الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كل هَذَا التوقي من الْكَلَام فِي الإفتراضات كَانَ إِيمَانًا بِأَن الجهود الإنسانية مهما بذلت فِي تدوين الْمسَائِل الخيالية والوقائع الْفَرْضِيَّة لَا تستوعبها وَأما عِنْد وُقُوعهَا فَالله الْقَادِر الْقَدِير عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة يقيض من يحلهَا ويجتهد فِيهَا
مدى حريَّة التفكير والإجتهاد عِنْد الْأَئِمَّة وَاخْتِلَاف أَصْحَابهم مَعَهم
إِن الْأَئِمَّة رحمهم الله كَانُوا يبذلون أقْصَى جهودهم للوصول إِلَى الْحق فِي الْمسَائِل الإجتهادية وَمَعَ هَذَا لم يَكُونُوا يقطعون بِأَن إجتهادهم هُوَ مسك الختام وَالْأَمر الآخر الَّذِي لَا يجوز خِلَافه قطعا بل كَانُوا يحتاطون احْتِيَاطًا لَازِما عِنْد إبداء آرائهم فِي الْمسَائِل وَيَخَافُونَ فِي ذَلِك مُخَالفَة النُّصُوص الصَّرِيحَة من الْكتاب وَالسّنة وَلأَجل هَذَا نصوا على الرُّجُوع إِلَى السّنة عِنْد ظُهُور مخالفتهم إِيَّاهَا وأوصوا تلاميذهم وأصحابهم بترك أَقْوَالهم الْمُخَالفَة لَهَا وَهِي مستفيضة فِي مَكَانهَا
وَكَذَلِكَ لَا يتَصَوَّر أَن إِمَامًا من الْأَئِمَّة الْأَعْلَام مهما بلغ من الْعلم وَالْحِفْظ والضبط والإتقان وَالْفضل والوجاهة يسْتَقلّ بالحكم على الشَّيْء ويستبد بِرَأْيهِ ويفرضه على الآخرين فرضا قَالَ الله عز وجل {نرفع دَرَجَات من نشَاء وَفَوق كل ذِي علم عليم} يُوسُف 76 {وَقَالَ} {قل الرّوح من أَمر رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ من الْعلم إِلَّا قَلِيلا} الْإِسْرَاء 85 وَإِنِّي أعتقد وأدين بِأَن الْأَئِمَّة كَانُوا أبعد من أَن يتصفوا بِهَذِهِ الصّفة الكريهة من الاستبداد بِالرَّأْيِ وفرضه على الآخرين وَكَانُوا يدورون حَيْثُ دَار الْحق بِكُل أَمَانَة وإخلاص فَالْحق لَيْسَ محصورا فِي رَأْي أحد قطعا إِلَّا النَّبِي الْمَعْصُوم صلى الله عليه وسلم وَمَا أحسن مَا ورد عَن الإِمَام أبي حنيفَة من قَوْله عِنْد الْإِفْتَاء هَذَا رَأْي النُّعْمَان بن ثَابت يَعْنِي نَفسه وَهُوَ أحسن مَا قدرت عَلَيْهِ فَمن جَاءَ بِأَحْسَن مِنْهُ فَهُوَ أولى بِالصَّوَابِ وَنقل عَن الإِمَام الشَّافِعِي أَنه قَالَ مَا ناظرت أحدا إِلَّا قلت اللَّهُمَّ أجر الْحق على قلبه وَلسَانه فَإِن كَانَ الْحق معي اتبعني وَإِن كَانَ الْحق مَعَه اتبعته انطلاقا من هَذَا المبدأ الْعَادِل من حريَّة التفكير وَتَقْدِير رَأْي الآخرين اخْتلفت الْأَئِمَّة فِيمَا بَينهم فِي الْأُصُول وَاخْتلف أَصْحَابهم مَعَهم أَيْضا فِي الْأُصُول كَمَا اخْتلفُوا مَعَهم فِي الْفُرُوع
فقد اخْتلف أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد بن الْحسن الشَّيْبَانِيّ مَعَ شيخهما الإِمَام أبي حنيفَة حَتَّى فِي الْأُصُول قَالَ السُّبْكِيّ فَإِنَّهُمَا يخالفان أصُول صَاحبهمَا وَقَالَ ابْن خلكان فِي تَرْجَمَة أبي يُوسُف كَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ مَذْهَب أبي حنيفَة وَخَالفهُ فِي مَوَاضِع كَثِيرَة وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيّ استنكف مُحَمَّد بن الْحسن وَأَبُو يُوسُف عَن مُتَابَعَته فِي ثُلثي مذْهبه ووافقا الشَّافِعِي رحمهم الله فِي أَكثر الْمسَائِل وَقَالَ السُّيُوطِيّ وَكَذَلِكَ ابْن وهب وَابْن الْمَاجشون والمغيرة بن أبي حَازِم ومطرف بن كنَانَة لم يقلدوا شيخهم مَالِكًا فِي كل مَا قَالَ بل خالفوه فِي مَوَاضِع واختاروا غير قَوْله وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْمُزنِيّ وَأبي عبيد بن حربويه وَابْن خُزَيْمَة وَابْن سُرَيج فَإِن كلا مِنْهُم خَالف إِمَامه فِي أَشْيَاء وَاخْتَارَ مِنْهَا غير قَوْله يَتَّضِح من هَذَا أَن اجْتِهَاد الْمُجْتَهد ورأيه لَا يُمكن أَن يكون بِمَثَابَة حكم الله عز وجل وَلَو كَانَ كَذَلِك لما سَاغَ لأَصْحَاب الْأَئِمَّة أَن يخالفوا آراء شيوخهم