الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة البقرة (2) : الآيات 99 الى 103]
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَاّ الْفاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103)
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «1» فِي قَوْلِهِ تعالى: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ الآية، أَيْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ عَلَامَاتٍ وَاضِحَاتٍ، دالات عَلَى نُبُوَّتِكَ، وَتِلْكَ الْآيَاتُ هِيَ مَا حَوَاهُ كِتَابُ اللَّهِ مِنْ خَفَايَا عُلُومِ الْيَهُودِ، وَمَكْنُونَاتِ سَرَائِرِ أَخْبَارِهِمْ وَأَخْبَارِ أَوَائِلِهِمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالنَّبَأِ عَمَّا تَضَمَّنَتْهُ كُتُبُهُمُ التِي لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا إِلَّا أَحْبَارُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ وَمَا حَرَّفَهُ أَوَائِلُهُمْ وَأَوَاخِرُهُمْ وَبَدَّلُوهُ مِنْ أَحْكَامِهِمْ التِي كَانَتْ فِي التوراة فأطلع الله في كتابه الذي أنزل على نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ لِمَنْ أنصف نفسه ولم يدعها إِلَى هَلَاكِهَا الْحَسَدُ وَالْبَغْيُ، إِذْ كَانَ فِي فِطْرَةِ كُلِّ ذِي فِطْرَةٍ صَحِيحَةٍ تَصْدِيقُ مَنْ أَتَى بِمِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ التِي وصف من غير تعلم تعلمه من بشر، وَلَا أَخَذَ شَيْئًا مِنْهُ عَنْ آدَمِيٍّ، كَمَا قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ يَقُولُ: فَأَنْتَ تَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ وَتُخْبِرُهُمْ بِهِ غَدْوَةً وَعَشِيَّةً وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَأَنْتَ عندهم أمي لم تَقْرَأُ كِتَابًا، وَأَنْتَ تُخْبِرُهُمْ بِمَا فِي أَيْدِيهِمْ على وجهه، يقول الله تعالى: في ذلك عبرة وبيان [لهم]«2» ، وَعَلَيْهِمْ حُجَّةٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ «3» : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ صُورِيَّا الْفَطْيُونِيُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا مُحَمَّدُ، مَا جِئْتَنَا بِشَيْءٍ نَعْرِفُهُ، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ فَنَتْبَعُكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ.
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ «4» حِينَ بُعِثَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ لهم ما أخذ عليهم له مِنَ الْمِيثَاقِ وَمَا عُهِدَ إِلَيْهِمْ فِي مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: وَاللَّهِ مَا عَهِدَ إلينا في محمد عهد، وما أخذ علينا ميثاقا «5» ، فأنزل الله تعالى أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: فِي قَوْلِهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ قَالَ: نَعَمْ، لَيْسَ فِي الْأَرْضِ عَهْدٌ يُعَاهِدُونَ عَلَيْهِ إِلَّا نَقَضُوهُ وَنَبَذُوهُ، يُعَاهِدُونَ الْيَوْمَ وَيَنْقُضُونَ غَدًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ قَتَادَةُ: نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ، أَيْ نَقَضَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَصْلُ النَّبْذِ الطَّرْحُ وَالْإِلْقَاءُ، وَمِنْهُ سُمِّي اللَّقِيطُ مَنْبُوذًا، وَمِنْهُ سُمِّي النَّبِيذُ، وَهُوَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ إِذَا طُرِحَا في الماء، قال أبو الأسود الدؤلي:[الطويل]
(1) تفسير الطبري 1/ 485.
(2)
زيادة من الطبري.
(3)
سيرة ابن هشام 1/ 548 وتفسير الطبري 1/ 485.
(4)
سيرة ابن هشام 1/ 547.
(5)
في السيرة: «وما أخذ له علينا من ميثاق» .
نَظَرْتُ إِلَى عُنْوَانِهِ فَنَبَذْتُهُ
…
كَنَبْذِكَ نَعْلًا أَخْلَقَتْ مِنْ نِعَالِكَا «1»
قُلْتُ: فَالِقَوْمُ ذَمَّهُمُ اللَّهُ بِنَبْذِهِمُ الْعُهُودَ التِي تَقَدَّمُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ فِي التَّمَسُّكِ بِهَا وَالْقِيَامِ بِحَقِّهَا، وَلِهَذَا أَعْقَبَهُمْ ذَلِكَ التَّكْذِيبَ بِالرَّسُولِ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمْ وَإِلَى النَّاسِ كَافَّةً الذِي فِي كُتُبِهِمْ نَعْتُهُ وَصِفَتُهُ وَأَخْبَارُهُ، وَقَدْ أُمِرُوا فيها باتباعه ومؤازرته ونصرته، كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الْأَعْرَافِ: 157] ، وَقَالَ هَاهُنَا وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ الآية، أي طرح طَائِفَةٌ مِنْهُمْ كِتَابَ اللَّهِ الذِي بِأَيْدِيهِمْ مِمَّا فِيهِ الْبِشَارَةُ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، أَيْ تَرَكُوهَا كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا فِيهَا، وَأَقْبَلُوا عَلَى تَعَلُّمِ السِّحْرِ وَاتِّبَاعِهِ، وَلِهَذَا أَرَادُوا كَيْدًا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وسحروه في مشط ومشاقة وجف طلعة ذكر تحت راعوفة ببئر أَرْوَانَ «2» ، وَكَانَ الذِي تَوَلَّى ذَلِكَ مِنْهُمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ لَعَنَهُ اللَّهُ وقبحه، فَأَطْلَعَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم وَشَفَاهُ مِنْهُ وَأَنْقَذَهُ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
قَالَ السُّدِّيُّ وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ قَالَ: لَمَّا جَاءَهُمْ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم عَارَضُوهُ بِالتَّوْرَاةِ، فَخَاصَمُوهُ بِهَا، فَاتَّفَقَتِ التَّوْرَاةُ وَالْقُرْآنُ، فَنَبَذُوا التَّوْرَاةَ وَأَخَذُوا بِكِتَابِ آصِفَ، وَسِحْرِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَلَمْ يُوَافِقِ الْقُرْآنَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قَالَ: إِنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَلَكِنَّهُمْ نَبَذُوا عِلْمَهُمْ وَكَتَمُوهُ وَجَحَدُوا بِهِ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ الآية، وكان حين ذهب ملك سليمان ارتد فئات من الجن والإنس واتبعوا الشهوات، فلما أرجع اللَّهُ إِلَى سُلَيْمَانَ مُلْكَهُ، وَقَامَ النَّاسُ عَلَى الدين كما كان، وأن سُلَيْمَانَ ظَهَرَ عَلَى كُتُبِهِمْ فَدَفَنَهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، وَتُوُفِّيَ سُلَيْمَانُ عليه السلام حَدَثَانَ ذَلِكَ، فَظَهَرَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى الْكُتُبِ بَعْدَ وَفَاةِ سُلَيْمَانَ وَقَالُوا: هَذَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ نَزَلَ عَلَى سليمان فأخفاه عَنَّا، فَأَخَذُوا بِهِ فَجَعَلُوهُ دِينًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ الآية واتبعوا الشهوات التي كانت تتلوا الشَّيَاطِينُ، وَهِيَ الْمَعَازِفُ وَاللَّعِبُ وَكُلُّ شَيْءٍ يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ آصِفُ كَاتِبُ سُلَيْمَانَ، وَكَانَ يَعْلَمُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، وَكَانَ يَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ سُلَيْمَانَ وَيَدْفِنُهُ تَحْتَ كرسيه، فلما مات سليمان أخرجته الشَّيَاطِينُ، فَكَتَبُوا بَيْنَ كُلِّ سَطْرَيْنِ سِحْرًا وَكُفْرًا، وقالوا: هذا الذي كان سليمان يعمل به. قال: فأكفره جهال
(1) البيت لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه ص 106 وتاج العروس (عنن) والطبري 1/ 488.
(2)
أروان: اسم بئر بالمدينة. وقد جاء فيه «ذروان» و «ذو أروان» . والمشاقة: الشعر الذي يسقط في الرأس واللحية عند التسريح بالمشط. وجفّ الطلع: الغشاء الذي يكون فوقه. والراعوثة: صخرة تترك في أسفل البئر إذا حفرت، تكون ناتئة فإذا أرادوا تنقية البئر جلس المنقّي عليها.
الناس وسبوه، ووقف علماء الناس، فلم يزل جهال الناس يَسُبُّونَهُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ سَلْمُ بْنُ جُنَادَةَ السَّوَائِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ سُلَيْمَانُ عليه السلام إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الْخَلَاءَ أَوْ يَأْتِيَ شَيْئًا مِنْ نِسَائِهِ، أَعْطَى الْجَرَادَةَ وَهِيَ امْرَأَةٌ خَاتَمَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَ سُلَيْمَانَ عليه السلام بِالذِي ابْتَلَاهُ بِهِ، أَعْطَى الْجَرَادَةَ ذَاتَ يَوْمٍ خَاتَمَهُ، فَجَاءَ الشَّيْطَانُ في صورة سليمان فقال: هاتي خاتمي، فأخذه ولبسه، فَلَمَّا لَبِسَهُ دَانَتْ لَهُ الشَّيَاطِينُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ.
قال: فجاءها سليمان، فقال لها: هَاتِي خَاتَمِي، فَقَالَتْ: كَذَّبْتَ لَسْتَ سُلَيْمَانَ، قَالَ: فَعَرَفَ سُلَيْمَانُ أَنَّهُ بَلَاءٌ ابْتُلِيَ بِهِ. قَالَ: فَانْطَلَقَتِ الشَّيَاطِينُ، فَكَتَبَتْ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ كُتُبًا فِيهَا سِحْرٌ وَكُفْرٌ، فَدَفَنُوهَا تَحْتَ كُرْسِيِّ سليمان، ثم أخرجوها وقرءوها عَلَى النَّاسِ وَقَالُوا: إِنَّمَا كَانَ سُلَيْمَانُ يَغْلِبُ النَّاسَ بِهَذِهِ الْكُتُبِ، قَالَ فَبَرِئَ النَّاسُ مِنْ سليمان وَأَكْفَرُوهُ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فأنزل عَلَيْهِ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عِمْرَانَ وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، إذ جاء رجل فقال له [ابن عباس] «2» : مِنْ أَيْنَ جِئْتَ؟ قَالَ: مِنَ الْعِرَاقِ، قَالَ: مَنْ أَيِّهِ؟ قَالَ: مِنَ الْكُوفَةِ، قَالَ: فَمَا الْخَبَرُ؟ قَالَ: تَرَكْتُهُمْ يَتَحَدَّثُونَ أَنَّ عَلِيًّا خَارِجٌ إِلَيْهِمْ فَفَزِعَ ثُمَّ قَالَ: مَا تَقُولُ لَا أَبًا لَكَ؟ لَوْ شَعَرْنَا مَا نَكَحْنَا نِسَاءَهُ وَلَا قَسَمْنَا مِيرَاثَهُ، أَمَا إِنِّي سَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ، إِنَّهُ كَانَتِ الشَّيَاطِينُ يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ مِنَ السَّمَاءِ فَيَجِيءُ أَحَدُهُمْ بِكَلِمَةِ حَقٍّ قَدْ سَمِعَهَا، فإذا جرّب منه وصدق، كَذِبَ مَعَهَا سَبْعِينَ كِذْبَةً، قَالَ: فَتَشْرَبُهَا قُلُوبُ الناس قال: فَأَطْلَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا سُلَيْمَانَ عليه السلام، فَدَفَنَهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ سُلَيْمَانُ عليه السلام، قام شيطان الطريق «3» ، فقال: هل أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزِهِ الْمُمَنَّعِ الذِي لَا كَنْزَ لَهُ مِثْلُهُ؟ تَحْتَ الْكُرْسِيِّ. فَأَخْرَجُوهُ، فَقَالُوا: هَذَا سحر، فَتَنَاسَخَهَا الْأُمَمُ حَتَّى بَقَايَاهَا مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ أهل العراق، فأنزل الله عز وجل وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا الآية، وروى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرِكِهِ عَنْ أَبِي زَكَرِيَّا الْعَنْبَرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ جَرِيرٍ بِهِ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ في قوله تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ أَيْ عَلَى عَهْدِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: كَانَتِ الشَّيَاطِينُ تَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ فَتَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ، فَيَسْتَمِعُونَ مِنْ كَلَامِ الملائكة ما يَكُونُ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَوْتٍ أَوْ غَيْبٍ أو أمر، فيأتون الكهنة فيخبرونهم، فتحدث
(1) تفسير الطبري 1/ 494.
(2)
زيادة في الطبري.
(3)
في الطبري: قام شيطان بالطريق. [.....]
الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا، فلما أَمِنَتْهُمُ الْكَهَنَةُ كَذَبُوا لَهُمْ وَأَدْخَلُوا فِيهِ غَيْرَهُ، فَزَادُوا مَعَ كُلِّ كَلِمَةٍ سَبْعِينَ كَلِمَةً، فَاكْتَتَبَ الناس ذلك الحديث في الكتب، وفشى ذلك فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ الْجِنَّ تَعْلَمُ الْغَيْبَ، فَبُعِثَ سُلَيْمَانُ فِي النَّاسِ، فَجَمَعَ تِلْكَ الْكُتُبَ فَجَعَلَهَا فِي صُنْدُوقٍ، ثُمَّ دَفَنَهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْنُوَ مِنَ الْكُرْسِيِّ إِلَّا احْتَرَقَ، وَقَالَ:
لَا أَسْمَعُ أَحَدًا يَذْكُرُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ إلا ضربت عنقه، فلما مات سليمان، وَذَهَبَتِ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَمْرَ سُلَيْمَانَ، وخلف من بعد ذلك خلف، تمثل الشيطان فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ ثُمَّ أَتَى نَفَرًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ لَهُمْ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزٍ لَا تَأْكُلُونَهُ «1» أَبَدًا؟ قَالُوا:
نَعَمْ، قَالَ: فاحفروا تحت الكرسي، فذهب معهم وأراهم المكان وقام ناحيته، فقالوا له: فادن، فقال: لَا وَلَكِنَّنِي هَاهُنَا فِي أَيْدِيكُمْ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوهُ فَاقْتُلُونِي، فَحَفَرُوا فَوَجَدُوا تِلْكَ الْكُتُبَ، فَلَمَّا أَخْرَجُوهَا قَالَ الشَّيْطَانُ: إِنَّ سُلَيْمَانَ إِنَّمَا كَانَ يَضْبُطُ الْإِنْسَ وَالشَّيَاطِينَ وَالطَّيْرَ بِهَذَا السِّحْرِ، ثُمَّ طَارَ وَذَهَبَ. وَفَشَا فِي النَّاسِ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ سَاحِرًا، وَاتَّخَذَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تِلْكَ الْكُتُبَ، فَلَمَّا جَاءَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم خَاصَمُوهُ بِهَا فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا.
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ «2» : إِنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم زَمَانًا عَنْ أُمُورٍ مِنَ التَّوْرَاةِ لَا يَسْأَلُونَهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذلك إلا أنزل الله سبحانه وتعالى ما سألوه عنه، فيخصمهم به فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَالُوا: هَذَا أَعْلَمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْنَا مِنَّا. وَإِنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنِ السِّحْرِ وَخَاصَمُوهُ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ عَمَدُوا إِلَى كِتَابٍ فَكَتَبُوا فِيهِ السِّحْرَ وَالْكِهَانَةَ وَمَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، فَدَفَنُوهُ تحت كرسي مجلس سليمان وكان عليه السلام لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ، فَلَمَّا فَارَقَ سُلَيْمَانُ الدُّنْيَا اسْتَخْرَجُوا ذَلِكَ السِّحْرَ وَخَدَعُوا النَّاسَ وَقَالُوا: هَذَا عِلْمٌ كَانَ سُلَيْمَانُ يَكْتُمُهُ وَيَحْسُدُ النَّاسَ عَلَيْهِ، فَأَخْبَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحَدِيثِ فَرَجَعُوا مِنْ عِنْدِهِ وَقَدْ أدحض الله حجتهم.
وقال مجاهد «3» في قوله تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ قَالَ: كَانَتِ الشَّيَاطِينُ تستمع الوحي فما سمعوا من كلمة زَادُوا فِيهَا مِائَتَيْنِ مِثْلَهَا، فَأُرْسِلَ سُلَيْمَانُ عليه السلام إِلَى مَا كَتَبُوا مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا توفي سليمان وجدته الشياطين وعلمته الناس وَهُوَ السِّحْرُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ «4» : كَانَ سليمان يَتَتَبَّعُ مَا فِي أَيْدِي الشَّيَاطِينِ مِنَ السِّحْرِ فَيَأْخُذُهُ مِنْهُمْ فَيَدْفِنُهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ فِي بَيْتِ خزانته فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه فدنت إلى الإنس فقالوا لهم
(1) أي لا ينفد أبدا.
(2)
هذا الأثر والذي قبله وردا في الطبري 1/ 490.
(3)
الطبري 1/ 492.
(4)
الطبري 1/ 494.
أَتَدْرُونَ مَا الْعِلْمُ الذِي كَانَ سُلَيْمَانُ يُسِخِّرُ بِهِ الشَّيَاطِينَ وَالرِّيَاحَ وَغَيْرَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالُوا:
فَإِنَّهُ فِي بَيْتِ خِزَانَتِهِ وَتَحْتَ كُرْسِيِّهِ فاستشار به الإنس واستخرجوه وعملوا بها، فقال أهل الحجاز: كَانَ سُلَيْمَانُ يَعْمَلُ بِهَذَا وَهَذَا سِحْرٌ فَأَنْزَلَ الله تعالى على نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بَرَاءَةَ سليمان عليه السلام فقال تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ: عَمَدَتِ الشَّيَاطِينُ حِينَ عَرَفَتْ مَوْتَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عليه السلام، فَكَتَبُوا أَصْنَافَ السِّحْرِ، مَنْ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَبْلَغَ كَذَا فليفعل كَذَا وَكَذَا حَتَّى إِذَا صَنَّفُوا أَصْنَافَ السِّحْرِ، جعلوه في كتاب ثم ختموه بِخَاتَمٍ عَلَى نَقْشِ خَاتَمِ سُلَيْمَانَ وَكَتَبُوا فِي عنوانه:
هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق لِلْمَلِكِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ مِنْ ذَخَائِرِ كُنُوزِ الْعِلْمِ. ثُمَّ دَفَنُوهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ وَاسْتَخْرَجَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ بَقَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى أَحْدَثُوا مَا أَحْدَثُوا فَلَمَّا عَثَرُوا عَلَيْهِ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا كان ملك سليمان إلا بهذا، فأفشوا السحر في الناس فتعلموه وعلموه، فليس هُوَ فِي أَحَدٍ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الْيَهُودِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، فَلَمَّا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا نَزَلَ عَلَيْهِ مِنَ الله سليمان بن داود وعده فيمن عد مِنَ الْمُرْسَلِينَ، قَالَ مَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ اليهود: أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ مُحَمَّدٍ يَزْعُمُ أَنَّ ابْنَ دَاوُدَ كَانَ نَبِيًّا وَاللَّهِ مَا كَانَ إِلَّا سَاحِرًا. وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا الْآيَةَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، قَالَ: لما سلب سليمان مُلْكَهُ كَانَتِ الشَّيَاطِينُ تَكْتُبُ السِّحْرَ فِي غَيْبَةِ سُلَيْمَانَ، فَكَتَبَتْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ كَذَا وَكَذَا فَلْيَسْتَقْبِلِ الشَّمْسَ وَلْيَقُلْ كَذَا وَكَذَا، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا وَكَذَا فَلْيَسْتَدْبِرِ الشَّمْسَ وَلْيَقُلْ كَذَا وَكَذَا، فَكَتَبَتْهُ وَجَعَلَتْ عُنْوَانَهُ: هَذَا مَا كَتَبَ آصِفُ بْنُ بَرْخِيَا لِلْمَلِكِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عليهما السلام مِنْ ذَخَائِرِ كُنُوزِ العلم ثم دفنه تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ عليه السلام، قام إبليس لعنه الله خطيبا فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ سُلَيْمَانَ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا إِنَّمَا كَانَ سَاحِرًا فَالتَمِسُوا سِحْرَهُ فِي مَتَاعِهِ وَبُيُوتِهِ، ثُمَّ دَلَّهُمْ عَلَى الْمَكَانِ الذِي دُفِنَ فِيهِ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ سُلَيْمَانُ سَاحِرًا هَذَا سِحْرُهُ بِهَذَا تَعَبَّدَنَا وَبِهَذَا قَهَرَنَا، فقال الْمُؤْمِنُونَ: بَلْ كَانَ نَبِيًّا مُؤْمِنًا، فَلَمَّا بَعَثَ الله النبي محمدا صلى الله عليه وسلم وذكر داود وسليمان فقالت اليهود: انْظُرُوا إِلَى مُحَمَّدٍ يَخْلِطُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، يَذْكُرُ سُلَيْمَانَ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ إِنَّمَا كَانَ سَاحِرًا يَرْكَبُ الريح، فأنزل الله تعالى وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ الْآيَةَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَدَ الأعلى الصنعاني، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُدَيْرٍ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: أَخَذَ سُلَيْمَانُ عليه السلام مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ عَهْدًا فإذا
(1) الطبري 1/ 495- 496.
(2)
الطبري 1/ 495- 496.
أُصِيبَ رَجُلٌ فَسَأَلَ بِذَلِكَ الْعَهْدِ خَلَّى عَنْهُ، فزاد الناس السجع والسحر، فقالوا: هذا يعمل به سليمان بن داود عليهما السلام، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عِصَامُ بْنُ رَوَّادٍ حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ زِيَادٍ مَوْلَى ابْنِ مصعب عن الحسن وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ قَالَ: ثُلُثُ الشِّعْرِ وَثُلُثُ السِّحْرِ وَثُلُثُ الْكِهَانَةِ، وَقَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَشَّارٍ الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنِي سُرُورُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ عَبَّادِ بْنِ منصور عن الحسن وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وتبعته الْيَهُودُ عَلَى مُلْكِهِ وَكَانَ السِّحْرُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمْ يَزَلْ بِهَا، وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا اتَّبَعَ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ. فَهَذِهِ نُبْذَةٌ مِنْ أَقْوَالِ أَئِمَّةِ السَّلَفِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَلَا يَخْفَى مُلَخَّصُ الْقِصَّةِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ أَطْرَافِهَا وَأَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ السِّيَاقَاتِ عَلَى اللَّبِيبِ الْفَهِمِ، والله الهادي.
وقوله تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ أَيْ وَاتَّبَعَتِ الْيَهُودُ الذين أوتوا الكتاب من بَعْدَ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ الذِي بِأَيْدِيهِمْ، ومخالفتهم لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم مَا تَتْلُوهُ الشَّيَاطِينُ، أَيْ مَا تَرْوِيهِ وَتُخْبِرُ بِهِ وَتُحَدِّثُهُ الشَّيَاطِينُ على ملك سليمان، وعداه بعلى لأنه ضمن تَتْلُو: تَكْذِبُ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «عَلَى» هَاهُنَا بمعنى في، أي تتلوا فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ، وَنَقَلَهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وابن إسحاق.
(قلت) والتضمين أَحْسَنُ وَأَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رحمه الله: وكان السِّحْرُ قَبْلَ زَمَانِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ- صَحِيحٌ لَا شَكَّ فِيهِ، لِأَنَّ السَّحَرَةَ كَانُوا فِي زَمَانِ مُوسَى عليه السلام وَسُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ بَعْدَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى [الْبَقَرَةِ: 246] ، ثُمَّ ذَكَرَ الْقِصَّةَ بَعْدَهَا وَفِيهَا وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ [الْبَقَرَةِ: 251] وَقَالَ قَوْمُ صَالِحٍ وَهُمْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عليه السلام لَنَبِيِّهِمْ صَالِحٍ إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ [الشعراء: 153] أي الْمَسْحُورِينَ عَلَى الْمَشْهُورِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ «مَا» نَافِيَةٌ أَعْنِي التِي فِي قَوْلِهِ: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ قال القرطبي «1» : ما نافية ومعطوف عَلَى قَوْلِهِ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ ثُمَّ قَالَ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وذلك أن اليهود كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ فأكذبهم الله وَجَعَلَ قَوْلَهُ هارُوتَ وَمارُوتَ بَدَلًا مِنَ الشَّيَاطِينِ، قال: وصح ذلك إما لأن الجمع يطلق على الاثنين كما في قوله تعالى: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ [النساء: 11] أو لكونهما
(1) تفسير القرطبي 2/ 50.
لَهُمَا أَتْبَاعٌ أَوْ ذُكِرَا مِنْ بَيْنِهِمْ لِتَمَرُّدِهِمَا تقدير الكلام عنده يعلمون النَّاسَ السِّحْرَ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ. ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا أَوْلَى مَا حُمِلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَأَصَحُّ وَلَا يُلْتَفَتْ إِلَى مَا سِوَاهُ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ «1» بِإِسْنَادِهِ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ الآية، يَقُولُ لَمْ يُنْزِلِ اللَّهُ السِّحْرَ وَبِإِسْنَادِهِ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا السِّحْرَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى هذا وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ مِنَ السِّحْرِ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَا أَنْزَلَ اللَّهُ السِّحْرَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ مِنَ الْمُؤَخَّرِ الذِي مَعْنَاهُ الْمُقَدَّمُ قَالَ: فإن قال لنا قائل: كيف وَجْهُ تَقْدِيمِ ذَلِكَ؟ قِيلَ وَجْهُ تَقْدِيمِهِ أَنْ يقال وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ مِنَ السِّحْرِ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ السِّحْرَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ببابل هاروت وَمَارُوتَ، فَيَكُونُ مَعْنِيًّا بِالْمَلَكَيْنِ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ عليهما السلام، لأن سحرة اليهود فيما ذكرت كَانَتْ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ السِّحْرَ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ فأكذبهم الله بذلك، أخبر نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم أَنَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ لَمْ يَنْزِلَا بِسِحْرٍ وَبَرَّأَ سُلَيْمَانَ عليه السلام مِمَّا نَحَلُوهُ مِنَ السِّحْرِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ السِّحْرَ مِنْ عَمَلِ الشَّيَاطِينِ وَأَنَّهَا تُعَلِّمُ النَّاسَ ذَلِكَ بِبَابِلَ، وَأَنَّ الَّذِينَ يُعَلِّمُونَهُمْ ذَلِكَ رَجُلَانِ: اسْمُ أَحَدِهِمَا هَارُوتُ، وَاسْمُ الْآخَرِ مَارُوتُ، فَيَكُونُ هَارُوتُ وَمَارُوتُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ تَرْجَمَةً عَنِ النَّاسِ وَرَدًّا عَلَيْهِمْ. هَذَا لَفْظُهُ بِحُرُوفِهِ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حُدِّثْتُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، أَخْبَرَنَا فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ عَنْ عَطِيَّةَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ السحر، قال ابن أبي حاتم:
وأخبرنا الفضل بن شاذان، أخبرنا محمد بن عيسى، أخبرنا يعلى يعني ابن أسد، أخبرنا بكر يعني ابن مصعب، أخبرنا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبْزَى كَانَ يَقْرَؤُهَا «وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ» وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَمْ ينزل عليهما السحر، يقول: علما بالإيمان وَالْكُفْرَ، فَالسِّحْرُ مِنَ الْكُفْرِ، فَهُمَا يَنْهَيَانِ عَنْهُ أَشَدَّ النَّهْيِ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. ثُمَّ شَرَعَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي رَدِّ هَذَا الْقَوْلِ، وَأَنَّ مَا بِمَعْنَى الذِي، وَأَطَالَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ وَادَّعَى أَنَّ هَارُوتَ وَمَارُوتَ مَلَكَانِ أَنْزَلَهُمَا اللَّهُ إِلَى الْأَرْضِ وَأَذِنَ لَهُمَا فِي تَعْلِيمِ السِّحْرِ اخْتِبَارًا لِعِبَادِهِ وَامْتِحَانًا بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لِعِبَادِهِ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَنْهَى عَنْهُ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ، وَادَّعَى أَنَّ هَارُوتَ وَمَارُوتَ مُطِيعَانِ فِي تَعْلِيمِ ذَلِكَ، لِأَنَّهُمَا امْتَثَلَا مَا أُمِرَا بِهِ، وَهَذَا الذِي سَلَكَهُ غَرِيبٌ جَدًا، وَأَغْرَبُ مِنْهُ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَارُوتَ وَمَارُوتَ قَبِيلَانِ مِنَ الْجِنِّ، كَمَا زَعَمَهُ ابْنُ حَزْمٍ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الضَّحَّاكِ بن مزاحم أنه كان يقرؤها
(1) الطبري 1/ 497.