المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب صوم التطوع - تعليقات ابن عثيمين على الكافي لابن قدامة - جـ ٣

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌باب صوم التطوع

يعني أنها إذا اشتغلت بأحاديثك نسيت الطعام والشراب وهذا شئٌ مجرب حتى الإنسان مثلاً إذا جلس إلى صديقه الذي هو صديقه حقيقة فإنه يبقى ساعات لا يدري أنه فاتت كل هذه الساعات تروح الساعة كأنها دقيقة واليوم كأنه ساعة ولا يهمه وهذا الجواب هو الجواب الذي لا يرد عليه شئ وخلاصة الأمر أن الوصال مكروهٌ ما لم يتضرر به الإنسان فإن تضرر به الإنسان فإنه محرم ثانياً أن الأصل هو التأسي بالرسول عليه الصلاة والسلام ما لم يدل الدليل على اختصاصه بالحكم بدليل أنه قال (لست كهيأتكم) حتى تتأسوا بي فهم أيضاً من كلام المؤلف الذي استدل له بالحديث الصحيح أن من أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر كأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال إن كان ولا بد فإلى السحر لا بد أن تتسحروا ولكن إذا سألنا سائل أيهما أفضل أن أواصل إلى السحر أو أن أعجل بالفطر؟ الثاني أفضل وهذا مما يؤيد ماكنا قلناه ونقوله إن الشيء قد يُقرُّ وهو عبادة لكن لا يشرع فهنا الوصال أقره الرسول صلى الله عليه وسلم إلى متى؟ إلى السحر لكن لم يشرعه بل قال (إنه لا يزال الناس بخيرٍ ما عجلوا الفطر)

‌باب صوم التطوع

القارئ: وهو مستحب لما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به الصيام جُنة والذي نفس محمدٍ بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح وإذا لقي ربه فرح بصومه) متفقٌ عليه

ص: 231

الشيخ: صوم التطوع من باب إضافة الشئ إلى نوعه يعني الصوم من هذا النوع والتطوع ما سوى الفريضة اصطلاحاً عند العلماء وأصله فعل الطاعة ولو واجبة حتى المصلي فريضةً أو الصائم فريضة يقال له متطوع لكنه اصطلاحاً وعرفاً عند الفقهاء هو ما عدا الفريضة، من نعمة الله سبحانه وتعالى أنه جعل لكل عبادة من العبادات الخمس فريضةً وتطوعاً لأن التطوع تجبر به الفرائض يوم القيامة وما منا أحد إلا وفي فرائضه نقص وهذا النقص يجبر بالتطوع من جنس العبادة فلا تجبر الصدقة بتطوع الصلاة ولا الصلاة بتطوع الصدقة ولكن الصلاة تجبر بصلاة التطوع والزكاة تجبر بالصدقة.

ص: 232

الصوم له تطوع وهو ماعدا صوم رمضان فكله تطوع وهو سنة وسيأتي إن شاء الله تفصيله واستدل المؤلف بهذا بالحديث القدسي وهو قوله تبارك وتعالى (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به) كل عمل ابن آدم له فسر بلفظٍ آخر (الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) أي أجزي بدون حساب إذا كانت الأعمال الحسنة بعشرة أمثالها فهذا الحسنة بثوابٍ لا يعلمه إلا الله ثوابٍ على الله تعالى هو يجزي به وما أعظم الثواب إذا كان من أكرم الأكرمين سبحانة وتعالى وقوله (فإنه لي) إذا قال قائل وبقية العبادات لمن؟ لله فكيف قال لي؟ نقول لأن الصوم أخلص ما يكون في العبادات إذ أنه سرٌ بين العبد وبين ربه يكون عندك في المجلس عشرة رجال منهم رجلٌ صائم لا تدري هل هو صائم أم لا؟ لكن الله يدري والصلاة لا يمكن أن يقوم الإنسان بتطوع إلا وهو يشاهد لأنها أفعال وأقوال وكذلك الصدقة وكذلك الحج وبقية الأعمال لا بد أن ترى ولكن الصيام سرٌ بين العبد وبين ربه فهو أعظم ما يكون إخلاصه فإذا كان خالصاً لله ما فيه رياء كما قال بعض السلف الصيام لا رياء فيه لأنه أمرٌ خفي إلا إن تسلط الإنسان على نفسه وقال للناس أنا أصوم أصوم يوم وراء يوم هذا صار فيه رياء لكن إذا كان بينه وبين ربه كان لا رياء فيه لأنه لا يرى وقوله (الصيام جُنة) الجُنة بضم الجيم ما يستتر به عن الأعداء وهي مثل التُرس والتُرس مثل الطشت والطشت مثل الصحن هذه يأخذها المقاتل إذا أحد أهوى إليه بسيفٍ أو بسهم جعل هذا بينه وبين ما أهوي به عليه فهو جُنة يقي فكيف كان الصوم جُنة؟ نقول هو جُنةٌ للمتقين من الأعمال السيئة لقول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم (من لم يدع قول الزور والعمل له والجهل فليس لله حاجة في أن يدع

ص: 233

طعامه وشرابه) إذاً هو جٌنة يقي الإنسان من الأعمال السيئة إذا حفظ صومه وهو جُنة أيضاً من النار يوم القيامة لأن في الجنة باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون فصار جُنةً في الدنيا وجُنةً في الآخرة ثم أقسم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (والذي نفس محمدٍ بيده لخُلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) خُلوُفه ما يخرج من فمه من نتن ورائحةٍ كريهة ولا سيما في آخر يوم الصوم هذه مكروهة في مشام الناس لكنها عند الله أطيب من ريح المسك لأنها ناشئةٌ عن طاعته كدم الشهيد عليه يخرج يوم القيامة وجرحه يثعب دماً اللون لون الدم والريح ريح المسك (للصائم فرحتان فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه) فرحتان يفرحهما فرحةٌ في الدنيا وفرحةٌ في الآخرة فرحة الدنيا إذا أفطر فرح بفطره فرح بفطره لأنه أدى فريضةً من فرائض الله أو طاعةً من طاعاته أو فرح بفطره لأنه أحل له ما كان ممنوعاً منه أو الأمران؟ الأمران فالنفس بطبيعتها تفرح إذا أحل لها ما حرم عليها من قبل والنفس الزكية تفرح إذا قضت الفريضة أو تقربت إلى الله بالتطوع فالإنسان إذا أفطر يفرح أولاً أنه أتم طاعةَ لله وثانياً أنه أبيح له ما كان حراماً أما فرحه إذا لقي ربه فيفرح بصومه أي بأنه صام لأنه يجد الثواب عند الله ليس كالأعمال الأخرى الحسنة بعشرة أمثالها بل هو ثوابٌ عظيم لا يقدر قدرَه إلا الله عز وجل.

السائل: بعض الناس يقول بأن في هذا الحديث إثبات الشم لله تعالى فهل هذا صحيح؟

الشيخ: يحتمل أنه يدل على إثبات الشم لله ولا غرابة كما أن الله يسمع ويبصر ويتكلم ويحتمل أنه يقول (أنه أطيب عند الله من ريح المسك) باعتبار مشامنا نحن لأن المسك هو أعلى ما يكون في شمنا.

السائل: بارك الله فيك مارأيكم لو قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأكل ويشرب من جهة نفسه فهو مواصل لكن يطعم أي يطعمه الله عز وجل ويسقيه بحيث لا يشعر بالجوع والعطش؟

ص: 234

الشيخ: لا ما يصلح هذا المعنى.

السائل: الإنسان يرى رؤية أنه يأكل أو يشرب وهو صائم ويجد أثر ذلك هل يمكن أن يحمل عليه؟

الشيخ: في المنام صحيح لأنه ورد لكن هذا يرد للرسول ولغيره فلا يصلح أن يقول (لست كهيأتكم) يعني يوجد ناس يعني حسبما نسمع من القصص وأقول لكم قصة رجل وكان في البلد امرأة فقيرة جارة له وكان يعطيها كل يوم قدحاً من اللبن ثم إن هذا الرجل صاحب أسفار وفي أحد أسفاره انقطع به السير وعطش عطشاً عظيماً ونام تحت شجرة وإذا بهذه العجوز التي كان يعطيها تأتي إليه بقدحه الذي كان يسقيها فشرب اللبن وقام نشيطاً وشربه في المنام ممكن.

السائل: قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي (كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشرة أمثالها إلا الصيام) هذا يدل أن مختلف فليست الحسنة بعشرة أمثالها بل أعظم كيف نقول من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر لأن الحسنة بعشرة أمثالها؟

الشيخ: لا فالعلماء قالوا للتقدير فقط يعني لماذا جعله كصيام الدهر وأما فضل الصوم نفسه فعلى ما على ماهو عليه يعني الإنسان إذا صام يوماً فأجره ليس الحسنة بعشر أمثالها لكن هذه الأيام الستة وثلاثين صارت كأنها إثنا عشر شهراً ويعطى أجر إثنا عشر شهراً بغير تقدير.

السائل: من نوى الوصال إلى السحر فرأى نفسه لا يستطيع فأكل أو شرب فهل يفسد صومه كله؟

الشيخ: رجل نوى الوصال إلى السحر ثم جاع في أثناء الليل فأفطر وأكل وشرب هل يفسد صوم النهار؟ لايفسده واضح هذا.

السائل: بالنسبة لحديث أبي هريرة (من أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه) نسب الإطعام والسقي إلى الله عز وجل مع أن الإطعام والشرب كان حقيقة؟

ص: 235

الشيخ: هذا لأن فعل الناسي لا ينسب إليه أنساه الله تعالى ليمن عليه بالطعام والشراب الطعام حقيقة كتمر سكري وماء عذب، وأفضله ما روى عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أحب الصيام إلى الله صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوما) متفقٌ عليه.

القارئ: وأفضله ماروى عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أحب الصيام إلى الله صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً).

الشيخ: هذا أفضل الصيام يعني هذا أفضل من أن يصوم الدهر كله الأفضل أن يصوم يوماً وهذا لله ويفطر يوماً وهذا لنفسه فلله عليه حق وللنفس عليه حق فيعطي كل ذي حقٍ حقه وفي الحديث دليل على تفاضل الأعمال عند الله عز وجل لقوله (أحب) لأن أحب اسم تفضيل وفيه دليل أيضاً على إثبات المحبة أن الله يحب عز وجل وهذا تكرر عندنا كثيراً وبينا أن هذا مذهب أهل السنة والجماعة وفيه أيضاً أن صيام التطوع مشروع لمن سبق كما أنه واجبٌ على من سبق لقوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) لكن لو قال قائل أنا لو صمت يوماً وأفطرت يوماً صار عندي كسل عن طلب العلم وإن أفطرت صار هذا أقوي فأيهما يقدم؟ الثاني لأن طلب العلم لأن طلب العلم أفضل من جميع العبادات التي يتطوع بها.

القارئ: ويستحب صيام ثلاثة أيامٍ من كل شهر لما روى أبو هريرة قال (أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث صيامِ ثلاثة أيامٍ من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أنام) متفقٌ عليه.

ص: 236

الشيخ: صيامِ ويصح صيامُ على أنها خبر لمبتدأ محذوف وصيامِ على البدلية، الشاهد قوله (ثلاثة أيام من كل شهر) ويستفاد من قوله (ركعتي الضحى) استحباب المداومة على ركعتي الضحى وهذه المسألة اختلف فيها العلماء رحمهم الله منهم من قال إن ركعتي الضحى ليستا بسنة ومنهم من قال إنها سنة دون المداومة عليها ومنهم من قال إنها سنة مع المداومة عليها ومنهم من فصَّل فقال من له قيامٌ من الليل فالأفضل أن لا يداوم ومن لا قيام له كأبي هريرة فالأفضل أن يداوم وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لكن لو قيل إن المداومة عليها سنة لقول النبي صلى الله عليه وسلم (يصبح على كل سلامة من الناس صدقة كل يومٍ تطلع فيه الشمس) ثم قال (ويجزيء من ذلك ركعتان) لو قيل إنها بناءً على هذا الحديث تسن كل يوم لكان له وجه لأن هذا قول من الرسول عليه الصلاة والسلام ومن الذي يجزم بأنه أدى الصدقة عن جميع أعضائه لا أحد إلا أن يشاء الله لكن نقول إذاً صلِّ ركعتين تكفيك عن صدقة كل عضو.

القارئ: ويستحب أن يجعلها أيام البيض لما روى أبو ذرٍ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا أباذر إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة) وهذا حديثٌ حسن.

ص: 237

الشيخ: صيام أيام البيض هذا من باب إضافة الموصوف إلى الصفة والتقدير أيام الليالي البيض وسميت هذه الليالي الثلاث بيضاً لابيضاضها بنور القمر ومن لم يدرك الكهرباء عرف ميزة هذه الثلاث للإضاءة وفيها أيضاً فائدة صحية ذكرها أهل العلم وقال إن الإنسان بدنه كالقمر في هيجان الدم وأنه إذا صام في هذه الأيام الثلاثة عاد هيجان الدم طبيعياً فإن قال قائل هل يحصل صيام ثلاثة أيام من كل شهر التي قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم (صيام ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله) هل يحصل فيما لو فرقها؟ الجواب نعم يحصل وهل يحصل فيما لو صامها أول الشهر؟ الجواب نعم، قالت عائشة رضي الله عنها فيما صح عنها (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر لا يبالي أصامها في أول الشهر أو وسطه أو آخره) لكن تسن في الأيام الثلاثة كما نقول تسن صلاة الضحى والأفضل في آخر الضحى مثلاً.

القارئ: ويستحب صومُ الإثنين والخميس لما روى أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يصوم يوم الإثنين ويوم الخميس) رواه أبو داود فسئل عن ذلك فقال (إن أعمال الناس تعرض يوم الإثنين والخميس).

الشيخ: ويوم الإثنين أوكد من يوم الخميس لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الإثنين قال (ذاك يومٌ ولدت فيه وبعثت فيه أو أنزل عليّ فيه) وفي آخر الحديث (فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم) يقوله النبي عليه الصلاة والسلام وفي هذا دليل على أن أعمال النبي صلى الله عليه وسلم تعرض على الله عز وجل لأن الله تعالى رب العالمين تعرض عليه لبيان كمال سلطانه وملكه عز وجل كما تعرض أعمال الرعية على ملوكها وإلا فهو عالمٌ بذلك جل وعلا قبل أن تعرض عليه بل عالمٌ بذلك قبل أن يعملها العباد وإنما ذلك لبيان كمال سلطانه تبارك وتعالى وملكه.

ص: 238

القارئ: ويستحب الصيام في المحرم لما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم) رواه مسلم وهذا حديثٌ حسن.

الشيخ: يشطب على عبارة (وهذا حديثٌ حسن) وما أحسن عبارة المؤلف رحمه الله حيث قال يستحب الصيام في المحرم أي في الشهر المحرم الذي هو أول شهور السنة الهجرية لأنه لا يسن صيامه كاملاً خلافاً لبعض العلماء الذين قالوا إنه يسن صيامه كاملاً لحديث عائشة رضي الله عنها (ما صام النبي صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً قط غير رمضان) وقالت أكثر ما يصوم من الشهور شهر شعبان فإكثار الصيام في شعبان أوكد من إكثاره في المحرم لكن ما صيم في المحرم فهو أفضل من غيره من بقية الشهور.

القارئ: ويستحب صيام عشر ذي الحجة لما روى ابن عباسٍ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من أياٍم العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلاً خرج بنفسه وماله فلم يرجع بشيءٍ من ذلك) وهذا حديث حسن صحيح.

الشيخ: إذا قال قائل إنه لم يذكر الصيام قلنا هو داخل في العمل الصالح لاشك وهو أفضل الأعمال الصالحة وإن قال قائل إن عائشة نفت أنه يصوم العشر قالت ما رأيته صائم العشر قط قلنا إن نفيها هذا معارضٌ بحديث حفصة أنه كان لا يدع صيامها أي العشر والمثبت مقدمٌ على النافي لا سيما إذا كان له أصل يشهد له وهو هذا الحديث (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر).

السائل: أفلا يكون الصيام في العشر من ذي الحجة أفضل من الصيام في المحرم؟

الشيخ: ربما نقول هذا لكن ما دام ورد حديث صريح في أفضل الصيام يكون الصيام وإن كان فاضلاً في العشر من ذي الحجة لكنه في محرم أفضل لأنه لفظ صريح.

ص: 239

السائل: قد تقرر بأن الحسنة بعشرة أمثالها والحديث قيد أن من صام رمضان وأتبعه بست من شوال معلوم أن من صام غير شوال فالحسنة بعشرة أمثالها يكون أيضاً شهرين؟

الشيخ: لا هذا يجاب عنه بأن ثواب الست تلحق بثواب رمضان ومعلوم أن ثواب الفرض أفضل أو يجاب عنه بأن الحسنة بعشرة أمثالها لا تساوي الحسنة بعشرة أمثالها بالنسبة للست لأن الست بالنسبة لرمضان كالراتبة بالنسبة للصلوات وفضل الرواتب أكثر من فضل النفل المطلق.

القارئ: وصوم يوم عرفة كفارة سنتين وهو التاسع من ذي الحجة وصوم عاشوراء كفارة سنة وهو العاشر من المحرم لما روى أبو قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده) وقال في صيام يوم عاشوراء (إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي بعده) رواه مسلم، ولا يستحب لمن بعرفة أن يصوم ليتقوى على الدعاء لما روى ابن عمر قال حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصمه ومع أبي بكرٍ فلم يصمه ومع عمر فلم يصمه ومع عثمان فلم يصمه فأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه) حديثٌ حسن.

الشيخ: يقال يوم عرفة للحاج لا يسن صيامه لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصمه وقد قال الله تعالى (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة والحكمة من ذلك أن يتقوى على الدعاء والذكر لأن أفضل دعاء يوم عرفة ما كان في آخر النهار وأشد ما يكون الصائم كسلاً في آخر النهار ولا سيما مع طول النهار وشدة الحر فلهذا ينهى عن الصيام يوم عرفة بعرفة وأما من قال إن الحديث عام (صوم عرفة يكفر السنة التي قبله والتي بعده) فيقال لهم هذا هدي النبي عليه الصلاة والسلام أنه لا يصومه ولم يأمر أحداً بصومه وإنما رغب فيه على سبيل العموم ومن المعلوم أن العام يدخله التخصيص.

ص: 240

القارئ: ومن صام شهر رمضان وأتبعه بستٍ من شوال وإن فرقها فكأنما صام الدهر لما روى أبو أيوبَ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من صام شهر رمضان وأتبعه بستٍ من شوال فكأنما صام الدهر كله) رواه مسلم.

الشيخ: سبق لنا أن النفل قبل القضاء فيه روايتان رواية بالجواز ورواية بالمنع وهو المذهب وأما صيام الست من شوال فلا بد أن تكون بعد القضاء وقبله لا تصح لأن الحديث (ثم أتبعه).

فصلٌ

القارئ: ويكره إفراد الجمعة بالصيام لما روى أبو هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده) متفقٌ عليه وإفراد يوم السبت بالصوم لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم) وهذا حديثٌ حسنٌ (صحيح).

الشيخ: (صحيح) ليست عندي بالمخطوطة.

القارئ: فإن صامهما معاً لم يكره لحديث أبي هريرة ويكره إفراد أعياد الكفار بالصيام لما فيه من تعظيمها والتشبه بأهلها ويكره صوم الدهر لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له فكيف بمن صام الدهر؟ قال (لا صام ولا أفطر) حديثٌ حسن ولأنه يشبه التبتل المنهي عنه ويكره إفراد رجب بالصوم لما فيه من تشبهه برمضان وقد روي عن خرشة قال رأيت عمر رأيت عمر يضرب أكف الناس حتى يضعوها في الطعام يعني في رجب ويقول إنما هو شهرٌ كانت الجاهلية تعظمه ثم يقول صوموا منه وأفطروا وروى سعيد ومنصور أوله بمعناه ولم يقل فيه (صوموا منه وأفطروا).

ص: 241

الشيخ: هذا الفصل ذكر فيه المؤلف رحمه الله الأيام التي يكره صومها أولاً يوم الجمعة يكره صومه يعني إفراده إفراد يوم الجمعة وأيضاً يزاد قيدٌ آخر إفراد يوم الجمعة لكونه يوم الجمعة أما لو أفرد يوم الجمعة لأنه لا يتفرغ إلا في هذا اليوم فلا بأس لأنه لم يفرد يوم الجمعة لأنه يوم الجمعة ولكن لأنه لا فراغ له إلا في هذا اليوم ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (لا تخصوا يوم الجمعة بصيام ولا ليلتها بقيام) أخرجه مسلم، ودليل المسألة قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده) وحينئذٍ نسأل لماذا لا نحمل النهي على التحريم؟ فالرسول أكد النهي (لا يصومن) فلماذا لا نقول إنه حرام؟ نقول لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أباح صومه إذا ضم إليه يومٌ قبله أو يومٌ بعده ولو كان صومه حراماً ما صار حلالاً بالضم كصوم يوم العيد مثلاً فإنه لا يجوز صومه ولو ضم إليه يوماً آخر قبله أو بعده فإن قال قائل ما هي الحكمة من النهي عن صوم يوم الجمعة مع أنه يومٌ فاضل فهو عيد الأسبوع؟ قلنا لكونه عيد الأسبوع نهي عن صومه وليتفرغ الناس فيه للعبادة لأن يوم الجمعة له عبادات خاصة فمن أجل أن يتفرغوا فيه نهي عن إفراده وكذلك يكره إفراد يوم السبت بالصوم لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم) وهذا حديثٌ حسن وإنما يكره إفراده لأن النبي صلى الله عليه وعلى وسلم قال في صوم يوم الجمعة (إلا أن تصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده) ولأنه دخل على إحدى أمهات المؤمنين وهي صائمة يوم الجمعة (فقال لها أصمتي أمس؟ قالت لا قال أتصومين غداً؟ قالت لا قال فأفطري) فدل ذلك على أن صوم يوم السبت إذا ضم إليه يوم الجمعة ليس بمكروه ولا منهياً عنه وهذا الحديث الذي أشار إليه المؤلف قال بعض العلماء إنه منسوخ لحديث أبي هريرة وحديث أم المؤمنين رضي الله عنها

ص: 242

وقيل إنه شاذ لمخالفته الحديث الصحيح فلا يعتمد ولهذا اختلف العلماء في صوم يوم السبت أي في إفراده والصحيح ما ذهب إليه المؤلف لأنه قولٌ وسط وهو أنه يكره إفراده ولا يكره جمعه إلى يوم الجمعة وكذلك أيضاً قال المؤلف إن صامهما لم يكره لحديث أبي هريرة ويكره إفراد أعياد الكفار بالصيام لما فيه من تعظيمها والتشبه بأهلها، فيكره أن يفرد أعياد الكفار بصوم وبناءً على ذلك يكره إفراد يوم الأحد لأن يوم الأحد عيد للنصارى هو جمعتهم فيكره إفراده لأن فيه نوعا من التشبه به بتعظيم هذا اليوم والعجيب أن بعضهم قال يسن صومه لأن أيام الأعياد في الشريعة الإسلامية منهيٌ عن صومها فتكون أعياد الكفار على العكس مأموراً بصومها ولكن ينبغي أن يقال كذلك إن خيف من ذلك أي من إفراد صومها أن يفتتن الكفار والناس بالصوم ويقولون إنه صيم لأنه يومٌ معظم فهنا الكراهة قوية جدا ومتوجهة وإن كان الناس لا يعلمون شيئاً كما كنا من قبل لا نعرف أن عيد النصارى هو يوم الأحد ولا نهتم بهذا فلا بأس لأنه يومٌ من الأيام لم يرد النهي عنه والعلة مفقودة في قومٍ لا يدرون عن أعياد الكفار.

إذاً أعياد رأس السنة للكفار يكره أن يصومها لأن في ذلك نوعاً من تعظيمها فيكره إفرادها.

ويكره صوم الدهر ولو قال ولو قيل بتحريمه لكان له وجه لأنه قل أن يصوم أحدٌ الدهر كله إلا ويضيع شيئاً من شرائع الله لكن المذهب أنه يكره أن يصوم الدهر كله ومعلومٌ أن هذا يستثنى منه الأيام التي يحرم صومها فإن صومها حرام مثل يوم العيدين وأيام التشريق والصحيح أن أقل أحواله الكراهة لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا صام من صام الأبد) ولأن عبد الله بن عمرو بن العاص لما طلب أن يزده في الصيام قال (لا أفضل من ذلك) وهو صوم يومٍ وفطر يوم.

ص: 243

والخامس إفراد رجب بالصوم فإنه يكره لأن رجب كأحد الأشهر الأربعة الحرم ليس له عبادة خاصة لا صوم ولا صلاة ولا غيرها لكنه كالأشهر الحرم لأنه واحدٌ منها يحرم فيه ما يحرم فيها والذي يحرم فيها هو ابتداء القتال للكفار فهو حرام في الأشهر الحرم على القول الراجح لكن إذا كان امتداداً لقتالٍ سابق فلا بأس أو خيف هجوم الكفار فلا بأس أن نبدأه أما بدون سبب فإن الله سبحانه وتعالى حرم القتال في الأشهر الحرم وكانوا في الجاهلية يعظمون رجب ويؤدون فيه العمرة ولهذا صار محرماً القتال فيه ويوجد الآن مع الأسف مخلفات من الجاهلية في المسلمين فإن من الناس الآن من يعظم رجب ومن يذهب ويعتمر فيه ومن يذهب إلى المدينة ويزور المسجد النبوي يسمونها الرجبية يعني من أول الشهر أما ليلة سبعٍ وعشرين فالمشهور عندهم أنها ليلة المعراج فيحتفلون بها ولكن هذا ليس بصحيح لم يثبت أن ليلة سبعٍ وعشرين من شهر رجب ليلة المعراج ولو ثبت أنها ليلة المعراج لكان فيها فضل لرسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى في وقته ولهذا مرت ليلة سبع وعشرين من رجب كم سنة بعدها مرت تقريباً ثلاث عشرة سنة ولم يقم الرسول صلى الله عليه وسلم لها احتفالاً ولا أقام ذلك الصحابة رضي الله عنهم كما قلت لا يصح أن الرسول عليه الصلاة والسلام عرج به ليلة سبع وعشرين من رجب وإن الظاهر والله أعلم أنه عرج به في ربيعٍ الأول لأن ربيعاً الأول هو الذي ابتدأ الوحي فيه ولأنه هو الذي فرضت فيه الصلاة وفرض الصلاة إنما كان ليلة المعراج فأقرب ما يكون هو ربيع الأول على أن المسألة ليست بذاك فلم يثبت أنها في ربيع الأول ولا في غيره لأنه فيما سبق كانوا لا يعتنون بالتاريخ وأول مااعتنوا بالتاريخ في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان عمر رضي الله عنه يضرب أكف الناس ليضعوها في الطعام لأن ولايته كانت حزماً وقوة رضي الله عنه فإذا رأى أحداً صام في رجب ضرب يده وفي بعض النسخ (حتى يضعه) وعندي

ص: 244

(حتى يضعوها) على الأول معناه أنه هو الذي يباشر فيمسك يد الرجل ويدخلها في الطعام وهذا من قوته رضي الله عنه في دين الله.

القارئ: وقال أصحابنا يكره صوم يوم الشك وهو اليوم الذي يشك فيه هل هو من شعبان أو من رمضان إذا كان صحواً ويحتمل أنه محرمٌ لقول عمار (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم والمعصية حرام، رواه أبو داود والترمذي بنحوه وصححه، وكذلك استقبال رمضان باليوم واليومين لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يتقدمن أحدكم رمضان بصيام يوم أو يومين إلا أن يكون رجلاً كان يصوم صياماً فليصمه) متفقٌ عليه، وما وافق من هذا كلِه عادةً فلا بأس بصومه لهذا الحديث وقد دل هذا الحديث بمفهومه على جواز التقدم بأكثر من يومين وقد روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا كان النصف من شعبان فأمسكوا عن الصيام حتى يكون رمضان) وهذا حديثٌ (حسن).

الشيخ: في نسخة بالمخطوطة (صحيح).

القارئ: فيحمل الأول على الجواز وهذا على نفي الفضيلة جمعاً بينهما.

ص: 245

الشيخ: فيكون معناه فأمسكوا عن الصيام أي على وجه الأفضلية، نرجع إلى تتبع المسائل هذه قال أصحابنا يكره صيام يوم الشك وهو الذي يشك فيه هل هو من شعبان أم من رمضان؟ إذا كان صحواً التفسير ليوم الشك بأنه يشك هل هو من رمضان أم من شعبان صحيح لكن قوله (إذا كان صحواً) غير صحيح لأنه إذا كان الجو صاحياً وترآء الناس الهلال ولم يروه هذا ليس فيه شك أن الليلة من شعبان وإنما يكون الشك إذا كان هناك غيمٌ أو قتر فإذا كان هناك غيمٌ أو قتر فإنه يُنهى أن يصوم الناس لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا رأيتموه فصوموا) إذا رأيتموه ونحن لم نره والرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن الجو يكون غائماً أحياناً وصحواً أحياناً ولهذا قال عمار بن ياسر (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم وقول المؤلف رحمه الله يحتمل أنه محرم واستدل بأثر عمار بن ياسر وهو مرفوعٌ حكماً كما هو اصطلاح المحدثين ولكنه محمول على من صامه احتياطاً فإنه يحرم عليه لتعدي حدود الله لأن الرسول إنما أمر بالصوم إذا رأيناه فإذا صامه قبل الرؤية فقد تنطع في دين الله وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (هلك المتنطعون) وكذلك استقبال رمضان باليوم واليومين لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجلاً كان يصوم صياماً فليصمه) هذا أيضاً من المكروهات وقيل من المحرمات فإذا بقي عن رمضان يوم أو يومان و (أو) هنا إما أن تكون للتنويع أو للشك أما للشك فاليوم الثامن والعشرين يحتمل أنه قبل رمضان بيوم أويومين فيكون ابتداء النهي من ثمانية وعشرين يحتمل أن يكون تسعة وعشرين وأن الليلة من رمضان فيكون هذا الرجل قد صام صوماً يحتمل أن يكون احتياطاً لرمضان فيدخل في عداد المتنطعين ثم ذكر المؤلف رحمه الله الحديث الثاني في النهي عن الصيام من منتصف شعبان وجمع بينه وبين حديث النهي عن تقدم رمضان بصوم

ص: 246

يومٍ أو يومين بأن الأول النهي عن الصيام من منتصف شعبان للأفضلية يعني لا تصم على وجه الأفضلية وإن صمت فلا شيء عليك وأما النهي عن تقدم رمضان بصوم يومٍ أو يومين فعلى الكراهة وذهب بعض العلماء إلى أنه على التحريم وأن الصوم بعد منتصف شعبان وإلى أن يبقى على رمضان يومٌ أو يومان على سبيل الكراهة لأن حديث النهي عن الصوم من منتصف شعبان ورد بصيغة النهي (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) فعندنا الآن جمعان الجمع الأول للمؤلف وهو أن النهي عن تقدم رمضان بيومٍ أو يومين للكراهة والأمر بالإمساك عن الصوم من منتصف شعبان للأفضلية.

الثاني أن النهي عن الصوم قبل رمضان بيومٍ أو يومين للتحريم والنهي عن الصوم من منتصف شعبان إلى أن يكون بينه وبين رمضان يومٌ أو يومان هذا للكراهة والقول الثالث أن حديث النهي عن صوم رمضان عن الصوم بعد منتصف شعبان حديثٌ شاذ فلا عمل عليه فعلى هذا يكون الصوم مباحاً ويبقى على الأصل وعلة كونه شاذاً أنه مخالفٌ لحديث الصحيحين حديث أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال (لا تقدموا رمضان بصوم يومٍ أو يومين) فمفهومه أن تقدمه بأكثر من ذلك لا بأس به فهذه أقوالٌ ثلاثة في هذه المسألة.

السائل: عفى الله عنكم كثيراً ما يرد عندنا في النصوص أن نقول إن هذا الفعل من العبادة جائزٌ لا مستحب مع أنه إن فعله يثاب عليها إذا أثيب ألا تعد في حقه هو أنها مستحبةً؟

الشيخ: لا، يقال إتباع السنة أولى من فعلها كالذي يعيد الصلاة بعد وجود الماء وقد صلاها بالتيمم نقول الأول أصاب السنة فهو أفضل من الذي صار له الأجر مرتين.

السائل: من قام بصيام داود على الواقع وبدأ بيوم الخميس سنقع في النهي عن إفراد صيام مثلاً يوم السبت؟

ص: 247

الشيخ: نحن قلنا لكم قبل قليل المنهي عنه أن تخصصه بالصوم أما إذا كان هناك سبب مثل أن يكون الإنسان لا يتفرغ إلا في يوم السبت أو الجمعة أو كان هناك سبب بأن كان بقي عليه من صيام ثلاثة أيام من الشهر يومٌ واحد ولم يبق في الشهر إلا يوم السبت أو الجمعة.

السائل: حديث عائشة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان إلا قليلاً هل يقوي تضعيف حديث أبي هريرة ويرفع أمر الصيام بعد منتصف شعبان من مجرد الإباحة إلى الاستحباب؟

الشيخ: ربما يستدل به لذلك وربما يقال إن هناك فرقاً بين أن يبتدئ الصيام من منتصف شعبان أو أن يبدأه من أوله فإذا ابتدأه من أوله فهو استمرارٌ في الصوم.

السائل: بارك الله فيكم كيف الجمع بين النهي عن صيام أيام العيد للكفار وبين صيام عاشوراء؟

الشيخ: الجمع هو أن الرسول صام عاشوراء وأمر الناس بصيامه وقال لليهود نحن أحق بموسى منكم فهذا ثبت فيه النص فيتبع.

فصلٌ

القارئ: ويحرم صوم العيدين عن فرضٍ أو تطوع فإن صامهما فقد عصى ولم يجزئاه عن فرض لما روى أبو عبيدٍ مولى ابن أزهر قال شهدت العيد مع عمر بن الخطاب فقال (هذان يومان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهما يوم فطركم من صيامكم واليوم الآخر تأكلون من نسككم) متفقٌ عليه.

ص: 248

الشيخ: هذا الفصل في بيان ما يحرم صومه من أيام السنة فمنها العيدان عيد الفطر وعيد الأضحى لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صومهما وقوله رحمه الله يحرم صوم العيدين عن فرضٍ أو عن تطوع يعني عام فإن صامهما عصى ولم يجزئاه أما كونه عاصياً فظاهر لأنه ارتكب النهي وأما كونه لا يجزئانه عن الفريضة فلقول النبي صلى الله عليه وسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي مردود وهذا عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله بل عليه نهي الله ورسوله ثم ذكر أثر عمر رضي الله عنه وبين أنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن صيام يوم الفطر من الصوم ليكون حاجزاً بيناً بين ما يجب صومه وما لا يجب لأنه لو وصل صيام رمضان بصيام يوم العيد لم يتبين الشهر مما بعده وهو يشبه النهي عن تقدم رمضان بصوم يومٍ أو يومين، أما الثاني فعلله بأنه يومٌ نأكل فيه من النسك ولو صام الإنسان لفات هذا الأمر وهذا مما يدل على وجوب الأكل من الأضحية لأنه إذا حرم الصوم من أجل الأكل دل ذلك أن الأكل واجب وإليه ذهب الكثير من أهل العلم وبه نعرف أن أولئك الذين يرسلون الدراهم للأضحية في أي مكان من العالم أنهم على خطأ لأنهم لم يقيموا هذه الشعيرة العظيمة التي تشوف الشارع إلى أن تكون في البلاد الإسلامية كلها ولأن الذين يرسلون هذه الدراهم ليضحى بها أمرهم مشكل من الذي يتولى ذبحها؟ وهل يسمي أو لا يسمي؟ ثم إذا اجتمعت دراهم كثيرة فمن الذي يستطيع أن يشهد بأن أضحيته ذبحت في أيام الذبح قد تكون من الزحمة والكثرة لا تذبح الا بعد أيام الذبح؟ ثم لو فرض أنها لم تكثر تلك الكثرة العظيمة فمن الذي يضمن أن توجد المواشي في ذلك المكان حتى تستوعب كل ما أرسل إليها لكن بعض الناس تكون عندهم عاطفة بدون تأمل وبدون تعقل والشرع له نظر أن تكون الأضاحى في البيوت إظهاراً لشعائر الله عز وجل.

ص: 249

القارئ: ولا يجوز صيام أيام التشريق لما روى نبيشة الهذلي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أيام التشريق أيام أكلٍ وشرب وذكرٍ لله عز وجل رواه مسلم.

الشيخ: يعني كأن النبي عليه الصلاة والسلام بيّن أن وضعها الشرعي أن تكون أيام أكل وشرب وذكرٍ لله والأكل والشرب يقوي الإنسان على ذكر الله عز وجل فهذا موضوع أيام التشريق وهي ثلاثة أيام من بعد عيد الأضحى أما رمضان فليس فيه أيام تشريق والتشريق هنا بمعنى وضع اللحم في الشمس وكانوا فيما سبق يشرحون اللحم ويضعون عليه الملح ثم ينشرونه في الشمس من أجل أن ييبس فيدخرونه عندهم كل السنة أو أقل أو أكثر حسب ما عندهم من اللحم المهم أن التشريق هو وضع اللحم في الشمس مأخوذ من شروق الشمس حتى ييبس ويمكن ادخاره فهذه الأيام لا يجوز صومها لأنها وضعت شرعاً للأكل والشرب والذكر والصوم يمنع من هذا الأكل والشرب ويكسل البدن عن ذكر الله عز وجل.

القارئ: وفي صيامها للفرض روايتان إحداهما يحرم لهذا الحديث والثانية يجوز لما روي عن ابن عمر وعائشة أنهما قالا (لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي) رواه البخاري وقسنا على صوم المتعة كل فرضٍ لأنه في معناه.

ص: 250

الشيخ: إذاً أيام التشريق لا يجوز صومها تطوعاً وهل يجوز أن تصام عن فريضة؟ في ذلك قولان لأهل العلم وهذان القولان إذا قلنا بجواز صومهما في الفريضة فهل يجوز لكل فرض كالنذر مثلاً وقضاء رمضان أو خاصة فيمن لم يجد الهدي ممن أحرم بمتعةٍ أو قران ولم يجد الهدي؟ حديث ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم يدل على أنه لم يرخص في صومها إلا لمن لم يجد الهدي ومعلومٌ أن التخصيص يختص بالصورة التي وقع فيها التخصيص وإذا قلنا إن النص ورد بتحريم صيام أيام التشريق ثم جاء هذا الترخيص فيختص بالصورة التي فيها التخصيص وهي صيام من لم يجد الهدي كما قالت عائشة وابن عمر مثال ذلك رجل حج متمتعاً أو حج قارناً فعليه هدي فإن لم يجد صام ثلاثة أيامٍ في الحج وسبعةً إذا رجع وأما قول المؤلف رحمه الله إنه يجوز صيام الفرض فيها في غير من لم يجد هدي فهذا غير صحيح والقياس لم يتم وذلك لأن الصيام عن دم المتعة خصه الله تعالى في الحج وهذا مفقودٌ فيما سواه من الفرض إذ أن ما سواه من الفرض يمكن أن تصومه في أي وقت لكن الأيام الثلاثة قال الله تعالى (فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) وأيام التشريق من أيام الحج فالصواب أنه يحرم صوم أيام التشريق إلا لمن لم يجد الهدي وأيضاً شرط آخر لمن لم يجد الهدي في صيام الثلاثة التي في الحج وليس في صيام السبعة فلو أن الإنسان الذي لم يجد الهدي صام الثلاثة أيام قبل الطلوع يعني قبل يوم عرفة ثم شرع في صوم السبعة في أيام التشريق فصومه محرم ولا يصح فمن ثم نعلم أنه لا بد من قيدين أن يكون صومها لمن لم يجد هدي من المتمتعين والقارنين والشرط الثاني أن تكون للأيام الثلاثة التي في الحج.

فصلٌ

ص: 251

القارئ: ومن دخل في صيام تطوعٍ فله الخروج منه ولا قضاء عليه وعنه عليه القضاء لأنها عبادةٌ فلزمت بالشروع كالحج والأول المذهب لما روت عائشة رضي الله عنها قالت (قلت يا رسول الله أهديت لنا هدية أو جاءنا زَوْر وقد خبأت لك شيئا قال ماهو؟ قلت حيس قال هاتيه فجئت فأكل ثم قال قد كنت أصبحت صائما) رواه مسلم ولأن كل صومٍ لو أتمه كان تطوعا لا يلزمه إتمامه وإن خرج منه لم يلزمه قضاؤه كما لو اعتقده من رمضان فبان من شعبان.

ص: 252

الشيخ: من شرع في صوم تطوع فهل له أن يفطر بلا عذر أو لا يجوز إلا بعذر؟ من العلماء من قال إنه لا يجوز إلا بعذر قياساً على الحج والعمرة لأن الله تعالى قال (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) وهذا الأمر قبل أن ينزل فرض الحج لأنه كان في غزوة الحديبية في السنة السادسة من الهجرة ووجوب الحج إنما كان في التاسعة أو العاشرة فمن العلماء من قال كل عبادة ولو تطوعاً شرع فيها فإنه لا يجوز الخروج منها إلا بعذر والصواب أنه يجوز الخروج من صوم التطوع بلا عذر لكن يكره إلا لغرضٍ صحيح وقلنا يكره لأن الله تعالى قال (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) ولأن فيه عزوفاً عن إتمام العبادة وهروباً من إتمامها فلا ينبغي للإنسان أن يخرج حتى من النفل إلا لسببٍ شرعي ولغرضٍ صحيح وأما حديث عائشة فلعل النبي صلى الله عليه وسلم كان مشتهياً للطعام ويريد أن يعطي نفسه حظها ولهذا قال لقد كنت أصبحت صائماً صياماً شرعياً ولكن لننظر هل القياس على الحج والعمرة صحيح؟ فإن قلنا إنه صحيح وقلنا يجب على من شرع في تطوعٍ أن يتمه وأجاب عن الحديث بأن معنى قوله (فلقد أصبحت صائماً) أي صوماً لغوياً والصوم اللغوي بمعنى الإمساك مطلقاً سواء كان عبادة أو غير عبادة، الجواب أننا لا نسلم ذلك أما الحج والعمرة فإن ما اختص بلزوم الإتمام في النفل لأنهما يشبهان الجهاد في سبيل الله والجهاد في سبيل الله إذا شرع فيه لا يجوز له العدول عنه يلزم الإتمام ويدل لهذا أن الله تعالى ذكر هذه الآية بعد قوله (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) وهذا إشارةٌ إلى أن الحج والعمرة من الجهاد في سبيل الله ويؤيد ذلك ويرشحه حديث عائشة رضي الله عنها قالت (يا رسول الله هل على النساء جهاد؟ قال عليهن جهادٌ لا قتال فيه الحج

ص: 253

والعمرة) وعلى هذا فلا يصح قياس بقية العبادات على الحج والعمرة وأما الحديث فنقول حمله على المعنى اللغوي خلاف الأصل وخلاف القاعدة التي اتفق عليها الأصوليون وهي أن الحقيقة تحمل على ما يقصده المتكلم فما جاء في لسان الشارع من الألفاظ يحمل على الحقيقة الشرعية ولا بد وهذا هو الأصل وعليه يكون قول الرسول صلى الله عليه (أصبحت صائماً) أي صياماً شرعياً.

السائل: رجل عليه صيام كفارة وتعمد أن يؤخر هذه الكفارة كي يتخللها عيد الأضحى وأيام التشريق حتى يستريح بعض الشئ فهل التصرف هذا صحيح؟

الشيخ: لا يجوز هذا فهذا من باب التحيل على إسقاط واجب وهو التتابع ولا يحل له ذلك وينبغي إذا أفطر يوم العيد أو أيام التشريق ينبغي أن نلزمه بالاستئناف معاملةً له بنقيض قصده.

السائل: أيام التشريق إن وافقت عادة تصام كاثنين وخميس هل تصام؟

الشيخ: لا لا يصوم أبد إلا من لم يجد الهدي من المتمتعين أو القارنين.

السائل: حديث أبي هريرة (أن عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي) قلنا إنه (لي) يعني أكثر موافقة الإخلاص هل نقول إن الصائم تطوع يعني الأفضل أنه لا يسيّر على أحد أو لا يزور أحداً حتى لا يدعى إلى طعام فينكشف أنه صائم؟

الشيخ: ينظر للمصلحة قد يكون أنه من المصلحة أن صائم التطوع يظهر صيامه ليقتدي به إخوانه وقد يكون من المصلحة ألا يظهره والأصل في العبادات كلها أن إخفاءها أولى هذا الأصل ما لم يوجد مصلحة أو دليل.

القارئ: وإن كان الصوم مكروها فالفطر منه مستحب لما روي عن جويرية بنت الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال (أصمتي أمس؟ قالت لا قال أتريدين أن تصومي غداً؟ قالت لا قال فأفطري) أخرجه البخاري ومسلم.

الشيخ: في هذا الحديث دليلٌ واضح على أن صوم يوم السبت إذا ضم إليه غيره فإنه لا بأس به لأنه مكروه إفراده لكن نصصت على السبت لأن بعض الإخوان من المعاصرين قال لا يجوز صومه مطلقاً إلا في الفرض.

ص: 254

القارئ: وسائر التطوعات من الصلاة والاعتكاف وغيرهما كالصوم إلا الحج والعمرة وعنه أن الصلاة أشد فلا يقطعها ومال إليها أبو إسحق الجوزجاني لأن الصلاة ذات إحلالٍ وإحرام فأشبهت الحج والمذهب الأول لأن ما جاز ترك جميعه جاز ترك بعضه كالصدقة والحج والعمرة يخالفان غيرهما لأنه يمضي في فاسدهما فلا يصح القياس عليهما.

الشيخ: الصحيح أن الصلاة وغيرها سواء وأنه لا ينبغي الخروج من التطوع إلا لغرضٍ صحيح وأما بدون غرض فلا ينصرف عن ربه عز وجل وقد شرع في طاعته.

القارئ: ومن دخل في واجبٍ كقضاءٍ أو نذرٍ غير معينٍ أو كفارة لم يجز له الخروج منه لأنه تعين بدخوله فيه فصار كالمتعين فإن خرج منه لم يلزمه أكثر مما كان عليه.

الشيخ: من دخل في واجب كقضاء رمضان ونذرٍ غير معين أو كفارة لم يجز له الخروج منها والمعين من باب أولى نذرٌ غير معين مثل أن يقول لله عليّ أن أصوم يوماً ثم شرع في الصوم نقول لا يجوز أن تخرج منه لأن هذا واجب وقد شرعت فيه فيلزمك إتمامه وأما المعين فمثل أن يقول لله عليّ نذرأن أصوم يوم الاثنين القادم فشرع في الصوم يوم الاثنين هذا لا يحل له أن يقطعه لأنه واجبٌ من وجهين من جهة التعيين ومن جهة الفرضية لأنه واجب عليه بالنذر وكذلك أيضاً لو لم يبق من شعبان إلا بمقدار ما عليه من رمضان السابق فهنا تكون أيام متعينة للقضاء فلا يجوز الخروج فإذا كان لا يجوز الخروج في الموسع فالمضيق من باب أولى.

فصل

القارئ: ويستحب تحري ليلة القدر لقول الله تعالى (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) وهي في رمضان لأن الله تعالى أخبر أنه أنزل فيها القرآن وأنه أنزله في شهر رمضان فيدل على أنها في رمضان.

ص: 255

الشيخ: يقول يستحب تحري ليلة القدر يتحراها من أجل أن يقوم فيها لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) فتختص ليلة القدر من العبادات بالقيام وأما ما يفعله بعض الناس الآن في مكة أو قريباً من مكة أو بعيداً منها يتحرونها بأداء العمرة فيها فهذا بدعة يكون الإنسان إلى الإثم أقرب منه إلى السلامة إذا تقصد تعيين هذه الليلة لأن أي إنسان يتعبد لله تعالى بعبادة يضعها في وقت لم يضعها الشرع فيه فهو مبتدع بصفة العبادة وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام لم يحثنا على شئٍ في ليلة القدر إلا على القيام فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدع لأمته شيئاً يقربهم إلى الله إلا دلهم عليه ولو كان غيرها من الأعمال الصالحة يشرع فيها لبينه الرسول عليه الصلاة والسلام (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً) ثم إن هذه الليلة سميت ليلة القدر إما لشرفها وهي شريفة لا شك وإما لأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة لقول الله تعالى (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)(الدخان:4) أي يفصل ويبين كل أمرٍ من أمر الله عز وجل وشؤونه سبحانه وتعالى في عباده (حَكِيمٍ) مبنيٍ على الحكمة فهل يمكن أن نقول إنها سميت ليلة القدر للوجهين جميعاً؟ نعم نقول سميت ليلة القدر لشرفها وعلو قدرها وسميت ليلة القدر لأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة وهي كما قال المؤلف في رمضان قطعاً ودليل ذلك قول الله في القرآن الكريم (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) و (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) وقال (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) فيؤخذ من مجموع الدليلين أنها في رمضان قطعاً وهذا يسميه العلماء الاستدلال المركب يعني أن الحكم يؤخذ من دليلين مركبين ونظير ذلك قول العلماء رحمهم الله أقل مدة الحمل التي يعيش فيها بعد وضعه ستة أشهر إستدلالاً بقوله تعالى

ص: 256

(وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) وفي آيةٍ أخرى (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) وفصاله يعني انفصاله عن أمه وتمام رضاعه فإذا أضفت الآيتين بعضهما إلى بعض صارت النتيجة أن أقل الحمل ستة أشهر والفصال في عامين وهذا يرد كثيراً ومن ذلك أيضاً أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال في الخروج عن الأئمة إنه لا يجوز (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان) ثم سألوه لما ذكر أن بعض الأئمة يكون فيه كذا وكذا قالوا (أفلا ننابذهم؟ قال لا ما صلوا) فجعل المانع من قتالهم ومنابذتهم هي الصلاة وهو لم يجز منابذتهم وقتالهم إلا بالكفر البواح فينتج من هذا أن ترك الصلاة كفر بواح وهذا حكمٌ مركب من دليلين وله نظائر لمن تأمل فتبين بهذا أن ليلة القدر في رمضان وبه يتبين أيضاً ضعف قول من يقول إن ليلة القدر ليلة النصف من شعبان فإن هذا لا أصل له لأنه معارضٌ للقرآن الكريم وما عارض القرآن فهو باطل ثم هل هي في أول رمضان أو في آخره؟ كان النبي عليه الصلاة والسلام يعتكف العشر الأول من رمضان تحرياً لليلة القدر ثم اعتكف العشر الأوسط ثم رأى في المنام ما يدل على أنها في العشر الأواخر حين رآها صلى الله عليه وسلم ورأى أنه يسجد في صبيحتها في ماءٍ وطين فأمطرت السماء ليلة إحدى وعشرين فصلى النبي صلى الله عليه وسلم الفجر في الطين حتى رأوا على جبهته أثر الماء والطين ثم قال (من كان متحريها فليتحرها في العشر الأواخر) فصارت الآن في العشر الأواخر ولا تكون في الأوسط ولا تكون في الأول من الشهر بل تكون في العشر الأواخر منه ثم إن جماعة من الصحابة أُروا ليلة القدر أُروها في السبع الأواخر فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر) لكن هذا الحديث خاصٌ بتلك السنة فقط أما في عموم السنوات فهي من ليلة إحدى وعشرين إلى آخر الشهر كل هذه الليالي تتحرى فيها

ص: 257

والدليل على هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام بقي يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى مات ولو كانت انحصرت في السبع الأواخر ما كلف الأمة ولا كلف نفسه أن يعتكف جميع العشر لكنها في تلك السنة التي رأوها في السبع الأواخر قال من كان متحريها يعني في تلك السنة فليتحراها في السبع الأواخر، وقوله تعالى (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) أولاً ليس لنا أن نسأل لماذا خصت ألف شهر؟ لأن التقدير في الأجور والعبادات لا مدخل للعقل فيه فلا يحل لنا أن نسأل لماذا اختصت بكونها خيراً من ألف شهر هذا علمه عند الله ولا يجوز السؤال عنه، والخيرية هنا هل هي في العمل بمعنى أن العمل فيها يساوي العمل في ألف شهر أو في الخير والبركة أو في أي شيء؟ نقول هي خيرٌ من كل خيرٍ يكون في ألف شهر.

القارئ: وأرجأه الوتر من ليالي العشر الأواخر لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (من كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر) وفي لفظ (فاطلبوها في العشر الأواخر في الوتر منها) متفقٌ عليها.

الشيخ: الحديث الأول ذكرنا أنه في سنةٍ خاصة والحديث الثاني عام.

القارئ: وقال أبي بن كعب إنها ليلة سبعٍ وعشرين أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها ليلةُ صبيحتها تطلع الشمس ليس لها شعاع وأمارتها تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء ليس لها شعاع فعددنا وحفظنا، هذا الحديث صحيح أخرجه مسلم إلى قوله ((شعاع)) فهذا أصح علاماتها.

الشيخ: لكن لو قال قائل هذه العلامة لا تكون إلا بعد انتهائها لأن الله قال (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) فما الفائدة أن يذكر لنا علامة بعد فوات المعلم؟ نقول الفائدة أن الإنسان يزداد سروراً واستبشاراً إذا كان وفق في تلك الليلة للقيام ولا شك أنه إذا قيل للإنسان بعد فعله أصبت سيسر وإذا قيل لم تصب فإنه لا يسر وفيه أيضاً علامات أخرى ذكر منها ما يأتي في الحديث.

ص: 258

القارئ: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها ليلةٌ بلْجة سمْحة لا حارةٌ ولا باردة تطلع الشمس صبيحتها بيضاء لا شعاع لها من المسند.

الشيخ: (بلجة سمحة) البلج معروف هو ضياء الوجه يقال أبلج أي وجهه مضئ والسمحة واضحة يعني أنها سهلة يجد الإنسان فيها اطمئناناً وسروراً وانبساطاً وانشراح صدر هذا هو معناها وأما قوله لا حارة ولا باردة هذا في زمن يكون ما قبلها وما بعدها حاراً نسبياً أو بارداً نسبياً لكن لو وقعت في الشتاء فستكون باردة أو في الصيف فستكون حارة لكن بالنسبة لما قبلها وما بعدها تكون في زمن الشتاء أدفأ مما قبلها وبعدها وفي زمن الصيف أبرد مما قبلها وبعدها أما أن تكون كأنك في وسط الربيع وهي في قلب الشتاء فأظن أن هذا ليس مراداً لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ لو كان مراداً وبقيت الليالي العشرة كلها باردة لكان لكانت ليلة القدر في هذه السنة لا توجد إذا كانت كل الليالي باردة بناءً على أن هذا هو حال الجو معناها ما فيه فلو قلنا إنها لا حارة ولا باردة وصار وقت الشتاء في قلب الشتاء وصارت الليالي كلها باردة معناها لن توجد ليلة القدر وكذلك بالعكس إذا كان الجو حاراً لكن أراد النبي والله أعلم أنها بالنسبة لما قبلها في زمن الشتاء تكون أدفأ وفي زمن الصيف تكون أبرد هذا الظاهر والله أعلم إذا صح الحديث.

القارئ: وروى أبو سعيدٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (قد أُريت هذه الليلة ثم أنسيتها وقد رأيتني أسجد في صبيحتها في ماءٍ وطين) قال أبو سعيد فأمطرت تلك الليلة وكان المسجد على عريشٍ فوكف المسجد فأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف علينا وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين) متفقٌ عليه.

ص: 259

الشيخ: هذا أيضاً مما يدل على أنها في العشر الأواخر لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان معتكفاً العشر الأوسط ثم أرُي ليلة القدر لكنه أنسيها وسبب نسيانها أنه خرج صلى الله عليه وسلم فتلاح رجلان أي تنازعا في أمرٍ بينهما فنسيها النبي عليه الصلاة والسلام وكان هذا خيراً أن نسيها لأنه لو عينها بليلة بعينها لم ينشط الناس على قيام العشر كلها ولقالوا نقتصر على هذه الليلة ولما عرف الإنسان الحريص من غير الحريص لأن قيام ليلة يسهل على كل أحد لكن قيام عشر ليال فيه صعوبة لا أحد يصبر عليه إلا من كان حريصاً على نيل الأجر والثواب فكان في هذا حكمة.

السائل: ليلة القدر هل لها علامات معينة للدخول في ذات الليلة في حين معين بالليل؟

الشيخ: كل الليلة من غروب الشمس إلى طلوع الفجر ولم يصح ما يذكر من انفتاح السماء أو ظهور ضوء.

السائل: إذا رأى الأنسان في صبيحة ليلة القدر علامة مثلاً ظهرت الشمس بلا شعاع فهل يكون هذا مسوغ لأن يتكاسل بقية الأيام؟

الشيخ: هذا سؤال جيد يقول إذا عرف أن ليلة القدر قد مضت حين رأى الشمس بيضاء ليس لها شعاع فهل معناه أن يدع هذا بقية العشر؟ لا أنا أخشى أن يحرم الأجر بتكاسله وأرجو أن يكون قيام الليالي بعدها كالتطوع بعد الفريضة يعني يكمل به أجر إدراكها.

السائل: بماذا يحصل القيام؟

الشيخ: القيام يحصل بما ذكره النبي عليه الصلاة والسلام لما قالوا يا رسول الله لو نفلتنا بقية ليلتنا قال (من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة) فنقول إذا قمت مع الإمام في أول الليل وفي آخر الليل إن كان يأتي في آخر الليل حتى ينصرف فقد حصلت على الأجر.

ص: 260

فإن قال قائل ما تقولون فيما إذا كان المسجد فيه إمامان يتناوبان فهل تجعلون كل إمامٍ صلاته منفردة عن الآخر بمعنى أن من شهد الصلاة مع الإمام الأول في أول الليل وانصرف الإمام ثم جاء الثاني في آخر الليل فمن أدرك الأول حتى انصرف فقد قام الليل كله ومن أدرك الثاني حتى انصرف فقد قام الليل كله؟ الظاهر لا لأن هذين الإمامين قاما في هذا المسجد بالتناوب فهما كإمامٍ واحد وعلى هذا فلا بد من أن يقوم مع الأول والثاني وإلا فلا يحصل له أجر.

السائل: تخصيص ليلة السابع والعشرين بإحيائها فبعض ناس يحيون فقط ليلة السابع والعشرين؟

الشيخ: يجوز للإنسان أن لا يقوم كل العشر لأن قيام العشر تطوع لكن قل هل يدرك ليلة القدر من اقتصر على ليلة سبع وعشرين؟ لأن كثيراً من العامة الآن إذا كانت ليلة سبع وعشرين غصت المساجد بهم وقبلها وبعدها لا يحضر ولا نصف الذين حضروا ليلة سبع وعشرين نقول هذا غلط أولاً الصحيح أن ليلة القدر تتنقل قد تكون هذا العام في سبع وعشرين وفي العام التالي في ثلاث وعشرين وثانياً أن هذا الرجل لا يدري هل يصيب أو يدرك الأجر الذي كان يريده في قيام ليلة القدر أو لا يدركه لكن يقع هذا من الكسل.

السائل: هناك من يقول إن القيامين المتصلين في ليلة واحدة هو بدعة وليس بسنة ما تعليقكم عليه؟

ص: 261

الشيخ: الذين يقولون إن الفصل بين القيام الأول والثاني وتبديل الإمام الأول بالثاني بدعة عليهم الدليل لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل قال (مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى واحدة فأوترت ما صلى) ولم يقيد أمته بشئٍ معين وكان السلف الصالح يصلون أربعاً ثم يستريحون ثم يصلون أربعاً ثم يستريحون ثم يصلون ثلاثاً فيمن يقتصر على إحدى عشرة، فالصحيح أنه ليس ببدعة لأن الذين يفعلون هذا لا يقصدون التعبد لكن يقصدون راحة الناس لأن الناس لو جمعت عليهم كل الركعات لتعبوا وملوا وأما كون الأئمة تتبادل فهذا في نفسي منه شئ لكن لا أستطيع أن أقول هو بدعة وأقول ما دام الإمام قادراً ونشيطاً على أن يصلي في أول الليل وآخره فهذا هو الأحسن والأفضل.

السائل: أحسن الله إليكم (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) فهل من يقوم ليلة القدر في المسجد الحرام ستكون له خير من مائة ألف ليلة القدر في أي مكان سواه؟

الشيخ: العلماء يقولون رحمهم الله إن الأعمال الصلحة تضاعف في كل مكانٍ وزمانٍ فاضل فمن صلى في مكة ليلة القدر صار كمن صلى مائة ألف ليلة قدر كما نقول في الجمعة من صلى جمعة فهو كمن صلى مائة ألف جمعة أو أفضل.

السائل: هل يجوز ختم القرآن في هذه الليلة الواحدة إن استطاع الإنسان؟

الشيخ: كان بعض السلف يختم القرآن في رمضان خاصة كل ليلة ولكن الأفضل ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم أنه يختمه في ثلاثة أيام.

القارئ: والحديثان يدلان على أنها تتنقل في ليالي الوتر من العشر لأن كل واحدٍ منهما يدل على وجود علامتها في ليلة فينبغي أن تجهد في ليالي الوتر من العشر كله.

الشيخ: نسخة بالمخطوطة (يتهجد).

القارئ: ويكثر من الدعاء لعله يوافقها ويدعو بما روي عن عائشة أنها قالت (يارسول الله إن وافقتها فبم أدعو؟ قال قولي اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعفُ عني) رواه الترمذي وقال حديثٌ صحيح.

ص: 262

الشيخ: العفوُّ من أسماء الله عز وجل وهو المتجاوز عن سيئات عباده ثم إن قرن بالمغفرة صار في مقابل ترك الواجب والمغفرة في مقابل المحرم وإن ذكر وحده صار شاملاً لترك الواجب وفعل المحرم كما أن المغفرة إذا ذكرت وحدها شملت النوعين جميعاً لكن إذا قُرنا فالعفوُّ في مقابل ترك الواجب والغفور في مقابل فعل المحرم وانظر إلى كون الإنسان يجتهد في العمل الصالح ثم يطلب العفو وهذا غاية الذل والانكسار بين يدي الله عز وجل اللهم اعف عنا.

ص: 263