الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
أهمية الوقت في القرآن الكريم
لقد أكد القرآن الكريم على أهمية الوقت مرارًا، وفي سياق مختلف وبصيغ متعددة؛ منها: الدهر، الحين، الآن، اليوم، الأجل، الأمد، السرمد، الأبد، الخلد، العصر، وغير ذلك من الألفاظ الدالة على مصطلح الوقت، وقد يكون لبعضها علاقة بالعمل وطرقه، أو له علاقة بالإدارة وتنظيمها، أو تعلق بالكون والخلق، أو ارتبط بعلاقة الإنسان بربه من حيث العقيدة والعبادة، ويمكن تلمّس ذلك من خلال ما يأتي:
أولاً: الوقت من أصول النعم
إن نعم الله على العباد لا تعد ولا تحصى، قال جل شأنه:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} (1) . ومن أَجَلِّ تلك النعم وأعظمها نعمة الوقت، الذي هو من أصول النعم، فالوقت هو "عمر الحياة، وميدان وجود الإنسان، وساحة ظله وبقائه ونفعه وانتفاعه، وقد أشار القرآن إلى عِظم هذا الأصل في أصول النعم، وألمح إلى عُلوّ مقداره على غيره، فجاءت آيات كثيرة ترشد إلى قيمة الزمن ورفيع قدره وكبير أثره"(2) . يقول الله عز وجل في معرض الامتنان على الإنسان وبيان عظيم فضله عليه: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ *وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ *} (3) . "فامتن سبحانه في جلائل نعمه بنعمة الليل والنهار، وهما الزمن
(1) سورة إبراهيم، الآية 34.
(2)
أبو غدة، عبد الفتاح، قيمة الزمن عند العلماء، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، ط7، 1417هـ - 1996م، ص17.
(3)
سورة إبراهيم، الآيتان 33-34.
الذي نتحدث عنه ونتحدث فيه ويمر به هذا العالم الكبير من أول بدايته إلى نهاية نهايته" (1) .
قال الله تعالى مؤكداً امتنانه علينا بهذه النعم: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ *} (2) . فهذه المخلوقات العظيمة والآيات الباهرة مسخرة من لدن خالقها ومدبر أمرها لخدمة الإنسان ومنفعته.
وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا *} (3) . أي يخلف أحدهما صاحبه؛ إذا ذهب هذا جاء الآخر (4) فما فات الإنسان من العمل في أحدهما يدركه في الآخر.
كما وصف نفسه سبحانه بأنه مالك الزمان والمكان وما يحل فيهما من أمور زمانية أو مكانية، فقال:{وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *} (5) . أي "له جل وعلا ما استقر في الليل والنهار، وهو المالك لكل شيء"(6) .
ثانياً: الإقسام بالوقت
ورد التنبيه في القرآن الكريم إلى عظم الوقت، حيث أقسم الله به في مواطن كثيرة من كتابه العزيز، من ذلك قوله عز وجل:{وَالْعَصْرِ *إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ *} (7)، وقوله:{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى *وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى *} (8)، وقوله:{وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ *وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ *} (9)، وقوله:{وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ *وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ *} (10)، وقوله:{وَالْفَجْرِ *وَلَيَالٍ عَشْرٍ *} (11)، وقوله:{وَالضُّحَى *وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى *} (12)، وقوله:{فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ *وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ *} (13) .
(1) أبو غدة، عبد الفتاح، قيمة الزمن عند العلماء،، مرجع سابق، ص17.
(2)
سورة النحل، الآية 12.
(3)
سورة الفرقان، الآية 62.
(4)
الصابوني، محمد علي، ورضا، صالح أحمد، مختصر تفسير الطبري، عالم الكتب، ط1، 1415هـ-1985م، ج2 ص157.
(5)
سورة الأنعام، الآية 13.
(6)
الصابوني، محمد علي، ورضا، صالح أحمد، مختصر تفسير الطبري، مرجع سابق، ج1 ص317.
(7)
سورة العصر، الآيتان 1-2.
(8)
سورة الليل، الآيتان 1-2.
(9)
سورة المدثِّر، الآيتان 33-34.
(10)
سورة التكوير، الآيتان 17-18.
(11)
سورة الفجر، الآيتان 1-2.
(12)
سورة الضحى، الآيتان 1-2.
(13)
سورة الانشقاق، الآيتان 16-17.
نلحظ في الآيات السابقة أن الله عز وجل أقسم بالوقت مُمثَّلاً في بعض أجزائه؛ فالليل صِنْو النهار، والفجر أول النهار، والشفق أول الليل، والضحى ما بين الغدو والزوال، ولله سبحانه أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، قال الفخر الرازي في تفسير قول الله تعالى:{وَالْعَصْرِ *إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ *} (1) . "إن الدهر والزمان في جملة أصول النعم؛ فلذلك أقسم الله به، ولأن الزمان والمكان هما أشرف المخلوقات عند الله، كان القسم بالعصر قسماً بأشرف النصفين من ملك الله وملكوته"(2) . ويقول الشيخ يوسف القرضاوي: "من المعروف لدى المفسرين، وفي حس المسلمين، أن الله إذا أقسم بشيء من خلقه، فذلك ليلفت أنظارهم إليه، وينبِّهَهم على جليل منفعته وآثاره"(3) .
ثالثاً: ارتباط الوقت بالغاية من الخلق
خُلق الإنسان لغاية نبيلة وهدف سامٍ ألا وهو عبادة الله وعمارة هذه الأرض، وبين هذه وتلك تدور حياة المسلم، فهو بين العبادة والسعي في الأرض، قال الله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ *} (4) . أي "إلا ليُقِرُّوا بعبادتي طوعاً أو كرهاً "(5) . وقال سبحانه أيضاً: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الأَرْضِ} (6) . أي "جعلكم تعمرونها جيلاً بعد جيل وقرناً بعد قرن وخلفاً بعد سلف"(7) .
وقد ارتبطت العبادات جميعها بمواعيد ومواقيت محددة من قبل العزيز الحميد، مما يرفع من أهمية الوقت في حياة المسلم، وعلى رأس تلك العبادات الصلوات الخمس، التي قال الله فيهن:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (8) . أي " مفروضة لوقت بعينه"(9) . فالصلاة
(1) سورة العصر، الآيتان 1-2.
(2)
انظر: الرازي، محمد فخر الدين 544-604هـ، مفاتيح الغيب، دار الفكر، بيروت، 1414هـ - 1994م، ج32 ص 85.
(3)
القرضاوي، يوسف، الوقت في حياة المسلم، مرجع سابق، ص 5.
(4)
سورة الذاريات، الآية 56.
(5)
ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي ت 774هـ، تفسير القرآن العظيم، دار المعرفة، بيروت، ط1، 1406هـ، ج 4 ص 255.
(6)
سورة الأنعام، الآية 165.
(7)
ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي، تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق، ج 2 ص208.
(8)
سورة النساء، الآية 103.
(9)
القرطبي، محمد بن أحمد ت671 هـ، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق عبد الرزاق المهدي، دار الكتاب العربي، ط3، 1421هـ - 2000م 1-20، ج5 ص 356.
عبادة تتكرر في خمسة أوقات مختلفة من اليوم والليلة، ما يجعل المسلم في حال من الارتباط الوثيق بربه عز وجل الذي مكنه من العبادة والسعي في الأرض:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *} (1) . أي "إذا فرغتم من الصلاة فانتشروا في الأرض للتجارة والتصرّف في حوائجكم"(2) .
كذلك الزكاة؛ فإنها لا تجب في المال حتى يتحقق فيه شرطان، الأول أن يبلغ النصاب؛ وهو القَدْر المشروع توافره لوجوب الزكاة فيه، والثاني أن يمضي عليه حول كامل أي سنة كاملة، فإذا تحقق هذان الشرطان وجبت الزكاة في المال إذا كان من النقدين، أي من الذهب والفضة، أو من عروض التجارة، وهو كل ما أعدَّه مالكه للبيع والشراء والمتاجرة، أما الزُّروع فإنّ زكاتها تجب عند الحصاد، قال الله تعالى:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (3) . أي "ادفعوا زكاته يوم جَزِّه وقَطْعِه"(4) .
بعد ذلك يأتي الصوم الذي فرض في شهر رمضان من كل عام، وهو مؤقت برؤية الهلال ابتداءً وانتهاءً، قال الله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (5) .
ثم يليه الحج الذي فُرض على المسلم في العمر مرة واحدة، فنجده محدداً بوقت معلوم (6) ؛ كما قال الله عنه:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (7) .
هذا إضافة إلى الأذكار والنوافل التي يتعبد بها المسلمُ إلى ربّه في كل صباح ومساء، بل في كل حين وعلى كل حال، تحقيقاً لقول الله تعالى:{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ *وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ *} (8)، وقوله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
(1) سورة الجمعة، الآية 10.
(2)
القرطبي، محمد بن أحمد، الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق، ج 18 ص96.
(3)
سورة الأنعام، الآية 141.
(4)
الصابوني، محمد علي، ورضا، صالح أحمد، مختصر تفسير الطبري، مرجع سابق، ج1 ص355.
(5)
سورة البقرة، الآية 185.
(6)
انظر: القرطبي، محمد بن أحمد، الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق، ج 2 ص 401.
(7)
سورة البقرة، الآية 197.
(8)
سورة الروم، الآيتان 17-18.
اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا *وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً *} (1)، وقوله سبحانه:{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} (2) . وقوله عز وجل: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ *} (3) .
رابعاً: الوقت وتعاقب الأهلَّة
ارتبط التقويم الإسلامي بالأشهر القمرية التي تبدأ ببزوغ الهلال وتنتهي باختفائه وبزوغه من جديد ليعلن عن ميلاد شهر جديد، وقد سُئل النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن فائدة ذلك فأنزل الله عز وجل في كتابه العزيز:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (4) . أي "هي مواقيت لكم، تعرفون بها أوقات صومكم وإفطاركم، ومَنْسَك حَجَّكم"(5) . إذاً فالحكمة من وجود الأهلّة أن يستعين بها الناس في التوقيت لأمور حياتهم وعباداتهم؛ فالشهر مجموع أيامٍ، واليوم هو اجتماع ساعات الليل والنهار، وبالأيام والشهور والأعوام يحدد الإنسان مواقيته ويحسبها، يدل على ذلك قوله سبحانه وتعالى:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً *} (6) . وقوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} (7) . أي "لتعلموا دخول السنين وانقضاءها وحساب أيامها"(8) .
(1) سورة الأحزاب، الآيتان 41-42.
(2)
سورة المزمل، الآية 20.
(3)
سورة الشرح، الآية 7.
(4)
سورة البقرة، الآية 189.
(5)
الصابوني، محمد علي، ورضا، صالح أحمد، مختصر تفسير الطبري، مرجع سابق، ج1 ص89.
(6)
سورة الإسراء، الآية 12.
(7)
سورة يونس، الآية 5.
(8)
الصابوني، محمد علي، ورضا، صالح أحمد، مختصر تفسير الطبري، مرجع سابق، ج1 ص493.