الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل فِي سَبَب اخْتِلَاف الْأَقْوَال فِي الْجرْح وَالتَّعْدِيل
أما مَا أَشَارَ إِلَيْهِ السَّائِل دَامَت إفادته من أَنه قد يخْتَلف كَلَام إمامين من أَئِمَّة الحَدِيث فيضعف هَذَا حَدِيثا وَهَذَا يُصَحِّحهُ وَيَرْمِي هَذَا رجلا من الروَاة بِالْجرْحِ وَآخر يعدله فَهَذَا مِمَّا يشْعر بِأَن التَّصْحِيح وَنَحْوه من مسَائِل الِاجْتِهَاد الَّذِي اخْتلفت فِيهِ الآراء فَجَوَابه أَن الْأَمر كَذَلِك أَي أَنه قد تخْتَلف أَقْوَالهم فَإِنَّهُ قَالَ مَالك فِي ابْن إِسْحَاق إِنَّه دجال من الدجاجلة وَقَالَ فِيهِ شُعْبَة إِنَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي الحَدِيث
وَشعْبَة إِمَام لَا كَلَام فِي ذَلِك وإمامة مَالك فِي الدّين مَعْلُومَة لَا تحْتَاج إِلَى برهَان فهذان إمامان كبيران اخْتلفَا فِي رجل وَاحِد من رُوَاة الْأَحَادِيث وَيتَفَرَّع على هَذَا الِاخْتِلَاف فِي صِحَة حَدِيث من رِوَايَة ابْن إِسْحَاق وَفِي
ضعفه فَإِنَّهُ قد يجد الْعَالم الْمُتَأَخر عَن زمَان هذَيْن الْإِمَامَيْنِ كَلَام شُعْبَة وتوثيقه لِابْنِ إِسْحَاق فيصحح حَدِيثا يكون من رِوَايَة ابْن إِسْحَاق قَائِلا قد ثبتَتْ الرِّوَايَة عَن إِمَام من أَئِمَّة الدّين وَهُوَ شُعْبَة بِأَن ابْن إِسْحَاق حجَّة فِي رِوَايَته وَهَذَا خبر من شُعْبَة يجب قبُوله وَقد يجد الْعَالم الآخر كَلَام مَالك وقدحه فِي ابْن اسحاق الْقدح الَّذِي لَيْسَ وَرَاءه ورواء وَيرى حَدِيثا من رِوَايَة ابْن إِسْحَاق فيضعف الحَدِيث لذَلِك قَائِلا قد روى لي إِمَام وَهُوَ مَالك بِأَن ابْن إِسْحَاق غير مرضِي الرِّوَايَة وَلَا يُسَاوِي فلسًا فَيجب رد خبر فِيهِ ابْن إِسْحَاق فبسبب هَذَا الِاخْتِلَاف حصل اخْتِلَاف الْأَئِمَّة فِي التَّصْحِيح والتضعيف المتفرعين عَن اخْتِلَاف مَا بَلغهُمْ من حَال بعض الروَاة وكل ذَلِك رَاجع إِلَى
الرِّوَايَة لَا إِلَى الدِّرَايَة فَهُوَ ناشىء عَن اخْتِلَاف الْأَخْبَار فَمن صحّح أَو ضعف فَلَيْسَ عَن رَأْي وَلَا استنباط كَمَا لَا يخفى بل عمل بالرواية وكل من الْمُصَحح والمضعف مُجْتَهد عَامل بِرِوَايَة عدل فَعرفت أَن الِاخْتِلَاف فِي ذَلِك لَيْسَ مَدَاره على الرَّأْي وَلَا هُوَ من أَدِلَّة أَن مَسْأَلَة التَّصْحِيح وضده اجْتِهَاد نعم وَقد يَأْتِي من لَهُ فحولة ونقادة ودراية بحقائق الْأُمُور وَحسن وسعة اطلَاع على كَلَام الْأَئِمَّة فَإِنَّهُ يرجع إِلَى التَّرْجِيح بَين التَّعْدِيل وَالتَّجْرِيح فَينْظر فِي مثل هَذِه الْمَسْأَلَة إِلَى كَلَام الْجَارِح ومخرجه فيجده كلَاما خرج مخرج الْغَضَب الَّذِي لَا يَخْلُو عَنهُ الْبشر وَلَا يحفظ لِسَانه حَال حُصُوله إِلَّا من عصمه الله
فَإِنَّهُ لما قَالَ ابْن إِسْحَاق اعرضوا عَليّ علم مَالك فَأَنا بيطاره فَبلغ مَالِكًا فَقَالَ تِلْكَ الْكَلِمَة الجافية الَّتِي لَوْلَا جلالة من قَالَهَا وَمَا نرجوه من عَفْو الله من فلتات اللِّسَان عِنْد الْغَضَب لَكَانَ الْقدح بهَا فِيمَن قَالَهَا أقرب إِلَى الْقدح فِيمَن قيلت فِيهِ فَلَمَّا وَجَدْنَاهُ خرج مخرج الْغَضَب لم نره قادحا فِي ابْن إِسْحَاق فَإِنَّهُ خرج مخرد جَزَاء السَّيئَة بِالسَّيِّئَةِ على أَن ابْن إِسْحَاق لم يقْدَح فِي مَالك وَلَا فِي علمه غَايَة مَا أَفَادَ كَلَامه أَنه أعلم من مَالك وَأَنه بيطار علومه وَلَيْسَ فِي ذَلِك قدح على مَالك ونظرنا كَلَام شُعْبَة فِي ابْن إِسْحَاق فقدمنا قَوْله لِأَنَّهُ خرج مخرج النصح للْمُسلمين لَيْسَ لَهُ حَامِل عَلَيْهِ إِلَّا ذَلِك وَأما الجامد فِي ذهنه الأبله فِي نظره فَإِنَّهُ يَقُول قد تعَارض هُنَا الْجرْح وَالتَّعْدِيل فَيقدم الْجرْح لِأَن الْجَارِح أولى وَإِن كثر المعدلون وَهَذِه الْقَاعِدَة لَو أخذت كُلية لم يبْق لنا عدل إِلَّا الرُّسُل فَإِنَّهُ مَا
سلم فَاضل من طَاعن من ذَلِك لَا من الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وَلَا أحد من أَئِمَّة الدّين كَمَا قيل
…
فَمَا سلم صديق من رافض
…
وَلَا نجا من ناصبي عَليّ
…
.. مَا سلم الله من بريته
…
وَلَا نَبِي الْهَدْي فَكيف أَنا
…
الْقَاعِدَة ظاهرية يعْمل بهَا فِيمَا تعَارض فِيهِ الْجرْح وَالتَّعْدِيل من المجاهيل على أَنه لَك أَن تَقول كَلَام مَالك لَيْسَ بقادح فِي ابْن إِسْحَاق لما علمت أَنه خرج مخرج الْغَضَب لَا مخرج النصح للْمُسلمين فَلم يُعَارض فِي ابْن إِسْحَاق جرح وَاعْلَم أَن ذكرنَا لِابْنِ إِسْحَاق وَالْكَلَام فِيهِ مِثَال وَطَرِيق يسْلك مِنْهُ إِلَى نَظَائِره وَإِذا عرفت هَذَا فَهُوَ التَّرْجِيح لايخرج مَا ذَكرْنَاهُ عَن كَونه من بَاب قبُول أَخْبَار الْعُدُول بل هُوَ مِنْهُ إِنَّمَا لما تعَارض الخبران عندنَا فِي حَال هَذَا الرَّاوِي تتبعنا حقائق الْخَبَرَيْنِ وَمحل صدورهما والباعث على التَّكَلُّم بهما فَظهر الِاعْتِمَاد على أَحدهمَا دون الآخر فَهُوَ من بَاب قبُول الْأَخْبَار فَهَكَذَا يلْزم النَّاظر الْبَحْث عَن حقائق الْأَحْوَال وَعَن الْبَاعِث عَن صدورها من أَفْوَاه الرِّجَال فَإِنَّهُ يكون كَلَامه بعد ذَلِك أقوم قيلا وَأحسن دَلِيلا وأوفق نظرا وَأجل قدرا فَمن عمل بِرِوَايَة التَّعْدِيل والتزكية وَمن عمل بِرِوَايَة الْقدح وَالتَّجْرِيح وَإِن
كَانَ الْكل قابلين لأخبار الْعُدُول عاملين بِمَا يجب عَلَيْهِم من قبُول خبر الْمَنْقُول فَالْكل مجتهدون وَلَكِن تخالفت الْآثَار وتفاوتت الأنظار وَمن هُنَا نَحوه وَقع اخْتِلَاف الْمُجْتَهدين فِي عدَّة مسَائِل من أُمَّهَات الدّين وَالْكل مأجورون بِالنَّصِّ الثَّابِت مِنْهُم من لَهُ أجر وَمِنْهُم من لَهُ أَجْرَانِ وَمن هُنَا علمت أَن اخْتِلَاف الْأَئِمَّة فِي تَصْحِيح خبر من إِمَام وتضعيفه من إِمَام آخر ناشىء عَمَّا تلقوهُ من أَخْبَار الْعُدُول عَن الروَاة فَهَذَا لإِمَام لم يبلغهُ عَن الروَاة هَذَا الْخَبَر الَّذِي حكم بِصِحَّتِهِ إِلَّا الْعَدَالَة والضبط فصحح أخبارهم وَلِهَذَا تَجِد من يتعقب بعض الْأَحَادِيث الَّتِي صححها إِمَام بقوله كَيفَ تَصْحِيحه وَفِيه فلَان كَذَّاب وَنَحْو هَذَا وَمَعْلُوم أَن من صحّح هَذَا الحَدِيث لم يبلغهُ أَن فِي رِجَاله كذابا وَهَذَا لإِمَام بلغه من أَحْوَال رُوَاة ذَلِك الْخَبَر أَو بَعضهم عدم الْعَدَالَة وَسُوء الْحِفْظ أَو انْقِطَاع الْخَبَر أَو شذوذه حكم عَلَيْهِ بِعَدَمِ الصِّحَّة وَهَذَا مَعْرُوف من جبلة الْعباد وطبائعهم فَمن النَّاس من يغلب عَلَيْهِ حسن الظَّن فِي النَّاس وتلقي أَقْوَالهم بِالصّدقِ وَمن النَّاس من لَهُ نباهة وفطنة وَطول خبْرَة لأحوال النَّاس فَلَا يَكْتَفِي بِالظَّاهِرِ بل يفتش عَن الْحَقَائِق فَيَقَع على الْحق وَالصَّوَاب وَلذَا أطبق النقاد أَن مَا صَححهُ الشَّيْخَانِ مقدم على مَا صَححهُ غَيرهمَا فِي غير مَا انتقد عَلَيْهِمَا كَمَا يَأْتِي عِنْد التَّعَارُض ثمَّ مَا انْفَرد البُخَارِيّ بِتَصْحِيحِهِ مقدم على مَا انْفَرد بِهِ مُسلم وَمَا ذَاك إِلَّا لحذاقة البُخَارِيّ ونقادته ومعرفته بأحوال الروَاة وَغَيره مِمَّن صحّح يقبلُونَ
تَصْحِيحه ويجعلونه فِي رُتْبَة أَعلَى من رُتْبَة مَا لم يُصَحِّحهُ البُخَارِيّ فَهَذَا التَّفَاضُل نَشأ من زِيَادَة الإتقان لأحوال المخبرين أَلا ترى أَن الشَّافِعِي رضي الله عنه مَعَ إِمَامَته يرْوى عَن ابْن أبي يحيى ويعبر عَنهُ بالثقة وَغَيره يقدحون فِيهِ ويتجنبونه فِي الصِّحَاح
وَذَلِكَ من الِاخْتِلَاف فِي أَخْبَار المخبرين عَنهُ فالشافعي رضي الله عنه ثَبت لَهُ عَدَالَته وَضَبطه وَيَأْتِي فِيهِ مَا أسلفناه من أَنه لَو عمل بِرِوَايَة أحد الراويين لترجيح قوي عِنْده عضد مَا يعرفهُ من حَال الرَّاوِي جَازَ ذَلِك فوثقه وَغَيره ثَبت لَهُ غير ذَلِك فتجنبوه وَالْكل عَائِد إِلَى اخْتِلَاف المخبرين