الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الصيام
القارئ: صيام رمضان أحد أركان الإسلام وفروضه لقول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) الآيات، وعن أبي هريرة رضي عنه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بارزاً للناس إذ أتاه رجل فقال يا رسول الله ما الإسلام؟ قال (أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤتي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان) متفق عليه.
الشيخ: الصيام في اللغة الإمساك ومنه قوله تعالى (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً) أي إمساكاً عن الكلام بدليل قوله (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً) وقول الشاعر:
خيل صيام وخيل غير صائمة
…
تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
فهو الإمساك لكنه في الشرع هو التعبد لله تعالى بالإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. التعبد لله ليس مجرد الإمساك، التعبد لله تعالى بالإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس وفرض في السنة الثانية من الهجرة بالإجماع فصام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسع رمضانات بالإجماع وكان أول فرضه أن الإنسان مخير بين أن يصوم أو يفدي ثم لما اطمأنت النفوس قبلت الفريضة فألزم الله تعالى عباده أن يصوموا وجعل الفدية فيمن لا يستطيع أن يصوم إذا كان عجزه عجزاًُ لا يرجى زواله ثم إن الصيام من حكمة الله عز وجل حتى يتم أنواع التكليف لأن التكليف الذي كلف الله به العباد منه شيء يكون ببذل ما يحبه الإنسان مثل الزكاة فإن الزكاة بذل ما يحبه الإنسان كما قال تعالى (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً) وقد يكون التكليف بمشقة البدن كالحج وقد يكون التكليف بترك المحبوب مثل الصيام وقول المؤلف إنه أحد أركان الإسلام هذا أمر معروف وقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ففي قوله (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فائدتان الفائدة الأولى تسلية هذه الأمة بأنها لم تلزم بشيء يشق عليها وحدها بل ألزمت به الأمم السابقة والفائدة الثانية بيان استكمال هذه الأمة للفضائل التي كانت لمن سبقها وهذا من نعمة الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة أن الله تعالى استكمل الفضائل التي سبقت للأمم والآيات شرحها يطول فلا حاجة أن نتعرض لها إلا إجمالاً (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) التشبيه هنا للفرض بالفرض ولا يلزم أن يتساوى المفروض قد يكون صيامهم مخالفاً لصيامنا لكن الفرض متفق وقوله (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) الجملة
التعليلية لبيان الحكمة من إيجاب الصيام علينا وهي تقوى الله عز وجل ولهذا جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)(أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ) أتى بهذه الصيغة تقليلاً لها لتهون على النفوس فإنها ليست سنين ولا أشهراً ولا أسابيع بل هي أياماً ثم هي معدودات يدركها العد ويحصيها العاد (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) هذا تخفيف آخر فالمريض الذي يشق عليه الصوم والمسافر عليهما عدة من أيام أخر (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) أي يستطيعونه فدية طعام مسكين (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ذكر أن على المطيقين فدية وهي إطعام مسكين ثم بين أن الحكم هو مخير فيه (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) أي تطوع بالفدية (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) وأن تصوموا خير لكم من الفدية، وهنا يحسن الوقوف (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) ويحسن الوقوف أيضاً في كل موضع كان شبه هذا الموضع وقوله تعالى (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن كنتم من ذوي العلم فافهموا هذا واعلموه وإنما قلنا يحسن الوقوف لأنك لو وصلت وقلت (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) صارت الخيرية مشروطة بعلمنا وليس الامر كذلك ثم بين الله تعالى هذه الأيام المعدودات بأنها شهر فقال (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) وسُمي رمضان لأن تسميته كانت في وقت الحر الشديد والرمضاء فوضعه العرب لمناسبة زمنه وسَمَّوه (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) وكأن هذا والله أعلم بيان للحكمة من تخصيص الصوم بشهر رمضان أنه الشهر الذي
أنزل الله فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان هدى للناس عموماً وهذا هداية الدلالة وبينات علامات واضحات من الهدى أي من العلم والفرقان: التمييز بين كل ما يحتاج للتمييز بين الحق والباطل والمؤمن والكافر والبر والفاجر والهدى والضلال وغير ذلك (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) سواء شهد الشهر بنفسه في برية لا يقتضي مخالفة الجماعة في صومه فليصمه وإن لم يسمع خبره أو شهده حكماً بأن كان في بلد فشهد بذلك شاهدان أو شاهد واحد وحكم القاضي بذلك فإنه يجب الصوم (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ولم يقل وعلى الذين يطيقونه لأن هذه الآية ناسخة للآية الأولى فأوجب الله الصيام عيناً ثم رخص في الفطر لمن كان مريضاً وبين الله عز وجل أنه أراد بذلك التيسير على عباده فقال (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) هذه خلاصة يسيرة من الكلام على هذه الآيات العظيمة.
القارئ: ولا يجب إلا بشروط أربعة الإسلام فلا يجب على كافر أصلي ولا مرتد.
والعقل فلا يجب على مجنون.
والبلوغ فلا يجب على صبي لما ذكرنا في الصلاة وقال بعض أصحابنا يجب على من أطاقه لما روى عبد الرحمن بن أبي لبيبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا أطاق الغلام صيام ثلاثة أيام وجب عليه صيام شهر رمضان)، ولأنه يعاقب على تركه وهذا هو حقيقة الواجب والمذهب الأول: لقول النبي صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ) ولإنه عبادة بدينة فلم يلزم الصبي كالحج وحديثهم مرسل ثم يحمل على تأكيد الندب كقوله (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) لكن يؤمر بالصوم إذا أطاقه ويضرب عليه ليعتاده كالصلاة.
الشيخ: يقول المؤلف لا يجب إلا بشروط أربعة الأسلام لا يجب على كافر أصلي ولا مرتد لكن هل يأثم بتركه؟ الجواب نعم يأثم بتركه ويعاقب عليه ولا سيما المرتد وعلى هذا فمن لا يصلي لا يجب عليه صوم رمضان ولو صام لم يصح لانه كافر مرتد لكنه يأثم بذلك عند الله عز وجل.
والثانى: العقل فلا يجب على مجنون لأن الصيام نية وإمساك والمجنون لا نية له ولا يعقل ولا يفهم ولهذا رفع القلم عنه كما جاء في الحديث ومثل ذلك من فقد حاسته لكبر أو حادث لا يرجى زواله فإنه لا يجب عليه الصوم مثل المهذري كبير السن الذي بلغ سناً لا يحسن فيه القول فهو بمنزلة الصبي وليس عليه صوم وكذلك من أصيب بحادث أذهب عقله على وجه لا يرجى برؤه أما اذا كان يرجى برؤه بأن أغمي عليه فقط فهذا إذا أفاق فإنه يقضي لكن إذا زال عقله كلياً فإنه لا صوم عليه يعني وإذا لم يكن عليه صوم فلا فدية عليه.
الثالث البلوغ فلا يجب على الصبي لأنه مرفوع عنه القلم ولأنه ليس أهلاً لأن يكلف لصغره وعدم تحمله وأما الرواية الثانية أنه يجب فإنها ضعيفة لكن العلماء قالوا يجب على ولي أمره أن يأمره به ويضربه عليه ليعتاده لأنه يحتاج إلى تعويد النفس وترويضها حتى إذا بلغ وإذا هو قد استعد وتهيأ.
القارئ: فإن أسلم كافر أو أفاق مجنون أو بلغ صبي في أثناء الشهر لزمهم صيام ما يستقبلونه لأنهم صاروا من أهل الخطاب فيدخلون في الخطاب فيه ولا يلزمهم قضاء ما مضى لأنه مضى قبل تكليفهم فلم يلزمهم قضاؤه كرمضان الماضي وإن وجد ذلك منهم في أثناء نهار لزمهم إمساك بقيته وقضاؤه، وعنه لا يلزمهم ذلك لأنه نهارٌ أبيح لهم فطر أوله ظاهراً وباطنا فلم يلزمهم إمساكه كما لو استمر العذر، ولأنهم لم يدركوا من وقت العبادة ما يمكنهم التلبس بها فيه فأشبه ما لو زالت أعذارهم ليلا وظاهر المذهب الأول لأنهم أدركوا جزءاً من وقت العبادة فلزمهم قضاؤها كما لو أدركوا جزءاً من وقت الصلاة ويلزمهم الإمساك لحرمة رمضان كما لو قامت البينة بالرؤية في أثناء النهار وإن بلغ الصبي وهو صائم لزمه إتمام صومه رواية واحدة لأنه صار من أهل الوجوب فلزمه الإتمام كما لو شرع في صيام تطوع ثم نذر إتمامه قال القاضي ولا يلزمه قضاؤه لذلك وقال أبو الخطاب يلزمه القضاء كما لو بلغ في أثناء الصلاة.
الشيخ: هؤلاء الثلاثة حدث سبب الوجوب في حقهم الصبي بلغ والثاني الكافر أسلم والثالث المجنون أفاق يعني أنه حدث سبب الوجوب في حق هؤلاء فما مضى لا يقضونه لأنهم ليسوا أهلاً للوجوب وما يستقبل يصومونه لأنهم صاروا أهلاً للوجوب بقينا في اليوم الذي يحدث فيه سبب الوجوب ماذا عليهم؟ فصارت الأحوال الآن ثلاثة الأولى ما مضى قبل وجود سبب الوجوب فهذا لا يلزمهم قضاؤه لأنهم ليسوا أهلاً لوجوبه.
والثاني ما يستقبل يلزمهم فعله لأنهم صاروا أهلاً للوجوب.
والثالث إذا كان هذا في أثناء النهار مثال ذلك رجل كافر فأسلم في أثناء النهار أسلم قبل الزوال في اليوم العاشر نقول: الأيام التسعة لا يلزمه قضاؤها لأنه ليس أهلاً للوجوب والحادي عشر وما بعده يلزمه صيامها لأنه صار من أهل الوجوب وأما العاشر قال بعض أهل العلم إنه يلزمهم الإمساك والقضاء وهذا هو المذهب قالوا يلزمهم الإمساك لحرمة الزمن ويلزمهم القضاء لأنهم لم يصوموا يوماً كاملاً فلزمهم قضاؤه وقيل إنهم لا يلزمهم الإمساك ولا القضاء لأنهم ليسوا من أهل الوجوب في أول النهار والصوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فهم ممن يباح لهم الأكل ظاهراً باطناً في أول النهار فلا يلزمهم إمساك ولا قضاء وهذا عكس القول الأول.
القول الثالث يلزمهم الإمساك دون القضاء وهذا هو الراجح أنه يلزمهم الإمساك لأنهم صاروا من أهل الوجوب ولا يلزمهم القضاء لأنهم في أول النهار ليسوا من أهل الوجوب وهذا هو الذي تقوم عليه الأدلة فإنهم في أول النهار ليسوا من أهل الوجوب لا ظاهراً ولا باطناً وفي آخر النهار من أهل الوجوب ظاهراً وباطناً فيلزمهم الإمساك وأما القضاء فلا يلزمهم انتبهوا لهذه المسألة وهذا إذا حدث سبب الوجوب أما إذا ارتفع المانع فسيأتي إن شاء الله الكلام فيه.
وكلام أبي الخطاب رحمه الله حيث قال إنه يلزمه القضاء كما لو بلغ في أثناء الصلاة، فالصبي إذا بلغ في أثناء النهار والصواب كما علمتم أنه لا يلزمه القضاء لكن إذا بلغ في أثناء الصلاة فأبو الخطاب يرى أنه يلزمه قضاؤها لأنه شرع فيها على أنها نافلة والصحيح أنه لا يلزمه قضاؤها وأن الصبي إذا بلغ في أثناء الصلاة فإنه يكملها وتجزئه عن الفريضة لأنه قام بما أمر به وليست نفلاً مطلقاً فصلاة الصبي للظهر مثلاً هل هو يصليها على أنها نفلٌ مطلق أو يصليها على أنها صلاة ظهر؟ على أنها صلاة ظهر ووصفها بأنها نافلة قبل البلوغ وفريضة بعد البلوغ تتعلق بالصلاة نفسها لا يتعلق بالفاعل وعلى هذا فإذا بلغ في أثناء الصلاة فإنه لا قضاء عليه يستمر وتصح صلاته فريضة فإن قال إنسان كيف يبلغ في أثناء الصلاة؟ أما العانة فالظاهر أنه لا يمكن ذلك وأما الإنزال يمكن ولكن لو أنزل بطلت صلاته والزمن وهو تمام خمس عشرة سنة نقول: هذا الإنسان محرر ولادته في الساعة الواحدة من بعد الظهر في اليوم الخامس عشر من شهر محرم مثلاً وفي الساعة الواحدة من شهر محرم الذي يتم فيه خمس عشرة سنة حينئذ يكون بلغ فإذا صادف أن هذه الساعة هو يصلي قلنا هذا الرجل فى أول صلاته كان غير بالغ وفى آخر صلاته أصبح بالغاً والصحيح أنه لا يلزمه القضاء.
فصلٌ
القارئ: الشرط الرابع الإطاقة فلا يجب على الشيخ الذي يجهده الصوم ولا المريض الميئوس من برئه لقوله تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) وعليه أن يطعم لكل يومٍ مسكيناً لقوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) قال ابن عباس كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما لا يطيقان الصيام أن يفطرا ويطعما عن كل يوم مسكيناً والحامل والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا رواه أبو داود فإن لم يكن له فدية فلا شيء عليه للآية الأولى.
الشيخ: الإطاقة ضدها العجز والعجز نوعان عجز يرجى زواله وعجز لا يرجى زواله فأما العجز الذي لا يرجى زواله فقد بينه الله عز وجل في كتابه فقال: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) هذا نقول: انتظر حتى يزول المانع ثم تقضي الصوم أما العجز الذي لا يرجى زواله كالكبر والمرض الذي لا يرجى برؤه هذا لا يلزمه الصوم لأنه عاجز ولكن ماذا يصنع؟ يطعم عن كل يوم مسكيناً لقول الله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ومعنى يطيقونه قيل معناها يتكلفونه أي يبلغ طاقتهم بحيث لا يحتملونه وقيل وهو الصحيح يطيقونه أي يدخل تحت طاقتهم ويدركونه بلا مشقة والدليل على هذا أنه ثبت في الصحيحين من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنه أول ما فرض الصيام كان الناس يُخيَّرون من شاء صام ومن شاء افتدى حتى أنزل الله تعالى (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) فلزم الصوم ويدل على هذا القول وإن كان ثابتاً في الصحيحين أيضاً هو ظاهر الآية (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) إذاً يخاطب الله الذين يستطيعون فقال (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) ولكن وجه قول ابن عباس رضي الله عنه إنها نزلت في الكبير والشيخ والشيخة وجه ذلك والله أعلم أن الله سبحانه وتعالى جعل الإطعام عديلاً للصوم حين كان التخيير بينهما فإذا تعذر الصوم رجعنا إلى الإطعام فنقول: لما تعذر الصوم على هؤلاء لزمهم الإطعام ولكن كيف الإطعام هل يطعمون إطعام ثلاثين مسكيناً أو يطعمون ثلاثين مسكيناً؟ يطعمون ثلاثين مسكيناً إن كان الشهر
ثلاثين أو يطعمون تسعة وعشرين مسكيناً إن كان الشهر تسعة وعشرين والفرق بين العبارتين إذا قلنا إطعام ثلاثين صار يجوز أن نعطيها واحداً وهذا لا يجوز لأن كل يوم له مسكين ولكن هل يعطي المساكين طعاماً يملكونه بأن يعطيهم رزاً أو تمراً أو ما أشبه ذلك أو له أن يطعمهم شيئاً ناضجاً؟ الصحيح أنه مخير وأن ينظر المصلحة إذا كانت المصلحة أن يعطي هؤلاء الفقراء الطعام وهم يطبخونه ويتولونه فهو أفضل وإذا كانت المصلحة في العكس فهو أفضل وهذا يختلف باختلاف الأحوال واختلاف الأزمان يأتي زمان على الناس لا يستطيع الفقير أن يطبخ الطعام فيكون هنا الأولى أن يعطاه ناضجاً فيدعى ثلاثون مسكيناً ويطعمون إما غداءً وإما عشاء وكان أنس بن مالك رضي الله عنه حين كبر كان يدعو ثلاثين فقيراً يطعمهم أدماً وخبزاً وهذا القول هو الصحيح أنه يجوز أن يطعمهم ناضجاً أو نيئاً ولكن الأفضل أن ينظر لمصلحة الفقير.
السائل: تارك الصلاة إذا جمع إلى ذلك أنه لايصوم ثم تاب فماذا عليه؟
الشيخ: لا يقضي الصيام لأنه كافر حتى على القول الصحيح لو كان يصلي وهو مسلم ولكن ترك الصوم عمداًَ فإنه لا يقضي لأن القاعدة أن كل عبادة مؤقتة إذا أخرها الإنسان عن وقتها بدون عذر شرعي فإنها لا تقبل منه لقوله صلى الله عليه وسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
السائل: ما معنى (أبيح لهم الفطر ظاهراً وباطناً)؟
الشيخ: ظاهراً وباطناً يعني أصلاً أنه لا يجب عليه الصوم بخلاف ما كان أصلاً يجب عليه الصوم فهذا يباح له ظاهرا وسيأتينا هذا إن شاء الله في وجود الموانع.
السائل: لوكرر الإطعام على مسكين واحد فهل يجزيء؟
الشيخ: لا لا يكرره عليه هذا هو معنى قولنا قبل قليل هل يطعم ثلاثين أو يفرق إطعام ثلاثين، لا بد بعدد الأيام.
فصل
القارئ: ومن لزمه الصوم لم يبح له تأخيره إلا أربعة:
أحدها الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما فلهما الفطر وعليهما القضاء وإطعام مسكين لكل يوم لما ذكرنا من الآية وإن أفطرتا خوفاً على أنفسهما فعليهما القضاء حسب كالمريض.
الثاني الحائض والنفساء لهما الفطر ولا يصح منهما الصيام لما ذكرنا في باب الحيض، والنفاسُ كالحيض فنقيسه عليه ومتى وجد ذلك في جزء من اليوم أفسده وإن انقطع دمها ليلاً فنوت الصوم ثم اغتسلت من النهار صح صومها (لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جُنباً من جماع ثم يغتسل ويتم صومه) متفق عليه وهذه في معناه.
الثالث المريض له الفطر وعليه القضاء لقول الله تعالى (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) والمبيح للفطر ما خيف من الصوم زيادته أو إبطاء برئه فأما ما لا أثر للصوم فيه كوجع الضرس والإصبع ونحوه فلا يبيح الفطر لأنه لا ضرر عليه في الصوم ومن أصبح صائماً فمرض في النهار فله الفطر لأن الضرر موجود والصحيح إذا خاف على نفسه لشدة عطش أو جوع أو شبق يخاف أن تنشق أنثياه ونحو ذلك فله الفطر ويقضي لأنه خائف على نفسه أشبه المريض ومن فاته الصوم لإغماء فعليه القضاء لأنه لا يزيل التكليف ويجوز على الأنبياء عليهم السلام ولا تثبت الولاية على صاحبه فهو كالمريض.
الشيخ: يقول المؤلف رحمه الله تعالى الثالث المريض. المريض له الفطر وعليه القضاء وقوله له الفطر اللام هنا للإباحة في مقابلة المنع أي المنع من الفطر فلا يمتنع أن يقول إن الفطر في حقه سنة بل إنه قد يجب الفطر وذلك أن المريض إن تضرر بالصوم لزمه الفطر وإن شق عليه بلا ضرر سن له الفطر وإن كان لا يشق عليه ولا يتضرر به فليس له الفطر وإن كان بعض العلماء قال إن له الفطر لعموم قوله (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ) فكل ما يسمى مرضاً فإنه يبيح الفطر سواء شق عليه أم لم يشق لكن الاحتياط أن يقال لا يفطر المريض إلا إذا كان عليه مشقة فقوله رحمه الله له الفطر في مقابل المنع يقول المؤلف وعليه القضاء لقوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) والمبيح للفطر ما خيف من الصوم زيادة المرض أو إبطاء برئه هذا هو المبيح فإذا خيف زيادة المرض أو إبطاء برئه أو المشقة بحيث يتعب المريض إذا صام فكل هذا يبيح له الفطر وأما ما لا أثر للصوم فيه كوجع الضرس والإصبع ونحوه فإنه لايبيح الفطر ما لم يكن هناك أشياء تترتب على هذا أما مجرد وجع الضرس فإنه لا يستفيد منه الإنسان إذا أفطر لكن لو قال له الطبيب إنك إذا أفطرت وأكلت الغذاء فإن هذا يهون عليك المرض مرض السن أو الضرس قلنا لا بأس لأنه أحياناً يكون نقص الغذاء سبباً لطول المرض والتألم ووجع العين مثله إذا كان يؤثر عليه الصوم فإنه يفطر وإذا كان لا يؤثر فإنه لا يفطر.
ومن أصبح صائماً فمرض في أثناء النهار فله الفطر لأن الضرر موجود معناه وإذا حدث ما يمنع الوجوب فهل له الفطر؟ نقول: نعم إذا حدث المرض في أثناء النهار وصار يشق عليه أو يخاف منه الضرر فله أن يفطر لأن الضرر موجود والصحيح إذا خاف على نفسه من شدة العطش أو جوع أو شبق يخاف تشقق الأنثيين أو نحو ذلك فله الفطر لأن هذا بمنزلة المرض إذا خاف العطش لكن ليس المراد مجرد العطش بل العطش الذي يخاف منه الهلاك أو يخاف منه الضرر مثلاً يوجد بعض الناس المصابين بالسّكر يحتاجون إلى الماء كثيراً فإذا كان هو ليس مريضاً يعني ظاهره أنه يروح ويأكل ويشرب نقول: إذا قال الأطباء إن فقد الماء يؤثر عليك وإنه يخشى عيك فله أن يفطر وكذلك الجوع يوجد بعض الناس لا يتحمل لاسيما في أيام الصيف وطول النهار لا يتحمل أن يبقى من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ويخشى على نفسه الضرر فنقول: افطر والأمر واسع والحمد لله وإذا كان يخشى على نفسه من الشبق فإن له الفطر والشبق مرض وليس شدة الشهوة بل هو مرض وقد حدثني بعض المصابين به نسأل الله العافية أنه بمجرد ما يشتهي وتدور شهوته ينزل الماء إلى كيس الخصيتين ثم تنتفخ انتفاخاً عظيماً حتى ينزل ومثل هذا المرض مرض عظيم نسأل الله العافية فإذا كان يخشى تشقق أنثييه فله أن يفطر لأن هذا من أعظم المرض. قال ويقضي لأنه خائف على نفسه لأنه أشبه المريض.
القارئ: ومن أغمي عليه جميع النهار لم يصح صومه لأن الصوم الإمساك ولا ينسب ذلك إليه وإن أفاق في جزء من النهار صح صومه لوجود الإمساك فيه وإن نام جميع النهار صح صومه لأن النائم في حكم المنتبه لكونه ينتبه إذا نبه ويجد الألم في حال نومه.
الشيخ: هذا واضح يعني يفرق بين الجنون والإغماء والنوم فإذا جُنَّ من قبل الفجر إلى غروب الشمس لا شيء عليه لا قضاء عليه وصومه غير صحيح لأنه ليس من أهل التكليف والمغمى إذا أغمي عليه من قبل الفجر إلى غروب الشمس يلزمه القضاء فإن أفاق جزءً من النهار وكان قد نوى الصوم قبل الإغماء فإنه يجزئه.
والنائم لو نام قبل طلوع الفجر إلى أن غربت الشمس فصومه صحيح فالنائم ضد المجنون، المجنون ليس عليه قضاء والمغمى عليه قضاء ما لم يفق جزءاً من النهار وكان قد نوى من قبل الفجر والنائم صومه صحيح ولا شيء عليه والفرق ظاهر وهذا بخلاف الصلاة فإن القول الراجح في الصلاة أنه إذا أغمي على الإنسان بغير عمدٍ منه فإنه لا قضاء عليه كما لو أغمي عليه لمرض أو لحادث أو ما أشبه ذلك وإن أغمي عليه بقصد منه كما لو أغمي عليه ببنج فيكون هوالذى قد تعمد فيلزمه قضاء الصلاة.
القارئ: الرابع السفر الطويل المباح يبيح الفطر للآية ولايباح الفطر لغيره لما ذكرنا في القصر ولا يفطر حتى يترك البيوت وراء ظهره لما ذكرنا في القصر وللمسافر أن يصوم ويفطر لما روى حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم أصوم في السفر؟ قال (إن شئت فصم وإن شئت فافطر) متفق عليه والفطر أفضل لقول النبي صلى الله عليه وسلم (ليس من البر الصوم في السفر) متفق عليه، ولأنه من رخص السفر المتفق عليها فكان أفضل كالقصر.
الشيخ: أما السفر القصير الذي لا يبلغ المسافة أو لا يعد سفراً عند الناس فهذا لا يبيح له الفطر لقول الله تعالى (أَوْ عَلَى سَفَرٍ) واشترط المؤلف أن يكون مباحاً فإن كان محرماً وهو الذي عصى الله به فإنه لا يحل له الفطر مثل أن يكون هذا الرجل قد سافر لفعل الفاحشة أو لشرب الخمر أو قتال المسلمين أو ما أشبه ذلك فهذا سفره محرم وأما العاصي في سفره فهذا له الفطر والفرق بينهما أن الأول لم يحمله على السفر إلا المعصية أما الثاني فله غرض أخر لكن عصى في سفره. ونظير هذا وإن كان ليس من بحثنا إذا استأجر منك إنسان بيتاً يريد أن يضع فيه مسرحاً للهو فتأجيره حرام ولو استأجره منك ليسكنه ثم جعل منه مسرحاً للهو فتأجيره ليس بحرام والفرق أنه في الأول استأجره لفعل المحرم والثاني استأجره لفعل مباح لكنه فعل فيه المحرم.
اشترط المؤلف أن يكون طويلاً وأن يكون مباحاً لقوله تعالى (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) وقال المؤلف: للمسافر أن يصوم ويفطر والفطر أفضل ثم استدل لذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم (ليس من البر الصوم في السفر) وفيما ذهب إليه المؤلف نظر والصواب أن المسافر له أن يصوم ويفطر لأن الصحابة (كانوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم منهم الصائم ومنهم المفطر فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم) وكذلك حديث حمزة بن عمرو الأسلمي حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم (إن شئت فصم وإن شئت فافطر) وأما قول المؤلف إن الفطر أفضل ففيه نظر أولاً: لأنه استدل بما هو أخص من العموم فإن قول الرسول صلى الله عليه وسلم (ليس من البر الصيام في السفر) إنما قاله في حال معينة وهي أنه رأى زحاماً ورجلاً قد ضلل عليه والناس يتزاحمون عليه ينظرون ما حاله فقال ما هذا؟ قالوا صائم قال (ليس من البر الصيام في السفر) يعني إذا أدى إلى هذه الحال فليس من البر وهذا لاإشكال فيه ولا يقال إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب نقول: نعم العبرة بعموم اللفظ ولهذا قلنا يشمل هذا الرجل وغيره من كانت حاله كحاله لكن إذا علمنا أن الحكم رتب على حال معينة فإنه لا يجوز أن نعممه وإلا لقلنا إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعل البر لأنه كان يصوم في السفر فالقول الراجح أن يقال من شق عليه الصوم في السفر فليس من البر أن يصوم ومن لم يشق عليه فالأفضل الصيام لوجوه ثلاثة:
الوجه الأول أنه فِعْل النبي عليه الصلاة والسلام فإنه كان يصوم في السفر قال أبو الدرداء رضي الله عنه (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان في سفر في شدة الحر حتى إن الرجل ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة) وعلى هذا نقول: إن الصوم في السفر أفضل لأنه سنة الرسول عليه الصلاة والسلام ولأنه كان يصوم فجيء إليه بعد صلاة العصر وقيل يا رسول الله إن الناس قد شق عليهم الصيام وينتظرون ما تفعل فدعى بماء بعد العصر وهو على ناقته عليه الصلاة والسلام فوضعه على فخذه فجعل يشرب والناس ينظرون فأفطر الناس ولم يبق إلا القليل صبروا لأن الشمس قريبة من الغروب فرجعوا إليه وقالوا يا رسول الله إن بعض الناس قد صام فقال (أولئك العصاة أولئك العصاة).
الوجه الثاني أنه إذا صام مع الناس صار أنشط له وأسهل عليه والقضاء صعب وشاق ولهذا نجد بعض الناس يتساهل ويتهاون حتى يأتي رمضان الثاني وهو لم يصم وما كان أسهل فهو أولى وأحسن.
الوجه الثالث فضيلة الزمن لأن رمضان هو محل الصوم ووقته فكان أفضل أما مع المشقة فالفطر أفضل وليس الصوم من البر وأما مع المشقة الشديدة فالصوم حرام لأن النبي عليه الصلاة والسلام وصف القوم الذين بقوا صائمين بأنهم عصاة وهذا يعني أنه معصية فهذا هو التفصيل في مسألة صوم المسافر وذهبت الظاهرية كعادتهم في اتباع الظواهر إلى أن من صام في السفر أو في المرض فصومه باطل ولا صيام له لأن الله أوجب عليه عدة من أيام أخر فإذا صام في رمضان فقد صام قبل وقته ومن فعل العبادة قبل الوقت فعبادته غير صحيحة ولكن قولهم هذا مردود بسنة النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان الصحابة مع الرسول يصومون ويفطرون وهو نفسه صلى الله عليه وسلم قد صام والآية على تقدير محذوف والمعنى فمن كان مريضاً أو على سفر فأفطر وهذا لا إشكال فيه لكنهم رحمهم الله هم يتمسكون بالظاهر وربما يغفلون عن السنة وإلا فهم يتمسكون بالسنة كثيراً.
السائل: قول المؤلف (حتى يترك البيوت وراء ظهره) كيف نجيب عما ورد عن الصحابة خلاف هذا؟
الشيخ: نعم هذا ثبت عن أنس رضي الله عنه كان إذا أراد السفر دعى بسفرته وأكل ثم ركب لكن لا تطيب النفس بهذا لأن قوله (عَلَى سَفَرٍ) تفيد العلو وأنه كما يقال على ظهر يعني شارع في السفر فالقول الراجح رأي الجمهور لا يجوز أن يفطر حتى يخلف بيوت القرية خلف ظهره وننكر على من فعله لكن من اجتهد وأداه اجتهاده إلى ذلك فله اجتهاده وحسابه على الله.
السائل: المريض بالشبق كيف يقضي؟
الشيخ: يقضي إن هان عليه فإن استمر معه صار كالكبير الذي يشق عليه الصوم.
السائل: ما المراد بالمشقة في السفر؟
الشيخ: التي حصلت بسبب السفر أما مشقة الصوم فهو حاصل حتى في البلد لكن هل يجوز للمسافر أن يأكل ويشرب أمام الناس؟ نقول: إذا كان عليه علامة السفر فلا بأس، وإذا لم يكن عليه علامة السفر فالأولى أن يأكل مختفياً لئلا يعرض نفسه للغيبة من وجه أو يغتر به الصبيان والصغار ويظنون أن الصوم ليس بفريضة.
القارئ: ولو تحمل المريض والحامل والمرضع الصوم كره لهم وأجزأهم لأنهم أتوا بالأصل فأجزأهم كما لو تحمل المريض الصلاة قائماً.
الشيخ: يعني لو أن المريض تكلف مع المشقة وصام أو المسافر أو الحامل أو المرضع فلا بأس يعني صيامهم صحيح لكن قد يكون منهي عنه إما نهي كراهية وإما نهي التحريم على حسب ما فصلناه سابقاً.
القارئ: ومن سافر في أثناء النهار أبيح له الفطر لما روي عن أبي بصرة الغفاري (أنه ركب في سفينة من الفسطاط في شهر رمضان فدفع ثم قرب غداه فلم يجاوز البيوت حتى دعى بالسفرة ثم قال اقترب قيل ألست ترى البيوت؟ قال: أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل) رواه أبو داود.
الشيخ: الحامل والمرضع إذا كان يشق عليهما الصوم أو يخاف على الولد من الصوم كنقص الغذاء فإنه يباح لهما الفطر بل ربما يقال إذا خافتا على الولد من الفطر وجب عليهما الفطر لما في ذلك من إنقاذ المعصوم لكن هل يلزمهما القضاء أو الإطعام أو القضاء والإطعام؟ فيه أقوال للعلماء منهم من قال لا قضاء عليهما وإنما الإطعام فقط ومنهم من قال عليهما القضاء والإطعام إن أفطرتا خوفاً على الولد وأما إن أفطرتا خوفاً على أنفسهما أو على ولديهما مع النفس فعليهما القضاء فقط لأنهما في حكم المريض والمريض ليس عليه إطعام ليس عليه إلا القضاء.
ومنهم من قال عليهما القضاء ولا إطعام عليهما وهذا أقرب الأقوال عندي إلا إذا صح عن المعصوم أن عليهما الإطعام دون القضاء فإن قولنا مردود لكن إذا لم يكن هناك أثر عن النبى صلى الله عليه وسلم فإن أقرب شيء أن يقال إن عليهما القضاء فقط. ويشبهه من بعض الوجوه ما لو أفطر لإنقاذ معصوم من هلكه مثل أن يرى أناساً حاصرتهم النار ولا يتمكن من إنقاذهم إلا إذا أكل أو شرب ليقوى على ذلك فأكل أو شرب لإنقاذ المعصومين فهل يلزمه قضاء وإطعام أو قضاء فقط؟ قضاء فقط وهذا يدل على أن الحامل والمرضع إذا أفطرتا خوفاً على الولد أنه ليس عليهما إلا القضاء ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أن الذي أفطر لإنقاذ معصوم يجب عليه القضاء والإطعام قياساً على الحامل والمرضع لكن الذي يظهر هو أن عليهما القضاء فقط لأن الأصل براءة الذمة وأن لا نلزم عباد الله بما لا نعلم أن الله ألزمهم به أو يغلب على ظننا أن الله ألزمهم به إذا كان مما يجري فيه غلبة الظن وهذه قاعدة ينبغي للإنسان أن يفهمها أنك لا تلزم عباد الله إلا شيئاًَ تعلم أو يغلب على ظنك إن كان يجري فيه غلبة الظن أن الله ألزمهم به وإلا فأنت في حل والحائض والنفساء لا تصومان وعليهما القضاء، وفي الأثر الذي استدل به المؤلف دليل على أن الإنسان إذا خرج من البيوت وإن كان يراها فإنه يفطر وإن لم يكن بينه وبين البيوت إلا ذراع واحد فإنه يفطر وإذا كانت الصلاة قد حانت فإنه يصلي قصراً لأنه ليس من شرط الترخص في رخص السفر أن يغيب عن البلد المهم أن يفارق ولو بخطوة واحدة.
القارئ: ولأنه مبيح للفطر فأباحه في أثناء النهار كالمريض.
الشيخ: كالمريض يعني لو أن شخصاً كان صائماً ثم مرض في أثناء النهار واحتاج إلى أن يفطر فله أن يفطر فيقال وكذلك المسافر مع أن فيه حديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام.
القارئ: وعنه لا يباح لأنها عبادة تختلف بالسفر والحضر فإذا اجتمعا فيها غُلِّب حكم الحضر كالصلاة وإن نوى الصوم في سفره فله الفطر لذلك ولما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (خرج عام الفتح فصام حتى بلغ كراع الغميم وصام الناس معه فقيل له إن الناس قد شق عليهم الصيام وإن الناس ينظرون فيما فعلت.
الشيخ: في المخطوطة (ينتظرون ما فعلت) نسخة.
القارئ: فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون فأفطر بعضهم وصام بعضهم فبلغه أن أناساً صاموا فقال أولئك العصاة) رواه مسلم.
الشيخ: في هذا الحديث دليل على أن الله يسر على عباده حتى في هذه اللحظة ولم يبق إلا القليل من النهار شرب النبي صلى الله عليه وسلم الماء والناس ينظرون بعد صلاة العصر والذين لم يفطروا كأنهم والله أعلم قالوا إن الوقت قصير والغروب قريب فلنمضِ في عبادتنا لكن اتباع السنة خير من المشقة ولهذا لو أن إنساناً أراد أن يطيل في ركعتي الفجر راتبة الفجر أراد أن يطيل ويدعو قلنا له أخطأت لأن اتباع السنة أولى والسنة تخفيهما حتى لو قال أريد أن أبتهل إلى الله وأدعو الله قلنا لا يصح خفف الركعتين وادع ما بين الأذان والإقامة فِإنه حري أن يستجاب لك.
القارئ: وله أن يفطر بما شاء وعنه لا يفطر بالجماع فإن أفطر به ففي الكفارة روايتان أصحهما لا تجب لأنه صوم لا يجب المضي فيه فأشبه التطوع.
الشيخ: الأصح أنه يفطر بما شاء فلو قدر أن أحداً من الناس كان ذاهباً إلى مكة للعمرة وكان صائماً ونامت إلى جنبه زوجته واشتاق إليها وجامعها وهو صائم وهي صائمة لا بأس على القول الراجح لأنه لا فرق بين الجماع وبين الأكل كلها على حد سواء (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) ولذلك إذا سألك سائل في مكة في أيام العمرة يقول إنه جامع زوجته في رمضان وهو صائم لا تقل عليك الكفارة قل له هل أنت مسافر أم من أهل مكة؟ لأنك إذا أطلقت وقلت عليك الكفارة وهو معتمر هذه مشكلة قد يأخذ كلامك على القبول ويكلف نفسه فيصوم شهريين متتابعين والتفصيل هنا لابد منه لأن أكثر من يوجد في الحرم في أيام رمضان مسافرون فإذا سئلت فلا بد أن تستفصل تقول هل أنت مسافر أم مقيم؟ إذا قال مسافر جاء للعمرة قلنا ليس عليك شيء وإذا قال إنه من أهل مكة ألزمناه بالكفارة.
القارئ: وإذا قدم المسافر وبريء المريض وهما صائمان لم يبح لهما الفطر لأنه زال عذرهما قبل الترخص أشبه القصر وإن زال عذرهما أو عذر الحائض والنفساء وهم مفطرون ففي الإمساك روايتان على ما ذكرنا في الصبي ونحوه.
الشيخ: هذه مسألة فيها فرق دقيق إذا قدم المسافر وهو صائم قدم إلى بلده لزمه الإمساك لأنه شرع في صومٍ واجب واجتمع في حقه المبيح والحاضر فغلب جانب الحضر لكن إذا قدم مفطرا إلى بلده هل يلزمه الإمساك أو لا؟ في هذا روايتان عن الإمام أحمد الصحيح أنه لا يلزمه الإمساك لأن هذا اليوم يجوز له الفطر ظاهراً وباطناً فهو في أول النهار يأكل ويشرب ويتمتع بأهله فكذلك في أخر النهار وليس كالصبي كما قال المؤلف رحمه الله فالصبي طرأ عليه التكليف وهذا زال عنه المانع وبينهما فرق لأن الصبي قبل أن يبلغ ليس من أهل الصوم إطلاقاً فإذا بلغ صار من أهل الصوم فيلزمه الإمساك ولكن لا يلزمه القضاء كما سبق أما المسافر إذا قدم مفطراً فإنه لا يلزمه الإمساك حتى لو أمسك ماذا يستفيد إلا الجوع والعطش لكن إذا قال قائل يستفيد القيام بالواجب إذا قلنا بوجوب الإمساك قلنا من يقول بوجوب الإمساك ليس له دليل ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه (من أكل أول النهار فليأكل آخر النهار) هكذا ذكره في المغني عنه يعني من جاز له الأكل في أول النهار جاز له الأكل في أخر النهار وهذا هو القياس ولو قدم المسافر مفطراً ووجد امرأته قد طهرت من الحيض في ذلك اليوم هل يلزمها الإمساك الحائض؟ لا لأنه لزوال المانع ليس لحدوث الوجوب وعلى هذا فإذا قدم وهو مفطر وزوجته قد طهرت من الحيض في ذلك اليوم جاز له أن يجامعها في البلد ويمكن أن يلغز بها فيقال رجل مكلف بالغ عاقل جامع زوجته في نهار رمضان في منتصف رمضان وقلنا لهما بارك الله لكما في جماعكما كيف يمكن هذا؟ هذه تنطبق على هذه الصورة التي ذكرناها إذا قدم مفطراً والزوجة قد طهرت من الحيض في أثناء النهار فله أن يجامعها لعدم وجوب الإمساك وقوله إنه يجب الإمساك لاحترام الزمن نقول: الزمن هذا غير محترم في حق المسافر بدليل أنه في أوله يأكل ويشرب وكذلك الحائض فالزمن غير محترم في حقها لأن هذا اليوم ما يتبعض ما يمكن أن يكون
أوله محترم وآخره غير محترم هو يوم واحد.
السائل: من صام تطوعاً ثم أفطر في النهار فهل عليه قضاء؟
الشيخ: الصحيح أنه ما عليه قضاء ما فيه نفل إذا أفسدته يلزمك قضاؤه إلا الحج والعمرة فقط، وليس له حكم النذر لأن الرسول دخل على أهله فقالت له إنه أهدي إلينا حيس فقال (أرينيه فلقد أصبحت صائماً فأكل) لكن المعارضين يقولون صائماًَ أي صائماً عن الطعام ليس الصيام الشرعي فيقال الأصل أن ما نطق به الرسول عليه الصلاة والسلام فهو حقيقة شرعية هذا هو الأصل.
السائل: من فارق البنيان وهو مسافر فأفطر ثم طرأ عليه شيء فرجع إليه أهله فما الحكم؟
الشيخ: هذا المسألة يقول رجل خرج إلى المطار تقع كثيراً خرج إلى المطار فأفطر لكن الرحلة الطائرة ما حضرت أو أنها أقلعت قبل وقتها المقرر وهو الآن مفطر فرجع إلى البلد هل يلزمه الإمساك أو لا؟ ينبني على القولين إن قلنا بأن المسافر إذا قدم مفطراً يلزمه الإمساك لزم هذا من باب أولى وإذا قلنا لا وهذا هو الراجح فإنه لا يلزمه.
السائل: المريض إذا بريء في نهار رمضان وهو مفطر هل يلزمه الإمساك؟
الشيخ: لا هو مثل المسافر هؤلاء ثلاثة المريض إذا بريء والمسافر إذا قدم والمرأة إذا طهرت.
القارئ: ومن أبيح له الفطر لم يكن له أن يصوم غير رمضان فإن نوى ذلك لم يصح لأنه لم ينو رمضان ولا يصلح الزمان لسواه.
الشيخ: يعني لو أن إنساناً أبيح له الفطر لكونه مسافراً فجاء اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من رمضان وقال سأصوم البيض لأن صوم البيض سنة وقال سأصوم البيض وأنا يباح لي الفطر نقول: لا يصح لأن هذا الزمن إنما هو لرمضان نظيره لو تضايق وقت المكتوبة فهل للإنسان أن يصلي نافلة؟ لا لأن الوقت تعين للمكتوبه وهذا رمضان تعين لصوم الفرض فإذا صام فيه تطوعاً وإن كان ممن يباح له الفطر فإنه لا يصح تطوعه ولا يحل له ذلك لأن هذا الزمن لرمضان ورخص لك أن تفطر من أجل التيسير عليك لكن لو نوى وسَأَلَنا بعد أن فعل قلنا إن الصوم لم يصح لا عن رمضان لأنك لم تنوه ولا عن البيض لأنها في وقت لا يتسع لغير رمضان ولا يجزيء أن ينوي النيتين فصوم رمضان أفضل من أيام البيض.
فصلٌ
القارئ: ولا يجب صوم رمضان إلا بأحد ثلاثة أشياء كمال شعبان ثلاثين يوماً لأنه تيقن به دخول رمضان.
الشيخ: وجه اليقين أنه لا يمكن أن يزيد الشهر الهلالي على ثلاثين يوماً أبداً فإذا أكملنا شهر شعبان ثلاثين يوماً بحيث يكون ثبت دخوله بشاهدين عدلين فإنه يجب صوم رمضان لأن الشهر الهلالي لا يمكن أن يزيد على ثلاثين يوماًُ.
القارئ: ورؤية الهلال لقول النبي صلى الله عليه وسلم (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) متفق عليه.
الشيخ: هذا الثاني رؤية الهلال إذا رُئي الهلال ولو كان شهر شعبان تسعة وعشرين يوماً ولو قدر أن شعبان ثمانية وعشرين يوماً يصام لقوله (صوموا لرؤيته) ويتبين بذلك خطأ الرؤية في أول شعبان.
القارئ: ويقبل فيه شهادة الواحد وعنه لا يقبل فيه إلا شهادة اثنين لما روى عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وانسكوا فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين فإن شاهد شاهدان ذوا عدل فصوموا وأفطروا) رواه النسائي.
الشيخ: هذا الحديث أخرجه أحمد في المسند وإسناده صحيح.
القارئ: وقال أبو بكر إن كان الرائي في جماعة لم يقبل إلا شهادة اثنين لأنهم يعاينون ما عاينه وإن كان في سفر فقدم قبل قوله وحده وظاهر المذهب الأول اختاره الخرقي وغيره لما روى ابن عمر قال (تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بالصيام) رواه أبو داود، ولأنه خبر فيما طريقه المشاهدة يدخل به في الفريضة فقبل من واحد كوقت الصلاة والعبد كالحر لأنه ذكر من أهل الرواية والفتيا فأشبه الحر وفي المرأة وجهان أحدهما يقبل قولها.
الشيح: في المخطوطة (يقبل خبرهما) وهي نسحة.
القارئ: لأنه خبر ديني فقبل خبرها به كالرواية والثاني لا يقبل لأن طريقه الشهادة ولهذا لا يقبل فيه شاهد الفرع مع إمكان شاهد الأصل ويطلع عليه الرجال فلم يقبل من المرأة المنفردة كالشهادة بهلال شوال.
الشيخ: السبب الثاني لوجوب الصيام رؤية الهلال ويكفي فيه على القول الراجح رؤية واحد سواء انفرد أو مع جماعة والتعليل بأنه إذا كان مع جماعة يوجب التهمة لأنه كيف يراه وهم لا يرونه؟ هذا تعليل عليل مادام أن الرجل ثقة وشهد أنه رأى الهلال فإنه يجب أن يقبل ولهذا جاء حديث عبد الله بن عمر يؤيد هذا (أن الناس تراءوا الهلال يعني جعلوا يري بعضهم بعضاً الهلال فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه رآه فصام وأمر الناس بالصيام) وكونهم لا يرونهم ربما يكون هناك قوة بصر فى الرائي ينفرد به دونهم وربما يزيغ البصر ولذلك تجد نفسك أحياناً ترى الهلال ثم إذا التفت وطلبته ثانية لم تره فالصواب أنه يقبل شهادة الواحد ولو كان معه جماعة وأما المرأة ففيه هذا الخلاف الذي ذكره المؤلف هل تقبل أو لا؟ والصواب أنها إذا كانت في مكان واحد يعني ما فيه رجال فإنها تقبل ولو قيل بالقبول مطلق كما هو المذهب لكان له وجهاً أما التعليل بأنه لا يقبل فيه شهادة الفرع مع إمكان شهادة الأصل فهذا لأنه خبر ديني ينبغي أن يحتاط فيه وشهادة الفرع هي أن يحمل الشاهد شهادته شخصاً آخر فيكون الشاهد الأول أصلاً والثاني فرعاً، مثلاً باع زيد على عمرو سلعة وعندهما شاهدان يشهدان على العقد هذان الشاهدان سافرا لكنهما حَمَّلا شهادتهما شخصين آخرين فقالا لهما اشهدا على شهادتنا بأننا نشهد بأن فلاناً باع على فلان كذا فالشهادة الثانية فرع والشهادة الأولى أصل.
أما الشهادة بدخول الشهر فلا يقبل فيها الفرع مع إمكان الأصل وهذا يدل على أن فيها جانباً كبيراً من مراعاة الشهادة بخلاف الخبر فالخبر لو أخبرك إنسان بأن الوقت دخل وهو رأى أن الفجر قد طلع ولكنه ذهب لحاجته وقال لآخر إن الفجر قد طلع فإنه لا بأس أن يخبر بخبره وعلى كل حال المرأة الثقة إذا شهدت بأنها رأت الهلال فإنها تقبل ولاسيما إذا كانت في مكان ليس معها غيرها.
السائل: إذا رُئي القمر متباعداً عن الشمس فالشمس في المغرب والقمر في المشرق هل يثبت به الشهر؟
الشيخ: هذا مستحيل إذا كان بعيداً لا يمكن وهو يكون لليوم الثاني يعني مثلا هو في المشرق فالغالب أنه متعذر ويقال إنه يمكن أن يرى في الصباح في المشرق ثم يرى في المغرب في آخر النهار ليس في آن واحد في آخر النهار يقال هكذا والله أعلم، وتحرير هذه المسألة لو كان الهلال سابق على الشمس فهو ما يعتبر حيث لو غاب قبل الشمس بدقائق فهو لايعتبر به دخول الشهر وإن تأخر ولو بدقيقة مع أنه ما يمكن لكن فرضاً.
السائل: هل لا بد من شهادة اثنين لدخول غير شهر رمضان؟
الشيخ: (إن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا) وخرج عن الحديث دخول رمضان بحديث ابن عمر.
مسألة: الواقع عند الناس ليس فيه تصرف الآن لأن هذا موكول لجهات مسؤولة عند ولاة الأمور متى ما حكموا بدخول الشهر صمنا ومتى لم يحكموا فإننا لا نصوم، لكن المقصود تحرير المسألة من الناحية الفقهية أما من الناحية العمليه فالمسألة قد تعدتنا إلى جهات مسؤولة.
القارئ: الثالث أن يحول دون مطلع الهلال ليلة الثلاثين من شعبان غيم أو غتر وفيه ثلاث روايات إحداهنّ يجب الصيام لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدرووا له) متفق عليه يعني ضيقوا له العدة من قوله (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) أي ضيق عليه وتضييق العدة له أن يحسب شعبان تسعة وعشرين يوماً.
الشيخ: يُحسب فعل مبني لما لم يسم فاعله "شعبان" وقولنا لما لم يسم فاعله أحسن من قولنا (مبني للمجهول) فالعبارتان تختلفان اختلافا عظيما يقول الله تعالى: (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً) معلوم الخالق فهذا مبني لما لم يسم فاعله ولايقال مبني للمجهول لأن الخالق معلوم فالتعبير بما لم يسم فاعله أحسن مما يسمى مبني للمجهول.
القارئ: وتضيق العدة أن يحسب شعبان تسعة وعشرين يوماً وكان ابن عمر رضي الله عنه إذا حال دون مطلعه غيم أو قتر أصبح صائما وهو راوي الحديث وعمله به تفسيرٌ له.
الشيخ: هذه الرواية ضعيفة أنه إذا كان هناك غيم أو قتر وجب الصوم لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (فإن غم عليكم فاقدروا له) فكلمة (اقدروا له) لا يصح أن نقول: إنها بمعنى ضيقوا عليه والتنظير بالآية الكريمة تنظير بما ليس بنظير لأن الآية (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ) ولفظ الحديث (فاقدروا له) ولم يقل (اقدروا عليه المعنى قدروا له هذا التقدير هل معناه أكملوا العدة ثلاثين يوما أو معناه اعملوا بالحساب؟ في هذا قولان للعلماء القول الأول (اقدروا له) أي أكملوا شعبان ثلاثين وهذا هو الذي ورد به الحديث (فإن غمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين) وإذا كان القائل (فاقدروا له) هو الذي قال (فأكلموا العدة) فهو أعلم بما قال وليس فعل ابن عمر هو الذي يفسر الحديث مع وجود تفسير النبي صلى الله عليه وسلم له وعلى هذا نحمل قوله (فاقدروا له) أي أكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً لأن هذا هو لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ثم نقول: على فرض أن (اقدروا له) بمعنى اقدروا عليه لماذا لا نجعل المسألة أن نضيق على رمضان؟ حتى (يوافق أكملوا العدة ثلاثين) لأنك إذا أكملت شعبان ثلاثين ضيقت على رمضان أما القول الثاني فيقول (اقدروا له) أي اعملوا بالحساب من التقدير وهذا ذهب إليه بعض المعاصرين وأيدوه تأييداً بالغاً وعندي أنه لا وجه له مع وجود نص بين يوضح المعنى ونقول: نحن والحمد لله في حل ما دام نبينا عليه الصلاة والسلام وجهنا أن نكمل شعبان ثلاثين يوماً فلماذا نذهب إلى التقدير والعمل بالحساب؟ فلو قالوا إن قول الرسول (إنّا أمة أمية لا نقرأ ولا نكتب) ونحن الآن أمة العلم وكنا أمة أمية قبل أن يعلمنا الله الكتاب والحكمة على يد محمد صلى الله عليه وسلم فيقال هذا أيضاً تعليل لكن لا يقابل
به النص (أكملوا العدة ثلاثين) نص واضح وصريح أما فعل ابن عمر رضي الله عنهما فابن عمر رضي الله عنهما معروف بالتشدد والتحري والاحتياط ولهذا كان رضي الله عنه مما يفعل من الاحتياطات أنه إذا توضأ غسل داخل عينيه لأن العين من الوجه وكما يستنشق الإنسان ويتمضمض كذلك يغسل داخل عينيه حتى أدى به الأمر إلى أن كُفَّ بصره في النهاية وكان رضي الله عنه من شدة احتياطه كان يتحرى المكان الذي بال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام من أجل أن ينزل من بعيره ليبول فيه لكن هذا كما يقول شيخ الإسلام خالفه جمهور الصحابة في فعله وهو حق وأن ما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل المصادفة فإنه ليس بسنة.
القارئ: والثانية لا يصوم لقوله في الحديث الآخر (فإن غم عليكم فأكلموا ثلاثين يوماً) حديث صحيح، وقال عمار (من صام اليوم الذي يشك فيه الناس فقد عصى أبا القاسم) حديث صحيح ولأنه شك في أول الشهر فأشبه حال الصحو.
الشيخ: حديث عمار يؤيد أنه إذا كان هناك غيم أو قتر فإنه لا يجوز الصيام لقوله (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم) والغريب أن الذين قالوا بوجوب الصوم يقولون إن يوم الشك هو يوم الصحو إذا كان صحواً أما إذا كانت غيماً فليست يوم شك فيقال سبحان الله هل هناك شك مع الصحو؟ ترآه المسلمون فلم يروه ما عندهم شك أنه لم يهل والصواب الذي لا شك فيه أن يوم الشك هو ليلة الثلاثين من شعبان إذا كان هناك غيمٌ أو قتر.
القارئ: والثالثة الناس تبع للإمام إن صام صاموا وإن أفطر أفطروا لقوله عليه الصلاة والسلام (صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون) رواه أبوداود.
الشيخ: الناس تبع للإمام وهذه الرواية قوية جداً ويجب أن يكون العمل عليها بمعنى أنه إذا كان هناك جهة مسؤولة عن الحكم بدخول الشهر أو بخروجه فإن الواجب الاجتماع وعدم الاختلاف حتى لو جاء إنسان وشهد بأنه رأى الهلال ولكن لم يعتبر به فإنه لا يصوم إلا إذا أراد أن يصوم سراً فربما نقول: لا بأس وأما صومه علناً فهذا يمنع منه لأن هذا مخالفة للجماعة وشق للعصا وشق العصا ليس معناه حمل السلاح فقط فالمخالفة لولي الأمر يعتبر من شق العصا أو ابتداء شق العصا لأن الشق عندما تشقه هل ينشق جميعاً وإلا شيئاً فشيئاً؟ حتى القميص ما تشقه جميعا شيئاً فشيئاً فإذا ظهرت المخالفة والمبارزة لأولياء الأمور في مثل هذا معناه أن الأمور ستكون فوضى ولهذا بعض الناس مثلاً في الدول الأخرى إذا سمعوا أن المملكة مثلاً صاموا ولكن ولاة أمورهم لم يحكموا بدخول الشهر بعضهم يصوم وهذا غلط نقول: الموافقة للجماعة هي السنة والمطالع تختلف وسيأتينا إن شاء الله في الفصل الذي يليه أن المسألة محل خلاف بين العلماء ولكن الراجح أن من كان تحت ولاية فإنه لا يتعدى ما تقوله هذه الولاية إن اخطأوا فعلى أنفسهم وإن أصابوا فللجميع.
مسألة: حديث (صومكم يوم تصومون) فيه مقال لاشك فيه ولكنه مطابقٌ تماماً للقواعد العامة الشرعية وهو وجوب اتفاق الكلمة وعدم الاختلاف لا سيما في مثل هذه الأمور.
فصلٌ
القارئ: وإذا رأى الهلال أهل بلد لزم الناس كلهم الصوم لأنه ثبت ذلك من رمضان.
الشيخ: سبق لنا قبل ذلك أن صوم رمضان يجب بواحد من أمور ثلاثة إما رؤية الهلال أو إكمال شعبان ثلاثين أو أن يكون ليلة الثلاثين غيم أو قترٌ وأن الصواب أنه لا يجب الصوم إن كان هناك غيمٌ أو قتر بل إن هذا حرام وقلنا إننا ندرس هذا الآن يعني في عصرنا هذا دراسة نظرية أما الدراسة العميلة فهذا الأمر راجع إلى ولاة الأمور إذا ثبت عندهم دخول الشهر بأي طريقة رأوها وجب علينا اتباعهم لئلا نشق عصا المسلمين وذلك لأن الشارع له نظر عظيم في عدم الاختلاف أرأيتم المصلي الآن إذا كان مسبوقاً ودخل مع الإمام في الركعة الثانية تختلف صلاته اختلافاً عظيماً لسبب وجوب متابعة الإمام تجده مثلاً يجلس التشهد الأول للإمام وهو غير محل جلوس له ويقوم إذا قام الإمام للركعة الرابعة وهو محل جلوس له فالدين الإسلامي له نظر عظيم في اجتماع الكلمة لأن الأمة إذا تفرقت انشق العصا وكما قلنا فيما سبق إن انشقاق العصا ليس يأتي دفعة واحدة وإنما يكون شيئاً فشيئاً يكون بالأول بالكلام ثم يكون بالسهام وكم من كلمة أوقدت سعيراً عظيماً وهذا هو المشاهد والواقع يشهد له وراقبوا البلدان لتنظروا فيها كيف تكون كلمة توقد نيراناً عظيمة ثم تجد الذين انغمسوا في ذلك الآن يتمنون الخلاص ولا يلقونه، إنسان كلمني بالهاتف من بلاد ما يقول حرية المسلمين في أسبانيا أحسن من حريتهم في بلادنا يقول بلادنا يجبرونا على أن نلبس ثوباً معيناً وألا نلبس القميص وألا نتخذ اللحى وفي أسبانيا البس ما شئت واعف لحيتك وأذن بالصلاة ويجتمع الناس لها كل ذلك من أجل الخلاف على ولاة الأمور لأن ولاة الأمور في الواقع هم الذين بيدهم السلطة وهل من المعقول أن بيضة تلاطم حجرا أو أن شخصاًَ يقابل القنابل بسكين المطبخ؟ ليس بصحيح هذا والإنسان لا يحكم على الشيء بمقتضى نار الغيرة ولكن ينظر للمصالح والمفاسد وما يترتب على ذلك من أذى له ولغيره في المستقبل بل وأذى للدعوة التي كان ينشدها وللدين
الذي كان يريد أن يقيمه فالمسألة ليست هينة لكن لو أتى الأمر على وجهه لحصل الخير والهدوء وطابت نفوس الولاة وقالوا نعم هؤلاء يروننا شيئا ويروننا سلطة وتنازلوا عن بعض ما يريدون وهذا شيء مجرب لذلك نرى أن مقابلة الشيء بالعنف لا يزيد الأمر إلا شدة وأن أول الشر يكون بكلمة يظنها الإنسان بسيطة يقول هذا من الصدع بالحق ويقول هذا من إنكار المنكر المعلن يجب إنكاره علنا ًوما أشبه ذلك دون أن ينظر في العواقب وكما قال الله عز وجل في القرآن الكريم (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به) ثم فسدت الأمور إذا جاءهم الأمن قالوا يا ناس اطمئنوا ما عندكم شيء ولا خوف ثم أفسدوا استعداد الناس لمواجهة عدوهم لأنه أذاعوا أن الأمر أمن وأن الأمر هين بينما أن ولاة الأمور يستعدون للأمر وعندهم خوف من العدو ولكن هؤلاء ثبطوا الناس أو الخوف كذلك جعلوا يذيعونه قال الله تعالى (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ) عليه الصلاة والسلام في حياته وإلى سنته بعد مماته وإلى أولي الأمر منهم وهنا أتى العطف بحرف الجر يعني لم يجعله تابعاًَ محضا (إلى الرسول وإلى ولي الأمر) بخلاف الطاعة يعني هنا مسألة سياسية قد يكون عند ولاة الأمور ما ليس عند هؤلاء (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ) وأصل الاستنباط استخراج الماء من باطن الأرض والباطن ليس ظاهراً وهؤلاء الذين يستنبطون عندهم ما ليس عند هؤلاء الذين يأخذون بالظاهر لذلك نقول: نحن نتكلم في مسألة الهلال وثبوت الصوم بالنسبة لوقتنا الحاضر على أنها مسألة نظرية أما عمليا فالمرجع في ذلك إلى ولاة الأمور إذا أثبتوا دخول الشهر أو خروجه بما يرونه طريقاً شرعياً فإننا نتبعهم والحمد لله ليس علينا بأس ونحن نتحدث عن بلادنا ولله الحمد بلادنا في هذه الأمور ترتكز على الطريقة الشرعية تماماً (صوموا لرؤيته وأفطروا لرويته) حتى إنهم
أحياناً قد تكون الشهادة خلاف الواقع لكن نظرا لشدة تمسكهم بظاهر السنة (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) يأخذون بهذا ويجعلون ذلك في ذمة الشاهد فعلى كل حال مثل هذه الأمور لا ينبغي للإنسان أن يخرج عن الجماعة نعم لو فرضنا أن إنساناً في البر وحده ورأى الهلال وليس عنده في هذا إشكال ولا يرى مخالفة الجماعة ولو خروجاً على ما كان عليه الإمام فصام أو أفطر بناءً على رؤيته فهذا هو الذي يسعه عند الله، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول (إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا) وهذا رآه ولا يحصل بذلك مخالفة الجماعة ولا الشذوذ عما يراه ولاة الأمر لكن إنسان في وسط البلد مخالف تجده مثلاً رأى هلال شوال وتيقن أنه رأى هلال شوال ولكنه لم يثبت عند المحاكم فخرج إلى السوق معه طعام يأكله أمام الناس يعني أني مفطر وأن اليوم يوم عيد الفطر نقول: هل هذا يليق؟ لا نقول إذا كان لا تطيب نفسك بصومه بناء على رؤيتك فأفطر سراً أما أن تعلن مخالفة الجماعة ما يمكن ولولي الأمر أن يعزر مثل هذا ويؤدبه على ما فعل لأن المسألة ليس كل من شاء حكم لنفسه ولم يبالِ بأمر الجماعة.
السائل: بعض طلبة العلم الصغار يقولون نحن لانتبع الذين يستنبطون في العلم، لأنا نخشى الله عز وجل ولأن المسالة مبنية على الأدلة والله سبحانه وتعالى يقول (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) ويقولون إن لديهم الأدلة الواضحة من القران والسنة على إنكار المنكر، وهذا أمر يتعلق بديننا ونحن لا نتبع الناس فنكون مقلدين فبماذا تجيبون بارك الله فيكم؟
الشيخ: نقول بارك الله لهم في نيتهم لكن أخطأوا المنهج الآن لو وضعت يدك على عينك تشوف نصف الناس وهؤلاء نظروا إلى النصوص من جانب وتركوها من جانب آخر فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طبقات أي إذا نهيت عن منكر فلا يخلو من أحوال إما أن ينتقل الناس إلى منكر أعظم فهذا بالإجماع أنه لا يجوز يجب السكوت عن المنكر هذا دفعاً لما هو أنكر منه وأعظم منه وهذا بنص كتاب الله (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) مع أن سب آلهة المشركين واجب أو على الأقل مطلوب وإذا كان سبهم يقتضي سب إلهنا عز وجل المنزه عن كل عيب ونقص فإنه يحرم لأنه يترتب على سب آلهتهم سب الله وهو أعظم ولو أنك نهيت إنساناً عن شرب الدخان وشرب الدخان محرم لكن تعلم إذا قلت يا فلان اتق الله واترك الدخان قال والله صحيح أن الدخان مؤذٍ ومضر وليس فيه لذة فذهب وجاء بجرة خمر وشرب منها لأنك نهيته عن هذا فقال هذا أهون هل يجوز هذا وإلا ما يجوز؟ لا يجوز ولهذا انظر إلى فقه العلماء هذا شيخ الإسلام رحمه الله مر بقوم من التتر يشربون الخمر وربما يلعبون القمار ومعه صاحب له فقال ليش ما نهيتهم؟ قال هؤلاء لو نهيناهم لذهبوا يقتلون الناس ويقعون في أعراضهم وتلهيهم بما هم عليه من المنكر أهون من كونهم يذهبون إلى هذا.
ولهذا لو تراجع كلام ابن القيم رحمه الله في أعلام الموقعين يكون جيدا فالمنكر إذا كان يزول إلى ماهو أنكر منه فإنه لا يجوز إنكاره درءاً لأعلى المفسدتين بأدناهما، ونحن لا نقول: لا تنكروا المنكر لكن لا تهاجموا ولاة الأمور لأن هذا ما ينفع فولاة الأمور ما ينفع فيهم المهاجم لأن الشيطان يدخل في مخيلتهم أشياء قد لا تكون طرأت على بالك أو أنها طرأت على بالك لأن بعض الذين ينكرون المنكر والله أعلم بالنيات قد يكون مقصودهم أن يتولوا السلطة ما ندري؟ الله أعلم نبرأ إلى الله من هذا الشيء لكن أنكر المنكر مثلاً البنوك حرام فهل مثلا من العقل أن تهاجم الدولة ليش تسمح لها وهي حرام؟ أو من العقل أن تقول للناس يا أيها الناس احذروا هذه البنوك يحرم عليكم أن تودعوا فيها، لا تعاملوها، اهجروها، قاطعوها أيهما أنفع للمجتمع؟ الثاني أنفع للمجتمع والأغاني مثلا في الإذاعات وغير الإذاعات موجودة هل مثلاً من الحكمة أن تهاجم وزارة الإعلام تقول فَعَلت وتركت وما أشبه ذلك أم أن تقول يا أيها الناس احذروا هذه المعازف فإنها حرام ولا يغرنكم انتهاك الناس لها ولا كثرة استعمالها ولا كثرة بثها في الإذاعات فإن هذا لا يوجب تحليل ما حرم الله وتحذرهم وتبين الأدلة الدالة على المنع أيها أنفع للناس؟ لا شك أنه الثاني وأنا لست أقول في هذا اسكتوا عن الجهات المسؤولة لكن ناصحوها إما بطريق مباشر أو غير مباشر فإن حصل الهُدى فهو للجميع وإن لم يحصل فأنت سلمت وبرئت ذمتك هذا الذي نقوله ومن زعم أننا نريد بذلك أن يبقى المنكر منكراً ويسكت عنه هذا ليس بصحيح، بعض السلف الذين يدندن حولهم الناس يقول لي بعضهم أن هذا الرجل الذي يدنون حوله إنه إمام في العقيدة الأشعرية حتى وصف لي بعضهم بأنه أشعري جلد ولم نر أحداً تكلم على عقيدته وقال هذا أشعري أبدا لكن لأنه قال كلمة ربما أنها تكون في صالح بعض الدعاة صار يدندن حولها ثم نقول: السلف لهم اجتهادات لا في
العبادات ولا في غيرها أليس بعض السلف يقوم الليل كله؟ وهذا وهو غير مصيب أليس بعض السلف يقولون إذا دخلت في صلاتي فأتوا فاقطعوا رجلي حتى لا أحس بها؟ يعني معناه أنه لا يتصور الواقع مع إقباله على الصلاة وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب يقول أنا أجهز جيشي وأنا في الصلاة أو ليس النبي عليه الصلاة والسلام في صلاته يسمع بكاء الصبي ويتصوره ويعرف كيف يحصل لأمه ثم يوجز في صلاته؟ والله ليسوا خيراً من الرسول عليه الصلاة والسلام هؤلاء مجتهدون يخطئون ويصيبون ولعلك قد مر بك في صحيح البخاري قصة أسامة مع الذين كلموه في شأن عثمان ماذا قال لهم وهم في عهد الصحابة الحق لا يقاس بالرجال إطلاقاً عندنا نصوص من القرآن والسنة مبينة موضحة والحمد لله فالشريعة الإسلامية كلها مبنية على شيئين تحصيل المصالح أو بعضها بقدر الإمكان وإعدام المفاسد أو تقليلها بقدر الإمكان هذا الأساس الذي بنيت عليه الشريعة الإسلامية ما بعث الله الرسل إلا ليصلحوا الناس في دين الله وفي معاملة عباد الله فيجب أن يكون لدينا عقول نوازن بين الأشياء فالآن لو فرضنا أن لك ابناً أخطأ عليك خطيئة وانتهت القضية وحصلت المفسدة هل من المصلحة أن تداويه بهجره وطرده من البيت؟ والأمر قد انقضى ولا سيما في هذا الزمن أنك لو طرته من البيت أين يذهب؟ هل يأتي يبكي عند رأسك ويقبل قدميك ويقول يا أبي اسمح لي؟ إنما يذهب مع صاحبه والله أعلم أين يتجهون؟ فالإنسان يجب أن ينظر للمصالح أنت لا تريد أن تشفي غليلك من هذا الأمر المنكر أو أن تبرده هذه الغيرة الفائرة أنت تريد أن تصلح عباد الله امشِ على شرع الله وأنت في حل.
السائل: يا شيخ ما ضابط هذا المصالح والمفاسد؟
الشيخ: الإنسان يعرفها بالواقع، المصالح والمفاسد تكون بالنتيجة فالإنسان ينظر للنتيجة هي التي تزن الأشياء لأنني قد أقول إن هذه مصلحة والثاني يقول هذه غير مصلحة وربما يقع النزاع ولا سيما إذا كان الإنسان يدين الله بهذا الشيء وعازم عليه وما عنده فيه إشكال لكن أنت انظر للنتيجة يعني هاتِ لي أي ثورة من الثورات صار الناس فيها أصلح من ذي قبل؟ ما تستطيع أبدا فأنت انظر للمصالح والمفاسد والأمة الإسلامية قبل أن تختلف كانت مهيبة يخافها الناس من كل جانب ونصروا بالرعب مسيرة شهر ولما تفرقوا صار بعضهم يقتل بعضاً يعني انشغلوا بقتال بعضهم بعضاً عن قتال الكفار ولا أدعي أني أنا الحاكم على المصالح أو المفاسد أنا أقول انظر للواقع.
السائل: ذكرنا أن هذا الطريق غير صحيح في الإنكار لكن ما موقفنا يا شيخ ممن تبنى هذا الرأي؟
الشيخ: موقفنا ممن تبنوا هذا الرأي أن نسأل الله لهم الهداية والبصيرة ولكن لا يجوز أن يكون بيننا وبينهم عداء لأن العداوة ليست بين المسلمين لكن نناصحهم ونبين للناس أن هذه الطريق غير صحيحة حتى لا يغتر الناس بهم لأن العامة عندهم غيرة عارمة لاسيما في الوقت الحاضر والحمد لله فيظنون أن مثل هذه الطرق أنها سليمة ونبين أنها غير سليمة ونبين النتائج التي حصلت فقد حصلت مفاسد كثيرة ولم يحدث شيء على مايريد هؤلاء لكن لو كانت المسألة بهدوء ومشورة وسلوك الطرق التي توصل إلى المقصود حصل خيرٌ كثير فالمهم أنا أوصيكم باعتباركم طلبة علم وباعتبار أنكم شباب مقبل على خير إن شاء الله أن تلتزموا دائماً بالحكمة وأن لا تخطوا خطوة مثل هذه الخطوة العظيمة إلا وأنتم تعرفون أين موطيء قدمكم حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها وأنا أجزم والعلم عند الله أن الذين تورطوا في هذه المسألة في بلاد ما يتمنون أن الأمر لم يكن بكل قلوبهم لأنهم تجرؤا على محارم واضحة قتلوا الأبرياء قتلوا المعاهدين قتلوا المستأمنين بأي طريقة هذه؟ من أحل هذا؟ سبحان الله بيننا وبينكم كتاب الله وسنة رسوله.
فصلٌ
القارئ: وصومه واجب بالنص والإجماع.
الشيخ: الكلام هذا مختصر جداً مع أنه مهم جداً يقول المؤلف إذا رأى الهلال أهل بلد لزم الناس كلهم الصوم والدليل لأنه ثبت ذلك اليوم من رمضان وصومه واجب بالنص والإجماع صوم رمضان ولكن متى يدخل رمضان هل إذا رؤي في بلد يثبت في جميع البلاد؟ هذا موضع خلاف بين العلماء منهم من قال: لا يثبت في جميع البلاد بل من رآه ثبت الحكم في حقه ومن لم يره لم يثبت الحكم في حقه واستدلوا لذلك بقوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) وهذه جملة شرطية تفيد اختصاص الحكم بمن شهد فيخرج بمنطوقها المفهوم وهو من لم يشهد فإنه لا يجب عليه الصوم والدليل الثاني قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتموه فصوموا) وفي لفظ (صوموا لرؤيته)(وإذا رأيتموه فأفطروا) وهؤلاء لم يروه فقوله (إذا رأيتموه) منطوقه وجوب الصوم عند الرؤية ومفهومه عدم الوجوب إذا انتفت الرؤية.
ثالثاً: القياس الصحيح على التوقيت اليومي فإنه بالإجماع أن لكل جهة من الأرض حكمها في التوقيت اليومي وأنه إذا طلع الفجر على قوم لزمهم الإمساك وإذا غربت الشمس على قومٍ حل لهم الفطر وإن كانت البلاد الأخرى لم تكن كذلك وهذا بالإجماع ولم يعارض فيه أحد مع أن فيه عموماً كعموم (إذا رأيتموه فصوموا) وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام (إذا أقبل الليل من هاهنا وأشار إلى المشرق وأدبر النهار من هاهنا وأشار إلى المغرب وغربت الشمس فقد أفطر الصائم) ومعلومٌ أن هذا الحكم يختص بمن تحقق فيه هذا الشيء ومن لا فلا ولهذا كان القول الراجح بلا شك ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه إذا اختلفت مطالع الهلال فلكل قومٍ مطلعهم قال واختلاف المطالع ثابت باتفاق أهل المعرفة وعلى هذا فما توافق في مطلع الهلال ومغربه فالحكم واحد وإن تباعدت البلاد وإذا اختلف المطلع فإنه يختلف فيه الحكم وهذا أقرب مايكون إلى القواعد وعرفتم أيضاً أنه موافق للكتاب والسنة والقياس الصحيح وفي المسالة قول آخر ذهب إليه المؤلف وهو أنه إذا رُؤي في أقصى المشرق لزم أقصى المغرب أن يصوموا وإذا رؤي في أقصى المغرب لزم أهل المشرق أن يصوموا مع أن هذا يختلف فيه المطالع وكذلك بالنسبة للشمال والجنوب وهذا هو المذهب واستدلوا بعموم قوله (إذا رأيتموه فصوموا) وقالوا إن الخطاب للمسلمين عموماً فإذا رآه واحد منهم لزم الجميع.
والقول الثالث في المسألة أن الناس يرجعون إلى عمل السلطة والولاية فإذا كانت الولاية واحدة فإذا ثبت في جهة منها لزم كل من تحت هذه الولاية ولو تباعدت الأقطار وإلا فلا وهذا الذي عليه العمل الآن، العمل الآن حسب الولايات مثلاً هذه المنطقة يحكمها ناس وهذه المنطقة يحكمها ناس يجعلون كل منطقة لها حكمها لئلا يحصل الخلاف والنزاع وهذا وإن كان فيه وجهة نظر من جهة الاتفاق وعدم الاختلاف بين أمة واحدة محكومة بحكم واحد لكنه من الناحية النظرية ليس بجيد لأنه مثلاً إذا كانت الحدود بين دولتين وليس بين الدولتين إلا هذا الحد الذي يكون خمسة أذرع فمثلاً هل من المعقول أن تراه هذه الدولة ثم نقول: الدولة التي بيننا وبينها خمسة أذرع لايلزمكم الحكم هذا بعيد لكن من ناحية أن الناس ينضوون تحت ولاية واحدة ولا يختلفون له وجه نظر وهذا هو الذي عليه العمل على أنه مع الأسف الشديد أن بعض الحكومات تجعل العمل تابع للسياسة فإذا كانت العلاقات جيدة بين دولة وأخرى صاروا تبعاً لها وإذا كانت العلاقة رديئة أصبح لكل أهل بلد مطالعهم وهذا تلاعب بالشرع هذا لا يجوز إطلاقاً فإما أن يقال نعمل بالولاية ومن كان تحت ولاية واحدة فلهم حكم واحد إن صام الناس صاموا وإن أفطر الناس أفطروا وإما أن نقول: بأن رؤية الواحد رؤية للجميع أما التلاعب بدين الله فهذا لا يجوز بقي علينا من كانوا في بلاد الغرب وليس هناك دولة مسلمة تراعي هذا الأمر وتراقب القمر فمن يتبعون؟ أقرب ما يكون للنظر أن يتبعوا أقرب البلاد إليهم إذا كانوا يحكمون بالرؤية لأن هذا هو المعقول ومن العلماء من قال إنهم يتبعون مكة لأن مكة أم القرى كما سماها الله عز وجل فمتى ثبت في مكة لزم الناس الذين ليس لهم دولة مستقلة إسلامية لزم الناس اتباعها صوماً وفطراً ولكن الأقرب الأول أن يتبع أقرب البلاد الإسلامية إلى هذه البلاد الغربية إلا إذا كان للجالية المسلمة في هذه البلاد الكافرة إذا كان لهم
رابطة تربطهم فإنهم يتبعون الرابطة ولا يشذون عنها لأنها تعتبر بمنزلة الإمام.
السائل: إذا كانت يا شيخ الرابطة هذه لا تعتمد على الرؤية وإنما على الحساب فماذا نصنع؟
الشيخ: لكن هل إذا قلنا إن الحساب لا عبرة به هل ممكن أن نعتمد على الرؤية هناك في تلك البلاد؟ إذا كان يمكن بحيث يخرج أناس مرضيون في نظرهم وأمانتهم فنعم لا نعتمد رأي الرابطة ما دامت تحكم بالحساب أما إذا تعذر فقد سبق لنا أن بعض العلماء يقول (فإن غم عليكم فاقدروا له) أنه من التقدير الذي هو حساب منازل القضاء.
القارئ: ومن رأى الهلال فردت شهادته لزمه الصوم لقوله عليه الصلاة والسلام (صوموا لرؤيته) فإن أفطر يومئذٍ بجماع فعليه القضاء والكفارة لأنه أفطر يوماً من رمضان بجماع تام فلزمته كفارة كما لو قبلت شهادته.
ولا يجوز الفطر إلا بشهادة عدلين الحديث عبد الرحمن بن زيد، ولا أنها شهادة على هلال لا يدخل بها في العبادة فلم يقبل فيه الواحد كسائر الشهور ولا تقبل فيها شهادة رجل وامرأتين لذلك ولا يفطر إذا رآه وحده لما روي أن رجلين قدما المدينة وقد رأيا الهلال وقد أصبح الناس صياما فأتيا عمر فذكرا ذلك له فقال لأحدهما أصائم أنت؟ قال: بل مفطر. قال ما حملك على هذا؟ قال لم أكن لأصوم وقد رأيت الهلال وقال الآخر: أنا صائم قال ما حملك على هذا؟ قال: لم أكن لأفطر والناس صيام فقال: للذي أفطر لولا مكان هذا لأوجعت رأسك رواه سعيد.
الشيخ: هذه المسألة اختلف فيها العلماء فالمشهور كما قاله المؤلف إذا رأى وحده هلال شوال وجب عليه الصوم لأن هلال شوال لا يثبت إلا برؤية شاهدين وما دام لم يثبت شرعاً فإنه يجب عليه أن يصوم وقيل له أن يفطر سراً والأقرب أن لا يفطر سراً لاحتمال الوهم في رؤيته مخالفة الجماعة مفسدة ظاهرة فلا ينبغي له أن يخالف الجماعة بأمر يحتمل فيه الوهم وهذا أقرب إلى الصواب ولأنه أحوط بخلاف ما ذكرناه في أول الفصل بالنسبة للصوم لأنه إذا صام يوماً والناس لم يصوموا لا يضره.
القارئ: ولأنه محكوم به من رمضان أشبه الذي قبله فإذا صام الناس بشهادة اثنين ثلاثين يوماً فلم يروا الهلال أفطروا لقول النبي صلى الله عليه وسلم (فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين ثم أفطروا) حديث حسن.
الشيخ: المؤلف رحمه الله أحياناً يتعجب الانسان منه (فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين) هذا في الصحيحين أو أحدهما وكان ينبغي له أن يستدل به لأنه أحسن من هذا اللفظ الذي ساقه.
القارئ: وإن صاموا لأجل الغيم فلم يروا الهلال لم يفطروا لأنهم إنما صاموا احتياطاً للصوم فيجب الصوم في آخره احتياطا وإن صاموا بشهادة واحد فلم يروا الهلال ففيه وجهان أحدهما لا يفطرون لقول النبي صلى الله عليه وسلم (وإن شهد اثنان فصوموا وأفطروا) ولأنه فطر يستند إلى شهادة واحد فلم يجز كما لو شهد بهلال شوال.
والثاني يفطرون لأن الصوم ثبت فوجب الفطر باستكمال العدة تبعاً وقد يثبت تبعاً ما لا يثبت أصلا بدليل أن النسب لا يثبت بشهادة النساء أصلا ويثبت بها الولادة ثم يثبت النسب للفراش على وجه التبع للولادة.
الشيخ: وهذا هو الأقرب فالصواب أنه إذا صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوماً أفطروا سواءً رأوا الهلال أو لم يروه لأنه يثبت تبعاً ما يثبت استقلالاً.
السائل: قول عمر في الأثر السابق (لولا مكان هذا لأوجعتك) ما فهمت هذا؟
الشيخ: يحتمل المراد المكان الذي هم فيه احتراماً له كما قال للرجلين الذين رفعا صوتهما عند قبر النبي عليه الصلاة والسلام (لولا أنكما في مسجد الرسول ولستما من أهل هذا البلد لأوجعتكما ولضربتكما) يحتمل لولا صاحبك فتركت ذلك إكراماً لصاحبك وهذا أقرب إلى اللفظ.
السائل: شهادة الصبي هل تقبل في باب الصيام؟
الشيخ: لا تقبل لا بد أن يكون بالغا عاقلاً.
فصلٌ
القارئ: ومن كان أسيراً أو في موضع لا يمكنه معرفة الشهور بالخبر فاشتبهت عليه فإنه يصوم شهراً بالاجتهاد لأنه اشتبه عليه وقت العبادة فوجب العمل بالتحري كمن اشتبه عليه وقت الصلاة فإن لم ينكشف الحال فصومه صحيح لأنه أدى فرضه باجتهاده أشبه المصلي يوم الغيم وإن انكشف الحال فبان أنه وافق الشهر أجزأه لأنه أصاب في اجتهاده وإن وافق بعده أجزأه لأنه وقع قضاء لما وجب عليه فصح كما لو علم وإن بان قبله لم يجزئه لأنه صام قبل الخطاب أشبه المصلي قبل الوقت وإن صام بغير اجتهاد أو غلب على ظنه أن الشهر لم يدخل فصام لم يجزئه وإن وافق، لأنه صام مع الشك فأشبه المصلي شاكاً في أول الوقت.
الشيخ: إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يعلم دخول الشهر فإنه يتحرى ويصوم لقول الله تبارك وتعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) وقوله (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ومن القواعد المعروفة إذا تعذر اليقين رجعنا إلى غلبة الظن فهذا يرجع إلى غلبة ظنه ثم لا يخرج إما أن يوافق الشهر وإما أن يكون بعده وإما أن يكون قبله هذه ثلاث حالات لا يكون سواها فإن وافق الشهر فصومه صحيح وإن كان بعده فصومه صحيح لكنه يكون قضاءً وإن كان قبله فصومه غير صحيح لأنه صام قبل الوقت كمن صلى قبل الوقت ويحتمل أن يكون صومه صحيحاً لأنه أدى ما يجب عليه فبرئت ذمته وهذا أقرب إلى يسر الشريعة وسهولتها أما إذا بقيت الحال على ما هي عليه فإن صومه صحيح لكن كلامنا إذا بان الأمر على خلافه.
فصل
القارئ: ووقت الصوم من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس لقول الله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ).
الشيخ: قول المؤلف (الفجر الثاني) يفيد أن هناك فجراً أول وهو كذلك وقد ذكر العلماء أن بين الفجرين ثلاثة فروق:
الفرق الأول: أن الفجر الأول يكون مستطيلاً في الأفق كذنب الذئب وأما الفجر الثاني فيكون معترضاً في الأفق يعني يمتد من الشمال إلى الجنوب وأما ذاك فيمتد من الشرق إلى الغرب.
الفرق الثاني أن الفجر الأول يكون ما بينه وما بين الأفق مظلم يعني كأنه نور مقطوع وأما الفجر الثاني فيكون ما بينه وبين الأفق مضيئاً.
والفرق الثالث أن الفجر الأول ينطمس بعد ذلك يعني أنه يرجع الجو مظلما وأما الفجر الثاني فلا يرجع الجو مظلماً بعده بل لا يزال الضوء منتشراً حتى تطلع الشمس فهذه ثلاثة فروق بين الفجر الثاني والفجر الأول أما مقدار ما بينهما فيختلف أحياناً يكون بينهما نصف ساعة وأحياناً يكون بينهما ساعة إلا ربع على حسب الظواهر الكونية الأفقية.
القارئ: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ولكن الفجر المستطير في الأفق) حديث حسن.
الشيخ: قول المؤلف (حديث حسن) فيه نظر إذا كان قد رواه مسلم وقوله في الحديث (لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال) لأن بلالاً رضي الله عنه يؤذن عند قرب الفجر وبيَّن الرسول عليه الصلاة والسلام لماذا يؤذن؟ فقال (ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم) القائم الذي يصلي يرجعه حتى يتسحر والنائم يوقظه ثم قال عليه الصلاة والسلام (فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) هذا غير السياق الذي ذكره المؤلف (فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر) أما اللفظ الذي ساقه المؤلف فيقول (ولا الفجر المستطيل ولكن الفجر المستطير في الأفق) المستطيل الذي يكون طولاً في السماء والمستطير الذي يكون عرضاً يشبه جناح الطائر لأن الطائر إذا أراد أن يطير يفرد جناحيه فلهذا سماه مستطيراً.
القارئ: وعن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس أفطر الصائم) متفق عليه ويجوز الأكل والشرب إلى الفجر للآية والخبر.
وإن جامع قبل الفجر ثم أصبح جُنباً صح صومه لأن الله تعالى لما أذن في المباشرة إلى الفجر ثم أمر بالصوم دل على أنه يصوم جُنبا وقد روت عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جُنباً من جماع غير احتلام ثم يغتسل ويصوم) متفق عليه.
الشيخ: أراد المؤلف أن يبين أن الإنسان يجوز له أن يأكل ويشرب ويجامع إلى أن يطلع الفجر لأن الله قال (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) فقال (يَتَبَيَّنَ) ولم يقل حتى يطلع حتى (يَتَبَيَّنَ) ولا يكون إشكال فيه (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) وإذا كان يجوز أن يجامع حتى يطلع الفجر لزم من ذلك أن يطلع الفجر وهو على جنابة، هذا وجه الدلالة من القرآن أما السنة فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح ُ جُنبا منً جماع أهله ويصوم وقد قال الله تعالى:(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) وقولها (من غير احتلام) هذا من باب التأكيد وإلا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحتلم لأنه تنام عيناه ولا ينام قلبه ومن كان كذلك فإنه لا يمكن أن يحتلم لأنه لو احتلم لكان الفعل محرماً حيث أنه يدرك ذلك بقلبه وهو صلى الله عليه وسلم لا ينام ولذلك قال العلماء إن من خصائصه أنه لا يحتلم.
السائل: أحسن الله إليكم ما الجواب عما ذكره ابن كثير رحمه الله في احتلام النبي صلى الله عليه وسلم حيث فصل فقال إن أريد بالاحتلام تلاعب الشيطان فهذا ممتنع في حقه عليه الصلاة والسلام وإن أريد خروج الفائض من جسده من الماء فهذا يقع منه؟
الشيخ: والله ما أعرف هذا المعروف عن العلماء أنه من خصائص الرسول أنه لا يحتلم والاحتلام معروف أن الإنسان يرى في المنام مثل ما قالت أم سليم ترى في منامها ما يرى الرجل، والتفصيل هذا ما مر علينا والمعروف أنه لا يحتلم مطلقاً.
السائل: بارك الله فيك بعض الناس يترك جزءاً يسيراً من الليل لكي يتحقق أنه صام النهار كله؟
الشيخ: لا هذا القول ضعيف جداً لأنه قال (حَتَّى يَتَبَيَّنَ) ولو كان يجب أن يمسك جزءً من الليل لقال حتى يقرب.
السائل: أحسن الله إليك، طلوع الفجر الثاني هل هو محدد بالتوقيت أم يأخذ فترة من الزمن؟
الشيخ: إذا رأيت المشرق مضيئاً فقد أقبل النهار كما جاء في الحديث والتقاويم فيها تقديم خاصة في صلاة الفجر فيها تقديم خمسة دقائق على الأقل.
القارئ: وإن أصبح وفي فيه طعام أو شراب فلفظه لم يفسد صومه وإن طلع الفجر وهو يجامع فاستدام فعليه القضاء والكفارة لأن استدامة الجماع جماع وإن نزع فكذلك في اختيار ابن حامد والقاضي لأن النزع جماع كالإيلاج وقال أبو حفص لا قضاء عليه ولا كفارة لأنه تارك للجماع وما عُلِّق على فعل شيء لا يتعلق على تركه.
الشيخ: الصواب بلا ريب ما ذهب إليه أبو حفص رحمه الله وأنه ليس عليه إثم ولا قضاء هو فعل ما يباح له جامع قبل أن يطلع الفجر ثم طلع الفجر ومن حين طلوعه نزع وأخرج ذكره من فرج امرأته فكيف نقول: إن عليه الإثم والقضاء والكفارة أو على الأقل نقول: عليه القضاء والكفارة؟ الصحيح أنه ليس عليه شيء لأنه فعل فعلاً مأذوناً فيه وما ترتب على المأذون فليس بمضمون فإن قال قائل لماذا يتأخر لماذا لم يتقدم حتى ينهي جماعه قبل طلوع الفجر؟ قلنا لأن الله أذن له بذلك وهو حر وربما لا يطرأ عليه إلا في ذلك الوقت أو ربما يكون قادم من سفر أو ما أشبه ذلك من الأحوال فالصحيح أنه لا شيء عليه لا قضاء ولا كفارة ولا إثم أما لو استمر بعد أن تبين له الفجر فلا شك أنه آثم وأنه منتهك لحرمة اليوم فتلزمه الكفارة لأنه جامع في يوم الصوم فلزمه القضاء.
القارئ: وإن أكل شاكاًَ في طلوع الفجر صح صومه لأن الأصل بقاء الليل وإن أكل شاكاً في غروب الشمس بطل صومه لأن الأصل بقاء النهار.
الشيخ: إن أكل شاكاً في طلوع الفجر فصومه صحيح لأن الله قال: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ) والشاك لم يتبين له لكن لو تبين أنه بعد طلوع الفجر فهل عليه القضاء؟ الصحيح أنه لا قضاء عليه وربما يذكره المؤلف لكن هذا التعليق على الكلام هنا لا بأس به فالصحيح أنه لا قضاء عليه لأنه فعل ما هو مأذون فيه فله أن يأكل ويشرب حتى يتبين له الفجر وهذا لم يتبين له فأكل أوشرب ثم تبين بعد ذلك أنه في النهار نقول: لا قضاء عليه ولا أثم ولا كفارة إن كان مجامعاً، وأما إذا أكل شاكاً في غروب الشمس فإنه حرام عليه لأنه لا يجوز أن يفطر حتى يتيقن أن الشمس غربت والشك ليس بيقين فإذا أكل أو شرب ويقول والله ما أعرف هل غابت الشمس أم لا؟ نقول: هذا حرام عليك لا تأكل ولا تشرب حتى تتبين غروب الشمس فإن غلب على ظنه أن الشمس غربت دون أن يتيقن فالمذهب لا يجوز أن يفطر حتى يتيقن والصحيح أنه يجوز أن يفطر وأنه لا قضاء عليه ولو تبين أنه في النهار لما رواه البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما (أن الناس أفطروا في يوم غيم على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ثم طلعت الشمس ولم يؤمروا بالقضاء) وهذا دليل على أنه لا قضاء عليهم إذ لو كان القضاء من شرع الله لبينه الرسول عليه الصلاة والسلام ولو بينه لحفظه الله ونقل إلينا لأن الشريعة محفوظة فلما لم يكن شيء من ذلك علم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بالقضاء وأنه لا قضاء عليهم ووقعت هذه المسألة في زمن عمر رضي الله عنه مرتين فمرة قال: اقضوا يوماً مكانه الخطب سهل ومرةً قال: إننا لم نتجانف لإثم فلا قضاء علينا لكن السنة حاكمة على كل أحد وهو أنه لا قضاء عليهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بالقضاء
السائل: من جامع في نهار رمضان هل يلزمه الإمساك عن الأكل والشرب؟