الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ لَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ عن ابن عمر عن كعب الأحبار قَالَ: ذَكَرَتِ الْمَلَائِكَةُ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ وَمَا يَأْتُونَ مِنَ الذُّنُوبِ، فَقِيلَ لَهُمُ: اخْتَارُوا مِنْكُمُ اثْنَيْنِ فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَقَالَ لَهُمَا إِنِّي أُرْسِلُ إِلَى بَنِي آدَمَ رُسُلًا وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ رَسُولٌ، انْزِلَا لَا تُشْرِكَا بِي شَيْئًا وَلَا تَزْنِيَا وَلَا تَشْرَبَا الْخَمْرَ، قَالَ كَعْبٌ: فو الله مَا أَمْسَيَا مِنْ يَوْمِهِمَا الذِي أُهْبِطَا فِيهِ حتى استكملا جميع ما نهيا عنه رواه ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عِصَامٍ عَنْ مُؤَمَّلٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى أخبرنا المعلى وهو ابن أسد أخبرنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ حَدَّثَنِي سَالِمٌ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ يُحَدِّثُ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ فَذَكَرَهُ، فَهَذَا أَصَحُّ وَأَثْبَتُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مِنَ الْإِسْنَادَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ وَسَالِمٌ أَثْبَتُ فِي أَبِيهِ مِنْ مَوْلَاهُ نَافِعٍ، فَدَارَ الْحَدِيثُ وَرَجَعَ إِلَى نَقْلِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ عَنْ كُتُبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(ذِكْرُ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ)
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «1» : حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ أخبرنا حَمَّادٌ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا رضي الله عنه يَقُولُ: كَانَتِ الزُّهَرَةُ امْرَأَةً جَمِيلَةً مِنْ أَهْلِ فَارِسَ وَإِنَّهَا خَاصَمَتْ إِلَى الْمَلَكَيْنِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ فَرَاوَدَاهَا عَنْ نَفْسِهَا فَأَبَتْ عَلَيْهِمَا إِلَّا أَنْ يعلماها الكلام الذي إذا تكلم به أحد يُعْرَجُ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ فَعَلَّمَاهَا فَتَكَلَّمَتْ بِهِ، فَعَرَجَتْ إِلَى السَّمَاءِ فَمُسِخَتْ كَوْكَبًا. وَهَذَا الْإِسْنَادُ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ شاذان أخبرنا محمد بن عيسى أخبرنا إبراهيم بن موسى أخبرنا معاوية عن خَالِدٍ عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: هُمَا مَلَكَانِ مِنْ مَلَائِكَةِ السَّمَاءِ، يَعْنِي وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وَرَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ بِسَنَدِهِ عَنْ مُغِيثٍ عَنْ مَوْلَاهُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا. وَهَذَا لَا يَثْبُتُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ آخَرَيْنِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَعَنَ اللَّهُ الزُّهَرَةَ فَإِنَّهَا هِيَ التِي فَتَنَتِ الْمَلَكَيْنِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ» وَهَذَا أَيْضًا لَا يَصِحُّ وَهُوَ مُنْكَرٌ جِدًّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بن إبراهيم أخبرنا الْحَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا جَمِيعًا: لما كثر بنو آدم
(1) الطبري 1/ 502. [.....]
(2)
الطبري 1/ 501.
وَعَصَوْا، دَعَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمْ وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ رَبَّنَا لا تمهلهم، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ إِنِّي أَزَلْتُ الشَّهْوَةَ وَالشَّيْطَانَ مِنْ قُلُوبِكُمْ وَلَوْ نَزَلْتُمْ لَفَعَلْتُمْ أَيْضًا. قَالَ: فَحَدَّثُوا أَنْفُسَهُمْ أَنْ لَوِ ابْتُلُوا اعْتَصَمُوا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِمْ أَنِ اخْتَارُوا مَلَكَيْنِ مِنْ أَفْضَلِكُمْ، فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَأُهْبِطَا إِلَى الْأَرْضِ وَأُنْزِلَتِ الزُّهَرَةُ إِلَيْهِمَا فِي صُورَةِ امْرَأَةٍ مِنْ أهل فارس يسمونها بيذخت، قال: فوقعا بالخطيئة، فَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينِ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كل شيء رحمة وعلما، فَلَمَّا وَقَعَا بِالْخَطِيئَةِ اسْتَغْفَرُوا لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، فَخُيِّرَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ فَاخْتَارَا عَذَابَ الدنيا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَخْبَرَنَا أَبِي أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِّيُّ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ عَمْرٍو عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو وَيُونُسَ بْنِ خَبَّابٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كُنْتُ نَازِلًا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي سَفَرٍ، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ قَالَ لِغُلَامِهِ: انْظُرْ هَلْ طَلَعَتِ الْحَمْرَاءُ لَا مَرْحَبًا بِهَا وَلَا أَهْلًا وَلَا حَيَّاهَا اللَّهُ هِيَ صَاحِبَةُ الْمَلَكَيْنِ، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ، كَيْفَ تَدَعُ عُصَاةَ بَنِي آدَمَ وَهُمْ يَسْفِكُونَ الدَّمَ الْحَرَامَ وَيَنْتَهِكُونَ مَحَارِمَكَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ إِنِّي ابْتَلَيْتُهُمْ فلعل إِنِ ابْتَلَيْتُكُمْ بِمِثْلِ الذِي ابْتَلَيْتُهُمْ بِهِ فَعَلْتُمْ كَالذِي يَفْعَلُونَ، قَالُوا: لَا، قَالَ: فَاخْتَارُوا مِنْ خِيَارِكُمُ اثْنَيْنِ، فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَقَالَ لَهُمَا: إني مهبطكما إلى الأرض وعاهد إليكما أن لا تُشْرِكَا وَلَا تَزْنِيَا وَلَا تَخُونَا، فَأُهْبِطَا إِلَى الأرض وألقى عليهما الشهوة، وَأُهْبِطَتْ لَهُمَا الزُّهَرَةُ فِي أَحْسَنِ صُورَةِ امْرَأَةٍ، فَتَعَرَّضَتْ لَهُمَا فَرَاوَدَاهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَقَالَتْ: إِنِّي عَلَى دِينٍ لَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْتِيَنِي إِلَّا مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِهِ، قَالَا: وَمَا دِينُكِ؟ قَالَتِ الْمَجُوسِيَّةُ، قَالَا: الشِّرْكُ هَذَا شَيْءٌ لَا نُقِرُّ بِهِ، فَمَكَثَتْ عَنْهُمَا مَا شَاءَ الله تعالى، ثم تعرضت لهما فراوداها عَنْ نَفْسِهَا، فَقَالَتْ:
مَا شِئْتُمَا غَيْرَ أَنَّ لِي زَوْجًا وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى هَذَا مِنِّي فَأَفْتَضِحَ، فَإِنْ أَقْرَرْتُمَا لِي بِدِينِي وَشَرَطْتُمَا لِي أَنْ تَصْعَدَا بِي إِلَى السَّمَاءِ فعلت، فأقرا لهما بِدِينِهَا وَأَتَيَاهَا فِيمَا يَرَيَانِ ثُمَّ صَعِدَا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمَّا انْتَهَيَا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ اخْتُطِفَتْ مِنْهُمَا وَقُطِعَتْ أَجْنِحَتُهُمَا فَوَقَعَا خَائِفَيْنِ نَادِمَيْنِ يَبْكِيَانِ وَفِي الْأَرْضِ نَبِيٌّ يَدْعُو بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ أُجِيبَ فَقَالَا: لَوْ أَتَيْنَا فُلَانًا فَسَأَلَنَاهُ فَطَلَبَ لَنَا التَّوْبَةَ، فَأَتَيَاهُ فَقَالَ: رَحِمَكُمَا اللَّهُ كَيْفَ يَطْلُبُ التَّوْبَةَ أَهْلُ الْأَرْضِ لِأَهْلِ السَّمَاءِ؟ قَالَا:
إِنَّا قَدِ ابْتُلِينَا، قَالَ ائْتِيَانِي يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَأَتَيَاهُ، فَقَالَ: مَا أُجِبْتُ فِيكُمَا بِشَيْءٍ ائْتِيَانِي فِي الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ فأتياه، فقال: اختارا فقد خيرتما إن اخترتما مُعَافَاةَ الدُّنْيَا وَعَذَابَ الْآخِرَةِ وَإِنْ أَحْبَبْتُمَا فَعَذَابُ الدُّنْيَا وَأَنْتُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، فقال أحدهما: إن الدنيا لم يمض منه إِلَّا الْقَلِيلُ.
وَقَالَ الْآخَرُ: وَيْحَكَ إِنِّي قَدْ أَطَعْتُكَ فِي الْأَمْرِ الْأَوَّلِ فَأَطِعْنِي الْآنَ إِنَّ عذابا يفنى ليس كعذاب يبقى. فقال: إننا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَأَخَافُ أَنْ يُعَذِّبَنَا، قَالَ: لَا. إِنِّي أَرْجُو إِنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّا قَدِ اخْتَرْنَا عَذَابَ الدُّنْيَا مَخَافَةَ عذاب الآخرة أن لا يجمعها عَلَيْنَا، قَالَ: فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا فَجُعِلَا فِي بَكَرَاتٍ مِنْ حَدِيدٍ فِي قَلِيبٍ مَمْلُوءَةٍ مِنْ نار عليهما سَافِلَهُمَا- وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ إِلَى
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ- وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ رَفَعَهُ، وَهَذَا أَثْبَتُ وَأَصَحُّ إِسْنَادًا ثُمَّ هُوَ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ كَعْبٍ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ رِوَايَةِ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ الزُّهَرَةَ نَزَلَتْ فِي صُورَةِ امْرَأَةٍ حَسْنَاءَ، وَكَذَا فِي الْمَرْوِيِّ عَنْ عَلِيٍّ فِيهِ غَرَابَةٌ جِدًّا.
وَأَقْرَبُ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مَا قال ابن أبي حاتم: أخبرنا عصام بن رواد، أخبرنا آدم، أخبرنا أَبُو جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: لَمَّا وَقَعَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِ آدَمَ عليه السلام فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْكُفْرِ بِاللَّهِ، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ: يَا رَبِّ هَذَا الْعَالَمُ الذِي إِنَّمَا خَلَقْتَهُمْ لِعِبَادَتِكَ وَطَاعَتِكَ قَدْ وَقَعُوا فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ، وَرَكِبُوا الْكُفْرَ، وَقَتْلَ النَّفْسِ، وَأَكْلَ الْمَالِ الْحَرَامِ، وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةَ، وَشُرْبَ الْخَمْرِ، فَجَعَلُوا يَدْعُونَ عَلَيْهِمْ وَلَا يَعْذِرُونَهُمْ فَقِيلَ: إِنَّهُمْ فِي غَيْبٍ فلم يعذروهم، فقيل لهم: اختاروا مِنْ أَفْضَلِكُمْ مَلَكَيْنِ آمُرُهُمَا، وَأَنْهَاهُمَا، فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ فَأُهْبِطَا إِلَى الْأَرْضِ وَجَعَلَ لَهُمَا شَهَوَاتِ بَنِي آدَمَ وَأَمَرَهُمَا اللَّهُ أَنْ يَعْبُدَاهُ وَلَا يُشْرِكَا بِهِ شَيْئًا وَنُهِيَا عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ الْحَرَامِ وَأَكْلِ الْمَالِ الْحَرَامِ وَعَنِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، فَلَبِثَا فِي الْأَرْضِ زَمَانًا يَحْكُمَانِ بين الناس بالحق وذلك في زمن إِدْرِيسَ عليه السلام، وَفِي ذَلِكَ الزَّمَانِ امْرَأَةٌ حُسْنُهَا فِي النِّسَاءِ كَحُسْنِ الزُّهَرَةِ فِي سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَأَنَّهُمَا أَتَيَا عَلَيْهَا فَخَضَعَا لَهَا فِي الْقَوْلِ وَأَرَادَاهَا عَلَى نَفْسِهَا فَأَبَتْ إِلَّا أَنْ يكون عَلَى أَمْرِهَا وَعَلَى دِينِهَا، فَسَأَلَاهَا عَنْ دِينِهَا، فَأَخْرَجَتْ لَهُمَا صَنَمًا فَقَالَتْ: هَذَا أَعْبُدُهُ، فَقَالَا: لَا حَاجَةَ لَنَا فِي عِبَادَةِ هَذَا، فَذَهَبَا فَغَبَرَا «1» مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَتَيَا عَلَيْهَا فَأَرَادَاهَا عَلَى نَفْسِهَا فَفَعَلَتْ مِثْلَ ذَلِكَ، فَذَهَبَا ثم أتيا عليها فأراداها عَلَى نَفْسِهَا، فَلَمَّا رَأَتْ أَنَّهُمَا قَدْ أَبَيَا أَنْ يَعْبُدَا الصَّنَمَ، قَالَتْ لَهُمَا:
اخْتَارَا إِحْدَى الْخِلَالِ الثَّلَاثِ: إِمَّا أَنْ تَعْبُدَا هَذَا الصَّنَمَ، وَإِمَّا أَنْ تَقْتُلَا هَذِهِ النَّفْسَ، وَإِمَّا أَنْ تشربا هذه الْخَمْرَ، فَقَالَا: كُلُّ هَذَا لَا يَنْبَغِي وَأَهْوَنُ هَذَا شُرْبُ الْخَمْرِ فَشَرِبَا الْخَمْرَ فَأَخَذَتْ فِيهِمَا، فَوَاقَعَا الْمَرْأَةَ فَخَشِيَا أَنْ يُخْبِرَ الْإِنْسَانُ عَنْهُمَا فَقَتَلَاهُ، فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهُمَا السُّكْرُ وَعَلِمَا مَا وَقَعَا فِيهِ مِنَ الْخَطِيئَةِ أَرَادَا أَنْ يَصْعَدَا إِلَى السَّمَاءِ فَلَمْ يَسْتَطِيعَا وَحِيَلَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَكُشِفَ الْغِطَاءُ فِيمَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَهْلِ السَّمَاءِ، فَنَظَرَتِ الْمَلَائِكَةُ إِلَى مَا وَقَعَا فِيهِ فَعَجِبُوا كُلَّ الْعَجَبِ وَعَرَفُوا أَنَّهُ مَنْ كَانَ فِي غَيْبٍ فَهُوَ أَقَلُّ خَشْيَةً، فَجَعَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ [الشُّورَى: 5] فَقِيلَ لَهُمَا: اخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا أَوْ عَذَابَ الْآخِرَةِ، فَقَالَا: أَمَّا عَذَابُ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يَنْقَطِعُ وَيَذْهَبُ وَأَمَّا عَذَابُ الْآخِرَةِ فَلَا انْقِطَاعَ لَهُ، فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا، فَجُعِلَا بِبَابِلَ فَهُمَا يُعَذَّبَانِ. وَقَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرِكِهِ مُطَوَّلًا عَنْ أَبِي زَكَرِيَّا الْعَنْبَرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ عَنْ حَكَّامِ بْنِ سَلْمٍ الرَّازِيِّ وَكَانَ ثِقَةً عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ بِهِ، ثُمَّ قال: صحيح الإسناد لم يُخَرِّجَاهُ، فَهَذَا أَقْرَبُ مَا رُوِيَ فِي شَأْنٍ
(1) غير غبورا: مضى.
الزُّهَرَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ «1» .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أخبرنا أبي أخبرنا مسلم أخبرنا القاسم بن الفضل الحذائي أخبرنا يزيد يعني الفارسي عن ابن عباس: أَنَّ أَهْلَ سَمَاءِ الدُّنْيَا أَشْرَفُوا عَلَى أَهْلِ الأرض فرأوهم يعملون بالمعاصي، فَقَالُوا: يَا رَبِّ أَهْلُ الْأَرْضِ كَانُوا يَعْمَلُونَ بالمعاصي، فقال الله: أنتم معي وهم في غُيَّبٌ عَنِّي، فَقِيلَ لَهُمُ: اخْتَارُوا مِنْكُمْ ثَلَاثَةً فَاخْتَارُوا مِنْهُمْ ثَلَاثَةً عَلَى أَنْ يَهْبِطُوا إِلَى الْأَرْضِ عَلَى أَنْ يَحْكُمُوا بَيْنَ أَهْلِ الْأَرْضِ، وجعل فيهم شهوة الآدميين، فأمروا أن لا يَشْرَبُوا خَمْرًا وَلَا يَقْتُلُوا نَفْسًا وَلَا يَزْنُوا وَلَا يَسْجُدُوا لِوَثَنٍ، فَاسْتَقَالَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ فَأُقِيلَ، فَأُهْبِطَ اثْنَانِ إِلَى الْأَرْضِ فَأَتَتْهُمَا امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ يُقَالُ لَهَا: مُنَاهِيَةُ فَهَوِيَاهَا جَمِيعًا، ثُمَّ أَتَيَا مَنْزِلَهَا فَاجْتَمَعَا عِنْدَهَا فَأَرَادَاهَا فَقَالَتْ لَهُمَا: لَا حَتَّى تَشْرَبَا خَمْرِي، وَتَقْتُلَا ابْنَ جَارِي، وَتَسْجُدَا لِوَثَنِي، فَقَالَا: لَا نَسْجُدُ ثُمَّ شَرِبَا مِنَ الْخَمْرِ ثُمَّ قَتَلَا ثُمَّ سَجَدَا، فأشرف أهل السماء عليهما، وقالت لَهُمَا: أَخْبِرَانِي بِالْكَلِمَةِ التِي إِذَا قُلْتُمَاهَا طِرْتُمَا، فَأَخْبَرَاهَا فَطَارَتْ، فَمُسِخَتْ جَمْرَةً وَهِيَ هَذِهِ الزُّهَرَةُ، وَأَمَّا هُمَا فَأُرْسِلَ إِلَيْهِمَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ فَخَيَّرَهُمَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا فَهُمَا مُنَاطَانِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وهذا السياق فيه زيادة كَثِيرَةٌ وَإِغْرَابٌ وَنَكَارَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: قَالَ مَعْمَرٌ قَالَ قَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ كَانَا مَلَكَيْنِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَأُهْبِطَا لِيَحْكُمَا بَيْنَ النَّاسِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ سَخِرُوا مِنْ حُكَّامِ بَنِي آدم فحاكمت إليهما امرأة فخافا لَهَا ثُمَّ ذَهَبَا يَصْعَدَانِ فَحِيلَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ ذَلِكَ، ثُمَّ خُيِّرَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الآخرة فاختارا عذاب الدنيا. قال مَعْمَرٌ: قَالَ قَتَادَةُ فَكَانَا يُعَلِّمَانِ النَّاسَ السِّحْرَ فأخذ عليهما أَنْ لَا يُعَلِّمَا أَحَدًا حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ.
وَقَالَ أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قَالَ «2» : كَانَ مِنْ أَمْرِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ أَنَّهُمَا طَعَنَا عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فِي أَحْكَامِهِمْ، فَقِيلَ لَهُمَا: إِنِّي أَعْطَيْتُ بَنِي آدَمَ عَشْرًا مِنَ الشَّهَوَاتِ فَبِهَا يَعْصُونَنِي، قَالَ هَارُوتُ وَمَارُوتُ: رَبَّنَا لَوْ أَعْطَيْتَنَا تِلْكَ الشَّهَوَاتِ ثُمَّ نَزَلْنَا لَحَكَمْنَا بِالْعَدْلِ. فَقَالَ لَهُمَا: انْزِلَا فَقَدْ أَعْطَيْتُكُمَا تِلْكَ الشَّهَوَاتِ الْعَشْرَ فَاحْكُمَا بَيْنَ النَّاسِ، فنزلا ببابل ديناوند، فَكَانَا يَحْكُمَانِ حَتَّى إِذَا أَمْسَيَا عَرَجَا فَإِذَا أَصْبَحَا هَبَطَا، فَلَمْ يَزَالَا كَذَلِكَ حَتَّى أَتَتْهُمَا امْرَأَةٌ تُخَاصِمُ زَوْجَهَا فَأَعْجَبَهُمَا حُسْنُهَا وَاسْمُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ الزهرة، وبالنبطية بيدخت «3» ، وبالفارسية ناهيد، فقال أحدهما لصاحبه: إنها
(1) وقال ابن كثير في البداية والنهاية 1/ 33: فهذا أظنّه من وضع الإسرائيليين وإن كان قد أخرجه كعب الأحبار وتلقاه عنه طائفة من السلف، فذكروه على سبيل الحكاية والتحدث عن بني إسرائيل
…
وإذا أحسنا الظن قلنا هذا من أخبار بني إسرائيل ومن خرافاتهم التي لا يعوّل عليها.
(2)
الأثر في تفسير الطبري 1/ 502.
(3)
في الطبري «بيذخت» و «أناهيذ» كلاهما بالذال المعجمة.
لَتُعْجِبُنِي، قَالَ الْآخَرُ: قَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَذْكُرَ لَكَ فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْكَ، فَقَالَ الْآخَرُ: هَلْ لَكَ أَنْ أَذْكُرَهَا لَنَفْسِهَا. قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنْ كَيْفَ لَنَا بِعَذَابِ اللَّهِ؟ قَالَ الْآخَرُ إِنَّا لَنَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ. فَلَمَّا جَاءَتْ تُخَاصِمُ زَوْجَهَا ذَكَرَا إِلَيْهَا نَفْسَهَا، فَقَالَتْ: لَا حَتَّى تَقْضِيَا لِي عَلَى زَوْجِي فَقَضَيَا لَهَا عَلَى زَوْجِهَا ثُمَّ وَاعَدَتْهُمَا خَرِبَةً مِنَ الْخَرِبِ يَأْتِيَانِهَا فِيهَا فَأَتَيَاهَا لِذَلِكَ، فَلَمَّا أَرَادَ الذِي يُوَاقِعُهَا قَالَتْ: مَا أَنَا بِالذِي أَفْعَلُ حَتَّى تُخْبِرَانِي بِأَيِّ كَلَامٍ تَصْعَدَانِ إِلَى السَّمَاءِ، وَبِأَيِّ كَلَامٍ تَنْزِلَانِ مِنْهَا، فأخبراها فتكلمت فصعدت، فأنساها الله تعالى ما تنزل به فثبتت مَكَانَهَا وَجَعَلَهَا اللَّهُ كَوْكَبًا، فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بن عمر كلما رآها لعنها وقال: هَذِهِ التِي فَتَنَتْ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ، أَرَادَا أَنْ يَصْعَدَا فَلَمْ يُطِيقَا فَعَرَفَا الْهَلَكَةَ، فَخُيِّرَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا، فَعُلِّقَا بِبَابِلَ وَجَعَلَا يُكَلِّمَانِ الناس كلامها وَهُوَ السِّحْرُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ «1» : أَمَّا شَأْنُ هَارُوتَ وَمَارُوتَ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ عَجِبَتْ مِنْ ظُلْمِ بَنِي آدَمَ وَقَدْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ وَالْكُتُبُ وَالْبَيِّنَاتُ، فَقَالَ لَهُمْ رَبُّهُمْ تَعَالَى: اخْتَارُوا مِنْكُمْ مَلَكَيْنِ أُنْزِلَهُمَا يَحْكُمَانِ فِي الْأَرْضِ فاختاروا فلم يألوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَقَالَ لَهُمَا حِينَ أَنْزَلَهُمَا:
أَعَجِبْتُمَا من بني آدم من ظلمهم ومعصيتهم وإنما تأتيهم الرسل والكتب من وراء وراء وإنكما لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمَا رَسُولٌ، فَافْعَلَا كَذَا وَكَذَا ودعا كذا وكذا، فأمرهما بأمور وَنَهَاهُمَا، ثُمَّ نَزَلَا عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ أَحَدٌ أَطْوَعَ لِلَّهِ مِنْهُمَا فَحَكَمَا فَعَدَلَا، فَكَانَا يَحْكُمَانِ فِي النَّهَارِ بَيْنَ بَنِي آدَمَ فَإِذَا أَمْسَيَا عَرَجَا فَكَانَا مَعَ الْمَلَائِكَةِ، وَيَنْزِلَانِ حِينَ يُصْبِحَانِ فَيَحْكُمَانِ فَيَعْدِلَانِ حَتَّى أُنْزِلَتْ عَلَيْهِمَا الزُّهَرَةُ فِي أَحْسَنِ صُورَةِ امْرَأَةٍ تُخَاصِمُ فَقَضَيَا عَلَيْهَا، فَلَمَّا قَامَتْ وَجَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: وَجَدْتَ مِثْلَ الذِي وَجَدْتُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَبَعَثَا إِلَيْهَا أَنِ ائْتِيَانَا نَقْضِ لَكِ، فَلَمَّا رَجَعَتْ قَالَا وَقَضَيَا لَهَا «2» فَأَتَتْهُمَا فكشفا لها عن عورتيهما، وإنما كانت سوأتهما «3» فِي أَنْفُسِهِمَا وَلَمْ يَكُونَا كَبَنِي آدَمَ فِي شهوة النساء ولذاتها، فَلَمَّا بَلَغَا ذَلِكَ وَاسْتَحَلَّا افْتُتِنَا، فَطَارَتِ الزُّهَرَةُ فَرَجَعَتْ حَيْثُ كَانَتْ، فَلَمَّا أَمْسَيَا عَرَجَا فَزُجِرَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُمَا وَلَمْ تَحْمِلْهُمَا أَجْنِحَتُهُمَا، فَاسْتَغَاثَا بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي آدَمَ فَأَتَيَاهُ فَقَالَا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ، فَقَالَ: كَيْفَ يَشْفَعُ أَهْلُ الْأَرْضِ لِأَهْلِ السَّمَاءِ؟ قَالَا:
سَمِعْنَا رَبَّكَ يَذْكُرُكَ بِخَيْرٍ فِي السَّمَاءِ، فَوَعَدَهُمَا يَوْمًا، وَغَدَا يَدْعُو لَهُمَا فَدَعَا لَهُمَا فَاسْتُجِيبَ لَهُ، فَخُيِّرَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، فَنَظَرَ أَحَدُهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ فَقَالَ: أَلَا تَعْلَمَ أَنَّ أَفْوَاجَ عَذَابِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ كَذَا وَكَذَا فِي الْخُلْدِ وَفِي الدُّنْيَا تِسْعُ مَرَّاتٍ مِثْلَهَا؟ فَأُمِرَا أَنْ يَنْزِلَا ببابل فتم عَذَابُهُمَا، وَزَعَمَ أَنَّهُمَا مُعَلَّقَانِ فِي الْحَدِيدِ مَطْوِيَّانِ يُصَفِّقَانِ بِأَجْنِحَتِهِمَا.
وَقَدْ رَوَى فِي قِصَّةِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعَيْنِ كَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ والحسن
(1) رواه الطبري 1/ 504.
(2)
عبارة الطبري: فلما رجعت قالا لها- وقضيا لها-: ائتينا! فأتتهما.
(3)
في الطبري: «شهوتهما» .
الْبَصَرِيِّ وَقَتَادَةَ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالزُّهْرِيِّ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ وَغَيْرِهِمْ، وَقَصَّهَا خَلْقٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، وَحَاصِلُهَا رَاجِعٌ فِي تَفْصِيلِهَا إِلَى أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ لَيْسَ فِيهَا حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ صَحِيحٌ مُتَّصِلُ الْإِسْنَادِ إِلَى الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ الْمَعْصُومِ الذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، وَظَاهِرُ سِيَاقِ الْقُرْآنِ إِجْمَالُ الْقِصَّةِ من غير بسط ولا إطناب فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ غَرِيبٌ وَسِيَاقٌ عَجِيبٌ فِي ذَلِكَ، أَحْبَبْنَا أَنْ نُنَبِّهَ عَلَيْهِ، قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «1» رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أخبرنا الربيع بن سليمان أخبرنا ابن وهب أخبرنا ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنها قالت: قدمت علي امرأة مِنْ أَهْلِ دُومَةِ الْجَنْدَلِ «2» جَاءَتْ تَبْتَغِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَوْتِهِ حَدَاثَةَ «3» ذَلِكَ تَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ دَخَلَتْ فِيهِ من أمر السحر ولم تعمل به، وقالت عَائِشَةُ رضي الله عنها لِعُرْوَةَ: يَا ابْنَ أُخْتِي، فَرَأَيْتُهَا تَبْكِي حِينَ لَمْ تَجِدْ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فيشفيها، فكانت تَبْكِي حَتَّى إِنِّي لَأَرْحَمُهَا، وَتَقُولُ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ قَدْ هَلَكْتُ، كَانَ لِي زَوْجٌ فَغَابَ عَنِّي فَدَخَلْتُ عَلَى عَجُوزٍ فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: إِنْ فَعَلْتِ مَا آمُرُكِ بِهِ فَأَجْعَلُهُ يَأْتِيكِ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ جَاءَتْنِي بِكَلْبَيْنِ أَسْوَدَيْنِ فَرَكِبْتُ أَحَدَهُمَا وَرَكِبَتِ الْآخَرَ، فَلَمْ يَكُنْ لشيء «4» حَتَّى وَقَفْنَا بِبَابِلَ وَإِذَا بِرَجُلَيْنِ مُعَلَّقَيْنِ بِأَرْجُلِهِمَا فقالا: ما جاء بك؟
قلت: أَتَعَلَّمُ السِّحْرَ، فَقَالَا: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرِي فَارْجِعِي، فَأَبَيْتُ وَقُلْتُ: لَا، قَالَا: فَاذْهَبِي إِلَى ذَلِكَ التَّنُّورِ فَبُولِي فِيهِ، فَذَهَبْتُ فَفَزِعْتُ وَلَمْ أَفْعَلْ فَرَجَعْتُ إِلَيْهِمَا فَقَالَا: أَفَعَلْتِ؟ فَقُلْتُ:
نَعَمْ، فَقَالَا: هَلْ رَأَيْتِ شَيْئًا؟ فَقُلْتُ: لَمْ أَرَ شَيْئًا، فَقَالَا لَمْ تَفْعَلِي ارْجِعِي إِلَى بلادك ولا تكفري فأربيت «5» وَأَبَيْتُ، فَقَالَا: اذْهَبِي إِلَى ذَلِكَ التَّنُّورِ فَبُولِي فِيهِ فَذَهَبْتُ فَاقْشَعْرَرْتُ وَخِفْتُ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَيْهِمَا وقلت: قد فعلت، فقالا: فما رأيت؟ قلت: لَمْ أَرَ شَيْئًا، فَقَالَا: كَذَبْتِ لَمْ تَفْعَلِي ارْجِعِي إِلَى بِلَادِكِ، وَلَا تَكْفُرِي فَإِنَّكِ عَلَى رأس أمرك فأربت وأبيت، فقالا: اذهبي إلى التَّنُّورِ فَبُولِي فِيهِ، فَذَهَبْتُ إِلَيْهِ فَبُلْتُ فِيهِ فَرَأَيْتُ فَارِسًا مُقَنَّعًا بِحَدِيدٍ خَرَجَ مِنِّي فَذَهَبَ في السماء وغاب حَتَّى مَا أَرَاهُ، فَجِئْتُهُمَا فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ، فَقَالَا: فَمَا رَأَيْتِ؟ قُلْتُ: رَأَيْتُ فَارِسًا مُقَنَّعًا خرج مني فذهب في السماء وغاب حَتَّى مَا أَرَاهُ، فَقَالَا: صَدَقْتِ ذَلِكَ إِيمَانُكِ خَرَجَ مِنْكِ اذْهَبِي، فَقُلْتُ لِلْمَرْأَةِ: وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ شَيْئًا وَمَا قَالَا لِي شَيْئًا، فَقَالَتْ: لن لَمْ تُرِيدِي شَيْئًا إِلَّا كَانَ، خُذِي هَذَا الْقَمْحَ فَابْذُرِي، فَبَذَرْتُ وَقُلْتُ: أَطْلِعِي فَأَطْلَعَتْ، وَقُلْتُ: احقلي فأحقلت، ثم قلت: افركي
(1) تفسير الطبري 1/ 506.
(2)
قال ابن خرداذبة في المسالك والممالك (ص 113) : هي من المدينة على ثلاث عشرة مرحلة، ومن الكوفة على عشر مراحل، ومن دمشق على عشر مراحل.
(3)
أي عقيبه.
(4)
في الطبري «كشيء» .
(5)
أربّ بالمكان: لزمه ولم يبرحه.
فَأَفْرَكَتْ، ثُمَّ قُلْتُ: أَيْبِسِي فَأَيْبَسَتْ، ثُمَّ قُلْتُ: أَطْحِنِي فَأَطْحَنَتْ، ثُمَّ قُلْتُ: أَخْبِزِي فَأَخْبَزَتْ، فَلَمَّا رَأَيْتُ أَنِّي لَا أُرِيدُ شَيْئًا إِلَّا كَانَ سَقَطَ فِي يَدِي، وَنَدِمْتُ، وَاللَّهِ يَا أُمَّ المؤمنين ما فعلت شيئا وَلَا أَفْعَلُهُ أَبَدًا. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ بِهِ مُطَوَّلًا كَمَا تقدم وزاد بعد قولها ولا أفعلها أَبَدًا: فَسَأَلْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَاثَةَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ يَوْمَئِذٍ مُتَوَافِرُونَ، فَمَا دَرَوْا مَا يَقُولُونَ لَهَا، وَكُلُّهُمْ هَابَ وَخَافَ أَنْ يُفْتِيَهَا بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ قَالَ لَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ أَوْ بَعْضُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ: لَوْ كَانَ أَبَوَاكِ حَيَّيْنِ أو أحدهما. قَالَ هِشَامٌ: فَلَوْ جَاءَتْنَا أَفْتَيْنَاهَا بِالضَّمَانِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ: وَكَانَ هِشَامٌ يَقُولُ: إِنَّهُمْ كانوا من أَهْلَ الْوَرَعِ وَالْخَشْيَةِ مِنَ اللَّهِ ثُمَّ يَقُولُ هِشَامٌ:
لَوْ جَاءَتْنَا مِثْلُهَا الْيَوْمَ لَوَجَدَتْ نَوْكَى «1» أَهْلَ حُمْقٍ وَتَكَلُّفٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ إِلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْأَثَرِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ السَّاحِرَ لَهُ تَمَكُّنٌ فِي قَلْبِ الْأَعْيَانِ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ بَذَرَتْ وَاسْتَغَلَّتْ فِي الْحَالِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ لَيْسَ لَهُ قُدْرَةٌ إِلَّا عَلَى التخييل كما قال تعالى سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الْأَعْرَافِ: 116] وَقَالَ تَعَالَى:
يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى [طه: 66] استدل بِهِ عَلَى أَنَّ بَابِلَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْقُرْآنِ هي بابل العراق لا بابل ديناوند كَمَا قَالَهُ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ. ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا بَابِلُ الْعِرَاقِ مَا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ وَيَحْيَى بْنُ أَزْهَرَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ سَعْدٍ الْمُرَادِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْغِفَارِيِّ: أَنَّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه مَرَّ بِبَابِلَ وَهُوَ يَسِيرُ، فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ يُؤْذِنُهُ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ، فَلَمَّا بَرَزَ مِنْهَا أَمَرَ الْمُؤَذِّنَ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: إِنَّ حَبِيبِي صلى الله عليه وسلم نَهَانِي أَنْ أُصَلِّيَ بِأَرْضِ الْمَقْبَرَةِ وَنَهَانِي أَنْ أُصَلِّيَ بِبَابِلَ فَإِنَّهَا ملعونة وقال أبو داود: أخبرنا سليمان بن داود أخبرنا ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ وَيَحْيَى بْنُ أَزْهَرَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ سَعْدٍ الْمُرَادِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْغِفَارِيِّ أَنَّ عَلِيًّا مَرَّ بِبَابِلَ وَهُوَ يَسِيرُ، فَجَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ يُؤَذِّنُهُ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ، فَلَمَّا بَرَزَ مِنْهَا أَمَرَ الْمُؤَذِّنَ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: إِنَّ حَبِيبِي صلى الله عليه وسلم نَهَانِي أَنْ أُصَلِّيَ فِي الْمَقْبَرَةِ، وَنَهَانِي أَنْ أُصَلِّيَ بِأَرْضِ بَابِلَ فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ أَزْهَرَ وَابْنُ لَهِيعَةَ عَنِ حجاج بْنِ شَدَّادٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْغِفَارِيِّ عَنْ عَلِيٍّ بِمَعْنَى حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، قَالَ: فلما خرج منها بَرَزَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ حَسَنٌ عِنْدَ الْإِمَامِ أَبِي دَاوُدَ لِأَنَّهُ رَوَاهُ وَسَكَتَ عَنْهُ فَفِيهِ مِنَ الْفِقْهِ كَرَاهِيَةُ الصَّلَاةِ بِأَرْضِ بَابِلَ كَمَا تُكْرَهُ بِدِيَارِ ثَمُودَ الَّذِينَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الدُّخُولِ إِلَى مَنَازِلِهِمْ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا بَاكِينَ. قَالَ أَصْحَابُ الْهَيْئَةِ: وَبُعْدُ مَا بَيْنَ بَابِلَ وَهِيَ مِنْ إِقْلِيمِ الْعِرَاقِ عَنِ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ الْغَرْبِيِّ، وَيُقَالُ لَهُ أُوقْيَانُوسُ سَبْعُونَ دَرَجَةً وَيُسَمُّونَ هَذَا طُولًا، وَأَمَّا عَرْضُهَا وَهُوَ بُعْدُ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَسَطِ الْأَرْضِ مِنْ نَاحِيَةِ الْجَنُوبِ، وَهُوَ الْمُسَامِتُ لِخَطِّ الاستواء اثنان وثلاثون درجة، والله أعلم.
(1) النوكى: الحمقى. واحده: أنوك. [.....]
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَإِذَا أَتَاهُمَا الْآتِي يُرِيدُ السِّحْرَ نَهَيَاهُ أَشَدَّ النَّهْيِ وَقَالَا لَهُ: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمَا عَلِمَا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَالْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ، فَعَرَفَا أَنَّ السِّحْرَ مِنَ الْكُفْرِ، قال: فإذا أبى عليهما أمراه يَأْتِيَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا أَتَاهُ عَايَنَ الشيطان فعلمه، فإذا تعلمه خَرَجَ مِنْهُ النُّورُ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ سَاطِعًا فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ: يَا حَسْرَتَاهُ، يَا وَيْلَهُ مَاذَا صنع.
وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: نَعَمْ أُنْزِلَ الْمَلَكَانِ بِالسِّحْرِ لِيُعَلِّمَا النَّاسَ الْبَلَاءَ الذِي أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَ بِهِ النَّاسَ، فَأُخِذَ عَلَيْهِمَا الْمِيثَاقُ أَنْ لَا يُعَلِّمَا أَحَدًا حَتَّى يَقُولَا: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَالَ قتادة: كان أخذ عليهما أَنْ لَا يُعَلِّمَا أَحَدًا حَتَّى يَقُولَا: إِنَّمَا نحن فتنة أَيْ بَلَاءٌ ابْتُلِينَا بِهِ فَلَا تَكْفُرْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِذَا أَتَاهُمَا إِنْسَانٌ يُرِيدُ السِّحْرَ وَعَظَاهُ وَقَالَا لَهُ: لَا تَكْفُرْ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ، فَإِذَا أَبَى قَالَا لَهُ: ائْتِ هَذَا الرَّمَادَ فَبُلْ عَلَيْهِ، فَإِذَا بَالَ عَلَيْهِ خَرَجَ مِنْهُ نُورٌ فَسَطَعَ حَتَّى يَدْخُلَ السَّمَاءَ وَذَلِكَ الْإِيمَانُ، وَأَقْبَلَ شَيْءٌ أَسْوَدُ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ حَتَّى يَدْخُلَ في مسامعه، وكل شيء، وَذَلِكَ غَضَبُ اللَّهِ، فَإِذَا أَخْبَرَهُمَا بِذَلِكَ عَلَّمَاهُ السِّحْرَ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ الآية، وقال سعيد عَنْ حَجَّاجٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَا يَجْتَرِئُ عَلَى السِّحْرِ إِلَّا كَافِرٌ، وأما الفتنة فهي المحنة والاختيار، ومنه قول الشاعر:[المتقارب]
وَقَدْ فُتِنَ النَّاسُ فِي دِينِهِمْ
…
وَخَلَّى ابْنُ عَفَّانَ شَرًّا طَوِيلَا «1»
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مُوسَى عليه السلام حَيْثُ قَالَ إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ [الأعراف:
155] أَيِ ابْتِلَاؤُكَ وَاخْتِبَارُكَ وَامْتِحَانُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ [الْأَعْرَافِ: 155] وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ تَعَلَّمَ السحر، واستشهد لَهُ بِالْحَدِيثِ الذِي رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المثنى، أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش، عن إبراهيم عن هُمَامٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:«مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ سَاحِرًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم» وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ وَلَهُ شَوَاهِدُ أُخَرَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ أَيْ فَيَتَعَلَّمُ النَّاسُ مِنْ هَارُوتَ وَمَارُوتَ مِنْ عِلْمِ السحر وما يتصرفون به فيما يتصرفون مِنَ الْأَفَاعِيلُ الْمَذْمُومَةِ مَا إِنَّهُمْ لَيُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، مَعَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْخُلْطَةِ وَالِائْتِلَافِ، وَهَذَا مِنْ صَنِيعِ الشَّيَاطِينِ، كَمَا رَوَاهُ مسلم في
(1) البيت للحتات بن يزيد المجاشعي عمّ الفرزدق في تاريخ الطبري 1/ 151 (وفيه: لقد سفه الناس في دينهم
…
) وهو منسوب لعلي بن الغدير بن المضرّس الغنوي أو لإهاب بن همام بن صعصعة أو لابن الغريرة النهشلي في أنساب الأشراف 5/ 104 ولابن الغريرة النهشلي في معجم الشعراء ص 349 والكامل للمبرد 2/ 34 وتاج العروس (وبل) .
صَحِيحِهِ «1» مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ نَافِعٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنِ الشَّيْطَانَ لَيَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فِي النَّاسِ، فَأَقْرَبُهُمْ عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة، ويجيء أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا زِلْتُ بِفُلَانٍ حَتَّى تَرَكْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ إِبْلِيسُ: لَا وَاللَّهِ مَا صَنَعْتَ شَيْئًا! وَيَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ قَالَ: فَيُقَرِّبُهُ وَيُدْنِيهِ وَيَلْتَزِمُهُ وَيَقُولُ: نَعَمْ أَنْتَ» وسبب التفريق بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِالسِّحْرِ مَا يُخَيَّلُ إِلَى الرَّجُلِ أَوِ الْمَرْأَةِ مِنَ الْآخَرِ مِنْ سُوءِ مَنْظَرٍ أَوْ خُلُقٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ أَوْ عَقْدٍ أَوْ بُغْضِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْفُرْقَةِ، وَالْمَرْءُ عِبَارَةٌ عَنِ الرَّجُلِ وَتَأْنِيثُهُ امْرَأَةٌ وَيُثَنَّى كُلٌّ مِنْهُمَا وَلَا يُجْمَعَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: إِلَّا بِقَضَاءِ اللَّهِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: إِلَّا بِتَخْلِيَةِ اللَّهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا أَرَادَ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ قَالَ: نَعَمْ، مَنْ شَاءَ اللَّهُ سَلَّطَهُمْ عَلَيْهِ، وَمَنْ لَمْ يَشَأِ اللَّهُ لَمْ يُسَلَّطْ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ من أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَضُرُّ هَذَا السِّحْرُ إِلَّا مَنْ دَخَلَ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ أَيْ يَضُرُّهُمْ فِي دِينِهِمْ وَلَيْسَ لَهُ نَفْعٌ يُوَازِي ضَرَرُهُ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ أَيْ وَلَقَدْ عَلِمَ الْيَهُودُ الَّذِينَ اسْتَبْدَلُوا بِالسِّحْرِ عَنْ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لَمَنْ فَعَلَ فِعْلَهُمْ، ذَلِكَ أَنَّهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: مِنْ نَصِيبٍ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ من جهة عند الله، وقال عبد الرزاق، وَقَالَ الْحَسَنُ: لَيْسَ لَهُ دِينٌ، وَقَالَ سَعْدٌ عَنْ قَتَادَةَ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ قال: ولقد علم أهل الكتاب فيم عَهِدَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ أَنَّ السَّاحِرَ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يَقُولُ تَعَالَى: وَلَبِئْسَ الْبَدِيلُ مَا اسْتَبْدَلُوا بِهِ مِنَ السِّحْرِ عِوَضًا عن الإيمان ومتابعة الرسول لَوْ كَانَ لَهُمْ عِلْمٌ بِمَا وُعِظُوا بِهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ أَيْ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَاتَّقَوُا الْمَحَارِمَ لَكَانَ مَثُوبَةُ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ خَيْرًا لَهُمْ مِمَّا اسْتَخَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ وَرَضُوا بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ [الْقَصَصِ: 80] .
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا مَنْ ذَهَبَ إِلَى تَكْفِيرِ السَّاحِرِ، كَمَا هُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَطَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ، وَقِيلَ: بَلْ لَا يَكْفُرُ، وَلَكِنْ حده ضرب عنقه، لما رواه
(1) صحيح مسلم (منافقين حديث رقم 66، 67) .