توفي عام 671 هـ)(553). ومن أشهر قضاة المملكة والذين تولوا القضاء في مدينة مالقة القاضي الحسن بن محمد بن الحسن الجذامي النباهي، وكان صلباً في الحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان لا يقبل شهادة من يأكل الحرام (554).
وشارك القضاة في معارك الجهاد التي خاضتها مملكة غرناطة ضد الممالك الإسبانية التي كانت تهدف إلى ابتلاع هذه المملكة. ففي عهد السلطان محمد الرابع (725 - 733 هـ) تولى منصب قاضي الجماعة الشيخ الفقيه أبو عبد الله محمد بن يحيى الأشعري المالقي والذي استشهد في عهد السلطان يوسف الأول (733 - 755 هـ) في معركة طريف (555).
(550) أيضاً، ص 116 - 117.
(551)
أيضاً، ص 110.
(552)
فرحات، غرناطة، ص 97.
(553)
ينظر، النباهي، المرقبة العليا، ص 124، ص 125.
(554)
أيضاً، ص 128.
(555)
ينظر، ابن الخطيب، اللمحة البدرية (سيرة أمراء بني نصر).
وقام قاضي الجماعة في مملكة غرناطة بمهام دبلوماسية، فالسلطان محمد الخامس أرسل القاضي أبا البركات الحاج إلى بلاط فاس في مهمة سياسية. وعندما كانت المملكة في آخر أيامها انتقل قاضي الجماعة ابن الأزرق إلى مصر ليطلب النجدة من المماليك في عهد السلطان قايتباي، وكذلك بعثة القاضي أبي بكر يحيى بن مسعود المحاربي إلى المغرب (556).
النظم الاقتصادية:
عندما تم لقاء موسى بن نصير وطارق بن زياد عام 94 هـ/713 م، وسارا سوية صوب طليطلة ينتظران انتهاء فصل الشتاء، من أجل استكمال فتح الشمال الإسباني، ضرب موسى بن نصير أول عملة ذهبية ليدفع منها رواتب جنده. ومعروف أن ضرب العملة كان من حق الخليفة نفسه، لكن الذي يبدو أن موسى قد خول بهذا الأمر من قبل الخليفة، سواء في أفريقية أو في الأندلس. وقد كان المسلمون يتعاملون خلال عام 92 وإلى عام 94 هـ بإسبانيا بالعملة الإفريقية التي ضربها موسى في عام 90 هـ. وقد رسمت هذه الدنانير الأندلسية الجديدة على هيئة العملة الإفريقية وكانت لاتينية عربية، ففي ناحية منها كتب (محمد رسول الله) يحيط به نص لاتيني على هيئة دائرة، وفي الناحية الأخرى نجمة ذات ثمان أذرع حولها كتابات لاتينية، ويلي ذلك تاريخ سكها وهو عام 97 هـ، وكذلك ضرب موسى عملة برونزية صغيرة لاتينية الكتابة (557). ولعلنا لا نميل إلى وجود الكتابة اللاتينية على النقود لأن الدولة الأموية عربت نقودها زمن الخليفة عبد الملك بن مروان (65 - 86 هـ)(558). وقد وضحت لنا بعض الدراسات، بأن موسى ضرب أول النقود الإسلامية في الأندلس، وكانت نسخاً لشكل نقود البلاد القديمة سواء من ناحية النوعية أو من ناحية الكتابة عليها بأحرف لاتينية والاحتفاظ بالرسوم التي كانت عليها قبلاً. والشيء الجديد فيها استبدال التعابير المسيحية بأخرى إسلامية ووضع التاريخ الهجري عليها (559).
وإذا استثنينا وجود والٍ للأندلس، وقاضٍ إلى جانبه يسمى قاضي الجند، نجد
(556) ينظر، النباهي، المرقبة العليا، ص 140 - ابن الخطيب، اللمحة البدرية، ص 95 - فرحات، غرناطة، ص 100.
(557)
مؤنس، فجر الأندلس، ص 101.
(558)
ينظر، حسن إبراهيم حسن وأخر، النظم الإسلامية، ص 221.
(559)
ينظر، بدر، دراسات، ج 1، ص 26.
بعض الوظائف التي يمكن أن نعتبرها وظائف مالية، مثل: صاحب أزمة الأرض والخراج، وصاحب الغنائم (560). إلا إننا لم نعثر على إشارة تدل على إرسال أموال من هذا البلد الغني سواء إلى والي إفريقية أو إلى خليفة دمشق (561). ما عدا الغنائم التي أخذها موسى وطارق عند رجوعهما إلى الشام. فالغالب أن عامل الأندلس كان ينفق أموال الأندلس على الجند والحملات العسكرية والمرافق العامة (562).
جاء في نص الرسالة التشريفية: " وأما سائر النصارى الذين كانوا في المعاقل المنيعة، والجبال الشامخة، فأقرهم موسى بن نصير على أموالهم ودينهم بأداء الجزية، وهم الذين بقوا على ما حيز من أموالهم بأرض الشمال، لأنهم صالحوا على جزاء منها مع أداء الجزية
…
" (563). كما جاء في النص أيضاً: "
…
وإنه لما هزم لذريق لم يقف المسلمون بعد ذلك ببلد إلا أذعنوا إلى الصلح. ولذلك بقي الروم فيها على أرضهم وأموالهم يبيعون ويباع منهم " (564). كما يذكر لنا المقري بعد وصول موسى إلى الشمال الإسباني فيقول: "
…
وأطاعت الأعاجم فلاذوا بالسلم وبذل الجزية " (565). ومعنى هذا أن أراضي الشمال الإسباني التي ذكرتها هذه المصادر، والتي حددت بالأراضي الواقعة شمالي نهر الوادي الكبير (566)، قد فتحت صلحاً ورضي أهلها بدفع الجزية والعيش بسلام في ظل الحكم العربي الإسلامي. أما الأراضي الجنوبية، أي التي تقع جنوبي نهر الوادي الكبير، فتعتبر أرض عنوة أي فتحت بقوة السيف فوزعت على المحاربين وأعطيت لهم سجلات بتمليكها (567). وقد خمس السمح هذه الأرض، أي مسحها وقرر عليها الخراج بنسبة الخمس (568).
وكانت مصادر الأموال: الغنائم عن طريق الجهاد، والجزية التي يدفعها أهل الذمة
(560) مؤنس، فجر الأندلس، ص 638 - 639.
(561)
بدر، دراسات، ج 1، ص 34.
(562)
مؤنس، فجر الأندلس، ص 610.
(563)
الرسالة الشريفية، ص 205 - ينظر ملحق رقم 1، Dozy، I، h، vol، P: 71-111
(564)
أيضاً، ص 206 - الغساني، رحلة الوزير، ص 113.
(565)
نفح، ج 1، ص 273، ص 276.
(566)
مؤنس، فجر الأندلس، ص 625.
(567)
ينظر، نص الرسالة الشريفية، ص 207 - 208 - الغساني، رحلة الوزير، ص 113 - محمود علي مكي، " رواد الثقافة الدينية الأولى بالأندلس " مجلة البينة، عدد 6 (الرباط: 1962)، ص 56 - ملحق رقم 1. Dozy، I، h.
(568)
عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 74.
بواسطة القومس (569)، والموارد التي يدفعها أهل البلاد بموجب معاهدات الصلح، وموارد الزراعة من قبل الفاتحين العرب بأراضيهم التي تملكوها وسكنوها، كما كان المزارعون القوط الذين يشتغلون بزرع الأرض، يدفعون للمالك أو للقبيلة المالكة ثلثي أو ثلاثة أخماس المحصول. فكان من أثر ذلك أن تحسنت أحوال المزارعين، كما أدى في الوقت نفسه إلى تقسيم الملكية وتمزيق الملكيات الكبيرة، كذلك تحسنت حال العبيد لأن المسلمين كانوا يعاملونهم بأفضل مما كان القوط يعاملونهم (570)، هذا بالإضافة إلى موارد الزكاة التي يدفعها أغنياء المسلمين بالأندلس. فتح المسلمون أرض الأندلس بأشكال مختلفة، فبعضها فتح عنوة (أرض الجنوب) وبعضها وجده المسلمون خالياً فاستوطنوه، وبعضها نزل أهله على الصلح فاحتفظوا بأراضيهم وجرى التعامل بينهم وبين الفاتحين بموجب شروط معاهدة معقودة بين الطرفين. وهذه الشروط بصورة عامة شملت أمرين: الأول أن يدفع هؤلاء جزية على رؤوسهم، والثاني خراجاً على أراضيهم، وكان على الأغلب جزءاً من غلة الأرض يعادل الثلث أحياناً والربع حيناً آخر حسب طيب الأرض وغلتها (571). وما عدا ذلك، فإن جميع الأراضي الأخرى التي وقعت بيد المسلمين سواء منها المفتوحة عنوة، أو الخالية التي هرب منها أصحابها من النبلاء ورجال الكنيسة. فتقاسمه الفاتحون على أساس نزول كل قوم فيما طاب له من الأرض (572).
أما حق بيت المال في هذه الأراضي، فلم يحاول موسى بن نصير أن يقتطعه من الأراضي كلٌ حسب طريقة فتحها، أي أن يعامل قسماً منها كفيء، ويعامل القسم الآخر كغنيمة، بل عاملها كلها معاملة الغنيمة، ولم يحاول موسى أن يأخذ من الأراضي والسبي إلا الخمس، وبعد أن أخذ من خمس السبي ما اختاره لحمله إلى دمشق وترك بقيته (أي السبي) على أرض الخمس كي يثلث مال المسلمين، وعرف هؤلاء باسم الأخماس وأطلق على أبنائها بنو الأخماس (أولاد الأخماس)(573). ونظراً لضيق الوقت وسرعة استدعاء موسى إلى الشام بقيت بعض الأراضي دون تخميس، وقد تعلل
(569) مؤنس، فجر الأندلس، ص 597.
(570)
صلاح خالص، إشبيلية، ص 47 وما بعدها - عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 75.
(571)
ينظر، رواية الرازي في الرسالة الشريفية، افتتاح الأندلس، ص 211 - بدر، دراسات، ج 1، ص 41.
(572)
المقري، نفح، ج 1، ص 258.
(573)
نص الرسالة الشريفية، افتتاح الأندلس، ص 204 - 205 - مؤنس، فجر الأندلس، ص 624.
الفاتحون برغبتهم بالعودة إلى المشرق، فأرضاهم الخليفة الوليد بإقرارهم على ما بأيديهم من الأراضي، معتبراً هذه الأراضي ثغراً، وتوجد دلائل على قيامه بإقطاع أراضي لغيرهم تشجيعاً على الإقامة في الأندلس (574).
وفي عهد الوالي السمح بن مالك الخولاني الذي كلف بإكمال التخميس وتمييز أرض العنوة عن أرض الصلح ليصح التخميس. ومن هذا نستدل بأن الخليفة عمر بن عبد العزيز (99 - 101 هـ) كان يرى أن بعض أراضي الأخماس كانت في أيدي الفاتحين، كما أن بعض أراضي الخراج - أي أراضي الصلح، اختلطت بغيرها وربما اشتراها الفاتحون من أصحابها فانقلبت من أرض خراجية تدفع نسبة عالية من الضرائب (مثالثة أو مرابعة) إلى أرض عشرية، وقد منع عمر بن عبد العزيز هذا العمل في المشرق، وربما أراد أن يطبقه في المغرب. وفي كلا الحالتين ما يعرض مصالح النازلين في الأندلس، فأعلنوا عن رغبتهم بالرجوع إلى المشرق، فأقرهم عمر على ما بأيديهم وعلى ما سجله لهم الوليد وموسى وأمر واليه السمح بأن يقر القرى بأيدي أصحابها. وأن يقطع الجند المرافقين له (عددهم ما يقارب 500 رجل) من أراضي الأخماس (575).
وهذه الطريقة في تقسيم أراضي الأندلس جعلت بعض الفقهاء يعتبرون أن أرض الأندلس لم تقسم تقسيماً شرعياً، ونجد هذا الرأي عند ابن حزم القرطبي وغيره، وبلغ من شيوع فكرة اللاشرعية من تملك أرض الأندلس أن أحد الباحثين في الفلاحة علل خصب أراضي تدمير (مرسية) وطيب ثمرها لأن أهلها صالحوا موسى فلم يملك منها شيء إلا عن حق (576)، ومعنى هذا أن كثيرين كانوا يرون أن تقسيم أرض الأندلس تحكمت فيه الغلبة وليس الشرع، ومن الطبيعي أن يحصل النزاع حول ملكيتها، وأن تحاول الأطراف المختلفة من عناصر وقبائل الفاتحين أن تقتطع أكبر قسم منها، وبهذا كانت قضية توزيع الأراضي عاملاً في كل نزاع بين فاتحي الأندلس (577).
عرفت الأندلس بالغنى وخصبة الأرض ووفرة الموارد الاقتصادية حتى وصفت بجنة
(574) نص الرسالة الشريفية، ص 206 - 207.
(575)
بدر، دراسات، ج 1، ص 42 - 43.
(576)
ينظر، الزهري، كتاب الجغرافية، ص 100 - 101.
(577)
بدر، دراسات، ج 1، ص 44.
الخلد حيث قال الشاعر ابن خفاجة:
يا أهل أندلس! لله دركم
…
ماء وظل وأنهار وأشجار
ما جنة الخلد إلا في دياركم
…
ولو تخيرت هذي كنت أختار (578)
ولهذا نرى بلج وجماعته الشاميين رغبوا ببلاد الأندلس عندما دخلوها واستطيبوا مواردها، فأحدثوا الفتن المعروفة والتي ذهب بلج ضحيتها، فوزع الوالي الجديد أبو الخطار أتباع بلج على الكور فأنزلهم على ثلث أموال أهل الذمة مقابل أن يؤدوا الخدمة العسكرية، فسميت هذه الكور بالكور المجندة (579).
وكان من أغراض التقسيم الإداري في الأندلس، ضبط الضرائب، ويعني ذلك أن الأقليم يعتبر وحدة مالية في نظر الدولة، وكل إقليم يضم عدداً من القرى. فهناك قرى تدفع العشور، وهي قرى الحبوب والزراعات، وقرى تؤدي جبايات تحدد بحسب طبيعة إنتاجها وهي نواحي الثمار والأشجار والزيتون والغابات. وأحسن مثال لذلك أقاليم سرقسطة عند العذري (580)، حيث يتضح منها بأنها تحديدات زراعية تعنى بالري والأنهار والعيون وما تسقيه. والتقسيم الزراعي في أساسه مالي، لأن الذين يرسمونه ينظرون إلى ما يغله كل قسم وما يؤديه من جباية (581).
وقد عمل الوالي يوسف الفهري 129 - 138 هـ على تعديل نظام الضرائب فاقتضى ثلث الدخل من كل ولاية، ولكنه أمر بمراجعة السجلات القديمة، واستبعاد الأموات منها، وكانت الضرائب ما تزال تجبى طبقاً للإحصاء القديم، فكان في ذلك إرهاق للسكان، فقرر يوسف أن تجبى الضرائب من الأحياء فقط، وأسقطها عمن توفوا، واكتسب بذلك عطف كثير من الإسبان المسيحيين بصورة خاصة (582).
كما كانت بعض الدلائل تشير إلى غنى بعض ولاة الأندلس وكبار زعمائها، فكان الصميل بن حاتم يمتلك داراً كبيرة وتقع خلف هذا الدار عقدة الزيتون المشهورة التي تضم مائة ألف شجرة، وكانت أمواله كثيرة (583). وهناك قناة عامر المنسوبة إلى عامر بن
(578) ديوان ابن خفاجة، ص 86.
(579)
ينظر، ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 1، ص 61 - 62.
(580)
نصوص عن الأندلس، ص 23 - 24.
(581)
مؤنس، فجر الأندلس، ص 585.
(582)
عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 132.
(583)
ابن القوطية، افتتاح، ص 29.
عدي من أشراف بني عبد الدار بالأندلس وتقع غربي قرطبة (584). وكان لبني غافق قرية كاملة بشرق إشبيلية وهي مرنيانة (مرجانة الغافقيين)(585). وهناك الضياع الواسعة التي تضم القصور الكبيرة والتي تسمى بالبلاط مثل: بلاط مغيث الرومي وبلاط الحر (586).
وكان أبو عثمان شيخ موالي بني أمية يمتلك إقطاعاً كبيراً بقرية طُرش من كورة قرطبة (587). وهناك أملاك أرطباس الواسعة التي وزع بعضها على زعماء الأندلس أمثال الصميل (عقدة الزيتون بالمدور) وأبي عثمان (طُرش) وعبد الله بن خالد (الفنتين قرب لوشة). وأبي عبدة (حسان بن مالك) غربي الأندلس (منطقة إشبيلية)(588).
وفي عصر الإمارة 138 - 316 هـ
حرص أمراء الأندلس على تنمية المواد الزراعية، وذلك بالاهتمام ببعض الثمار والبذور. فنرى الأمير الداخل يحرص على جعل قرطبة صورة من دمشق في منازلها البيضاء ذات الأحواش الداخلية المزينة بالأزهار والورد ونافورات المياه. واشتهر الأمير الداخل بأنه كان يرسل بعض رجاله إلى المشرق لجلب أشجار الفاكهة من بلاد الشام، فنسمع عن أحد رجاله المدعو سفر بن عبيد الكلابي والذي تنسب إليه أسماء بعض الفواكه التي غرسها في جنانه بكوره رية وأثمرت مثل التين السفري والرمان السفري، ثم اهتم بها الأمير الداخل وغرسها في منيته، وانتشرت بذلك زراعتها في سائر أنحاء الأندلس (589). وبلغ من اهتمام الأندلسيين بالزراعة أنه عندما حل المذهب المالكي بالأندلس محل مذهب الأوزاعي -هذا المذهب الجديد لا يقر زراعة الأشجار بالمساجد عكس مذهب الأوزاعي- بقي أهل الأندلس مقلدين مذهب الأوزاعي في مجال الزراعة (590). عدا هذه الإشارات تعوزنا المعلومات الدالة بدقة على مدى التقدم الزراعي في الأندلس حتى عهد عبد الرحمن الأوسط. إنما تكثر لدينا الشواهد نسبياً عن قيام
(584) مجهول، أخبار مجموعة، ص 63.
(585)
ذنون، الفتح، ص 219 - 220.
(586)
ينظر، مؤنس، فجر الأندلس، ص 633.
(587)
مجهول، أخبار مجموعة، ص 24.
(588)
ينظر، ابن القوطية، افتتاح، ص 28 - 30 - المقري، نفح، ج 3، ص 267 - 269 - ذنون، الفتح، ص 417.
(589)
ينظر، ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 1، ص 37 - ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 60 - العبادي، في التاريخ العباسي والأندلسي، ص 318 - بدر، دراسات، ج 1، ص 148.
(590)
الحميدي، المصدر السابق، ص 244 (ترجمة رقم 510).
نشاط تجاري واسع النطاق، وعن ازدياد في الثروة وعن تضاعف في واردات الدولة زمن الأمير عبد الرحمن الأوسط دون فرض ضرائب جديدة (591). حيث فتح هذا الأمير أبواب الأندلس للتجار المشارقة والبضائع المشرقية كالملابس وأدوات الزينة التي سرعان ما انتشرت بين أفراد المجتمع الأندلسي (592). وبما أن الزراعة في هذه الفترة كانت أهم منبع للثروة، ونظراً لاستحالة قيام نشاط تجاري واسع في تلك الأيام دون الاعتماد على زراعة مزدهرة، لذلك يمكن القول: بأن الزراعة في الأندلس استمرت في الازدهار منذ بداية عهد الإمارة، وأنها وصلت إلى مرحلة متقدمة خلال فترة الازدهار. كما أنه يستنتج من بعض الأعمال التي قام بها عبد الرحمن الأوسط، أن الصناعة كانت متقدمة إلى الحد الذي تم فيه إنشاء دارٍ خاصة للطراز تصنع فيها ملابس خاصة لرجال الدولة (593).
وبدا على أهل الأندلس الاهتمام بالأسطول، وازداد هذا الاهتمام في عصر الإمارة وبخاصة بعد هجوم النورمان على الأندلس، فكان من نتيجة قيام هذا الأسطول أنه شارك بصورة فعالة في معارك الجهاد ضد الممالك الإسبانية، وقام بفتح بعض المناطق الجديدة (البليار). وتركزت فعاليات الأسطول الأندلسي في سواحل البحر المتوسط حتى أنه ساعد الأسطول الأغلبي في إتمام فتح صقلية، أما النشاط التجاري للأندلس في عصر الإمارة فكان مقتصراً على العموم مع العالم الإسلامي، لأن الغارات البحرية الأندلسية المتبادلة مع الشواطئ الإيطالية والفرنسية كانت تسود هذه الفترة. ومعنى هذا كان مركز النشاط التجاري الأندلسي يشمل جزءًا من الشاطئ الشرقي للأندلس وهو الجزء الممتد من قرطاجنة شمالاً إلى الجزيرة الخضراء جنوباً. وهذا الجزء يقابل الشاطئ الأفريقي الممتد من سبتة غرباً إلى بجاية شرقاً (594).
وقامت على هذا الساحل الشرقي الأندلسي موانئ مهمة تقوم فيها دور الصناعة مثل دانية ولقنت (595)، والمرية مركز جماعة البحريين الذين امتهنوا التجارة أولاً ومهاجمة السواحل الأوروبية ثانياً (596). وكان الأندلسيون يحملون إلى بلاد المغرب منتجاتهم
(591) ينظر، ابن سعيد، المغرب، ج 1، ص 46.
(592)
ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 91 - العبادي، في التاريخ، ص 340.
(593)
بدر، دراسات، ج 1، ص 149.
(594)
ينظر، بدر، دراسات، ج 1، ص 152 - 153.
(595)
الحميري، الروض المعطار، ص 76، ص 170.
(596)
أبو الفضل، تاريخ مدينة المرية، ص 38 وما بعدها.
الصناعية الراقية بالإضافة إلى منتجاتهم الزراعية التي لا توجد بالمغرب، وكذلك ما يرد من الأندلس إلى المشرق كان يصرف عموماً في الأسواق الأفريقية، ويحمل من ثم إلى هناك، كما هو حال بضاعة العبيد البيض (الصقالبة) الذين يشير إليهم ابن حوقل بقوله:" وجميع من على وجه الأرض من الصقالبة الخصيان فمن جلب الأندلس "(597). أما أهم الأشياء التي كانت تأتي من المغرب إلى الأندلس هي الحبوب والفستق (من مدينة قفصة) وكذلك العبيد السود يؤتى بهم إلى الأندلس وإلى سائر بلاد الإسلام، لأن سوق تجمعهم كان في مدينة زويلة أقصى جنوب ليبيا (598).
وكانت حركة النقل التجارية ناشطة جداً بين الأندلس وشواطئ المغرب، وبصورة خاصة شواطئ المغرب الأوسط والأقصى الممتدة من بجاية حتى سبتة لأنها مقابلة للمراسي الأندلسية. وكانت دول الخوارج في المغرب تُنظم حركة التجارة مع الأندلس خلال هذه الفترة، وبالذات الدولة الرستمية في الجزائر، والدولة المدرارية في سجلماسة (599). ونظراً لهذا النشاط التجاري وجدت جاليات أندلسية أقامت في مدن المغرب الساحلية إما بصورة مؤقتة، كما هو الحال في مدينة أصيلة، حيث كانت تقام سوق جامعة ثلاث مرات في السنة: في عاشوراء والعيدين، أو بصورة دائمة ويختلطون مع سكان المغرب وكانوا يلتمسون حمايتهم مقابل حصة معينة من الأرباح أو كمية من المال، كما هو الحال في مدينة مليلة (600).
وكثيراً ما تقوم الجاليات الأندلسية ببناء مدن جديدة بالاشتراك مع غيرها حيناً كما هو الحال في مدينة أصيلة، أو وحدها حيناً آخر كما هو الحال في مدن تنس (بين وهران والجزائر، التي أنشأها أهل البيرة وتدمير عام 262 هـ ومدينة وهران التي أنشأها الأندلسيون البحريون عام 290 هـ (601).
ويلاحظ أن غالبية المراكز الأندلسية، أقيمت على شواطئ المغرب الأوسط، وهو أمر يعود إلى قرب سواحله من الأندلس، وإلى الحماية التي وفرتها لهم الدولة الرستمية
(597) صورة الأرض، ص 106.
(598)
ينظر، البكري، ص 11 - بدر، دراسات، ج 1، ص 154.
(599)
ينظر، محمود إسماعيل، الخوارج في المغرب الإسلامي.
(600)
البكري، المصدر السابق، ص 88 - ينظر، ليلى أحمد نجار، العلاقات بين المغرب والأندلس في عهد عبد الرحمن الناصر، ص 49.
(601)
ينظر، ابن حوقل، صورة الأرض، ص 79 - البكري، المصدر السابق، ص 62، ص 112.
بسبب علاقتها الودية مع الإمارة الأموية بالأندلس (602). أدى النشاط الاقتصادي الذي ذكرناه إلى بروز مظاهر الترف والرفاه في المجتمع الأندلسي، فانعكس ذلك على ازدياد الواردات التي وصلت إلى مليون دينار أحياناً فظهرت مظاهر الترف في بلاطات الأمراء وقصور الطبقة العليا، متمثلاً في بناء القصور (المنية) وفي اقتناء الجواري والعبيد البيض (الصقالبة)، وفي منح الهدايا والهبات للشعراء والمغنين، فمثلاً كان المغني المشرقي زرياب يقبض مخصصات شهرية قدرها مائتا دينار، كما أن كلاً من أبنائه الأربعة كان يأخذ عشرين دينار شهرياً، وقد تسلم زرياب في إحدى المناسبات هدية قدرها ثلاثة آلاف دينار (603).
وانعكس هذا الرخاء أيضاً في الأعمال العمرانية التي قام بها الأمراء، المتمثلة في بناء المساجد الجديدة أو توسيع المساجد القديمة، وفي بناء الأسوار، وفي بناء مدن الثغور وغيرها.
كما أحدث النشاط الاقتصادي تطوراً إدارياً وعسكرياً في الأندلس، ففي عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط أسس دار السكة ونتيجة لذلك تضاعف عدد النقود المتداولة وبخاصة ذات القيم المتوسطة والدنيا، ويلاحظ من بقايا النقود الباقية تحسن مفاجئ ابتداء من عام 229 هـ في إتقان الضرب (604). وانعكس هذا الأمر أيضاً على وزراء الدولة وكبار رجالها سواء من حيث طبقاتهم أو من حيث أرزاقهم، حيث وصل راتب الوزير إلى 350 دينار شهرياً (605).
وكان من نتائج التطور الاقتصادي توسع مدينة قرطبة التي غصت بسكانها، حتى أخذ الناس يبنون خارجها وتجاوزوا على المقابر، مما جعل قاضي قرطبة في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط إلى إصدار حكم يثبت فيه حدود مقبرة الربض (606). واضطر الأمير الأوسط لمواجهة المشاكل الناجمة عن هذا التضخم إلى إسناد مهمة مراقبة الموازين والمكاييل والمبيعات إلى المحتسب، والخدمات العامة تركت إلى صاحب المدينة، ومشكلات الأمن عهد بها إلى صاحب الشرطة (607).
(602) ينظر، بدر، دراسات، ج 1، ص 156.
(603)
ينظر، صلاح خالص، إشبيلية، ص 58 - 59.
(604)
ينظر، بدر، دراسات، ج 1، ص 158 - 159، ص 163.
(605)
ينظر، ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 1، ص 123 - 124.
(606)
ينظر، سالم، قرطبة، ج 1، ص 163 - 168 - بدر، دراسات، ج 1، ص 165.
(607)
ابن سعيد، المغرب، ج 1، ص 46 - بدر، دراسات، ج 1، ص 165.
كما أدت زيادة واردات الدولة بسبب هذا النشاط الاقتصادي إلى الإكثار من شراء العبيد السود والبيض، فأكثر الأمير الحكم من شرائهم وزاد عليه الأمير عبد الرحمن الأوسط حتى وصل عددهم في حرسه الخاص إلى خمسة آلاف شخص. كما أن عدد أفراد الجيش النظامي زاد لقدرة الأمير على استخدام عنصر جديد هو عنصر المرتزقة الذين يخدمون مقابل رزق معين ويحترفون الخدمة العسكرية (608).
اعتباراً من عصر الإمارة وما بعده، وجدت ظاهرة جديدة لها علاقة بالاقتصاد الأندلسي، وهي ظاهرة إحراق المزارع من قبل الإسبان عندما يغيرون على الأراضي الإسلامية، أو من قبل المتمردين على حكومة الإمارة والذين زاد أمرهم في فترة الحروب الأهلية. وبالمقابل تقوم جيوش الإمارة بحرق زروع المتمردين عندما تحاصرهم كوسيلة من وسائل إضعاف مقاومتهم وإجبارهم على الطاعة (609).
ووجدت في عصر الإمارة ظاهرة فرض الضرائب المرهقة على الشعب من قبل بعض الأمراء، مع حصول المجاعات وسنوات القحط في الأندلس، فالأمير الحكم سخطت عليه العامة بسبب ما فرضه هذا الأمير من عشور مرهقة على المواد الغذائية، وكان العامة يجاهرون بذم الأمير والطعن في سيرته، مما مهد قيام حركة الربض المشهورة (610).
ومن عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن فقد أبدى تشدداً في جمع العشور وقد نصحه الوزير عبد الرحمن بن غانم صاحب المدينة بأن يسقط العشور متى عدمت الغلات، لأن العشور تفرض على الغلات إذا وهبها الله، وإذا لم يزرع بذر ولم يستغل زرع وجب إسقاطها، فلم يستمع الأمير لنصحه فعزله، وعين مكانه حمدون بن بسيل وكان ظلوماً فاشتط في جمع العشور فأرهق الشعب وتذمروا فوصل تذمرهم إلى الأمير، وتوالت أيضاً في نفس الوقت أعوام القحط والجدب، فاضطر الأمير أن يسقط عن الشعب جزءاً من العشور حتى يستطيعوا مواجهة أعباء الحياة ومواصلة نشاطهم العمراني، فلهج الناس والشعراء مدحاً للأمير. وكان الأمير محمد بارعاً في الأمور المالية، دقيقاً في مراجعة الدخل والخرج، وقد ساعده ذلك في ضبط شؤون الخزانة
(608) بدر، دراسات، ج 1، ص 165.
(609)
ينظر على سبيل المثال: ابن حيان، المقتبس، ج 3، ص 143 - ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 143 - صلاح خالص، إشبيلية، ص 48.
(610)
عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 243.
العامة (611). وفي عهده أصيبت الأندلس بالقحط والمجاعة في الأعوام 251 هـ - 255 هـ - 260 هـ وكان قحطاً شديداً استمر بضعة أعوام، وكثر بسببه الغلاء والموت، ولكن الأندلس استطاعت أن تصمد للمحنة وأن تتغلب عليها (612).
وفي عهد الأمير عبد الله، عصر الحرب الأهلية، تمردت معظم مدن الأندلس على حكومة قرطبة، وصار الأمير في البداية يكتفي بأي شكل من أشكال الخضوع لحكومة قرطبة حتى ولو كان إسمياً. ولعل أقصى تعبير عن الطاعة طمح له الأمير عبد الله أن يؤدي له أولئك المتمردون بمقاطعاتهم قطيعاً معيناً من العشور (أي كمية من المال يتم الاتفاق عليها) ولهذا اشتهر في عهده ديوان يسمى ديوان القطع (613). كما أن الحملات الكثيرة والمستمرة التي أرسلها الأمير عبد الله لإخضاع المتمردين أدت إلى نضوب موارد الدولة.
وفي عصر الخلافة 316 - 422 هـ، بلغت الأندلس مبلغاً كبيراً من الرخاء، وتضاعفت مواردها من الدخل القومي، فبلغت حصيلة الجباية من المكوس وحدها زهاء مليون دينار في السنة، وبلغت في عهد الخليفة الناصر من الكور والقرى خمسة آلاف وأربعمائة ألف وثمانين ألف دينار، وبلغت من المستخلص (وهي الأملاك السلطانية) سبعمائة ألف وخمسة وستين ألف دينار. وعندما مات الناصر عام 350 هـ خلف في بيت المال عشرين مليون دينار من الذهب. وفي أيام الحاجب المنصور حققت موارد الدخل زيادة عظيمة، ووصل محصل الجباية وحده إلى أربعة ملايين دينار سوى رسوم المواريث وسوى مال السبي والغنائم، واستمرت هذه الزيادة في عهد ولده الحاجب عبد الملك (614). فانعكس هذا الرخاء في الأندلس في هذه الفترة على:
1 -
بناء المدن الملوكية وصرف الملايين في بنائها، وأشهرها مدينة الزهراء التي بناها الخليفة الناصر، ويبدو لنا كمية الأموال الطائلة التي صرفت على هذه المدينة، إذا عرفنا أن مقدار النفقة السنوية عليها 300 ألف دينار طوال عهد الناصر (325 هـ بدأ البناء، ومات الناصر عام 350 هـ) أي مدى خمسة وعشرين عاماً، هذا عدا ما أنفق عليها في
(611) ينظر، ابن عذاري، البيان، ص 2، ص 107.
(612)
عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 312.
(613)
بدر، دراسات، ج 1، ص 251.
(614)
عنان، دولة الإسلام، ج 2، ص 690، ص 574.
عهد ولده الحكم (615). وهذا الإسراف هو الذي حدى بالقاضي منذر بن سعيد البلوطي أن ينتقد الناصر ويتصدى لهذا التبذير (616). وبناء مدينة الزاهرة في عهد الحاجب المنصور حيث بدأ العمل بها عام 368 هـ ولمدة عامين. ثم ابتنى إلى جانبها مدينة جميلة ذات قصر وحدائق للراحة سماها العامرية (617).
2 -
الاهتمام بالحركة العلمية والإغداق على العلماء وشراء نفائس الكتب بأثمان عالية، وقد اهتم الخليفة الحكم المستنصر بهذا الأمر حيث كان يبعث إلى أكابر العلماء المسلمين من كل قطر بالصلات الجزيلة، للحصول على النسخ الأولى من مؤلفاتهم، فتراه يرسل إلى أبي الفرج الأصفهاني ألف دينار من الذهب ليحصل على نسخة كتابه الأغاني، قبل أن يحصل عليه أحد في العراق. كما أرسل إليه الأصفهاني كتاباً ألفه في أنساب بني أمية فجدد له الحكم الصلات والهدايا (618). وفعل الحكم كذلك مع القاضي أبي بكر الأبهري المالكي، إذ بعث إليه بمبلغ كبير ليحصل على النسخة الأولى من شرحه لمختصر ابن عبد الحكم. وأسبغ الحكم رعايته على اللغوي أبي علي القالي الذي وفد من العراق على أبيه الناصر كما هو معروف. وأهدى إليه أبو عبد الله الخشني بعض كتبه ومنها كتاب قضاة قرطبة (619). وأهدى إليه مطرف بن عيسى الغساني كتابه المعروف أخبار كورة رية. وكان للحكم طائفة من مهرة الوراقين بسائر البلاد الإسلامية ينقبون له عن الكتب ويحصلون منها على النفيس والنادر. كما كانت له في بلاطه طائفة من البارعين في نسخ الكتب وتحقيقها وتجليدها، وبذل لهم الأموال الكبيرة (620). كما شغف الحاجب المنصور في جمع الكتب مقلداً بذلك الخليفة الحكم المستنصر ومن ذلك أن صاعداً البغدادي أهدى إليه كتاب الفصوص فأثابه الحاجب المنصور بخمسة آلاف دينار (621)، وعين له راتباً شهرياً قدره ثلاثون دينار.
3 -
كما أن هذا الرخاء شجع الأندلس على اتباع سياسة أفريقية جديدة وبخاصة منذ
(615) ينظر، المقري، نفح، ج 1، ص 265.
(616)
ينظر، النباهي، المرقبة العليا، ص 69 - 70.
(617)
عنان، دولة الإسلام، ج 2، ص 535، ص 575.
(618)
ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 1، ص 201 - 202.
(619)
الخشني، قضاة قرطبة (المقدمة)، ص 1 - 2.
(620)
عنان، دولة الإسلام، ج 2، ص 505 - 506.
(621)
ابن بشكوال، الصلة، ص 238 (ترجمة رقم 541).
إعلان الخلافة الأندلسية عام 316 هـ للتصدي للدولة الفاطمية في شمال أفريقية وأعوانها وبدأت من هذا العصر سياسة أندلسية جديدة للتدخل في إثارة بعض الحركات ضد الفاطميين، إلى جانب السيطرة على بعض مدن الساحل الإفريقي، وإلى إخماد بعض الفتن المغربية أمثال حركة الحسن بن كنون الذي يمثل بقايا الأدارسة. فكان هذا الأمر يتطلب أموال طائلة لإخماد مثل هذه الحركات، إضافة إلى بذل الأموال من أجل استمالة بعض القبائل المغربية (622).
وشهدت الأندلس خلال عصر الخلافة مجاعات متعددة أصابت الأندلس بالقحط والمجاعات، ففي عهد الخليفة الناصر (300 - 350 هـ)، حل قحط شديد بالأندلس عام 302 - 303 هـ فنقصت الأقوات وارتفعت الأسعار وبلغ قفيز القمح في قرطبة بثلاثة دنانير، وبلغت الشدة بالناس مبلغاً عظيماً، وانتشر الوباء مع القحط، وكثر الموت، وهلك كثير من الرؤساء والوجهاء. قام الخليفة الناصر ببذل الأموال وتوزيع المؤن لشعبه وشاركهُ في الأمر كثير من رجالات الدولة، فكان لمجهودهم أثر كبير في التخفيف من آثار هذه المحنة (623). وفي عام 317 هـ حلت مجاعة جديدة بالأندلس نتيجة احتباس المطر، فغلت الأسعار على نحو ما حدث في عام 303 هـ، فخرجت كتب الخليفة الناصر إلى جميع العمال على الكور بالأمر بصلاة الاستسقاء، وفي عام 324 هـ وقع محل جديد بالأندلس فاحتبس المطر وجفت الزروع، وبذل الناصر الأموال لمعالجة الأزمة وبذلك قال الشاعر:
نعم الشفيع إلى الرحمن في المطر
…
مستنزل الغيث بالأعذار والنذر (624)
وعاد المحل والقحط يعصف بالأندلس عام 329 هـ فعم الجفاف البلاد. وأصيب النظام الاقتصادي وبخاصة التجاري في قرطبة بهبوط كبير نتيجة الحريق الكبير الذي دمر أسواق قرطبة في عام 324 هـ (625). وفي عهد الحكم المستنصر (350 - 366 هـ) وقعت
(622) ينظر التفاصيل، العبادي، في التاريخ العباسي والأندلسي، ص 393 - ص 398 وما بعدها - ص 423 وما بعدها - ص 444 وما بعدها - ليلى أحمد نجار، العلاقات بين المغرب والأندلس، ص 54 وما بعدها.
(623)
ابن عذاري، البيان، ص 2، ص 166.
(624)
ينظر، ابن حيان، المقتبس، ج 5 الخاص بعصر الخليفة عبد الرحمن الناصر - ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 199.
(625)
عنان، دولة الإسلام، ج 2، ص 425.
بالعاصمة الخلافية مجاعة عظيمة، فبذل الحكم للفقراء والمعوزين في سائر أرباض قرطبة والزهراء من الأموال ما يكفل أقواتهم ويسد عوزهم (626). وبجانب ثراء الدولة الذي تمثل في البناء والهيئات، نرى ثراء كبار رجالات الدولة، الذي اخترع بعضهم تقديم الهدايا الكبيرة والثمينة إلى خلفاء هذا العصر، في الوقت الذي كان فيه عامة الناس في عوز شديد بسبب احتباس المطر وظهور المجاعات المستمر وبسبب غلاء الأسعار وقلة الأجور للعامل البسيط. فتذكر بعض الروايات أن أجور العمال الذين كانوا يشتغلون في بناء مدينة الزهراء كانت تتراوح بين الدرهم والنصف وثلاثة دراهم تبعاً لمقدرتهم الحرفية، في حين كان راتب أحمد بن عبد الملك بن شهيد وزير الناصر خمسمائة دينار في الشهر، وقد رفعه الخليفة إلى ألف دينار فيما بعد، هذا مع العلم أن الدينار كان يعادل على العموم عشرة دراهم (627). وأول من ابتدع تقديم الهدايا إلى الخليفة الوزير أحمد بن عبد الملك بن شهيد، وكان منها خمسمائة ألف مثقال من الذهب، ومائتا أوقية من المسك والعنبر، وثلاثون شقة من الحرير المرقوم بالذهب، ومائة فرس مسرجة، وعشرون بغلاً عالية الركاب، وأربعون وصيفاً، وعشرون جارية، وغيرها، وذلك في عام 327 هـ، وهذا مما يدل على مدى ثراء الوزراء ورجالات الدولة الأموية بالأندلس (628).
كما أهدى الحاجب جعفر بن عثمان بن نصر المصحفي هديته الكبيرة إلى الخليفة الحكم المستنصر مقلداً بها هدية ابن شهيد للخليفة الناصر (629). كما كانت بداية حياة الحاجب المنصور الوظيفية الإشراف على عبد الرحمن وهشام أولاد الخليفة الحكم ثم تولى إدارة الخزانة العامة وأمانة دار السكة. فاستغل هذه المناصب المالية، فقدم هديته المشهورة إلى الأميرة صبح زوجة الخليفة الحكم وأم الخليفة هشام الثاني، فبدد أموال الخزينة فاتهمه الخليفة الحكم بالتبذير، فسد الحاجب المنصور هذا العجز بالاستدانة من صديقه الوزير ابن حُدير (630).
وفي هذا العصر أمر الخليفة الناصر بتنظيم العملة وتثبيتها. فأمر في عام 316 هـ باتخاذ دار السكة داخل مدينة قرطبة لضرب الدنانير والدراهم، وولى أمرها أحمد بن محمد بن حُدير الذي بذل جهده في الاحتراس من المدلسين وكان لهذا أثره في تثبيت
(626) ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 236.
(627)
ينظر، صلاح خالص، إشبيلية، ص 55 - ص 58.
(628)
ابن خلدون، العبر، ج 4، ص 138.
(629)
أيضاً، ج 4، ص 144 - عنان، دولة الإسلام، ج 2، ص 511 - 512.
(630)
ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 251 - 252.
العملة واستقرار التعامل (631). ومن هذا التاريخ وما بعد أصبحت ولاية السكة من الوظائف المالية المهمة في الدولة يعهد بإدارتها إلى خالص الرجال (632)، إلى جانب ولاية السوق وولاية الخزانة والضياع (633). وقد ساعد الاستقرار السياسي عموماً في عصر الخلافة على تنشيط حركة الصناعة والتجارة، وقد اشتهرت موانئ الأندلس الشرقية بموانئها التجارية وبخاصة بعد بناء مدينة المرية قاعدة الأسطول الأندلسي في عام 344 هـ، والتي أصبحت مدينة تجارية وصناعية مهمة. وأصبحت مركزاً للحط والإقلاع (634). وبدأت الأوضاع الاقتصادية في الاضطراب عندما بدأ عصر الفتنة 399 - 422 هـ، فمرت بلاد الأندلس في فترة الحروب الأهلية أدت إلى إلغاء الخلافة وقيام عصر الطوائف.
عرفت الأندلس بوفرة خصبها وكثرة مواردها الزراعية والتي كانت مناطق الأرياف أهم مصادر هذه الثروة المتمثلة في الزيتون واللوز والرمان والتين والحبوب. وأما المعادن فهي من أهم الثروات الطبيعية التي جاءت بها أرض الأندلس، وبتنوعها تعددت مناطق استخراجها، وبخاصة اشتهرت الأندلس بالرخام والذهب (635). كما اشتهرت الصناعات في مختلف أنحاء الأندلس حيث تخصصت كل ناحية في إنتاج صناعة معينة.
فعلى سبيل المثال تخصصت مرسية في صناعة الطرز الذهبية والأساور المذهبة والسكاكين والأسلحة، أما المرية ومالقة فقد اشتهرتا بصناعة الخزف والأواني الزجاجية والأقمشة. واشتهرت غرناطة بصناعة البلد وهو ثوب حريري ملون. ومن إشبيلية شاعت صناعة الأقواس والرماح والسهام بالإضافة إلى صناعة السرج المزينة وغيرها (636).
إن الوصف العام للحياة الاقتصادية في الأندلس كما أورده ابن سعيد ونقله المقري، جاء في مصادر متأخرة عن القرن الخامس الهجري/عصر الطوائف، إلا أن هذا الوصف يطابق أحوال هذا القرن وذلك:
1 -
إن النباتات والحيوانات التي وجدت في الأندلس خلال هذه الفترة كانت
(631) ابن حيان، المقتبس، ج 5 عصر الناصر.
(632)
ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 208.
(633)
أيضاً، ج 2، ص 199، ص 205.
(634)
ينظر، الحميري، الروض المعطار، ص 183 - سالم، تاريخ مدينة المرية، ص 18 - عنان، الآثار الأندلسية الباقية، ص 265.
(635)
ينظر، المقري، نفح، ج 1، ص 187.
(636)
المقري، نفح، ج 1، ص 188.
معروفة في البلاد منذ أربعة قرون، وذلك أن أحوال المناخ لم تتغير، كما إن البلاد لم تشهد أية ظاهرة طبيعية كبرى، ما عدا سنوات القحط والمجاعة والتي سرعان ما تزول.
2 -
إن المعادن والمنتوجات الصناعية الأخرى المذكورة في هذا المصدر كانت تستغل على نطاق واسع خلال فترة الطوائف وقبلها أي في عهد الإمارة والخلافة الأموية. وبالإضافة إلى ذلك شهد عصر الطوائف تشييد أفخم القصور وأجمل المنشآت، والتي كانت تتطلب استهلاك قسط وفير من الذهب والفضة والمواد الأخرى المستعملة في التزيين والزخرفة (637).
ومع ذلك فقد اختص عصر الطوائف بازدهار الزراعة حيث شغف ملوك الطوائف بإنشاء الحدائق والبساتين. وقد ظهر في هذا العصر عدة من علماء النبات والزراعة ولا سيما في طليطلة وإشبيلية حيث كانت حدائق بني ذي النون وحدائق بني عباد تشغل مساحات واسعة وتتطلب عناية الخبراء. وكان من أشهر علماء النبات والفلاحة في طليطلة ابن وافد الذي أشرف على حدائق بني ذنون. وكذلك العالم أبو عبد الله بن بصال المشهور بتجاربه العلمية الناجحة من توليد الغراس، ومكافحة الآفات الزراعية، وخلف لنا كتابه المشهور الفلاحة. وعالم إشبيلية الزراعي أبو عمر أحمد بن محمد بن حجاج صاحب كتاب (المقنع)، وكذلك أبو عبد الله محمد بن مالك الطغنري من أهل غرناطة وتلميذ ابن بصال وصاحب كتاب (زهر البستان ونزهة الأذهان)(638). وأما عن الصناعات في عصر الطوائف فقد كانت رائجة، ومن أشهرها صناعة الحديد والنحاس والزجاج والنسيج، وكانت صناعة النسيج على الأخص من أهم الصناعات في أيام الطوائف، وكان بمدينة المرية وحدها خمسة آلاف منسج، تنتج أفخم وأجمل أنواع الأقمشة (639). وكانت دول الطوائف ذات الثغور مثل إشبيلية والمرية وبلنسية ودانية وسرقسطة تجني من التجارة الخارجية أرباحاً كبيرة (640).
ومما يدلل على وفرة خيرات الأندلس ونشاط تجارتها خلال هذه الفترة أن أمير دانية والجزائر الشرقية علي بن مجاهد العامري بعث مركباً كبيراً محملاً بالمؤن والأطعمة
(637) محمد بن عبود، التاريخ السياسي، ص 166 - 167.
(638)
ينظر، عنان، دول الطوائف، ص 441 - 442.
(639)
ينظر أبو الفضل، تاريخ مدينة المرية، ص 209 وما بعدها.
(640)
عنان، دولة الطوائف، ص 442.
عام 447 هـ وأرسله إلى الإسكندرية مغيثاً أهل مصر التي كانت تمر بأزمة اقتصادية وهي أيام الشدة العظمى (641). ولكن في الوقت نفسه في عام 448 هـ حصلت مجاعة كبرى في إشبيلية لدرجة اضطر فيها الناس إلى دفن كل ثلاثة أو أربعة أشخاص في قبر واحد، وأن المساجد خلت من المصلين. كما إن قفيز الحنطة (ثلاثين كيلوغراماً) وصلت قيمته في قرطبة في إحدى فترات القحط ثلاثة دنانير (642).
كان معظم أمراء الطوائف يمثلون أصحاب النفوذ والأموال الكثيرة، وقد أدى استقلالهم في مدنهم إلى زيادة ثرواتهم. فمثلاً كان بنو عباد حكام إشبيلية -قبل توليهم الحكم- يمتلكون ثلث كورة إشبيلية، وإن بني طاهر الذين تولوا حكم مدينة مرسية كانوا يمتلكون نصف المدينة، وأما أبا الحزم بن جهور الذي تولى أمر قرطبة فقد كان من أغنى أهلها وأفحشهم ثراء. وينطبق الأمر كذلك على أمراء بني الأفطس في بطليوس وأمراء بني ذنون في طليطلة، وأمراء بني هود في سرقسطة وغيرهم (643).
وعندما تسلط هؤلاء الأمراء بدأوا بشتى السبل في زيادة أموالهم وثرواتهم وذلك عن طريق: مصادرة ممتلكات منافسيهم من أغنياء المدينة الكبار بعد اتهامهم بشتى التهم، كما فعل بنو عباد أمراء إشبيلية (644). وكذلك عن طريق مصادرة أراضي الملاكين الصغار، وإرهاق كاهل المزارعين بالضرائب العالية، كما فعل مظفر ومبارك العامريان حكام بلنسية بالفلاحين حتى أنهم لبسوا الجلود والحصر وأكلوا الحشيش، وفر أكثر الفلاحين من قراهم (645). والأسلوب الآخر الذي اتبعه ملوك الطوائف في جمع الثروة، هو إثقال كاهل الشعب بالضرائب الباهظة أو توسيع رقعة الإمارة بالوسائل العسكرية، فاشتط جامعو الضرائب في ظلم الناس (646).
وهذه الأموال الطائلة التي جمعها الأمراء لم ينفقوها في سبيل الشعب ورفاهيته بل استغلت في بناء القصور والمنتزهات، والصرف على مجالس الطرب واللهو، وشراء الجواري، فمثلاً أمير السهلة ابن رزين يدفع ثلاثة آلاف دينار ليشتري مغنية حسناء (647).
(641) ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 3، ص 228 - ابن الخطيب، أعمال، ص 221.
(642)
صلاح خالص، إشبيلية، ص 54.
(643)
ينظر، ابن بسام، الذخيرة، قسم 2، مجلد 1، ص 7 - صلاح خالص، إشبيلية، ص 42 - 43.
(644)
ينظر، عنان، دول الطوائف، ص 34 - 35.
(645)
ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 3، ص 162.
(646)
ابن عبدون، رسالة في الحسبة، ص 169.
(647)
ابن عذاري، البيان، ج 3، ص 308.
ْبالإضافة إلى دفع الإتاوات إلى ملوك الإسبان من أجل الحفاظ على عروشهم المهزوزة (648).
وبالرغم من القوة الاقتصادية التي كانت تتمتع بها بلاد الأندلس فإن عدم الاستقرار السياسي الذي تميز به عصر الطوائف كان له أثر سيء على الأوضاع الاقتصادية وذلك في مجالين:
1 -
إن التقسيمات السياسية عرقلت التعاون الاقتصادي، كما أن عمق وحدة النزاع السياسي بين دول الطوائف زاد من اضطراب الأوضاع. هذا مع العلم أن كل إمارة استقلت اقتصادياً عن الأخرى ولها وسائلها في جمع الأموال واستغلالها، فمعنى ذلك ظهور التمزق الاقتصادي لبلد الأندلس إلى جانب التمزق السياسي.
2 -
استغل ألفونسو السادس بصورة خاصة الأوضاع السياسية المتدهورة ببلد الأندلس ففرض شروطهُ المالية على أمرائها من أجل الاستحواذ بثمار الأندلس الاقتصادية والعمل على إضعافها وبالتالي بالسيطرة عليها بالتدريج، ولذا رأينا الغرامات الباهظة التي فرضها على أمراء الطوائف (649). فمثلاً طلب ألفونسو من الأمير عبد الله بن بلقين عشرين ألف مثقال. كما وعد ابن عمار وزير المعتمد بن عباد بتسليم ألفونسو السادس خمسين ألف مثقال مقابل مساعدته العسكرية ضد الأمير عبد الله حاكم غرناطة (650)، كما فرض ألفونسو السادس على ابن ذي النون مبلغ مائة وخمسين ألف مثقال تضاف إليها خمسمائة أوقية من القمح تدفع لعساكره مقابل أن يعيده إلى حكم طليطلة (651).
وأصبحت الأندلس ولاية مرابطية، وكانت نقطة الانطلاق في السياسة المالية المرابطية تتمثل في محاولة تطبيق الكتاب والسنة في ميدان السياسة الجبائية، وهي الاعتماد على موارد الزكاة والأعشار والجزية وأخماس غنائم المشركين. ومع هذا وجد في بيت مال يوسف بن تاشفين بعد وفاته ثلاثة عشر ألف ربع من الورق، وخمسة آلاف وأربعين ربعاً من دنانير الذهب المطبوعة (652). ولكن توسع الدولة وازدياد مسؤولياتها
(648) ينظر، صلاح خالص، إشبيلية، ص 43 - 46.
(649)
ينظر، محمد بن عبود، التاريخ السياسي، ص 167 - 168.
(650)
المقري، نفح، ج 1، ص 69.
(651)
أيضاً، ج 1، ص 77 - محمد بن عبود، المرجع السابق، ص 175.
(652)
ينظر، الحبيب الجنحاني، " السياسة المالية للدولة المرابطية "، مجلة المؤرخ العربي، العدد 13، ص 15.
العسكرية دفعت ولاة الأمر إلى فرض الإتاوات على أهل المغرب والأندلس، فنرى يوسف بن تاشفين يفرض أموالاً كثيرة على يهود اليسانة بالأندلس (653)، ولجأ علي بن يوسف إلى فرض الإتاوات على مختلف الصنائع والسلع وبخاصة على الصابون والعطور والنحاس والمغازل، كما أنه استخدم المسيحيين الإسبان في تحصيل الجبايات (654).
ازدهرت الصناعة في بلاد المغرب في ظل المرابطين بعد أن أصبحت الأندلس ولاية تابعة لها، وذلك لأن ولاة الأمر المرابطين استفادوا من خبرات أهل الأندلس في الصناعة (655). فزيادة على استعانة ولاة الأمر من المرابطين بصناع ومهرة الأندلس، كانت السفن تسير في قوافل منتظمة تحمل البضائع المختلفة بين المغرب والأندلس. وكان المغرب يمد الأندلس بالغلات وأنواع الطعام المختلفة في العصور السابقة لعهد المرابطين (656)، وقد استمر هذا الأمر عندما أصبحت الأندلس ولاية مرابطية. ومن ناحية أخرى، فإن الأندلس كان يصدر إلى المغرب كثيراً من البضائع ومنها الفواكه، وكذلك القطن الجيد المزروع بأرض إشبيلية (657)، وكان معدن الزئبق أيضاً ممّا يصدرهُ الأندلس إلى المغرب (658)، أما الحصى الملون فإن الأمراء بمراكش كانوا يستوردونه من المرية ليزينوا به بعض أدوات الطعام (659). وقد وصف الإدريسي مدينة المرية في عهد المرابطين بازدهار الصناعات الحريرية والمنسوجات الأخرى (660). وكانت الأندلس كذلك تصدر الأدوات الخشبية إلى المغرب، وكذلك المنسوجات التي اشتهرت بها مدينة بلنسية (661).
تميز عهد المرابطين سواء في المغرب أو في الأندلس برفاهٍ اقتصادي في ميداني الزراعة والصناعة، إضافة إلى أنهم كانوا يسيطرون على سجلماسة وهي نهاية طريق مهم للقوافل التي تتاجر بذهب بلاد السنغال. وقد استمر فيضان الذهب عبر هذا الطريق بعد
(653) عنان، عصر المرابطين، ص 421.
(654)
ابن الأثير، الكامل، ج 8، ص 296 - النويري، نهاية الأرب، ج 22، ص 85.
(655)
السامرائي، علاقات، ص 479.
(656)
ينظر ابن حوقل، صورة الأرض، ص 82.
(657)
الحميري، الروض المعطار، ص 21.
(658)
المراكشي، المعجب، ص 448.
(659)
المقري، نفح، ج 4، ص 206.
(660)
وصف المغرب والأندلس، ص 197 - مورينو، الفن الإسلامي في إسبانيا، ص 419.
(661)
الحميري، الروض المعطار، ص 165 - المقري، نفح، ج 4، ص 207.
أن انقطع وروده عن طريق المسالك الصحراوية الغربية، وظل الدينار المرابطي الذهبي الذي يزن أربع غرامات ونصف (662)، مستخدماً لعدة قرون كأهم عملة ذهبية في المغرب (663).
وقد عثر على كميات كبيرة من الدنانير المرابطية في شمال البلاد الإسبانية وفي غرب فرنسا، مما يدل على نشاط التجارة بين ممتلكات المرابطين وبين سائر بلاد أروبا (664)، وحتى يروى أن هذه العملة وصلت إلى القسطنطينية (665).
ونظراً لضراوة معارك الجهاد التي خاضتها دولة المرابطين ضد الممالك الإسبانية، فقد كثرت غنائم المرابطين من سلاح وحيوانات وأموال وأسرى. وأدى ذلك إلى نشاط تجارة هذه المواد في أسواق الأندلس والمغرب، ولا سيما تجارة الرقيق بالذات (666).
وعموماً وصف النظام الاقتصادي في الأندلس والمغرب في ظل المرابطين بالرفاء والاستقرار ورخص الأسعار، إلا أن هذا الأمر تبدل في أواخر عهد المرابطين، عندما اضطربت الأوضاع بظهور حركة المهدي بن تومرت، وبتمرد أهل الأندلس على الحكم المرابطي (667).
وأصبحت الأندلس ولاية موحدية، واتبعت الحكومة الموحدية في شؤون الجباية، سياسة الالتزام بأحكام الشرع على ما يجيزه من الزكاة والعشر. فقد نوهت رسالة عبد المؤمن التي وجهها إلى الطلبة والمشيخة والأعيان بالأندلس في عام 543 هـ إلى المغارم والمكوس والقبالات وتحجير المراسي وغيرها من المظالم، ووجوب القضاء عليها وإجراء العدل في شأنها (668). إلا أن هذه الموارد لم تكن كافية لسد متطلبات الدولة الموحدية التي تحملت أمر الجهاد في الأندلس، فاضطرت هذه الدولة إلى البحث عن
(662) حركات، المغرب عبر التاريخ، ص 203 - عبد العزيز بن عبد الله، مظاهر الحياة المغربية، ج 1، ص 75.
(663)
أرشيبالد، القوى البحرية، ص 387.
(664)
الحبيب الجنحاني، المرجع السابق، ص 20.
(665)
حركات، المرجع السابق، ص 231 - Barbour، Morocco P. 59
(666)
الصديق بن العربي، طوائف وشخصيات مسيحية بالمغرب، ص 155 - السامرائي، علاقات، ص 484.
(667)
عنان، عصر المرابطين، ص 437.
(668)
عنان، عصر الموحدين، ص 624 - 625.
وجوه جديدة لجمع الأموال. فقام عبد المؤمن عام 554 هـ بمسح بلاد المغرب من برقة إلى السوس الأقصى، وأسقط مقدار الثلث من مساحتها -مقابل الجبال والأنهار والطرقات- وفرض الخراج على الأراضي الصالحة للزرع، وألزم كل قبيلة أن تؤدي قسطها من الزرع والمال (669). ومن جهة أخرى، فإن الدولة الموحدية كانت إلى جانب ما يدخل خزائنها من غنائم وأموال المصادرات، إلا أنها لم تحجم عن فرض الضرائب والمكوس على مختلف أنواع المعاملات من البيع والشراء، والصادر والوارد، إضافة إلى ما كانت تستولي عليه من أموال اليهود والمسيحيين الذين بقوا في أراضي الدولة، ولا سيما خلال حركات الاضطهاد والمطاردة (670).
وكان من الإجراءات المالية الهامة التي قامت بها الخلافة الموحدية مضاعفة وزن الدينار الموحدي، وكان له أثره في تحسين الأمور الاقتصادية وتوفير الثقة في التعامل الاقتصادي (671).
واستمرت العلاقات الاقتصادية بين المغرب والأندلس قائمة، وقد تمثل ذلك في نشاط التبادل التجاري. فقد اشتهرت المرية وقرطبة بأسواقها وتصدر إلى المغرب الأخشاب والحبوب والمصنوعات والكتان. كما حملت المراكب من المغرب إلى الأندلس أنواع الغلات والحبوب والطعام وتعود بالتين والعنب والقطن وزيت الزيتون.
أما المنسوجات فكان أهل مراكش يستوردونها من بلنسية، ومما ساعد على النشاط التجاري، قيام المغرب الأقصى بدور الوسيط بين إقليم السودان في الجنوب والأندلس في الشمال، فكان التجار يحملون الذهب والصمغ إلى الأندلس، ثم يعودون بالمحاصيل الزراعية والمنتجات الصناعية إلى بلاد السودان (672).
ومن مظاهر عناية الموحدين بالزراعة في الأندلس هو تنفيذ أوامر الخليفة عبد المؤمن باستصلاح أراضي جبل طارق، وغرسها بمختلف أنواع الفاكهة كالتين والعنب والتفاح والسفرجل والمشمش وغيرها. كذلك تم استصلاح أراضٍ واسعة في مدينة إشبيلية بناءً على أوامر الخليفة أبي يعقوب يوسف ثم غرسها بأشجار الزيتون، ثم عني
(669) روض القرطاس، ص 129 - وطبعة أخرى، ص 198 - 199 - محمد ولد دادة، مفهوم الملك في المغرب، ص 167 - 168.
(670)
عنان، عصر الموحدين، ص 626.
(671)
جوليان، تاريخ أفريقيا الشمالية، ج 2، ص 160.
(672)
أبو رميلة، علاقات، ص 474.
بجلب الماء إليها من الوادي بواسطة قنوات تحت الأرض (673).
واستمرت الأندلس تنعم بالرخاء والاستقرار الاقتصادي منذ عهد عبد المؤمن إلى أواخر عهد المنصور، شأنها شأن المغرب. فإذا عكر صفو الأمن في بلاد المغرب هجمات القبائل العربية، وهجمات أمراء بني غانية، فإن الأندلس اضطربت سياسياً واقتصادياً بسبب فتن وحركات ابن هود وابن مردنيش وما جرى بينهم من حروب مدمرة أولاً وبسبب هجمات الممالك الإسبانية على المدن الأندلسية التي أسقطت كثيراً من هذه المدن بيد الإسبان بسبب الحصار الاقتصادي وأوشك أهلها على الموت جوعاً ثانياً.
فحلت بذلك المحن والنوائب ببلد الأندلس، وقامت الأزمات الاقتصادية وشاع القحط والمجاعة وعم الغلاء (674).
ومن الجانب الآخر، فإن المعاهدات التجارية التي عقدتها دولة الموحدين مع جمهورية جنوة وبيزا ومع صقلية، سمحت لسفن هذه الدول التردد بأمان في موانئ الأندلس، وبالذات في ميناء المرية، وموانئ المغرب، فنشطت بذلك التجارة بين الطرفين (675). ويصعب على الباحث إيجاد دراسة كاملة عن التنظيم المالي في مملكة غرناطة، إلا أنه يمكن تحديد أسس النظم المالية فيها كما يلي:
1 -
كان هناك وظيفة المشرف على ممتلكات السلطان الخاصة، وقد أطلق عليه إسم الوكيل. فمحمد بن المحروق كان وكيلاً على ممتلكات السلطان إسماعيل الأول قبل تسلمه منصب الوزارة (676).
2 -
أبعد سلاطين غرناطة اليهود والمسيحيين عن وظيفة الجباية، عكس دولة المرابطين وغيرها التي اعتمدت عليهم (677).
3 -
كان سلاطين غرناطة يدفعون الأموال الكثيرة إلى ملوك الإسبان فيروى أن السلطان محمد الأول كان يدفع ربع ما في بيت ماله وقيل بأنه كان يدفع نصف ما موجود في بيت المال، وفي عام 709 هـ رفع فرديناند الرابع الحصار عن الجزيرة
(673) ينظر، ابن صاحب الصلاة، المن بالإمامة، ص 133 - أبو رميلة، علاقات، ص 480.
(674)
ينظر، عنان، عصر الموحدين، ص 627.
(675)
محمد ولد دادة، مفهوم الملك في المغرب، ص 174 - 176.
(676)
ينظر، ابن خلدون، المقدمة، ص 242 - فرحات، غرناطة، ص 79.
(677)
فرحات، غرناطة، ص 79.
الخضراء مقابل خمسين ألف قطعة ذهبية دفعها السلطان أبو الجيوش نصر من بيت المال، كما أن ألفونسو العاشر الحكيم فرض على ابن الأحمر مبلغ خمسين ألف قطعة ذهبية أي ما يعادل سدس ما حوته خزينة الدولة النصرية (678).
4 -
كانت أهم واردات بيت المال في الدولة النصرية، الجزية التي تؤخذ من أهل الذمة، وصدقات المسلمين وهي الزكاة والعشور على الماشية والمحصولات الزراعية، والضرائب على التجارة، أما ضريبة التجارة البحرية والصيد فمقصورة على ميناء مالقة ومربلة (679). ومن موارد بيت المال ضريبة المواريث وغنائم الحروب (680).
5 -
كانت نقود بني الأحمر في غرناطة من الصنف الممتاز، وكانت نقودهم من أفضل النقود (681). ومما يذكر في هذا المجال أن فريقاً من مسيحيي أرغون عمدوا أيام ملكهم بطرة الرابع إلى ضرب عملة مزيفة شبيهة بنقود المسلمين وتاجروا بها مدة مع الغرناطيين، إلا أن هذه النقود المزيفة قد اكتشفت (682). وكانت دنانيرهم تتألف من الذهب والفضة والنحاس، وكان الدينار الذهبي يساوي عشرة دراهم فضية، وهناك عملة القيراط وهي نصف الدرهم (683).
6 -
ازدهرت الزراعة في مملكة غرناطة، وساعد على هذا الازدهار طبيعة الأرض وما حوته الأنهار والوديان والسهول الخصبة واهتموا بقنوات الري. وأهم المحاصيل الزراعية، الكروم الذي يعصرونه في عيد اشتهرت به مملكة غرناطة (684)، وكذلك الزيتون والبرتقال والحبوب على أنواعها (685).
واشتهرت مملكة غرناطة بصناعة الأسلحة كالسيوف والخناجر والدروع والرماح وهذا أمر يتطلبه وضعهم الجهادي ضد الممالك الإسبانية. بالإضافة إلى شهرتهم في
(678) ينظر، ابن الخطيب، اللمحة البدرية، ص 74 - فرحات، غرناطة، ص 80.
(679)
ينظر، أيضاً، ص 40 - أيضاً، ص 81.
(680)
فرحات، غرناطة، ص 81.
(681)
ابن الخطيب، اللمحة البدرية، ص 40.
(682)
فرحات، غرناطة، ص 81.
(683)
ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص 137 - 138.
(684)
ابن الخطيب، اللمحة البدرية، ص 40.
(685)
ينظر، فرحات، غرناطة، ص 141 وما بعدها.
صناعة الصوف والحرير والأقمشة الملونة، كما أتقن الغرناطيون صناعة الخزف وغيرها (686).
أما تجارة الدولة فكانت نشطة مع مصر وبلاد الشام وشمالي أفريقية، وكذلك مع مملكتي قشتالة وأرغون وبعض جمهوريات إيطاليا وبخاصة مع جمهورية جنوة (687)، وساعدها على ذلك موقعها البحري. وتشير الروايات إلى رخص الأسعار في مملكة غرناطة، فرطل اللحم يباع بدرهم (688)، وثمانية أرطال من العنب بدرهم أو بدرهمين.
وكانت المواد الغذائية في العاصمة غرناطة أغلى من سائر المناطق، ويعود ذلك إلى ازدياد عدد سكانها بعد نزوح أبناء المدن والقرى التي وقعت في أيدي الإسبان إليها (689).
(686) المقري، نفح، ج 1، ص 163 - فرحات، غرناطة، ص 144 - 146.
(687)
فرحات، غرناطة، ص 150 - 151.
(688)
المقري، نفح، ج 1، ص 143 - 144 - ص 211، ص 218.
(689)
ينظر، ابن خلدون، المقدمة، ص 364 - فرحات، غرناطة، ص 146.