الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قال «لولا أَنْ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ أَوْ قَالَ:
بِكُفْرٍ- لَأَنْفَقْتُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَجَعَلْتُ بَابَهَا بِالْأَرْضِ وَلَأَدْخَلْتُ فِيهَا الْحِجْرَ» .
وَقَالَ البخاري: أخبرنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، قَالَ:
قَالَ لِيَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: كَانَتْ عَائِشَةُ تُسِرُّ إِلَيْكَ حَدِيثًا كَثِيرًا، فَمَا حَدَّثَتْكَ فِي الْكَعْبَةِ؟ قَالَ: قُلْتُ:
قَالَتْ لِي: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «يَا عَائِشَةُ لَوْلَا قَوْمُكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ- فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ- بِكُفْرٍ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ، فَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ: بَابًا يَدْخُلُ مِنْهُ النَّاسُ، وَبَابًا يخرجون منه» فَفَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ فَرَوَاهُ هَكَذَا فِي كِتَابِ الْعِلْمِ مِنْ صَحِيحِهِ.
وَقَالَ مُسْلِمٌ «1» فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «ولولا حَدَاثَةُ عَهْدِ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ وَلَجَعَلْتُهَا عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنَّ قُرَيْشًا حِينَ بَنَتِ البيت استقصرت، ولجعلت لها خلفا» «2» قال: وحدثناه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قالا: أخبرنا ابْنُ نُمَيْرٍ عَنْ هِشَامٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ، قَالَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حدثني ابن مهدي، أخبرنا سُلَيْمُ بْنُ حَيَّانَ عَنْ سَعِيدٍ يَعْنِي ابْنَ مِينَاءَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: حَدَّثَتْنِي خَالَتِي، يَعْنِي عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «يَا عائشة لولا قومك حديثو عَهْدٍ بِشِرْكٍ، لَهَدَمْتُ الْكَعْبَةَ فَأَلَزَقْتُهَا بِالْأَرْضِ، وَلَجَعَلْتُ لها بَابًا شَرْقِيًّا، وَبَابًا غَرْبِيًّا، وَزِدْتُ فِيهَا سِتَّةَ أَذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ فَإِنَّ قُرَيْشًا اقْتَصَرَتْهَا حَيْثُ «3» بَنَتِ الْكَعْبَةَ» انْفَرَدَ بِهِ أَيْضًا.
ذِكْرُ بِنَاءِ قُرَيْشٍ الْكَعْبَةَ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عليه السلام بِمُدَدٍ طَوِيلَةٍ، وَقَبْلَ مَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِخَمْسِ سِنِينَ
وَقَدْ نَقَلَ مَعَهُمْ فِي الْحِجَارَةِ وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ فِي السِّيرَةِ «4» : وَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَمْسًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، اجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ لِبُنْيَانِ الْكَعْبَةِ، وَكَانُوا يَهُمُّونَ بِذَلِكَ لِيَسْقُفُوهَا وَيَهَابُونَ هَدْمَهَا، وَإِنَّمَا كَانَتْ رَضْمًا «5» فَوْقَ الْقَامَةِ فَأَرَادُوا رَفْعَهَا وَتَسْقِيفَهَا وَذَلِكَ أَنَّ نَفَرًا سَرَقُوا كَنْزَ الْكَعْبَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ فِي بِئْرٍ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، وَكَانَ الذِي وُجِدَ عِنْدَهُ الْكَنْزُ دُوَيْكٌ مَوْلَى بَنِي مُلَيْحِ بْنِ عَمْرٍو مِنْ خُزَاعَةَ، فَقَطَعَتْ قُرَيْشٌ يَدَهُ، وَيَزْعُمُ النَّاسُ أَنَّ الَّذِينَ سَرَقُوهُ وَضَعُوهُ عِنْدَ دويك، وكان البحر
(1) صحيح مسلم (حج حديث 398) .
(2)
خلفا: أي بابا من خلفها.
(3)
حيث هنا بمعنى حين. وذكر ابن هشام في مغني اللبيب أن كلمة حيث قد ترد للزمان.
(4)
سيرة ابن هشام 1/ 192.
(5)
الرضم: أن تنضد الحجارة بعضها على بعض من غير ملاط.
قَدْ رَمَى بِسَفِينَةٍ إِلَى جُدَّةَ لِرَجُلٍ مَنْ تُجَّارِ الرُّومِ، فَتَحَطَّمَتْ، فَأَخَذُوا خَشَبَهَا فَأَعَدُّوهُ لِتَسْقِيفِهَا، وكان بمكة رجل قبطي نجار، فتهيأ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ بَعْضَ مَا يُصْلِحُهَا، وَكَانَتْ حية تخرج من بئر الكعبة التي كان يطرح فيها ما يهدي لها كل يوم تتشرّق «1» عَلَى جِدَارِ الْكَعْبَةِ وَكَانَتْ مِمَّا يَهَابُونَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَدْنُو مِنْهَا أَحَدٌ إِلَّا احْزَأَلَّتْ «2» وَكَشَّتْ وَفَتَحَتْ فَاهَا، فَكَانُوا يَهَابُونَهَا، فَبَيْنَا هِيَ يَوْمًا تَتَشَرَّقُ عَلَى جِدَارِ الْكَعْبَةِ كَمَا كَانَتْ تَصْنَعُ، بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا طَائِرًا فَاخْتَطَفَهَا فَذَهَبَ بِهَا، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: إِنَّا لَنَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ رَضِيَ مَا أَرَدْنَا، عِنْدَنَا عَامِلٌ رَفِيقٌ، وَعِنْدَنَا خَشَبٌ، وَقَدْ كَفَانَا اللَّهُ الْحَيَّةَ، فَلَمَّا أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ فِي هَدْمِهَا وَبُنْيَانِهَا، قَامَ أَبُو وَهْبِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَائِذِ بْنِ عَبْدِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ، فَتَنَاوَلَ مِنَ الْكَعْبَةِ حَجَرًا فَوَثَبَ مِنْ يَدِهِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى مَوْضِعِهِ، فَقَالَ:
يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، لَا تُدْخِلُوا فِي بُنْيَانِهَا مِنْ كَسْبِكُمْ إِلَّا طَيِّبًا، لَا يَدْخُلُ فِيهَا مَهْرُ بَغِيٍّ، وَلَا بَيْعُ رِبًا، وَلَا مَظْلِمَةُ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، قال ابن إسحاق: والناس ينتحلون هذا الكلام للوليد بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَخْزُومٍ، قَالَ: ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا تَجَزَّأَتِ الْكَعْبَةَ، فَكَانَ شِقُّ «3» الْبَابِ لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَزُهْرَةَ، وَكَانَ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ، وَالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ لِبَنِي مَخْزُومٍ وَقَبَائِلَ مِنْ قُرَيْشٍ انْضَمُّوا إِلَيْهِمْ، وَكَانَ ظَهْرُ الْكَعْبَةِ، لِبَنِي جُمَحٍ وَسَهْمٍ، وَكَانَ شَقُّ الْحِجْرِ لِبَنِي عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ وَلِبَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ وَلِبَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ وَهُوَ الْحَطِيمُ، ثُمَّ إِنِ النَّاسَ هَابُوا هَدْمَهَا وَفَرَقُوا مِنْهُ، فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، أَنَا أَبْدَؤُكُمْ فِي هَدْمِهَا، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ ثُمَّ قَامَ عَلَيْهَا وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَمْ تَرُعِ «4» ، اللَّهُمَّ إِنَّا لَا نُرِيدُ إِلَّا الْخَيْرَ، ثُمَّ هَدَمَ مِنْ نَاحِيَةِ الرُّكْنَيْنِ فَتَرَبَّصَ النَّاسُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَقَالُوا: نَنْظُرُ، فَإِنْ أُصِيبَ لَمْ نَهْدِمْ مِنْهَا شَيْئًا، وَرَدَدْنَاهَا كَمَا كَانَتْ، وَإِنْ لَمْ يَصُبْهُ شَيْءٌ فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ مَا صَنَعْنَا، فَأَصْبَحَ الْوَلِيدُ مِنْ لَيْلَتِهِ غَادِيًا عَلَى عَمَلِهِ، فَهَدَمَ وَهَدَمَ النَّاسُ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا انْتَهَى الْهَدْمُ بِهِمْ إِلَى الْأَسَاسِ، أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، أَفْضَوْا إِلَى حِجَارَةٍ خُضْرٍ كَالْأَسِنَّةِ آخِذٌ بَعْضُهَا بعضا، قال: فَحَدَّثَنِي بَعْضُ مَنْ يَرْوِي الْحَدِيثَ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ مِمَّنْ كَانَ يَهْدِمُهَا، أَدْخَلَ عَتَلَةً بين حجرين منها ليقلع بها أيضا أَحَدَهُمَا، فَلَمَّا تَحَرَّكَ الْحَجَرُ تَنَقَّضَتْ «5» مَكَّةَ بِأَسَرِهَا، فَانْتَهَوْا عَنْ ذَلِكَ الْأَسَاسِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ الْقَبَائِلَ مِنْ قُرَيْشٍ جَمَعَتِ الْحِجَارَةَ لِبِنَائِهَا، كُلُّ قَبِيلَةٍ تَجْمَعُ عَلَى حِدَةٍ، ثُمَّ بَنَوْهَا حَتَّى بَلَغَ الْبُنْيَانُ مَوْضِعَ الرُّكْنِ، يَعْنِي الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ، فَاخْتَصَمُوا فِيهِ كُلُّ قَبِيلَةٍ تُرِيدُ أَنْ تَرْفَعَهُ إِلَى مَوْضِعِهِ دُونَ الْأُخْرَى، حَتَّى تحاوروا «6» وتخالفوا وأعدوا للقتال، فقربت بنو
(1) تتشرّق: تبرز للشمس. [.....]
(2)
احزألّت: رفعت رأسها. كشّت: صوتت باحتكاك بعض جلدها ببعض.
(3)
الشقّ: الناحية والجانب.
(4)
لم ترع: لم تفزع. والضمير فيها يعود على الكعبة. قال ابن هشام: ويقال: لم نزغ.
(5)
تنقضت: اهتزت.
(6)
كذا أيضا في أكثر المصادر. ولعل الصواب، تحاوزوا (بالزاي) أي انحازت كل قبيلة إلى جهة، كما جاء في طبعة دار الكتب العلمية من السيرة 1/ 196.
عَبْدِ الدَّارِ جَفْنَةً مَمْلُوءَةً دَمًا، ثُمَّ تَعَاقَدُوا هُمْ وَبَنُو عَدِيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ عَلَى الْمَوْتِ، وَأَدْخَلُوا أَيْدِيَهُمْ فِي ذَلِكَ الدَّمِ فِي تِلْكَ الْجَفْنَةِ فَسُمُّوا «لَعَقَةَ الدَّمِ» فَمَكَثَتْ قُرَيْشٌ عَلَى ذَلِكَ أَرْبَعَ لَيَالٍ أَوْ خَمْسًا، ثُمَّ إِنَّهُمُ اجْتَمَعُوا فِي الْمَسْجِدِ فَتَشَاوَرُوا وَتَنَاصَفُوا، فَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الرِّوَايَةِ أَنَّ أَبَا أُمِّيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمرو بْنِ مَخْزُومٍ، وَكَانَ عَامَئِذٍ أَسَنَّ قُرَيْشٍ كُلِّهِمْ، قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ فِيمَا تَخْتَلِفُونَ فِيهِ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ مِنْ بَابِ هَذَا الْمَسْجِدِ يَقْضِي بَيْنَكُمْ فِيهِ، فَفَعَلُوا، فَكَانَ أَوَّلُ دَاخِلٍ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: هَذَا الْأَمِينُ رَضِينَا، هَذَا مُحَمَّدٌ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِمْ وَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ قال صلى الله عليه وسلم: هَلُمَّ إِلِيَّ ثَوْبًا، فَأُتِي بِهِ فَأَخَذَ الرُّكْنَ، يَعْنِي الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ، فَوَضَعَهُ فِيهِ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: لِتَأْخُذْ كُلُّ قبيلة بناحية من الثوب ثم ارْفَعُوهُ جَمِيعًا، فَفَعَلُوا حَتَّى إِذَا بَلَغُوا بِهِ مَوْضِعَهُ، وَضَعَهُ هُوَ بِيَدِهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ بَنَى عَلَيْهِ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُسَمِّي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أن ينزل الْوَحْيُ الْأَمِينُ فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الْبُنْيَانِ وَبَنَوْهَا عَلَى مَا أَرَادُوا، قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْحَيَّةِ التِي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها:[الوافر]
عَجِبْتُ لَمَّا تَصَوَّبَتِ الْعُقَابُ
…
إِلَى الثُّعْبَانِ وَهِيَ لَهَا اضْطِرَابُ
وَقَدْ كَانَتْ يَكُونُ لَهَا كَشِيشٌ
…
وَأَحْيَانًا يَكُونُ لَهَا وُثَابُ
إِذَا قُمْنَا إِلَى التَّأْسِيسِ شَدَّتْ
…
تُهَيِّبُنُا الْبِنَاءَ وَقَدْ تُهَابُ
فَلَمَّا إن خشينا الرجز «1» جَاءَتْ
…
عُقَابٌ تَتْلَئِبُّ «2» لَهَا انْصِبَابُ
فَضَمَّتْهَا إِلَيْهَا ثُمَّ خَلَّتْ
…
لَنَا الْبُنْيَانَ لَيْسَ لَهُ حِجَابُ
فقمنا حاشدين إلى باء
…
لَنَا مِنْهُ الْقَوَاعِدُ وَالتُّرَابُ
غَدَاةَ نُرَفِّعُ التَّأْسِيسَ منه
…
وليس على مساوينا «3» ثِيَابٌ
أَعَزَّ بِهِ الْمَلِيكُ بَنِي لُؤَيٍّ
…
فَلَيْسَ لِأَصْلِهِ مِنْهُمْ ذَهَابُ
وَقَدْ حَشَدَتْ هُنَاكَ بَنُو عَدِيٍّ
…
وَمُرَّةُ قَدْ تَقَدَّمَهَا كِلَابُ
فَبَوَّأَنَا الْمَلِيكُ بِذَاكَ عِزًّا
…
وَعِنْدَ اللَّهِ يُلْتَمَسُ الثَّوَابُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَتِ الْكَعْبَةُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثماني عَشَرَ ذِرَاعًا، وَكَانَتْ تُكْسَى الْقَبَاطِيَّ «4» ، ثُمَّ كُسِيَتْ بَعْدُ الْبُرُودَ «5» ، وَأَوَّلُ مَنْ كَسَاهَا الدِّيبَاجَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ.
(قُلْتُ) وَلَمْ تَزَلْ عَلَى بِنَاءِ قريش حتى احترقت فِي أَوَّلِ إِمَارَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بعد سنة ستين
(1) الرجز: العذاب.
(2)
تتلئبّ: تتابع في انقضاضها.
(3)
مساوينا: سوآتنا.
(4)
القباطي: ثياب بيض كانت تصنع بمصر.
(5)
البرود: ضرب من ثياب اليمن.
وَفِي آخِرِ وِلَايَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، لَمَّا حَاصَرُوا ابْنَ الزُّبَيْرِ، فَحِينَئِذٍ نَقَضَهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى الْأَرْضِ وَبَنَاهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، وَأَدْخَلَ فِيهَا الْحِجْرَ، وَجَعَلَ لَهَا بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا مُلْصَقَيْنِ بِالْأَرْضِ كَمَا سَمِعَ ذلك من خالته عائشة أم المؤمنين عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ تَزَلْ كَذَلِكَ مُدَّةَ إِمَارَتِهِ حَتَّى قَتَلَهُ الْحَجَّاجُ، فَرَدَّهَا إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ بِأَمْرِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ لَهُ بِذَلِكَ، كَمَا قال مسلم بن الحجاج في صحيحه:
أخبرنا هناد بن السري، أخبرنا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ:
لَمَّا احْتَرَقَ الْبَيْتُ زَمَنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ حِينَ غَزَاهَا أَهْلُ الشَّامِ، فكان مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ، تَرَكَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ حتى قدم الناس الموسم، يريد أن يحزبهم أو يجرئهم عَلَى أَهْلِ الشَّامِ، فَلَمَّا صَدَرَ النَّاسُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَشِيرُوا عَلِيَّ فِي الْكَعْبَةِ أَنْقُضُهَا ثُمَّ أَبْنِي بِنَاءَهَا، أَوْ أُصْلِحُ مَا وَهَى مِنْهَا؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِنِّي قَدْ فَرِقَ «1» لِي رَأْيٌ فِيهَا، أَرَى أَنْ تُصْلِحَ مَا وَهَى مِنْهَا، وَتَدَعَ بَيْتًا أَسْلَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَأَحْجَارًا أَسْلَمَ النَّاسُ عَلَيْهَا، وَبُعِثَ عَلَيْهَا صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: لَوْ كَانَ أَحَدُهُمُ احْتَرَقَ بَيْتُهُ مَا رَضِيَ حَتَّى يُجَدِّدَهُ، فَكَيْفَ بَيْتُ رَبِّكُمْ عز وجل؟ إِنِّي مُسْتَخِيرٌ رَبِّي ثَلَاثًا، ثُمَّ عَازِمٌ عَلَى أَمْرِي، فَلَمَّا مَضَتْ ثَلَاثٌ، أَجْمَعَ رَأْيَهُ عَلَى أَنْ يَنْقُضَهَا فَتَحَامَاهَا النَّاسُ أَنْ يَنْزِلَ بِأَوَّلِ النَّاسِ يَصْعَدُ فِيهِ أَمْرٌ مِنَ السَّمَاءِ، حَتَّى صَعِدَهُ رَجُلٌ فَأَلْقَى مِنْهُ حِجَارَةً، فَلَمَّا لَمْ يَرَهُ النَّاسُ أَصَابَهُ شَيْءٌ تَتَابَعُوا فَنَقَضُوهُ حَتَّى بَلَغُوا بِهِ الْأَرْضَ، فَجَعَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَعْمِدَةً يَسْتُرُ عَلَيْهَا السُّتُورَ حَتَّى ارْتَفَعَ بِنَاؤُهُ، وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِنِّي سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها تَقُولُ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَوْلَا أَنَّ النَّاسَ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ، وَلَيْسَ عِنْدِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يُقَوِّينِي عَلَى بِنَائِهِ لَكُنْتُ أَدْخَلْتُ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ، وَلَجَعَلْتُ لَهُ بَابًا يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْهُ، وَبَابًا يَخْرُجُونَ مِنْهُ» قَالَ: فَأَنَا أَجِدُ مَا أُنْفِقُ، وَلَسْتُ أَخَافُ النَّاسَ، قَالَ: فَزَادَ فِيهِ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ حَتَّى أَبْدَى له أسا، فنظر النَّاسُ إِلَيْهِ، فَبَنَى عَلَيْهِ الْبِنَاءَ، وَكَانَ طُولُ الْكَعْبَةِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا فَلَمَّا زَادَ فِيهِ استقصره فزاد في أوله عَشَرَةَ أَذْرُعٍ وَجَعَلَ لَهُ بَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا يُدْخَلُ مِنْهُ، وَالْآخَرُ يُخْرَجُ مِنْهُ. فَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ الزبير، كتب الحجاج إلى عبد الملك يستجيزه بِذَلِكَ وَيُخْبِرُهُ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَدْ وَضَعَ الْبِنَاءَ عَلَى أُسٍّ نَظَرَ إِلَيْهِ الْعُدُولُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِنَّا لَسْنَا مِنْ تَلْطِيخِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي شَيْءٍ، أَمَّا مَا زَادَهُ فِي طُولِهِ فَأَقِرَّهُ، وَأَمَّا مَا زَادَ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ فَرُدَّهُ إِلَى بِنَائِهِ، وَسُدَّ الْبَابَ الذِي فَتَحَهُ، فَنَقَضَهُ وَأَعَادَهُ إِلَى بِنَائِهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ هَنَّادٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ بِالْمَرْفُوعِ مِنْهُ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقِصَّةَ وَقَدْ كَانَتِ السُّنَّةُ إِقْرَارَ مَا فَعَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما، لِأَنَّهُ هُوَ الذِي وَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنْ خَشِيَ أَنْ تُنْكِرَهُ قُلُوبُ بَعْضِ النَّاسِ لِحَدَاثَةِ عَهْدِهِمْ بِالْإِسْلَامِ وَقُرْبِ عَهْدِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ، وَلَكِنْ خَفِيَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ على عبد الملك بن مروان، وَلِهَذَا لَمَّا تَحَقَّقَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا روت ذلك عن
(1) في الأصل «خرق» . والمثبت عن صحيح مسلم. والمراد: قد ظهر لي أمر ورأي فيها.
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وددنا أن تَرَكْنَاهُ وَمَا تَوَلَّى، كَمَا قَالَ مُسْلِمٌ:
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وَالْوَلِيدَ بْنَ عَطَاءٍ يُحَدِّثَانِ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدٍ: وَفَدَ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فِي خِلَافَتِهِ، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ:
مَا أَظُنُّ أَبَا خُبَيْبٍ، يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ، سَمِعَ مِنْ عَائِشَةَ مَا كَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهَا، قَالَ الْحَارِثُ:
بَلَى، أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْهَا. قَالَ: سَمِعْتُهَا تَقُولُ مَاذَا؟ قَالَ: قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إِنَّ قَوْمَكِ اسْتَقْصَرُوا مِنْ بُنْيَانِ الْبَيْتِ، وَلَوْلَا حَدَاثَةُ عَهْدِهِمْ بِالشِّرْكِ أَعَدْتُ مَا تَرَكُوا مِنْهُ، فَإِنْ بَدَا لِقَوْمِكِ مِنْ بَعْدِي أَنْ يَبْنُوهُ، فهلمي لأريك ما تركوه مِنْهُ» فَأَرَاهَا قَرِيبًا مِنْ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ، هَذَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَزَادَ عَلَيْهِ الْوَلِيدُ بْنُ عَطَاءٍ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «وَلَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ مَوْضُوعَيْنِ فِي الْأَرْضِ: شَرْقِيًّا وَغَرْبِيًّا، وَهَلْ تَدْرِينَ لم كان قومك رفعوا بابها» قالت: لا. قال «تعززا أن لا يَدْخُلَهَا إِلَّا مَنْ أَرَادُوا، فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا هُوَ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَهَا يَدَعُونَهُ حَتَّى يَرْتَقِيَ، حَتَّى إِذَا كَادَ أَنْ يَدْخُلَ دَفَعُوهُ فَسَقَطَ» قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: فَقُلْتُ لِلْحَارِثِ: أَنْتَ سَمِعْتَهَا تَقُولُ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ فَنَكَتَ سَاعَةً بعصاه، ثم قال: وددت أني تركته وَمَا تَحَمَّلَ.
قَالَ مُسْلِمٌ: وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَبَلَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ (ح) ، وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَ حديث أبي بكر، قال: وحدثنا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ السَّهْمِيُّ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ عَنْ أَبِي قَزَعَةَ: أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ بَيْنَمَا هُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ إِذْ قَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ ابْنَ الزُّبَيْرِ حَيْثُ يَكْذِبُ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، يَقُولُ سَمِعْتُهَا تَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «يَا عَائِشَةُ لولا حدثان قومك بالكفر لنقضت الكعبة حَتَّى أَزِيدَ فِيهَا مِنَ الْحِجْرِ. فَإِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرُوا فِي الْبِنَاءِ» فَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: لَا تَقُلْ هَذَا يا أمير المؤمنين، فإني سَمِعْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ تُحَدِّثُ هَذَا. قَالَ: لَوْ كُنْتُ سَمِعْتُهُ قَبْلَ أَنْ أَهْدِمَهُ لَتَرَكْتُهُ عَلَى مَا بَنَى ابْنُ الزُّبَيْرِ. فَهَذَا الْحَدِيثُ كَالْمَقْطُوعِ به إلى عائشة، لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْهَا مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ وَالْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أبي بكر وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى صَوَابِ مَا فَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَلَوْ تُرِكَ لَكَانَ جَيِّدًا.
وَلَكِنْ بَعْدَ مَا رَجَعَ الْأَمْرُ إِلَى هَذَا الْحَالِ، فَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُغَيَّرَ عَنْ حَالِهِ كَمَا ذُكِرَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونَ الرَّشِيدِ أَوْ أَبِيهِ الْمَهْدِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ الْإِمَامَ مَالِكًا عَنْ هَدْمِ الْكَعْبَةِ وَرَدِّهَا إِلَى مَا فَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ. فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا تَجْعَلْ كَعْبَةَ اللَّهِ مَلْعَبَةً لِلْمُلُوكِ لَا يَشَاءُ أَحَدٌ أَنْ يَهْدِمَهَا إِلَّا هَدَمَهَا، فَتَرَكَ ذَلِكَ الرَّشِيدُ، نَقَلَهُ عياض والنووي وَلَا تَزَالُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- هَكَذَا إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ، إِلَى أَنْ يُخَرِّبَهَا ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ من الحبشة» أخرجاه. وعن ابن
عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «كَأَنِّي بِهِ أَسْوَدَ أَفْحَجَ يَقْلَعُهَا حَجَرًا حَجَرًا» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» بْنُ حَنْبَلٍ في مسنده: أخبرنا أحمد بن عبد الملك الحراني، أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ، وَيَسْلُبُهَا حِلْيَتَهَا، وَيُجَرِّدُهَا مِنْ كُسْوَتِهَا، وَلَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ أُصَيْلِعَ أُفَيْدِعَ يَضْرِبُ عَلَيْهَا بِمِسْحَاتِهِ وَمِعْوَلِهِ» - الْفَدَعُ:
زَيْغٌ بَيْنَ الْقَدَمِ وَعَظْمِ السَّاقِ- وَهَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، لِمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَيُحَجَّنَّ الْبَيْتُ وَلَيُعْتَمَرَنَّ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ» .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً لِدُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عليهما السلام رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» : يَعْنِيَانِ بِذَلِكَ وَاجْعَلْنَا مُسْتَسْلِمِينَ لِأَمْرِكَ، خاضعين لطاعتك، ولا نُشْرِكُ مَعَكَ فِي الطَّاعَةِ أَحَدًا سِوَاكَ، وَلَا فِي الْعِبَادَةِ غَيْرَكَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أخبرنا أبي، أخبرنا إسماعيل عن رجاء بن حبان الحصني القرشي، أخبرنا مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ قَالَ: مُخْلِصَيْنِ لَكَ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ قَالَ: مُخْلِصَةً، وَقَالَ أيضا: أخبرنا علي بن الحسين، أخبرنا المقدمي، أخبرنا سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ عَنْ سَلَّامِ بْنِ أَبِي مُطِيعٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ قَالَ: كَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَلَكِنَّهُمَا سَأَلَاهُ الثَّبَاتَ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ قَالَ اللَّهُ: قَدْ فَعَلْتُ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ قَالَ اللَّهُ: قَدْ فَعَلْتُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ «3» وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ يَعْنِيَانِ الْعَرَبَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَعُمُّ الْعَرَبَ وَغَيْرَهُمْ، لِأَنَّ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الْأَعْرَافِ: 159] .
(قُلْتُ) وَهَذَا الذِي قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ لَا يَنْفِيهِ السُّدِّيُّ، فَإِنَّ تَخْصِيصَهُمْ بِذَلِكَ لَا يَنْفِي مَنْ عَدَاهُمْ، وَالسِّيَاقُ إنما هو الْعَرَبِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ. وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ بُعِثَ فِيهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الجمعة: 2] ومع هذا لا ينفي رسالته إلى
(1) مسند أحمد (ج 2 ص 220) .
(2)
تفسير الطبري 1/ 602.
(3)
رواه الطبري 1/ 603. [.....]