الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
إدارة الوقت في السُّنَّة المُطهَّرة
مارس النبيُّ صلى الله عليه وسلم الإدارة ممارسة عملية، وتجلت وظائف الإدارة في سُنَّته القولية والفعلية، ذلك أنه كان يرأس الدولة الإسلامية الفتية الناشئة في المدينة النبويَّة، وسنعرض في هذا المبحث لأهم وظائف الإدارة وتحليلها في ضوء نصوص السُّنَّة النبويَّة، وفي إطار إدارة الوقت.
أولاً: التخطيط
من خلال دراسة السيرة النبويَّة في العهد المكيِّ يمكن القول إن هذه الفترة قد احتوت على نوعين من التخطيط وفقاً للمفهوم المعاصر: تخطيط بعيد المدى أو إستراتيجي، وتخطيط قصير المدى أو تنفيذي (1) . أما في العهد المدني فقد تجلى التخطيط واتضحت معالمه، حيث تم تشكيل دولة الإسلام برئاسة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وسنتلمس في البنود الآتية بعض عناصر التخطيط في السُّنَّة النبويَّة ذات العلاقة بإدارة الوقت، والتي من أهمها:
1 -
تحديد الأهداف وترتيب الأولويات:
وهو عنصر مهم من عناصر إدارة الوقت واستثماره، ولعل ذلك يتضح جلياً من خلال وصيّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن، وكان الهدف من بعثه دعوة أهل اليمن إلى الإسلام. فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: «إنّك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنَّ
(1) انظر: البنا، فرناس عبد الباسط، التخطيط: دراسة في مجال الإدارة الإسلامية وعلم الإدارة العامة، مرجع سابق، ص 111.
محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإيّاك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينه وبين الله حجاب» (1) .
نلحظ من سياق هذا الحديث أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد حدد لمعاذ بن جبل رضي الله عنه أهداف البعثة ورتب له أولويات الدعوة، حتى لا تذهب جهوده سدى، كل ذلك من أجل أن تحقق البعثة أهدافها المرسومة في أقل وقت ممكن.
وقد رتب النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأهداف ترتيباً منطقياً حسب أهميتها وأولويتها، قال الخطَّابي:(إن ذكر الصدقة أُخِّر عن ذكر الصلاة لأنها إنما تجب على قوم دون قوم، وأنها لا تُكرّر تكرار الصلاة)، قال ابن حجر مُعلِّقاً على كلام الخطابيِّ:(هو حسن، وتمامه أن يقال: بدأ بالأهم فالأهم، وذلك من التلطّف في الخطاب لأنه لو طالبهم بالجميع في أوّل مرّة لم يأمن النفرة)(2) .
2 -
التفكر والاعتبار:
جاء في الحديث عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يُلدغ المؤمن من جُحْر واحد مرتين» (3) ، ما يدل على ضرورة التفكير والأخذ بمبدأ الحيطة والحذر من الوقوع فيما سلف من الأخطاء.
3 -
بذل الأسباب والوسائل المشروعة:
بذل الأسباب وتوفير الإمكانات للوصول إلى الغايات وتحقيق الأهداف المشروعة هو مما حث عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم في قوله: «المؤمن القوي خير وأحب
(1) البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، مرجع سابق، كتاب (24) ، باب (63) ، رقم الحديث (1496) ، ص 291. والقشيري، مسلم بن الحجاج النيسابوري، صحيح مسلم، مرجع سابق، كتاب (1) ، باب (7) ، رقم الحديث (19) ، ج1 ص 50.
(2)
ابن حجر، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ، كتاب (24) ، باب (63) ، شرح الحديث ذي الرقم (1496) ، ج3 ص 421.
(3)
البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، مرجع سابق، كتاب (78) ، باب (83) ، رقم الحديث (6133) ، ص 1182. والقشيري، مسلم بن الحجاج النيسابوري، صحيح مسلم، مرجع سابق، كتاب (53) ، باب (12) ، رقم الحديث (2998) ، ج4 ص 2295.
إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز» (1) . فالنص يقرر أن القوة مطلوبٌ تحقيقها في المؤمن، وأنه ينبغي له الحرص على كل ما ينفعه في دينه ودنياه، وفيه أيضًا أمرٌ بطلب العون من الله والتوكل عليه، ونهيٌ عن العجز لأن فيه إهدار للوقت.
4 -
تعليق النتائج بمشيئة الله:
المسلم في سعيه في هذه الدنيا، وفي تأديته لأعماله، وتخطيطه لمستقبل حياته العملية والخاصة، يؤمن بقضاء الله وقدره، ويتوكل على الله في سعيه لأنه سبحانه هو المصرّف للأمور وهو الذي بيده مقاليد كل شيء.
والنبيُّ صلى الله عليه وسلم قد ربّى أمته على ذلك، إذ علّمهم أن تحقيق الهدف مرهون بأمرين: أولهما فعل السبب الملائم، وثانيهما توفيق الله عز وجل. لذا عندما سأل رجلٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في شأن الناقة أيُطلِقها ويتوكل على الله في حفظها وعدم ضياعها أم يعقلها ويتوكل على الله بعد عقلها؟ قال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم حينئذٍ:«اعقلها وتوكل» (2) . وهذا توجيه من النبيِّ صلى الله عليه وسلم للرجل بفعل السبب الملائم لحفظ الناقة من أن تتفلت، وهو القيام بعقلها وشدِّ وَثاقها ثم التوكل بعدها على الله في حفظها.
وقد نهى صلى الله عليه وسلم المسلم عن التحسر على ما فاته، وأمره بالتسليم لقضاء الله وقدره، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:«وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل فإنّ "لو" تفتح عمل الشيطان» (3) . وهذا التوجيه يولّد في نفس المؤمن روح المثابرة وتكرار المحاولة وعدم اليأس والقنوط، حتى لو أتت النتائج على غير المراد، أو كانت عكس المراد، فإنه يحتسب الأجر في ذلك عند الله، وهذا دائماً حال المؤمن الذي
(1) القشيري، مسلم بن الحجاج النيسابوري، صحيح مسلم، مرجع سابق، كتاب (46) ، باب (8) ، رقم الحديث (2664) ، ج4 ص 2052.
(2)
ابن بلبان، الأمير علاء الدين علي بن بلبان الفارسي ت739هـ، صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط3، 1418هـ-1997م، 1-18، رقم الحديث (731) ، ج2 ص 510.
(3)
القشيري، مسلم بن الحجاج النيسابوري، صحيح مسلم، مرجع سابق، كتاب (46) ، باب (8) ، رقم الحديث (2664) ، ج4 ص 2052.
وصفه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأن أمره كله خير في قوله: «عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له» (1) ، أما غير المؤمن فإنه يعتريه السخط وقد يصيبه الإحباط فيؤدي به إلى اليأس والاستسلام للعجز، عياذاً بالله.
ثانياً: التنظيم
يعد التنظيم من الوظائف المهمة التي لها علاقة قوية بالإدارة بعامّة وبإدارة الوقت بخاصّة، وسنعرض هنا لأبرز سمات التنظيم في السنّة النبوية.
1 -
التنظيم الهرمي للوظائف:
عرف المسلمون التنظيم والتسلسل الهرمي في العمل الوظيفي من خلال ممارسات النبيِّ صلى الله عليه وسلم، إذ كان يرأس إدارة الدولة الإسلامية، وكان يستعمل آخرين في وظائف متنوعة من ولاية البلدان وقيادة الجيوش، والقضاء، والشورى، وجباية الصدقات، إلى غير ذلك من الوظائف التي تأخذ شكل الهيكل الإداري.
2 -
التفويض:
التفويض مبدأ مهم من مبادئ إدارة الوقت، ذلك أن الإنسان مهما أوتي من قدرة فإنه لن يستطيع الاضطلاع بالمسؤوليات كافّة، وتحقيق جميع الأهداف بنفسه، ومن هنا كان لابد من التفويض، وفي سيرة النبيِّ صلى الله عليه وسلم الذي أوكل الله إليه دعوة الناس إلى الإسلام، نجده قد استخدم التفويض بفعالية لتحقيق هذا الهدف، منهجه في ذلك قوله تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (2) . فها هو ذا يفوّض أُمَّته في التبليغ عنه
(1) المرجع نفسه، كتاب (53) ، باب (13) ، رقم الحديث (2999) ، ج4 ص 2295.
(2)
سورة يوسف، الآية 108.
بقوله صلى الله عليه وسلم: «بلِّغوا عني ولو آية» (1) . قال المعافى النهرواني (2) : (ولو آية، أي واحدة ليسارع كلُّ سامع إلى تبليغ ما وقع له من الآي ولو قلَّ، ليتصل بذلك نقل جميع ما جاء به صلى الله عليه وسلم (3) .
وقد مارس النبيُّ صلى الله عليه وسلم التفويض ممارسة عملية في حياته الدعوية، حين أرسل مصعب بن عمير إلى المدينة معلماً، وعليَّ بن أبي طالب إلى اليمن داعية، ومعاذ بن جبل إلى اليمن أيضاً داعية وقاضياً، والعلاء بن الحضرمي ومن بعده أَبَان بن سعيد إلى البحرين والياً، كل ذلك لتحقيق هدف نشر الإسلام وتعليمه للناس، وإقامة دولة الإسلام على دعائم إيمانية راسخة، فصنع بذلك أمة استطاعت أن تخرج في فترة زمنية وجيزة من بوتقة التشرذم والتبعية والتقوقع داخل الجزيرة العربية، لتفتح أقطار الدنيا وتبثَّ الدعوة الإسلامية في شتى ممالك الأرض في ذلك الحين.
3 -
تقسيم العمل وتحديد الاختصاصات:
لا شك بأن إسناد الأعمال لأهل الدراية بها والخبرة فيها يسهم بشكل فاعل في إنجازها على الوجه الصحيح، ما يوفر الكثير من الوقت والجهد والمال، لذا فقد جاء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم التحذير من إسناد الأمور إلى غير أهلها وعَدَّه من تضييع الأمانة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ضُيِّعَت الأمانة فانتظر الساعة» قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: «إذا أُسنِد الأمرُ إلى غير أهله فانتظر الساعة» (4) . وقال صلى الله عليه وسلم مثبتًا منقصة الخيانة لمن حابى في تولية من ليس أهلاً للولاية -: «من استعمل رجلاً من عصابة وفي تلك العصابة من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين» . (5)
(1) البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، مرجع سابق، كتاب (60) ، باب (50) ، رقم الحديث (3461) ، ص 666.
(2)
المعافى بن زكريا بن يحيى بن حميد الحافظ العلاّمة القاضي ذو الفنون أبو الفرج النهرواني، كان أعلم الناس في وقته بالفقه والنحو واللغة، ت390هـ. انظر:(الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان ت748هـ، سير أعلام النبلاء، تحقيق شعيب الأرنؤوط وآخرون، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط6، 1409هـ، 1-23، ج16 ص544) .
(3)
ابن حجر، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، مرجع سابق، كتاب (60) ، باب (50) ، شرح الحديث ذي الرقم (3461) ، ج6 ص 575.
(4)
البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، مرجع سابق، كتاب (81) ، باب (35) ، رقم الحديث (6496) ، ص 1245.
(5)
الحاكم، محمد بن عبد الله النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، كتاب (32) ، رقم الحديث (7023) ، ج4 ص 105، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وخالفه الذهبي.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدُّهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبيُّ بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإن لكل أمة أميناً وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح» (1) ، فالحديث إشارة واضحة إلى عظيم علمه صلى الله عليه وسلم بأهمية التخصص في الأعمال، فها هو يخص أبيَّ بن كعب بمعرفة أوجه القراءات، وزيدَ بن ثابت بعلم الفرائض، ومعاذ بن جبل بعلم الحلال والحرام، وأبا عبيدة بأمانة الأمة.
وإسناد العمل إلى المختص به هو من الأسباب المسهمة في إنجاح هذا العمل وإتقانه، وهذا مما شدد عليه الإسلام، سواء في جانب الأعمال التعبدية أو الأعمال الدنيوية، ومما لاشك فيه أن أداء العمل على أسس صحيحة يوفر الجهد والوقت والمال فلا يُهدَر بعد ذلك في التصحيح والتقويم، وإلى ذلك وجّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأمة بقوله:«إن الله تبارك وتعالى يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» (2) ، وهذا التوجيه النبوي يعتبر قاعدةً ثمينة في هذا الباب.
4 -
مراعاة حال العامل المكلَّف:
خلق الله الناس في هذه الحياة وقسم بينهم معيشتهم فيها، وسخّر بعضهم لخدمة بعض، وقد أوصى الإسلام المسلم بالرفق بمن تحت يده من الناس، ومما أُثر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في ذلك قوله:«إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنْزع من شيء إلا شانه» (3)، وكان يقول: «إن إخوانكم خَوَلكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليُطعِمه مما يأكل، وليُلبِسه مما يلبس، ولا تكلِّفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم ما يغلبهم
(1) الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة، سنن الترمذي، تحقيق أحمد محمد شاكر، مكتبة ومطبعة مصطفى الحلبي، ط2، 1398هـ، كتاب (49) ، باب (33) ، رقم الحديث (3791) ، ج5 ص 665، وقال هذا حديث حسن صحيح. وابن بلبان، الأمير علاء الدين علي بن بلبان الفارسي، صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، مرجع سابق، رقم الحديث (7131) ، ج16 ص74.
(2)
البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين 384-458هـ، شعب الإيمان، تحقيق محمد السعيد بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1410هـ 1-8، الباب (35) ، رقم الحديث (5312) ، ج4 ص334. الموصلي، أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى التميمي 210-307هـ، مسند أبي يعلى الموصلي، تحقيق حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث، دمشق، ط1، 1404هـ- 1984م، 1-13، رقم الحديث (4386) ، ج7 ص349.
(3)
القشيري، مسلم بن الحجاج النيسابوري، مرجع سابق، كتاب (45) ، باب (23) ، رقم الحديث (2594) ، ج4 ص 2004.
فأعينوهم» (1) . وقال أيضاً: «إخوانكم أحسنوا إليهم أو قال فأصلحوا إليهم، استعينوهم على ما غلبكم، وأعينوهم على ما غلبهم» (2) . وهو صلى الله عليه وسلم بهذا يحث أمته على الرفق بمن هم تحت ولايتهم، ويؤكد ضرورة معاملتهم بالحسنى ومراعاة أحوالهم، وعدم تكليفهم من الأعمال أكثر من طاقتهم، وإن كُلِّفوا بذلك وجب عونهم ومساندتهم.
ثالثاً: التوجيه
التوجيه والإرشاد من أفضل الأعمال وأجلّها في دين الإسلام، وكتب الحديث حافلة بالنصوص التي تحث على التوجيه بعناصره الثلاثة: الاتصال والقيادة والتحفيز، نسوق منها قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«الدين النصيحة قلنا لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم» (3) ، وثمة توجيه آخر من النبيِّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه ولعامة المسلمين، يتجلى في قوله:«من رأى منكم منكراً فليُغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (4) ، وهذه توجيهات نبوية صريحة في الحث على التوجيه والإرشاد وأن ذلك من فضائل الأعمال وأنه صالح لكل زمان ومكان.
ومن أجل أن يكون التوجيه فعالاً فإنه يتعين أن يكون على فترات دون إطالة؛ لأن الإطالة تبعث على الملل والسآمة، فقد جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا (5) بالموعظة في الأيام مخافة السآمة علينا» (6) .
وقد كان لموضوع الحوافز حيِّزٌ في توجيهات النبيِّ صلى الله عليه وسلم حيث قال: «من استأجر أجيراً فليُعلِمْه أجره» (7) . وقال: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفَّ عَرَقه» (8) . وفي الحديث القدسي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله: «ثلاثة أنا
(1) البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، مرجع سابق، كتاب (49) ، باب (15) ، رقم الحديث (2545) ، ص 481. والقشيري، مسلم بن الحجاج النيسابوري، صحيح الإمام مسلم، كتاب (27) ، باب (10) ، رقم الحديث (1661) ، ج3 ص 1282.
(2)
الموصلي، أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى التميمي، مسند أبي يعلى الموصلي، مرجع سابق، رقم الحديث (920) ، ج2 ص221. والبخاري، محمد بن إسماعيل 194-256هـ،، الأدب المفرد، تحقيق سمير بن أمين الزهيري، مكتبة المعارف، الرياض، 1419هـ - 1998م، 1 -2، رقم الحديث (190) ، ج1 ص 101. وقال: ضعيف.
(3)
القشيري، مسلم بن الحجاج النيسابوري، صحيح مسلم، مرجع سابق، كتاب (1) ، باب (23) ، رقم الحديث (55) ، ج1 ص 74.
(4)
المرجع نفسه، كتاب (1) ، باب (20) ، رقم الحديث (49) ، ج1 ص 69.
(5)
يتخولنا: يتعهدنا. انظر: (الفيروزآبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب، القاموس المحيط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1407هـ - 1987م، باب اللام، فصل الخاء، ص 1287) .
(6)
البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، مرجع سابق، كتاب (3) ، باب (11) ، رقم الحديث (68) ، ص 39. والقشيري، مسلم بن الحجاج النيسابوري، مرجع سابق، كتاب (51) ، باب (19) ، رقم الحديث (2821) ، ج4 ص 2172.
(7)
الأصبهاني، أبو نعيم أحمد بن عبد الله ت430هـ، مسند الإمام أبي حنيفة، تحقيق نظر محمد الفاريابي، مكتبة الكوثر، الرياض، ط1، 1415هـ، ص89. والبيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي 458 هـ، السنن الكبرى، دار المعرفة، بيروت، ط1، 1356هـ، ج6 ص 120.
(8)
الموصلي، أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى التميمي، مسند أبي يعلى الموصلي، مرجع سابق، رقم الحديث (6682) ، ج12 ص 34-35. والبيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي، السنن الكبرى، مرجع سابق، ج6 ص 120.
خصمهم يوم القيامة» وذكر منهم «ورجلٌ استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره» (1) .
رابعاً: الرقابة:
نلمس من خلال نصوص السُّنَّة النبويَّة أن الرقابة نوعان ذاتية وإدارية.
ويتجلى الحث على الرقابة الذاتية في كثير من نصوص السُّنَّة النبويَّة، ومن ذلك قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله» (2) . وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا)(3)(4) . فمحاسبة النفس وتلمّس أوجه الخلل والقصور أمر في غاية الأهمية، وهو صورة من صور الرقابة الذاتية، وخطوة ضرورية لبناء المجتمع السليم، قال ميمون بن مهران (5) :(لا يكون العبد تقيّاً حتى يحاسب نفسه كما يحاسب شريكه، من أين مطعمه وملبسه؟)(6) .
ومن القواعد الكلية في ذلك قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» (7)، وقوله:«من استعملناه منكم على عمل فكتَمَنا مخيطاً فما فوقه، كان غلولاً يأتي به يوم القيامة» (8) .
أما ما يختص بالرقابة الإدارية فنجد أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد حاسب ابن اللّتبية (عامله على الصدقات) وذلك حينما قدم بعد أن جبى الصدقات فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر أيُهدى له أم لا، والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منه شيئاً إلاّ جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو
(1) البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، مرجع سابق، كتاب (37) ، باب (10) ، رقم الحديث (2270) ، ص 423.
(2)
الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة، سنن الترمذي، مرجع سابق، كتاب (38) ، باب (25) ، رقم الحديث (2459) ، ج4 ص 638، وحسنه. والحاكم، محمد بن عبد الله النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، مرجع سابق، كتاب (44) ، رقم الحديث (191) ، ج1 ص 125، وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرّجاه. وخالفه الذهبي.
(3)
(4)
الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة، سنن الترمذي، مرجع سابق، كتاب (38) ، باب (25) ، ج 4 ص638.
(5)
ميمون بن مهران الجزري، أبو أيوب، ثقة فقيه، ولي الجزيرة لعمر بن عبد العزيز، ت 117هـ. انظر:(ابن حجر، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني 773 - 852هـ، تقريب التهذيب، عناية عادل مرشد، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1416هـ - 1996م، رقم الترجمة (7049) ، ص488.
(6)
الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة، سنن الترمذي، مرجع سابق، كتاب (38) ، باب (25) ، ج4 ص638، وحسَّنه.
(7)
البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، مرجع سابق، كتاب (11) ، باب (11) ، رقم الحديث (893) ، ص 179.والقشيري، مسلم بن الحجاج النيسابوري، صحيح مسلم، كتاب (33) ، باب (5) ، رقم الحديث (1829) ، ج3 ص 1459.
(8)
القشيري، مسلم بن الحجاج النيسابوري، صحيح مسلم، مرجع سابق، كتاب (33) ، باب (7) ، رقم الحديث (1833) ، ج3 ص 1465.
شاة تيعر، ثم رفع بيده حتى رأينا عُفْرة إبطيه اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت، ثلاثاً» (1) .
كما حث النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ضرورة الرقابة الإدارية وضرورة التنبيه على أخطاء المسؤولين وذلك في قوله: «أبلغوني حاجةَ مَنْ لا يستطيع إبلاغها، فإنه من أبلغ ذا سلطان حاجةَ مَنْ لا يستطيع إبلاغها ثبّت الله قدميه على الصراط يوم تزلُّ الأقدام» (2) .
وتطبيقاً لهذا المبدأ فقد عزل الرسول صلى الله عليه وسلم العلاءَ بن الحضرمي (عامله على البحرين) حينما اشتكاه وفد عبد القيس، وعيّن بدلاً عنه أبان بن سعيد وأوصاه خيراً بعبد القيس، إذ قال له:«استوص بعبد القيس خيراً وأكرم سراتهم» (3) .
خامساً: اتخاذ القرارات
يؤدي التردد في إصدار القرار اللازم - خوفاً من الإخفاق - إلى إضاعة الجهد والوقت، فعلى المدير الحازم أن يصدر القرار المبني على الأسس والمؤشرات المتوافرة لديه حين إصدار القرار، ويمكن لهذا المدير أن يصحح شتى الظواهر التي قد تفسد فعالية نشاط منشأته أو وحداتها الإنتاجية في المستقبل، وهذا لايعني التسرع في ذلك؛ لأن المراد هنا إصدار القرار بعد الدراسة والتحليل والنظر في الخيارات المبنية على إحصاءات ومعلومات وتوقعات، إلى غير ذلك من أسس صنع القرار.
فالتأنّي محمود لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: «إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحِلْم والأناة» (4) ، ما لم يصل ذلك التأني إلى حد التسويف المضر بمصالح المنشأة.
(1) البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، مرجع سابق، كتاب (51) ، باب (17) ، رقم الحديث (2597) ، ص 491. والقشيري، مسلم بن الحجاج النيسابوري، مرجع سابق، كتاب (33) ، باب (7) ، رقم الحديث (1832) ، ج3 ص 1463.
(2)
البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين، شعب الإيمان، مرجع سابق، باب (14) ، رقم الحديث (1430) ، ج2 ص 156. وابن تيميّة، أحمد بن عبد الحليم 661-728هـ، السياسة الشرعية، دار المسلم، الرياض، 1412هـ-1992م، ص34.
(3)
ابن سعد، محمد بن سعد بن منيع الهاشمي، الطبقات الكبرى، تحقيق محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلميّة، بيروت، ط2، 1418هـ-1997م، 1-8، ج 4 ص 266-267.
(4)
القشيري، مسلم بن الحجاج النيسابوري، صحيح مسلم، مرجع سابق، كتاب (1) ، باب (6) ، رقم الحديث (17) ، ج1 ص48.
والإداري الناجح هو الذي يستفيد من جميع الإمكانات المتاحة، ولا ينفرد برأيه دون الآخرين؛ حيث إن المؤمن إذا وجد الحكمة فهو أحقُّ بها؛ ومن أجلِّ تعريفات الحكمة ما ذكره ابن القيِّم رحمه الله بأنها:(فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي)(1) .
(1) ابن القيم، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن قيم الجوزية 691 - 751هـ، تهذيب مدارج السالكين، هذبه عبد المنعم صالح العلي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط3، 1409هـ - 1989م، ج2 ص 776.