الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْلُ الثَّالِث
النشاط الحربي للعرب في شمال إسبانيا والتوغل في فرنسا
أ - فتوحات العرب في شمال إسبانيا وموقفهم من الإمارات الاسبانية الناشئة:
لم يتمكن طارق وموسى من استكمال فتح المناطق الشمالية الغربية من شبه الجزيرة الآيبيرية، وذلك بسبب استدعائهما من قبل الخليفة الأموي إلى دمشق. ولم تتح الفرصة لعبد العزيز بن موسى في أثناء ولايته القصيرة أن يكمل مهمة والده في افتتاح المناطق الباقية. ومع هذا، فإن المؤرخين العرب يذكرون بأنه قد افتتح في ولايته مدناً كثيرة (1)، لكنهم لم يحددوا هذه المدن مما يشير إلى أن جهده في الفتوح لم يكن كبيراً.
وقد حاول خليفته، أيوب بن حبيب اللخمي، أن يثبِّت السلطة العربية ويطهر المنطقة الشمالية من مقاومة القوط. ويدل على ذلك عنايته بهذه المنطقة وقيامه بإنشاء بلدة أطلق عليها اسم قلعة أيوب Calatayud، تقع إلى الشمال الشرقي من طليطلة (2). وعلى الرغم من هذا، فقد ظلت المناطق الشمالية الغربية العقبة الأساسية في سبيل استكمال فتح شبه الجزيرة بكاملها. وتعد هذه الأجزاء من المناطق الوعرة جداً لأنها تضم هضاب اشتوريش Asturias القاحلة. وقد اعتقد الفاتحون أنها ليست ذات أهمية بالنسبة إليهم فاغفلوها. وكان هذا خطأ كبيراً وقعوا فيه، لأن هذا الركن الشمالي الغربي، الذي يسمى جليقية، أصبح موطناً للشراذم المنهزمة من جيش القوط الغربيين. وقد تزعم هؤلاء، كما تذكر المصادر العربية، زعيم يدعى بلاي، اعتصم بهم في صخرة بلاي. وقد اطمأن بهم المقام في هذا المكان لبعده عن العرب الذين عجزوا عن الوصول إليه بسبب مناعة
(1) أخبار مجموعة، ص 21، ابن عذاري، ج 2، ص 24؛ المقري، ج 1، ص 281.
(2)
حسين مؤنس، فجر الأندلس، ص 244.
هذه الصخرة التي هي أعلى قمم جبال كنتبرية. وهكذا أصبح بلاي يشكل تهديداً خطيراً للمسلمين في الأندلس، وكان من الضروري أن تتخذ إزاءه إجراءات قوية (3). وقد أدرك أهل الأندلس هذا الخطر في عهد الوالي عُنبسة بن سُحيم الكلبي (103 - 107 هـ/ 721 - 726 م)، الذى أرسل حملة إلى هذه المنطقة للقضاء على المقاومة فيها. ولكن بلاي انسحب إلى المواقع الحصينة من الصخرة، وتحصن في مغارة كوفادونجا Govadonga، وتمكن من إحراز النصر على هذه الحملة وقتل الكثير من أفرادها (4).
وفي عهد عقبة بن الحجاج السلولي (116 - 123 هـ/734 - 741 م)، الذي كان والياً حازماً وجه اهتمامه نحو الفتوح عبر جبال ألبرت والقضاء على المقاومة الاسبانية التي تركزت في جليقية، خرجت حملة إلى منطقة الشمال الغربي، وهاجمت منطقة جليقية.
وقد استطاع عقبة أن يفتتح كل قرية من قراها، لكنه لم يستطع السيطرة على الصخرة التي امتنع فيها بلاي مع الناجين من أنصاره. وكان عدد هؤلاء نحو ثلاثمئة رجل. وقد حاصر المسلمون هؤلاء حتى هلك الكثير منهم من الجوع، وظل على قيد الحياة نحو ثلاثين رجلاً وعشر نساء. ويقال إن هؤلاء الأفراد اقتاتوا فقط على العسل الذي كانوا يستخرجونه من بعض المناحل المتوفرة في شقوق الصخرة. وبعد أن أعيا المسلمين أمرهم، وصعوبة الوصول إليهم، تركوهم "وقالوا: ثلاثون علجاً ما عسى أن يكون أمرهم واحتقروهم ثم بلغ أمرهم إلى أمر عظيم" (5).
والثابت على أي حال، كما يرى الدكتور حسين مؤنس (6)، أن العرب والمسلمين لم يتركوا هؤلاء، لأنهم هُزموا من قبل بلاي، أو لأنهم احتقروهم لقلة عددهم، بل لأن الفاتحين انصرفوا في أول أمرهم في الأندلس إلى المنازعات التافهة فأضعفوا أنفسهم، وأعطوا لهؤلاء الرجال فرصة قيمة ليثبتوا مقاومتهم، ويتحولوا من مجموعة صغيرة مُطارَدَة إلى دولة مستقرة. وقد أدى انصراف العرب عن القضاء على هذه الدولة، إلى وضع جديد في شبه الجزيرة الآيبيرية، ملخصه وجود قوتين في البلاد، الأولى هي الدولة العربية الإسلامية، والثانية، هي القوى الاسبانية. واستمر الصراع بين الطرفين إلى أن انتهى في الأخير لصالح القوى الاسبانية، وخروج العرب من الأندلس بعد مضي نحو ثمانية قرون من دخولهم إليها.
(3) انظر: فتح الاندلس، ص 26؛ المقري (برواية ابن حيان) ج 3، ص 17.
(4)
The Chronicle of Alfonso III، pp. 614-615.
(5)
أخبار مجموعة، ص 28؛ ابن عذاري، ج 2؛ ص 29.
(6)
فجر الأندلس، ص 339.
لم تقتصر حركة المقاومة الاسبانية للفتح العربي الإسلامي على منطقة الصخرة في الأشتوريش، بل كانت هناك بؤر أخرى للمقاومة تركزت في جبال ألبرت، وامتدت على طول الساحل إلى الغرب في جبال كنتبرية. وقد تمركزت أول هذه التجمعات في الطرف الشرقي من هذه الجبال، تحت زعامة بطْرُة Pedro الذي أنشأ إمارة سميت بإمارة كنتبرية. وكان هذا التجمع قليل الأهمية في أول الأمر، ولكن أصبح له شأن كبير، خاصة بعد زواج ألفونسو الأول، ابن بطرة، من ابنة بلاي. وقد كانت هذه الإمارة، ومنطقة جبال ألبرت، وبلاد الباسك أو البشكنس، هدفاً للقوات الإسلامية المتجهة إلى جنوب فرنسا. فعندما سار عبد الرحمن الغافقي إلى فرنسا، اتخذ مدينة بنبلونة قاعدة له، فاستعرض فيها جنده وحثهم على الجهاد. وكذلك فقد هاجم كل من عبد الملك بن قطن في ولايته الأولى 114 - 116هـ/ 732 - 734 م، وعقبة بن الحجاج السلولي بلاد البشكنس ودخلا العاصمة بنبلونة (7). وتدل هذه الحملات المبكرة على بلاد البشكنس إلى ازدياد خطرهم، خاصة بعد اندحار المسلمين في معركة بلاط الشهداء سنة 114هـ/ 732 م. وقد اشتدت مقاومة البشكنس في عهد آخر ولاة الأندلس يوسف بن عبد الرحمن الفهري. وربما كان للنجاح الذي أحرزتهُ جماعة بلاي في جليقية أثر على ذلك (8).
ويذكر مؤلف كتاب أخبار مجموعة، أن أهالي بنبلونة نقضوا عهدهم مع المسلمين بنقض أهل جليقية (9). ولهذا فقد أرسل إليهم يوسف الفهري حملة خرجت من مدينة سرقسطة. ولكن أبناء الباسك الجبليون استطاعوا التغلب على هذه الحملة التي كانت قليلة العدد (10). وهكذا ازدادت قوة المقاومة في هذه المنطقة في أواخر عصر الولاة، واستمرت خلال عصر الإمارة.
ب - توغل العرب ونشاطهم فى جنوب فرنسا:
تفصل جبال ألبرت أو البرتات، وهي التي تعرف خطأ باسم البرانس، إسبانيا عن جنوب فرنسا. وكانت هذه المنطقة الجنوبية من فرنسا تسمى بغالة Gaul. وهي تتألف من عدة ولايات، كولاية سبتمانية، وتعني المقاطعة ذات المدن السبع، منها أرْبُونة
(7) أخبار مجموعة، ص 28؛ ابن عذاري، ج 2، ص 29.
(8)
خليل السامرائي، الثغر الأعلى الأندلسي، ص 100.
(9)
أخبار مجموعة، ص 76.
(10)
أخبار مجموعة، ص 76؛ دوزي، تاريخ مسلمي إسبانيا، ترجمة: حسن حبشي وآخرون، القاهرة، 1963، ج 1، ص 198 - 199.
Narbonne وهي عاصمة هذه الولاية، وقرقشونة Carcassonne وتقع دوقية أكيتانية إلى الشمال الغربي من ولاية سبتمانية، وعاصمتها برديل أو بوردو Bordeaux الواقعة على مصب نهر الجارون. ومن مقاطعات غالة الأخرى، إقليم بروفانس، الذي يقع إلى الشمال الشرقي من ولاية سبتمانية، وعاصمته مدينة أبنيون Avignon الواقعة على وادي رودنة أو الرون. وإلى الغرب من هذا النهر، يقع إقليم برغندية، وعاصمته مدينة لودون أو ليون Lyon. وكانت المنطقة الواقعة إلى الشمال من نهر اللوار خاضعة للدولة الميروفنجية (11).
وتشير بعض الروايات العربية إلى أن موسى بن نصير وطارق بن زياد كانا أول من عبرا جبال ألبرت، ففتحا أراضي ومدناً في جنوب فرنسا، ومنها أربونة وأبنيون، وليون، حتى انتهيا إلى وادي رُودنة (12). وكما أسلفنا، فإن ما تذهب إليه هذه الروايات بعيد الاحتمال، ولا يتوفر لدينا ما يؤيد وصول هذين القائدين إلى هذه المناطق، لا سيما ونحن نعلم أن موسى اضطر إلى عدم استكمال فتوحه في شبه الجزيرة الآيبيرية ذاتها بسبب استدعاء الخليفة له. وهناك رواية مسيحية أخرى تشير إلى أن الحر بن عبد الرحمن الثقفي، الوالي الذي أعقب أيوب بن حبيب اللخمي، قد توغل عبر جبال ألبرت وافتتح أربونة عاصمة غالة (13). ويذكر المؤرخ الاسباني رامون عبد ال R. Abdal إن الحر قد فتح قطلونية Catalonia وبرشلونة في الشمال الشرقي من إسبانيا ووصل إلى جبال ألبرت (14). ولكن لا توجد أية إشارات في بقية المصادر المسيحية، أو في المصادر العربية القديمة تؤيد هذه الفتوحات، ولهذا فمن الصعب التعويل على ما جاء في هذه الروايات.
الفتوح في عهد السمح بن مالك الخولاني:
تتفق معظم المصادر على أن نشاط حركة الفتوح عبر جبال ألبرت ابتدأ في عهد السمح بن مالك الخولاني (100 - 102 هـ/ 719 - 721 م) الذي عينه الخليفة عمر بن عبد
(11) انظر: سالم، تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس، ص 137.
(12)
المقري (برواية ابن حيان) ج 1، ص 273 - 274.
(13)
The Chronicle of 754، p. 151 (no. 43)
(14)
R. Abdal، "El paso Septimania del dominio godo al franco a traves de la invasion
sarracena (720-768) "، Cuadernos de Historia de Espania، XIX، 1953، p. 16.
العزيز ليكون والياً للأندلس بدلاً من الحر بن عبد الرحمن الثقفي، لنزاهته وشدة إيمانه. وما أن استقر السمح في الولاية وقضى على بعض الاضطرابات الداخلية، وأصلح الأمور الإدارية، وقام ببعض الاصلاحات العمرانية (15)، حتى بادر بالنهوض إلى الفتح والجهاد في جنوب فرنسا، وذلك من أجل توحيد طاقات العرب والمسلمين في الأندلس مرة أخرى وتوجيهها نحو الأعداء في بلاد الفرنجة.
شرع السمح بسلسلة من الحملات والفتوح في غالة، فسار بجيش كبير عبر منطقة سرقسطة، واجتاز جبال ألبرت إلى أن أصبح أمام أربونة عاصمة ولاية سبتمانية، فحاصرها وافتتحها عنوة. ثم حصّن أسوارها ووضع فيها وفي المدن المجاورة لها الحاميات. ثم توغل من هذه المدينة إلى داخل غالة حتى وصل إلى طولوشة Toulouse. وفي محاولة لافتتاح هذه المدينة بالقوة، أحاطها المسلمون بالخنادق والمنجنيقات وسائر أدوات الحصار، حتى أوشك أهلها على التسليم. وعندما سمع الدوق أودو Eudo، دوق أكيتانية، بهذا سار مسرعاً نحو المدينة، واشتبك مع الجيش العربي الإسلامي في معركة حامية بالقرب من مدينة طولوشة، أسفرت عن هزيمة السمح واستشهاده مع الكثير من رجاله (يوم عرفة سنة 102هـ/15 حزيران 721 م). وقد استطاع مساعده، القائد عبد الرحمن الغافقي، أن يقود فلول الباقين من الجيش الإسلامي ويرجع بهم إلى أربونة، ومن ثم إلى الأندلس (16). وعلى أثر هذه الهزيمة تشجع أهالي المنطقة لخلع طاعة العرب، لكن هؤلاء كانوا لا يزالون متمكنين من أربونة، وقد جاءتهم نجدات من الأندلس، فثبتوا في المناطق التي تم فتحها على يد السمح بن مالك (17).
وظلت أربونة قاعدة للفتوح والجهاد في جنوب فرنسا، ولعل قربها من البحر وسهولة تلقي المسلمين الإمدادات عن طريق الأساطيل بدلاً من عبور جبال ألبرت، هو الذي
(15) أخبار مجموعة، ص 24؛ فتح الأندلس، 25؛ ابن عذاري، ج 2، ص 26.
(16)
راجع عن فتوحات السمح: فتح الأندلس، ص 25، ابن عذاري، ج 2، ص 26، المقري، ج 1، ص 235،ج 3، ص 15.
The Chronicle of 754، p. 152 (no. 48) ; M. Rinaud، "Incursions of the Muslims into
France، Piedmont and Switzerland"، translated from the French by: Harun Khan
Sherwani، Islamic Culture، IV، 1930، pp. 261-263.
وانظر: ترجمة عربية لبعض نصوص رينو ينقلها شكيب أرسلان، في كتابه تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط، مصر، 1352هـ، ص 64 - 71.
(17)
المرجع نفسه، نقلاً عن رينو، ص 72.
أدى إلى تمسك المسلمين بهذه المدينة. يضاف إلى ذلك، أن مناخ أربونة يشبه مناخ المدن العربية، أي أنها لطيفة الشتاء، حارة القيظ لولا نسمات البحر المجاور. وتكثر فيها حاصلات المناطق الحارة مثل الكروم والتين والزيتون والصبير (18). ونتيجة لهذا، فقد عُدت أربونة أقصى ثغور الأندلس، تتجمع فيها النجدات والحملات المتجهة إلى فرنسا، بعد أن تمر بالقاعدة الجنوبية الأخرى، وهي برشلونة في الشمال الشرقي من شبه الجزيرة الآيبرية (19).
الفتوح فى عهد عنبسة بن سحيم الكلبي:
أقام الجنود الراجعون من الحملة على جنوبي فرنسا عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي والياً على الأندلس، وكانت هذه ولايته الأولى التي لم تستمر سوى فترة قصيرة جداً (من ذي الحجة 102 - صفر 103 هـ/ حزيران 721 - آب 721 م)، وذلك لأن عامل افريقية استبدله بوال آخر هو عنبسة بن سُحَيم الكلبي الذي وصل الأندلس في صفر 103 هـ/ آب 721 م (20). وكانت الأندلس تعاني من الاضطراب بسبب الهزيمة التي أصابت المسلمين في جنوب فرنسا، وبسبب النزاع المستمر بين القبائل العربية. لذلك فقد قضى عنبسة فترة السنوات الأولى من ولايته في تنظيم وتهدئة البلاد. ويضاف إلى ذلك، أنه وجه جهوده للقضاء على التمرد في جليقية، كما أشرنا إلى ذلك سابقاً. وكان عنبسة ذا حماس للفتوح، وللسير في الطريق التي سلكها السمح من قبله. وكان يرمي إلى الحفاظ على منطقة غالة القوطية، وحماية خطوط مواصلات العرب مع أربونة. ولهذا، فلم تكد الأمور تستقر له، حتى سار بجيش عظيم نحو بلاد غالة، أو جنوب فرنسا، وحاول تدعيم خط الدفاع أمام أربونة. فحاصر مدينة قرقشونة، وافتتحها بعد فترة وجيزة، وذلك بعد أن نزل المدافعون عن البلد على شروطه. فعقد معهم معاهدة صلح وافقوا بموجبها على منح نصف المدينة وما حولها للمسلمين، وأن يدفعوا الجزية، ويطلقوا سراح جميع الأسرى المسلمين الموجودين في المدينة، وأن يلتزموا بروح هذه المعاهدة، وذلك بمقاتلة أعداء المسلمين ومحالفة أصدقائهم (21). واستولى عنبسة بعد هذا على جميع غالة
(18) المرجع نفسه، ص 64 - 65.
(19)
انظر: خليل السامرائي، المرجع السابق، ص 126 - 127.
(20)
ابن القوطية، ص 13؛ أخبار مجموعة، ص 24، ابن عذاري، ج 2، ص 27؛ المقري، ج 1، ص 235.
(21)
(ملحق رقم 4 لكتاب أخبار مجموعة). The Chronicle of Moissac، p. 165
وانظر: ابن عذاري، ج 2، ص 27، المقري، ج 1، ص 235.
القوطية، ووصل إلى نيمس Nimes، وأخذ رهائن من أهلها وأرسلهم إلى برشلونة، القاعدة الإسلامية في شمال شرق الأندلس. ومن هذا المكان سار المسلمون حتى أدركوا نهر رودنة، وصعدوا مع النهر إلى نهر الساؤون، ومن ثم توغلوا في إقليم برغندية وفتحوا مدينة أوتون Autun في 22 آب 725 م/ ربيع الثاني 107 هـ (22). ويذكر بعض المؤرخين أن حملة عنبسة استمرت في سيرها حتى وصلت إلى مدينة أوزة Uzes، وفيفيه Viviers وفالانس Valence وليون، وماسون Macon، وشالون Chalon. ومن هناك تفرعت إلى فرعين، سار الأول نحو ديجون Dijon وبيز Beze ولانجر Langres، واتجه الثاني إلى أوتون مرة أخرى، ولم يقف تيار هذه الحملة إلا قرب بلدة سانس Sens، على بعد ثلاثين كيلومتراً إلى الجنوب من باريس، وذلك بسبب تصدي أسقف سانس للمسلمين ووقفه لتقدمهم (23).
وقد عاد عنبسة ومن معه من الجند، وذلك بعد أن وصلته أنباء بحدوث بعض القلاقل في البلاد. ولكنه لم يتمكن من الوصول إلى الأندلس، فقد هاجمته في طريق العودة جموع كبيرة من الفرنج، فاستشهد نتيجة للمعركة التي حدثت بين الطرفين في شعبان 107 هـ/ كانون الأول 725 م. فقام القائد عذرة بن عبد الله الفهري -وتسميه المصادر المسيحية Hodera أو Hodeyra (24) - بقيادة الجيش والعودة به إلى قواعده.
وهو الذي خلف عنبسة على ولاية الأندلس.
ويبدو أن حملة عنبسة لم تكن ترمي إلى الفتح المنظم الثابت، والدليل على هذا أنه لم يضع الحاميات في بعض المدن التي افتتحها، ولم يعمل على استقرار المسلمين في هذه المدن. وهذا يشير إلى أن حملته لم تكن سوى حملة سريعة بعيدة المدى، قصد منها الاستطلاع والتعرف إلى البلاد تمهيداً لفتوحات لاحقة. "ولو استقر عنبسة في ليون مثلاً"، كما يقول أحد المؤرخين المحدثين، "أو في أحد مراكز غالة الوسطى لكان في إمكاننا أن نقرر أنه فتح جنوبي غالة ووسطها، أما وقد عاد أدراجه بعد أن سار نحو
(22) انظر: تاريخ غزوات العرب ص 73؛ The Chronicle of Moissac، p. 165
(23)
فجر الأندلس؛ ص 246 - 247؛ Cf. R. Abdal، op. cit.، p. 20؛ سالم، تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس، ص 139.
(24)
The Chronicle of 754، p. 153 (no. 53) .
وانظر: المقري، ج 1، ص 235 الذي يفهم من روايته بوفاة عنبسة مستشهداً في بلاد الافرنج، ولكن يذكر ابن عذاري، ج 2، 26، أن عنبسة توفي حتف أنفه ولم يستشهد.
ألف ميل شمالي قرطبة فلا نستطيع القول إلا أن حملته الرائعة تلك لم تكن أكثر من غارة سريعة طويلة أتت بمغانم وفيرة
…
ومهما يكن الأمر فإن عنبسة بن سحيم الكلبي ينفرد بين الفاتحين المسلمين بهذا الفخر، فخر الوصول برايات الإسلام إلى قلب أوروبا الغربية، ولم يدرك هذا الشأو بعد ذلك فاتح مسلم آخر" (25).
ونلاحظ على حملة عنبسة أيضاً أنها بعد أن فتحت قرقشونة لم تستمر بالاتجاه إلى طولوشة في مقاطعة أكيتانية، بل عدلت عن ذلك إلى إقليم بروفانس وبرغندية. ويرجع السبب في ذلك كما يرى بعض الكتّاب المحدثين إلى قيام علاقات صداقة بين المسلمين وبين الدوق أودو، دوق اكيتانية، الذي كان في ذلك الوقت يخشى بأس الدولة الميروفنجية، وحاجب ملكها شارل مارتل، صاحب الأمر في هذه الدولة آنذاك. وكان هذا الأخير يَنْفُس على الدوق أودو مكانته ويتمنى إزالته عن ولاية أكيتانية. وتربط المصادر اللاتينية صداقة الدوق أودو بحاكم شرطانية، منوسة البربري، فتذهب إلى أن الدوق أودو صاهر منوسة وزوَّجه من إحدى بناته لكي يأمنه على بلاده (26). ولهذا فعند قدوم المسلمين بقيادة عنبسة لم يسر لحربهم كما فعل أيام السمح بن مالك، ولم يحاول أن يهاجمهم من الخلف بعد أن تركوا بلاده، بل سهل لهم السير في مقاطعة برغندية، فساروا حتى قاربوا نهر السين. ولهذا فقد انصرف العرب عن بلاده، لأنه كان حليفهم (27). ومن الجدير بالذكر أن هناك من الكتاب الآخرين من ينفي وقوع مثل هذه الصلات بين العرب والمسلمين وبين الدوق أودو، وينفون أيضاً تعاون منوسة مع هذا الدوق، وعدائه لبعض الولاة من أمثال عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي. بل إنهم ينكرون أصلاً وجود شخص باسم منوسة، معتمدين في ذلك على أن هذا الاسم ليس لشخص، إنما قد يكون تحريفاً لاسم مكان (28). ولا تخفى، بطبيعة الحال، الدوافع النبيلة التي تحمل هؤلاء الباحثين على هذا الرأي، وهي محاولة التصدي لبعض المؤرخين المسيحيين المتعصبين والمستشرقين الذين استغلوا هذه القصة أكثر مما يجب للنيل من المسلمين وتشويه فتوحاتهم في جنوب فرنسا. ومع هذا يبدو من الصعب إنكار وجود شخصية منوسة، الذي ورد اسمه ودوره صراحة في حولية سنة 754 اللاتينية أو ما
(25) فجر الأندلس، ص 248.
(26)
The Chronicle of 754، p. 155 (no 58) .
(27)
انظر: فجر الأندلس، ص 253.
(28)
الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 192 - 193؛ خليل السامرائي، المرجع السابق، ص 107 - 108.
تسمى بحولية أزيدور الباجي، المعاصرة لتلك الحقبة، والتي تتميز بعدم تحيز مؤلفها وموضوعيته في سرد الأحداث.
لا تذكر المصادر العربية أية أعمال حربية أو فتوح لعذرة بن عبد الله الفهري. وهذا أمر طبيعي لأن مدة ولاية عذرة كانت قصيرة جداً (شعبان 107 - شوال 107 هـ/ كانون الثاني 726 - آذار 726 م). أما المصادر المسيحية فتنسب إليه القيام بأعمال حربية خطيرة، فتذكر أن النجدات جاءت من الأندلس إلى عذرة بعد توليه القيادة، فاستعرت الحرب من جديد، وأخذ المسلمون يوجهون حملاتهم نحو كل صوب. واتسمت هذه الحملات، على حد زعم رينو Reinaud، بالدمار والتخريب والعيث في المناطق التي توجهت إليها (29). وهذه الروايات ملأى بالمبالغات عما تسميه مساوئ العرب والمسلمين ومظالمهم التي أنزلوها بهذه النواحي. فليس من المعقول أن المسلمين لم يفعلوا في جنوب فرنسا غير التخريب وحرق الأديرة والكنائس، بينما الثابت عنهم أنهم لم يفعلوا هذه الأمور قبل ذلك في أثناء تحريرهم للعراق وبلاد الشام ومصر وشمال أفريقيا وإسبانيا، وكل هذه الأماكن كانت غاصة بالأديرة والكنائس. فما الذي حصل حتى غيّر المسلمين وقلب حالهم ومعاملتهم للشعوب المفتوحة في جنوب فرنسا؟ الواقع لم يحصل شيء، ولم يتغير المسلمون، ولكن حقد المؤرخين المسيحيين المتعصبين هو الذي صوّر لهم نسبة كل حرق وتخريب حصل في المنطقة إلى المسلمين، علماً أن العصر كله كان عصر فوضى واضطراب وحروب بين النصارى أنفسهم في هذه الجهات من غالة على وجه الخصوص. " وإذا نحن قارنّا المسلمين "، على حد تعبير أحد الكتّاب العرب المنصفين، " بالشعوب التي كانت تسود غالة في ذلك الحين، من فرنجة وقوط غربيين وقوط شرقيين وبرغنديين ومن إليهم، لتبينا أن المسلمين كانوا أعظمهم حضارة وأبعدهم عن النهب والتخريب. ومهما بحثنا في حوليات ذلك العصر فلن نجد بين من ظهروا على مسرح الحوادث في غالة خلال النصف الأول من القرن الثامن الميلادي رجالاً نستطيع أن نقارنهم بالسمح بن مالك أو عنبسة بن سحيم أو عبد الرحمن الغافقي "(30).
وعلى أية حال، فلا يمكن أن تكون الحملات والنشاط الحربي للمسلمين في هذه الحقبة إلا سلسلة من الجهود التي قام بها المستقرون منهم في منطقة سبتمانية من أجل تثبيت أقدامهم في هذه الجهات. أما الجهاد والفتح الحقيقي فلم يبدأ إلا بتولي عبد
(29) تاريخ غزوات العرب، ص 73 - 77.
(30)
فجر الأندلس، ص 258 - 259.
الرحمن بن عبد الله الغافقي الأندلس سنة 112هـ/ 730 م، وهي ولايته الثانية. وكان قد تولى الأندلس، بعد عزل عذرة بن عبد الله الفهري عدة ولاة لم يقم أحدهم بعبور جبال ألبرت لاستئناف الفتح، وهم يحيى بن سلمة الكلبي وحذيفة بن الأحوص الأشجعي، وعثمان بن أبي نسعة الخثعمي، والهيثم بن عبيدة الكناني، ومحمد بن عبد الله الأشجعي، ولم تتجاوز مدة حكم كل من هؤلاء، باستثناء يحيى بن سلمة الذي حكم أكثر من سنتين، عدة شهور (31).
الفتوح في عهد عبد الرحمن الغافقي:
كان عبد الرحمن الغافقي من العرب البلديين، أي الذين دخلوا الأندلس مع حملتي طارق وموسى واستقروا فيها. وهو من القادة الأكفاء الذين ساهموا في حملات الفتح في جنوب فرنسا، وقاد المسلمين بسلام إلى الأندلس بعد استشهاد السمح بن مالك في معركة طولوشة. ويبدو من إجماع عرب الأندلس على تقديره أنه كان نزيهاً مؤمناً سليم الإيمان، حريصاً على تطبيق الشريعة فيما يخص توزيع الغنائم على الجنود (32). وكان عبد الرحمن يعد من التابعين، ومن رواة الحديث النبوي الشريف، فقد ورد في ترجمته أنه روى عن عبد الله بن عمر بن الخطاب (33)، ولهذا كان محل احترام صلحاء المسلمين، فضلاً عن جنده، لعدالته في تقسيم الغنائم، وعدم رغبته في حطام الدنيا. ومما يؤسف له أننا لا نجد معلومات مفصّلة عن عبد الرحمن وعهده في المصادر العربية، وكل ما هناك أخبار مقتضبة عن حملته على جنوب فرنسا، ولعل السبب في ذلك يعود إلى الهزيمة التي حلت بالمسلمين في معركة بلاط الشهداء، فاكتفت المصادر العربية بالإشارات الموجزة العابرة إلى هذا القائد والمعركة الأليمة التي خسرها المسلمون. ومن جهة أخرى تسهب المصادر المسيحية في الحديث عنه، وعن الحملة التي قادها إلى فرنسا، كما تشير أيضاً إلى توتر العلاقات بين عبد الرحمن الغافقي، والقائد البربري المسلم، منوسة، الذي كان يحكم في منطقة شرطانية في الشمال. فقد أعلن هذا الأخير التمرد على السلطة، بعد ازدياد التوتر بين العرب والبربر في كل من
(31) ابن القوطية، ص 13؛ أخبار مجموعة، ص 24 - 25؛ ابن عذاري، ج 2، ص 27 - 28، 49.
(32)
ابن عبد الحكم، ص 216 - 217؛ الحميدي، جذوة المقتبس، القاهرة، 1966، ص 274؛ ابن الأثير، ج 5، ص 174 - 175.
(33)
الحميدي، ص 274؛ الضبي، بغية الملتمس، ص 352 - 353.
شمال أفريقيا والأندلس. وتزعم المصادر اللاتينية، أن منوسة عقد الصلح مع الفرنجة، ووثق علاقته معهم، دون استشارة الوالي في قرطبة. ولهذا فبعد سماع الغافقي بالموقف المعادي لمنوسة، وبالعلاقات القائمة بينه وبين الدوق أودو، دوق أكيتانية، أرسل حملة عسكرية نجحت في القضاء على التمرد، وقتلت منوسة (34).
وبعد أن نظم عبد الرحمن الغافقي البلاد، وقضى على الاضطرابات الداخلية، تهيأ لمجابهة تحدي الفرنجة وتهديدهم للحكم العربي الإسلامي في غالة القوطية. ويبدو أن عبد الرحمن الغافقي كان يختلف عمن سلفه من الولاة، فهو من طراز الفاتحين الذين يرسمون خطة الفتح الثابت المستقر. فمن جملة الأسباب التي دعته إلى استئناف الحملات على فرنسا، هو العمل على تأسيس وتثبيت موطئ قدم للمسلمين عبر جبال ألبرت، وتقوية قاعدة أربونة الإسلامية. ومن المحتمل أنه كان ينوي إسكان بعض البربر في منطقة الشمال الغربي من إسبانيا في المناطق المفتوحة في جنوب فرنسا. ويدل على هذا ما جاء في إحدى الحوليات المسيحية من أن المسلمين الذين عبروا إلى فرنسا كانوا بأعداد كبيرة، وقد اصطحبوا نساءهم وأطفالهم وممتلكاتهم المنقولة، مما يدل على أنهم كانوا ذاهبين للاستقرار هناك (35).
اتخذ عبد الرحمن من مدينة بنبلونة قاعدة لتجميع الجند المتوجهين للجهاد معه إلى جنوب فرنسا. ثم عبر جبال ألبرت من ممرات رونشفالة Roncesvalles، أي أنه لم يسلك الطريق المحاذي للبحر الذي يؤدي إلى سبتمانية، بل سلك طريقاً في وسط الجبال يفضي مباشرة إلى قلب دوقية أكيتانية. ولكنه قبل أن يهاجم هذه الدوقية توجه مع فرقة من جنده نحو وادي رودنة لإعادة فتح مدينة آرل Arles التي شقت عصا الطاعة، وتوقفت عن دفع الجزية، فاسترجعها بعد معركة عنيفة (36). ويظن بعض المؤرخين الافرنج أن حملة الغافقي على مدينة آرل لم تكن سوى خدعة قصد بها صرف نظر الفرنجة عن وجهة الحملة الحقيقية، وهي دوقية أكيتانية في الجهة الشمالية (37). فلما سقطت هذه المدينة توجهت جيوش عبد الرحمن مباشرة نحو بوردو عاصمة دوقية
(34) The Chronicle of 754; pp. 155-156 (no. 58) ; cf. Reinaud، op. cit.، pp. 272-273.
( الترجمة العربية: تاريخ غزوات العرب، ص 88 - 89).
Abdal، op. cit.، p. 29.
(35)
( ملحق أخبار مجموعة، رقم 6)، Paul the Deacon، book، 6. p. 167
(36)
عنان، دولة الإسلام في الأندلس، ج 1، ص 90؛ فجر الأندلس، ص 265.
(37)
تاريخ غزوات العرب، نقلاً عن رينو، ص 99.
أكيتانية، التي قاومت مقاومة واهية، فحاول المسلمون فتحها عنوة. وقد حاول الدوق أودو عبثاً أن يمنع تقدم عبد الرحمن وتوغله في أراضيه، فاشتبك معه في معركة حاسمة بالقرب من التقاء نهري الدوردوني Dordongne والجارون Garonne، مما أدى إلى انهزامه هزيمة قاصمة، انسحب على أثرها نحو الشمال. فدخل المسلمون عاصمته، وغنموا فيها غنائم هائلة، وعاقبوا كل من قاومهم من أهلها (38). ثم تقدموا نحو اللوار يفتتحون كل ما وقع تحت أيديهم من المناطق التي تؤدي إلى مدينة تور Tours.
وعندما أدرك الدوق أودو استحالة صد الجيوش الإسلامية الفاتحة، اضطر إلى الاستنجاد بشارل مارتل حاجب ملك الدولة الميروفنجية، وطلب مصالحته لصد المسلمين، خاصة وأن هدف هؤلاء التالي كان الوصول إلى أراضي دولة الفرنجة ذاتها.
وقد أدرك شارل مارتل الخطر، فاستجاب إلى التماس أودو، وشرع في جمع الجند والفرسان من كل صوب، وبعث يستقدم الرجال من حدود الرين، فجاءه هؤلاء وكانوا من المحاربين الشماليين الأشداء الذين لا يقلون عن العرب والبربر شجاعة وقوة وصبراً في الحروب. وبهذا اجتمع للفرنج جيش قوي قادر على الثبات أمام الجيوش العربية الإسلامية (39).
كان المسلمون يتهيأون للاستيلاء على مدينة تور عندما سمعوا بوصول شارل مارتل وجنده. وقد التقى الجيشان في رمضان 114هـ/ تشرين الأول 732 م، وجرت بينهما مناوشات عديدة لمدة سبعة أيام. ثم تحول القتال إلى صدام مروع، رجحت كفة المسلمين في بدايته، لكنهم عجزوا عن اختراق صفوف الفرنجة وحلفائهم من الألمان والسكسون والسويف. يضاف إلى ذلك، أن الفرنجة هاجموا مؤخرة الجيش الإسلامي، مما أدى إلى الاخلال بنظام الجيش. وعندما حاول عبد الرحمن التدخل بشجاعة فائقة لإعادة النظام إلى صفوف جيشه، أصابه سهم من جهة العدو، فخر شهيداً في المعركة.
وقد زاد هذا من إرباك المسلمين، لكنهم استمروا في القتال، وخلصوا مخيمهم في مؤخرة الجيش من أيدي الأعداء، إلى أن أقبل الليل فحجز بين الفريقين. ثم تشاور كبار قادة المسلمين وتوصلوا إلى قرار بالإنسحاب من موقع المعركة. فانتهزوا فرصة الظلام، وتسللوا نحو الجنوب، تاركين خيامهم وغنائمهم التي لم يتمكنوا من حملها معهم.
(38) سالم، تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس، ص 142.
The Chronicle of 754، p. 156 (no. 59) .
(39)
The Chronicle of 754، p. 156 (no. 59) .
وتوجهوا نحو قاعدة المسلمين في سبتمانية وهي أربونة (40). وعندما لاحظ الفرنجة في صباح اليوم التالي خلو معسكر المسلمين، ظنوا أن في الأمر مكيدة، وتريثوا في دخوله.
وبعد أن تبين لهم رحيل المسلمين لم يلاحقوهم إما خوفاً من أن يكون انسحابهم شركاً، أو لاعتقاد شارل مارتل أنه قد أمن بعد هذه الموقعة على مملكته وأصبح لا يخشى عليها من عودة المسلمين. فرجع إلى الشمال مفتخراً بما أحرزه من نصر باهر (41).
وهناك خلاف في المكان الذي حدثت فيه هذه الموقعة الفاصلة، فبالإضافة إلى ما ذكرنا آنفاً من أنها وقعت بالقرب من مدينة تور، فهناك من يرى أنها جرت في ضواحي مدينة بواتييه Poitiers (42) . ويحتمل أن المعركة وقعت، كما يرى أحد المستشرقين الفرنسيين، بالقرب من طريق روماني يربط بين شاتلرو، Chatellerault وبواتييه، على بعد نحو عشرين كيلومتراً من المدينة الأخيرة، ربما بالقرب من مكان يدعى في الوقت الحاضر موسيه لاباتاي Moussais la Bataille (43) . ويذكر المؤرخون العرب أن المعركة حدثت بالقرب من مكان يدعى بلاط الشهداء، مما يفهم منه أن مكان الموقعة كان إلى جوار قصر أو حصن كبير، ربما كانت له علاقة كبيرة بحوادث المعركة (44).
قبل الانتهاء من الحديث عن هذه الموقعة لا بد من الإشارة إلى العوامل التي أدت إلى خسارة المسلمين وتحليل هذه العوامل بشكل علمي دقيق. فلا يخفى أن الجيش العربي الإسلامي توغل مسافات شاسعة في أرض الأعداء، وبعد بذلك عن قلب الدولة الإسلامية. ولم يكن بمقدور الجيش أن يحصل على إمدادات من مركز الخلافة، أو حتى من قرطبة مركز ولاية الأندلس، لبعد المسافة، ولتفرق عرب الأندلس في نواحيها المختلفة نتيجة لاستقرارهم هناك. أما القواعد التي أقامها المسلمون خلف جبال ألبرت، كأربونة مثلاً، فلم تكن في وضع يسمح لها بإرسال الامدادات لحاجتها إليها في الدفاع
(40) Ibid.، pp. 156-157; See aslo: Chronicle of Moissac، p. 166; Reinaud، op. cit.، pp. 397-404
( الترجمة العربية: تاريخ غزوات العرب، ص 101 - 102).
E. Creasy، Fifteen Decisive Battle of the World. London، 1962، pp. 239-254.
فجر الأندلس، ص 271 - 274.
(41)
تاريخ غزوات العرب، ص 102.
(42)
Chronicle of Moissac، p. 166.
(43)
Levi-Provinçal، op. cit.، vol. I. p. 62.
(44)
أخبار مجموعة، ص 225 فتح الأندلس، ص 28؛ وانظر: فجر الأندلس، ص 271، هامش رقم (1).
عن نفسها. ويقابل هذا العامل من الناحية الثانية، تكتل الإمارات في غالة، واستماتتها في الدفاع والوقوف أمام المسلمين. هذا فضلاً عن معرفة الافرنج للمواقع وطبيعتها ودروبها، وتعودهم على القتال في جوها المطير الشاتي وأرضها الموحلة، وتلالها الوعرة. يضاف إلى ذلك، أنه كان من السهل عليهم الحصول على الامدادات من كل نوع، وهذه أمور أساسية حُرم منها جيش عبد الرحمن الغافقي بعد توغله العميق في فرنسا (45).
أما ما يقال عن الخلاف بين صفوف الجيش، والنزاع بين عناصره المؤلفة من العرب والبربر، فلا يتوفر لدينا ما يشير إليه من قريب أو بعيد، اللهم إلا في الروايات المسيحية التي تبني حول قصة منوسة كثيراً من الأحداث الملفوفة بالأساطير. ولكن المتمعن في تكوين عناصر الجيش الذي قاده عبد الرحمن الغافقي، يلاحظ أنه كان يتألف من أغلبية من البربر الذين كانوا مستقرين في منطقتي الأشتوريش وجبال ألبرت.
وبالإمكان التوصل إلى هذا الاستنتاج من حقيقة اتخاذ الغافقي لمدينة بنبلونة مركزاً لتجميع جنده. وكان هناك أيضاً الكثير من العرب في هذا الجيش، لا سيما القبائل اليمنية في منطقة سرقسطة والثغر الأعلى. ولكن البربر شكلوا الأغلبية، وكانوا، كما أسلفنا، برفقة أسرهم. وقد أرهق هذا الموقف الجيش، وقلل من قابليته على المناورة.
ولم يكن باستطاعة الغافقي، الذي كان على علم بهذا الموقف، أن يقوم بعمل أي شيء بسبب رغبة رجاله الشديدة لحماية أسرهم. وهذه الحقيقة بالذات كانت هي السبب في ضعف موقف المسلمين، وليس تلهفهم على الغنائم، كما تحاول أن تصور ذلك بعض الروايات المسيحية (46). وقد أدرك الفرنجة نقطة الضعف هذه في جيش المسلمين.
ولهذا ففي أثناء الموقعة الفاصلة، هاجمت كتيبة من جيش الفرنجة -ربما كانت بقيادة دوق أكيتانية- مؤخرة مخيم المسلمين الذي كان يضم نساءهم وأطفالهم (47). وما إن سمع المسلمون بهذا، حتى ترك الكثير منهم مواقعه، وذهب ليدافع عن أهله وأولاده.
وكان هذا بداية لاختلال النظام في صفوفهم، وعاملاً رئيساً لهزيمتهم في المعركة (48).
(45) انظر: علي المياح، "العوامل السوقية والتعبوية وأثرها على الفتوحات العربية الإسلامية في فرنسا"، مجلة الجمعية الجغرافية العراقية، بغداد، 1969، م 5، 129؛ عبد الرحمن الحجي المرجع السابق، ص 196.
(46)
(تاريخ غزوات العرب، ص 100 - 101). See: Reinaud، op. cit.، pp. 400-401
(47)
( تاريخ غزوات العرب، ص 101). Ibid.، p. 41
(48)
عبد الواحد طه، الفتح والاستقرار العربي الإسلامي في شمال أفريقيا والأندلس، ص 347؛ =
حركة الفتوح بعد معركة بلاط الشهداء:
تعد موقعة بلاط الشهداء من المواقع الحاسمة في التاريخ، لأنها وضعت حداً للفتوح الإسلامية خلف جبال ألبرت. ويعلق المؤرخون الأوروبيون أهمية كبيرة عليها، فيقولون: لو أن العرب انتصروا في هذه المعركة لأصاب أوروبا مثلما أصاب إسبانيا، ولكان القرآن يدرس في جامعات باريس وكمبردج وأوكسفورد. وهناك من لا يعلق أهمية على هذه الموقعة، ويرى أن الامتداد الطبيعي للفتح العربي في إسبانيا هو جبال ألبرت. أما ما قاموا به من عمليات عسكرية وراء هذه الجبال، فلم يكن سوى توغل بدافع الحماس الديني والجهاد في سبيل نشر مبادئ الإسلام، دون أن يعملوا حساباً للتقهقر أو الانسحاب (49). وعلى أية حال فإن حركة الفتوح الإسلامية لم تتوقف بعد موقعة بلاط الشهداء. فقد قام الوالي الذي عُيّن بعد استشهاد عبد الرحمن الغافقي، وهو عبد الملك بن قطن الفهري (رمضان 114 - شوال 116هـ/ تشرين الأول 732 - تشرين الثاني 734 م) في ولايته الأولى، بالتوجه إلى شمال إسبانيا. وهناك قضى على تمرد سكان ولايات كل من قطالونية Catalonia، وأراغون Aragon، ونافار Navarre، والباسك، الذين استغلوا فرصة اندحار المسلمين في جنوب فرنسا، فتمردوا على حكومة قرطبة (50). ثم توجه مباشرة، كما تذكر بعض الروايات المسيحية، عبر جبال ألبرت إلى لانجدوك Languedoc في فرنسا، حيث قام بتحصين المدن التي كانت بأيدي المسلمين (51).
ولكن نشاط حركة الفتوح في جنوب فرنسا ازداد بشكل ملحوظ في ولاية عقبة بن الحجاج السلولي (شوال 116 - صفر 123 هـ/ تشرين الثاني 734 - كانون الثاني 741 م) الذي أعقب عبد الملك بن قطن في ولاية الأندلس. وتتفق كل من المصادر العربية
= وقارن: فجر الأندلس، ص 269 - 270؛ سالم، المرجع السابق، ص 143؛ الحجي، المرجع السابق، ص 197 - 198؛ خليل إبراهيم صالح، جهاد المسلمين وراء جبال البرتات في المصادر العربية، مجلة دراسات في التاريخ والآثار، العدد 2، 1982، ص 193 - 205، حيث يحلل أحداث هذه الحملة شأنها شأن بقية الحملات الأخرى على ضوء المصادر العربية فقط.
(49)
انظر: العبادي، في تاريخ الأندلس والمغرب، ص 88 - 89؛ الحجي، المرجع السابق، ص 199 - 202 - 203.
(50)
ابن الأثير، ج 5، ص 181؛ المقري ج 1، ص 236، ج 3، ص 19.
(51)
(تاريخ غزوات العرب، ص 104) Reinaud، op. cit.، p. 405.
فجر الأندلس، ص 276؛ سالم، المرجع السابق، ص 146.
والمسيحية على أن عقبة كان من أحد كبار القادة المسلمين الذين قادوا الحملات في شمال إسبانيا وجنوب فرنسا. ففي إسبانيا، كما أسلفنا، أخضع معظم المناطق القلقة في الشمال والشمال الغربي، مثل بنبلونة وجليقية والأشتوريش، حيث هاجم بلاي وأتباعه. ثم استأنف الفتوح الإسلامية فيما وراء جبال ألبرت. ونتيجة لنشاط عقبة أصبحت أربونة من أهم القواعد الإسلامية في جنوب فرنسا. وفي ولايته قام العرب المستقرين في لانجدوك بتحصين كل المواقع، التي كانت تدعى الرُبط، جمع رباط، حتى ضفاف نهر الرون Rhone (52) . ومع هذا، فإن زمام المبادرة في هذا المجال لم يكن لعقبة، بل لعامله على أربونة، يوسف بن عبد الرحمن الفهري، الذي سيصبح فيما بعد الوالي الأخير للأندلس. فقد تحالف مع بعض الحكام والأمراء في سبتمانية، وبروفانس. وقد فضل هؤلاء الذين كانوا يخشون كلاّ من شارل مارتل، ودوق أكيتانية، مساعدة المسلمين للسيطرة على ولاياتهم ووضعها تحت الحماية الإسلامية. وكان من ضمن هؤلاء الزعماء، الدوق ماورنت Mauronte، الذي امتدت سلطته على جميع بروفانس، وكان يلقب بدوق مرسيلية Duke of Marseilles (53) .
لقد كان عقبة بن الحجاج متحمساً للأخذ بثأر هزيمة المسلمين في بلاط الشهداء، وتثبيت أقدام الدولة العربية وراء جبال البرتات. من أجل نشر الإسلام، وإغناء بيت المال. وتشير المصادر العربية إلى رغبة عقبة الشديدة في هداية سكان المناطق المفتوحة إلى اعتناق الإسلام، فتروي هذه المصادر، أنه كان من عادته التي لا يتخلى عنها حينما يأسر أسيراً أن يعرض عليه الإسلام. وبهذه الطريقة أسلم على يديه خلق كبير من المسيحيين (54).
ابتدأ عقبة نشاطه في الفتوح بأن اتخذ مدينة سرقسطة في الشمال الشرقي، قاعدة عسكرية له، حيث نظم قواته هناك (55). ويحتمل أنه بدأ من هذا المكان بمساعدة عامله على أربونة وإمداده بالجنود. وفي سنة 117هـ/ 735 م عبر الأخير نهر الرون، ودخل المناطق التابعة لمدينة آرل، ثم توغل بعد ذلك في قلب ولاية بروفانس، وافتتح مدينة
(52) المقري، ج 3، ص 19؛ انظر أيضاً: ابن عذاري، ج 2، ص 29؛ (تاريخ غزوات العرب، ص 105).
Reinaud، op. cit.، p. 407.
(53)
( تاريخ غزوات العرب، ص 104) Ibid.، p. 405.
(54)
ابن عذاري، ج 2، ص 29؛ المقري، ج 3، ص 19.
(55)
The Chronicle of 754، p. 157 (no. 61) .
فرتا Fertta التي تدعى الآن سان ريمي St. Remi. ومن ثم ذهب إلى أفنيون، وافتتحها على الرغم من المقاومة المستميتة التي أبدتها حامية المدينة. وهكذا وقع القسم الأكبر من بروفانس تحت ظل الحكم العربي الإسلامي الذي استمر نحو أربع سنوات (56). وفي هذه الفترة، قامت جيوش الأندلس، ربما بقيادة عقبة نفسه، بمهاجمة العديد من الأماكن الأخرى، مثل دوفينية Dauphine، وسان بول تروا St. Paul Trois Chateaux، ودونزير Donzere. ثم هاجموا ولايات شارل مارتل، وهكذا أدركوا ثأر المسلمين في معركة بلاط الشهداء. وأعادت هذه الجيوش أيضاً فتح مدينة ليون، ودخلت برغندي، وتمكنت من التوغل والوصول إلى جبال دوفينية وبيدمونت Piedmont في إيطاليا (57). ولكن شارل مارتل، الذي ذعر نتيجة لهذه الانتصارات، بادر بالعمل فوراً على مقاومة المسلمين. وتمكن بمساعدة أخيه شلدبراند Childebrand من أن يعيد احتلال الكثير من الأماكن الحصينة مثل أفنيون، ثم تقدم بعد ذلك إلى أربونة التي انقطعت عنها الاتصالات بالأندلس بسبب المقاومة المسيحية في جبال ألبرت. وقد أرسل عقبة، الذي عاد إلى قرطبة، حملة لنجدة أربونة، كانت، كما تذكر الحوليات اللاتينية، بقيادة رجل يدعى عمر. ولم تنجح هذه الحملة التي جاءت إلى أربونة عن طريق البحر في إنقاذ المدينة لأن شارل مارتل تمكن من دحرها بعد فترة وجيزة من نزولها على الشاطئ إلى الجنوب من أربونة (58) على الرغم من ذلك لم يتمكن شارل مارتل من احتلال أربونة التي ظلت قاعدة إسلامية في جنوب فرنسا إلى عهد عبد الرحمن الأول مؤسس الإمارة الأموية.
(56) The Chronicle of Moissac، p. 166; Reinaud، op. cit.، pp. 406-407 ( تاريخ غزوات العرب، ص 104 - 105).
(57)
(تاريخ غزوات العرب، ص 105 - 106) Ibid.، pp. 407-408.
(58)
The Chronicle of Moissac، p. 166; Paul the Deacon، book 6،p. 167; Reinaud، op.
cit.، pp. 404-409.
( الترجمة العربية: تاريخ غزوات العرب، ص 106 وانظر أيضاً الصفحات التي بعدها، فجر الأندلس، ص 281 - 283؛ سالم، المرجع السابق، ص 147 - 148.