الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل فِي الحكم بسهولة الِاجْتِهَاد فِي هَذِه الْأَعْصَار
قد علمت مِمَّا سقناه أَن الله وَله الْحَمد والْمنَّة قد قيض للمتأخرين أَئِمَّة من الْمُتَقَدِّمين جمعُوا لَهُم الْعُلُوم اللُّغَوِيَّة والحديثية من الأفواه والصدور وحفظوها لَهُم فِي الأوراق والسطور وذللوا لَهُم صعاب المعارف وقادوها إِلَى كل ذكي عَارِف ودونوا الْأُصُول واللغة بأنواعها مَعَ انتشارها واتساعها وأدخلوا عُلُوم الِاجْتِهَاد لأَهْلهَا من كل بَاب تَارَة بإيجاز وَتارَة بإسهاب وإطناب وَهَذَا شَيْء لَا شكّ فِيهِ وَلَا ارتياب وَلَا يجهله إِلَّا من لَيْسَ من أولي الْأَلْبَاب الَّذين نحوهم يساق هَذَا الْخطاب وَبعد هَذَا فَالْحق الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ غُبَار الحكم بسهولة الِاجْتِهَاد فِي هَذِه الْأَعْصَار وَأَنه أسهل مِنْهُ فِي الْأَعْصَار الخالية لمن لَهُ فِي الدّين همة عالية ورزقه الله فهما صافيا وفكرا صَحِيحا ونباهة فِي علمي السّنة وَالْكتاب
فَإِن الْأَحَادِيث فِي الْأَعْصَار الخالية كَانَت مُتَفَرِّقَة فِي صُدُور الرِّجَال وعلوم اللُّغَة فِي أَفْوَاه سكان الْبَوَادِي ورؤوس الْجبَال حَتَّى جمعت متفرقاتها ونفقت ممزقاتها حَتَّى لَا يحْتَاج طَالب الْعلم فِي هَذِه الْأَعْصَار إِلَى الْخُرُوج من الوطن وَإِلَى شدّ الرحل والظعن فيا عجباه حِين تفضل الله بجمعها من الأغوار والأنجاد وَسَهل سياقها للعباد حَتَّى أينعت رياضها وأترعت حياضها وأجريت عيونها وتهدلت بثمراتها غصونها وفاض فِي ساحات تحقيقها معينها وَاشْتَدَّ عضدها وَجل ساعدها وَكثر معينها تَقول تعذر الِاجْتِهَاد مَا هَذَا وَالله إِلَّا كفران النِّعْمَة وجحودها والإخلاد إِلَى ضعف الهمة وركودها إِلَّا أَنه لَا بُد مَعَ ذَلِك أَولا من غسل فكرته عَن أدران العصبية وَقطع مَادَّة الوساوس المذهبية وسؤال لِلْفَتْحِ من الفتاح الْعَلِيم وَتعرض لفضل الله {وَأَن الْفضل بيد الله يؤتيه من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم} الْحَدِيد 29 فالعجب كل الْعجب مِمَّن يَقُول بتعذر الِاجْتِهَاد فِي هَذِه الْأَعْصَار وَأَنه محَال مَا هَذَا إِلَّا منع لما بَسطه الله من فَضله لفحول الرِّجَال واستبعاد لما خرج من يَدَيْهِ واستصعاب لما لم يكن لَدَيْهِ وَكم للأئمة الْمُتَأَخِّرين من استنباطات رائقة واستدلالات صَادِقَة مَا حام حولهَا الْأَولونَ وَلَا عرفهَا مِنْهُم الناظرون وَلَا دارت فِي بصائر المستبصرين وَلَا جالت فِي أفكار المفكرين