الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يَقُولُ تَعَالَى: فَمَنْ بَدَّلَ الْوَصِيَّةَ وَحَرَّفَهَا، فَغَيَّرَ حُكْمَهَا وَزَادَ فِيهَا أَوْ نَقَصَ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْكِتْمَانُ لَهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: وَقَدْ وَقَعَ أَجْرُ الْمَيِّتِ عَلَى اللَّهِ، وَتَعَلَّقَ الْإِثْمُ بِالَّذِينِ بَدَّلُوا ذَلِكَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَيْ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى مَا أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتُ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَلِكَ وَبِمَا بدّله الموصى إليهم.
وقوله تعالى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالسُّدِّيُّ: الْجَنَفُ الْخَطَأُ، وَهَذَا يشمل أنواع الخطأ كلها بأن زادوا وَارِثًا بِوَاسِطَةٍ أَوْ وَسِيلَةٍ، كَمَا إِذَا أَوْصَى بِبَيْعِهِ الشَّيْءَ الْفُلَانِيَّ مُحَابَاةً أَوْ أَوْصَى لِابْنِ ابْنَتِهِ لِيَزِيدَهَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْوَسَائِلِ، إِمَّا مُخْطِئًا غَيْرَ عَامِدٍ بَلْ بِطَبْعِهِ وَقُوَّةِ شَفَقَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَبَصُّرٍ، أَوْ مُتَعَمِّدًا آثِمًا فِي ذَلِكَ، فَلِلْوَصِيِّ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، أَنْ يُصْلِحَ الْقَضِيَّةَ وَيُعَدِّلَ فِي الْوَصِيَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ، وَيَعْدِلَ عَنِ الذِي أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتُ إِلَى مَا هُوَ أَقْرَبُ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ وَأَشْبَهُ الْأُمُورِ بِهِ جَمْعًا بَيْنَ مَقْصُودِ الْمُوصِي وَالطَّرِيقِ الشَّرْعِيِّ، وَهَذَا الْإِصْلَاحُ وَالتَّوْفِيقُ، لَيْسَ مِنَ التَّبْدِيلِ فِي شَيْءٍ، وَلِهَذَا عَطَفَ هَذَا فَبَيَّنَهُ عَلَى النَّهْيِ عن ذلك، لِيُعْلَمَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ بِسَبِيلٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ مَزْيَدٍ قِرَاءَةً، أَخْبَرَنِي أَبِي عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: حَدَّثَنِي عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «يُرَدُّ مِنْ صَدَقَةِ الجانف فِي حَيَاتِهِ مَا يُرَدُّ مِنْ وَصِيَّةِ الْمُجْنِفِ عِنْدَ مَوْتِهِ» وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْوَلِيدِ بِهِ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَقَدْ أَخْطَأَ فِيهِ الْوَلِيدُ بْنُ مَزْيَدٍ، وَهَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا هُوَ عَنْ عُرْوَةَ فَقَطْ، وَقَدْ رَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ فَلَمْ يُجَاوِزْ بِهِ عُرْوَةَ، وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال:«الجنف فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ» وَهَذَا فِي رَفْعِهِ أَيْضًا نَظَرٌ.
وَأَحْسَنُ مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ مَا قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إن الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْخَيْرِ سَبْعِينَ سَنَةً، فَإِذَا أَوْصَى حَافٍ فِي وَصِيَّتِهِ، فَيُخْتَمُ لَهُ بشر عمله فيدخل النار. وإن الرجل ليعمل بعمل الشَّرِّ سَبْعِينَ سَنَةً، فَيَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ، فَيُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرِ عَمَلِهِ، فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:
اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها [البقرة: 229] .
[سورة البقرة (2) : الآيات 183 الى 184]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
يقول تعالى مخاطبا للمؤمنين من هذه الآية، وَآمِرًا لَهُمْ بِالصِّيَامِ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْوِقَاعِ، بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ لِلَّهِ عز وجل لما فيه من زكاة النفوس وَطَهَارَتِهَا وَتَنْقِيَتِهَا مِنَ الْأَخْلَاطِ الرَّدِيئَةِ وَالْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ كَمَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ فَقَدْ أَوْجَبَهُ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ فَلَهُمْ فِيهِ أُسْوَةٌ، وَلِيَجْتَهِدَ هَؤُلَاءِ فِي أَدَاءِ هَذَا الْفَرْضِ أَكْمَلَ مِمَّا فَعَلَهُ أُولَئِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ [الْمَائِدَةِ: 48] ، وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِيهِ تَزْكِيَةٌ لِلْبَدَنِ وَتَضْيِيقٌ لِمَسَالِكِ الشَّيْطَانِ، وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» «1» ثُمَّ بَيَّنَ مِقْدَارَ الصَّوْمِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي كُلِّ يَوْمٍ، لِئَلَّا يَشُقَّ عَلَى النُّفُوسِ فَتَضْعُفَ عَنْ حَمْلِهِ وَأَدَائِهِ بَلْ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ. وَقَدْ كَانَ هَذَا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، يَصُومُونَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الصِّيَامَ كَانَ أَوَّلًا كَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأُمَمُ قَبْلَنَا مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عَنْ مُعَاذٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ وَزَادَ: لَمْ يَزَلْ هَذَا مَشْرُوعًا مِنْ زَمَانِ نُوحٍ إِلَى أَنْ نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَقَالَ عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَقَالَ: نَعَمْ، وَاللَّهِ لَقَدْ كُتِبَ الصِّيَامُ عَلَى كُلِّ أُمَّةٍ قد خلت، كما كتبه عَلَيْنَا شَهْرًا كَامِلًا وَأَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ عَدَدًا مَعْلُومًا، وَرُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِيِّ، حدثني سعيد بن أبي أيوب، حدثني عبد الله بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «صِيَامُ رَمَضَانَ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ» فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ اخْتُصِرَ مِنْهُ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أُنْزِلَتْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كُتِبَ عَلَيْهِمْ إِذَا صَلَّى أَحَدُهُمُ الْعَتَمَةَ وَنَامَ، حرم عَلَيْهِ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَالنِّسَاءَ إِلَى مِثْلِهَا، قَالَ ابن أبي الْعَالِيَةِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ نَحْوَ ذَلِكَ، وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ يَعْنِي بِذَلِكَ أَهْلَ الْكِتَابِ، وَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالسُّدِّيِّ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ مِثْلُهُ، ثُمَّ بَيَّنَ حُكْمَ الصِّيَامِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ أَيِ الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ لَا يَصُومَانِ فِي حَالِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمَا بَلْ يُفْطِرَانِ ويقضيان بعد ذَلِكَ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَأَمَّا الصَّحِيحُ الْمُقِيمُ الذِي يُطِيقُ الصِّيَامَ فَقَدْ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الصِّيَامِ وَبَيْنَ الْإِطْعَامِ، إِنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شاء أفطر وأطعم عن كل يوم
(1) البخاري (صوم باب 10 ونكاح باب 2 و 3) ومسلم (نكاح حديث 1 و 3) .
مِسْكِينًا، فَإِنْ أَطْعَمَ أَكْثَرَ مِنْ مِسْكِينٍ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ فَهُوَ خَيْرٌ، وَإِنْ صَامَ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْإِطْعَامِ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَطَاوُسٌ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ وَغَيْرُهُمْ مِنَ السَّلَفِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه، قَالَ: أُحِيلَتِ الصَّلَاةُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ، وَأُحِيلَ الصِّيَامُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ، فَأَمَّا أَحْوَالُ الصَّلَاةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَهُوَ يُصَلِّي سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عز وجل أَنْزَلَ عَلَيْهِ: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها [الْبَقَرَةِ: 144] ، فَوَجَّهَهُ اللَّهُ إِلَى مَكَّةَ هَذَا حَوْلٌ، قَالَ: وَكَانُوا يَجْتَمِعُونَ لِلصَّلَاةِ وَيُؤْذِنُ بِهَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَتَّى نَقَسُوا أَوْ كَادُوا يَنْقُسُونَ «1» ، ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ له عبد الله بن زيد بن عبد ربه أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، وَلَوْ قُلْتُ إِنِّي لَمْ أَكُنْ نَائِمًا لَصَدَقْتُ، أَنِّي بَيْنَا أَنَا بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ إِذْ رَأَيْتُ شَخْصًا عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَخْضَرَانِ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ- مَثْنَى- حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْأَذَانِ، ثُمَّ أَمْهَلَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ مِثْلَ الذِي قَالَ غَيْرَ أَنَّهُ يَزِيدُ فِي ذَلِكَ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ مَرَّتَيْنِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «عَلِّمْهَا بِلَالًا فَلْيُؤَذِّنْ بِهَا» فَكَانَ بِلُالٌ أَوَّلَ مَنْ أَذَّنَ بِهَا، قَالَ: وَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ طَافَ بِي مِثْلَ الذِي طَافَ بِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ سَبَقَنِي فَهَذَانِ حَالَانِ، قَالَ: وَكَانُوا يأتون الصلاة وقد سَبَقَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِبَعْضِهَا، فكان الرجل يشير إلى الرجل إذن كَمْ صَلَّى؟ فَيَقُولُ: وَاحِدَةٌ أَوِ اثْنَتَيْنِ فَيُصَلِّيهِمَا، ثُمَّ يَدْخُلُ مَعَ الْقَوْمِ فِي صَلَاتِهِمْ، قَالَ: فَجَاءَ مُعَاذٌ فَقَالَ: لَا أَجِدُهُ عَلَى حَالٍ أَبَدًا إِلَّا كُنْتُ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَضَيْتُ مَا سَبَقَنِي، قَالَ: فَجَاءَ وَقَدْ سَبَقَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِبَعْضِهَا، قَالَ: فَثَبَتَ مَعَهُ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ فَقَضَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إِنَّهُ قَدْ سَنَّ لَكُمْ مُعَاذٌ فَهَكَذَا فَاصْنَعُوا» فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ، وَأَمَّا أَحْوَالُ الصِّيَامِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَجَعَلَ يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَصَامَ عَاشُورَاءَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِ الصِّيَامَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِلَى قَوْلِهِ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَكَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَطْعَمَ مِسْكِينًا، فَأَجْزَأَ ذَلِكَ عَنْهُ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عز وجل أَنْزَلَ الْآيَةَ الْأُخْرَى شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [الْبَقَرَةِ: 185] إِلَى قَوْلِهِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: 185] فَأَثْبَتَ اللَّهُ صِيَامَهُ عَلَى الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ، وَرَخَّصَ فِيهِ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَثَبَتَ الْإِطْعَامُ لِلْكَبِيرِ الذِي لَا يَسْتَطِيعُ الصِّيَامَ، فَهَذَانَ حَالَانِ، قَالَ: وَكَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَأْتُونَ النِّسَاءَ مَا لَمْ يَنَامُوا، فإذا
(1) النّقس: الضرب بالناقوس، وهي خشبة طويلة تضرب بخشية أصغر منها، وكان النصارى يعلمون بها أوقات صلاتهم.
نَامُوا امْتَنَعُوا، ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يقال له صرمة، ظل يَعْمَلُ صَائِمًا حَتَّى أَمْسَى فَجَاءَ إِلَى أَهْلِهِ فَصَلَّى الْعِشَاءَ ثُمَّ نَامَ، فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى أَصْبَحَ فَأَصْبَحَ صَائِمًا، فَرَآهُ رَسُولُ الله وَقَدْ جَهِدَ جَهْدًا شَدِيدًا، فَقَالَ «مَا لِي أَرَاكَ قَدْ جَهِدْتَ جَهْدًا شَدِيدًا؟» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي عَمِلْتُ أَمْسِ فَجِئْتُ حِينَ جئت، فألقيت نفسي فنمت، فأصبحت صَائِمًا، قَالَ: وَكَانَ عُمَرُ قَدْ أَصَابَ مِنَ النِّسَاءِ بَعْدَ مَا نَامَ فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ «1» [البقرة: 187] .
وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مستدركه من حديث المسعودي بِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ عَاشُورَاءُ يُصَامُ، فَلَمَّا نَزَلَ فَرْضُ رَمَضَانَ، كَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابن عمر وابن مسعود مثله.
وقوله تَعَالَى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ كما قال معاذ رضي الله عنه: كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ مَنْ شَاءَ صَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ وَأَطْعَمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَهَكَذَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ: كَانَ مَنْ أَرَادَ أن يفطر يفادي حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ التِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا، وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ، وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنْ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ قَالَ: يَقُولُ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ أَيْ يَتَجَشَّمُونَهُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَكَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ وَأَطْعَمَ مسكينا فَمَنْ تَطَوَّعَ يَقُولُ: أَطْعَمَ مِسْكِينًا آخَرَ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ فَكَانُوا كَذَلِكَ حَتَّى نسختها فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: 185] .
وقال البخاري أيضا: أخبرنا إسحاق، حدثنا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ: سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ قال ابن عباس:
ليست منسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا فَيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَهَكَذَا رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرحيم بن سليمان عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سَوَّارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الذِي لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ، ثُمَّ ضَعُفَ فَرَخَّصَ لَهُ أَنْ يُطْعِمَ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ بهرام المخزومي، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: دخلت على
(1) مسند أحمد (ج 5 ص 246- 247) .