الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا أَدْبَرَ نَادَاهُ مَنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَقُولُ أَرْعِنَا سَمْعَكَ، فَأَعْظَمَ اللَّهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ لَهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ يُدْعَى رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ «1» يَأْتِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا لَقِيَهُ فَكَلَّمَهُ قَالَ: أَرْعِنِي سَمْعَكَ وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَحْسَبُونَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانَتْ تُفَخَّمُ بِهَذَا، فَكَانَ نَاسٌ مِنْهُمْ يَقُولُونَ:
اسْمَعْ غَيْرَ مَسْمَعٍ غَيْرَ صَاغِرٍ، وَهِيَ كَالتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، فَتَقَدَّمُ اللَّهُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يَقُولُوا رَاعِنَا. وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّ اللَّهَ نَهَى المؤمنين أن يقولوا لنبيه رَاعِنَا. لِأَنَّهَا كَلِمَةٌ كَرِهَهَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يقولوها لَنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، نَظِيرَ الذِي ذكر عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«لَا تَقُولُوا لِلْعِنَبِ الْكَرْمَ وَلَكِنْ قُولُوا الْحَبَلَةُ «2» وَلَا تَقُولُوا عَبْدِي وَلَكِنْ قُولُوا فَتَايَ» وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ يُبَيِّنُ بِذَلِكَ تَعَالَى شِدَّةَ عَدَاوَةِ الْكَافِرِينَ مِنْ أهل الكتاب والمشركين، الذين حذر الله تَعَالَى مِنْ مُشَابِهَتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، لِيَقْطَعَ الْمَوَدَّةَ بَيْنَهُمْ وبينهم، ونبه تَعَالَى عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الشَّرْعِ التَّامِّ الْكَامِلِ الذِي شَرَعَهُ لَنَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
[سورة البقرة (2) : الآيات 106 الى 107]
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107)
قَالَ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ مَا نُبَدِّلُ مِنْ آيَةٍ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أي ما نمحو مِنْ آيَةٍ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ قَالَ نُثْبِتُ خَطَّهَا وَنُبَدِّلُ حُكْمَهَا، حَدَّثَ بِهِ عَنْ أَصْحَابِ عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ نَحْوَ ذَلِكَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ مَا نُنْسِكَ، وَقَالَ عَطَاءٌ أَمَّا مَا نَنْسَخْ، فَمَا نَتْرُكُ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: يَعْنِي تُرِكَ فَلَمْ يَنْزِلْ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ السُّدِّيُّ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ نَسْخُهَا قَبْضُهَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي حاتم: يعني قبضها ورفعها، مِثْلُ قَوْلِهِ «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ» ، وَقَوْلُهُ «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ من ذهب لَابْتَغَى لَهُمَا ثَالِثًا» .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «3» : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ، ما ننقل مِنْ حُكْمِ آيَةٍ إِلَى غَيْرِهِ، فَنُبَدِّلُهُ وَنُغَيِّرُهُ،
(1) في الطبري: رفاعة بن زيد بن السائب، قال أبو جعفر: هذا خطأ، إنما هو ابن التابوت، ليس ابن السائب.
(2)
الحبلة (بالتحريك) : الأصل أو القضيب من شجر الأعناب.
(3)
تفسير الطبري 1/ 521.
وَذَلِكَ أَنْ يُحَوِّلَ الْحَلَالُ حَرَامًا، وَالْحَرَامُ حَلَالًا، وَالْمُبَاحُ مَحْظُورًا، وَالْمَحْظُورُ مُبَاحًا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْحَظْرِ وَالْإِطْلَاقِ وَالْمَنْعِ وَالْإِبَاحَةِ، فَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَلَا يَكُونُ فِيهَا نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ، وَأَصْلُ النَّسْخِ مِنْ نَسْخِ الْكِتَابِ وهو نقله من نسخة إلى أخرى غَيْرِهَا، فَكَذَلِكَ مَعْنَى نَسْخِ الْحُكْمِ إِلَى غَيْرِهِ إنما هو تحويله ونقل عبارته عنه إِلَى غَيْرِهَا وَسَوَاءٌ نَسْخُ حُكْمِهَا أَوْ خَطِّهَا، إِذْ هِيَ فِي كِلْتَا حَالَتَيْهَا مَنْسُوخَةٌ.
وَأَمَّا عُلُمَاءُ الْأُصُولِ، فَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي حَدِّ النَّسْخِ وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ قَرِيبٌ، لِأَنَّ مَعْنَى النَّسْخِ الشرعي معلوم عند العلماء ولحظ بعضهم أن رَفْعُ الْحُكْمِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ. فَانْدَرَجَ فِي ذَلِكَ نَسْخُ الْأَخَفِّ بِالْأَثْقَلِ وَعَكْسِهِ وَالنَّسْخُ لَا إِلَى بَدَلٍ، وَأَمَّا تَفَاصِيلُ أَحْكَامِ النَّسْخِ وَذِكْرُ أنواعه وشروطه فمبسوطة، في أصول الفقه.
وقال الطبراني: أخبرنا أبو سنبل «1» عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَاقِدٍ، أخبرنا أبي أخبرنا الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَرَأَ رَجُلَانِ سُورَةً أَقْرَأَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فكانا يقرآن بِهَا، فَقَامَا ذَاتَ لَيْلَةٍ يُصَلِّيَانِ، فَلَمْ يَقْدِرَا منها على حرف، فأصبحا غاديين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهَا مِمَّا نُسِخَ وَأُنْسِي، فَالْهُوَا عَنْهَا، فَكَانَ الزُّهْرِيُّ يَقْرَؤُهَا: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها، بضم النون الخفيفة، سليمان بن الأرقم ضَعِيفٌ. وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ نَصْرِ بْنِ دَاوُدَ عَنْ أبي عبيد الله عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ عَنِ اللَّيْثِ عَنْ يونس وعقيل عن ابن شهاب عن أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، مِثْلَهُ مَرْفُوعًا، ذكره القرطبي «2» .
وقوله تعالى: أَوْ نُنْسِها، فقرىء عَلَى وَجْهَيْنِ، نَنْسَأَهَا وَنُنْسِهَا، فَأَمَّا مَنْ قَرَأَهَا بِفَتْحِ النُّونِ وَالْهَمْزَةِ بَعْدَ السِّينِ فَمَعْنَاهُ نُؤَخِّرُهَا. قال علي ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مَا ننسخ من آية أو ننسأها، يَقُولُ مَا نُبَدِّلُ مِنْ آيَةٍ أَوْ نَتْرُكُهَا لَا نُبَدِّلُهَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ عَنْ أَصْحَابِ ابْنِ مسعود: أو ننسأها، نثبت خطها ونبدل حكمها، وقال عبد بن عمير ومجاهد وعطاء أو ننسأها، نؤخرها ونرجئها. وقال عطية العوفي: أو ننسأها، نُؤَخِّرُهَا فَلَا نَنْسَخُهَا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: مِثْلَهُ أَيْضًا وكذا الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَا نَنْسَخْ من آية أو ننسأها، يعني الناسخ والمنسوخ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أو ننسأها نؤخرها عندنا، وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا عبيد الله بن إسماعيل البغدادي، أخبرنا خلف، أخبرنا الخفاف، عن إسماعيل يعني ابن أسلم، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ رضي الله عنه، فَقَالَ: يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ ننسأها، أَيْ نُؤَخِّرُهَا، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ أَوْ نُنْسِها، فَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها، قال كان الله عز وجل:
(1) في المعجم الصغير للطبراني (1/ 237) : «أبو شبل» .
(2)
تفسير القرطبي 2/ 68.
ينسي نبيه صلى الله عليه وسلم مَا يَشَاءُ، وَيَنْسَخُ مَا يَشَاءُ.
وَقَالَ ابْنُ جرير «1» : أخبرنا سوار بن عبد الله، أخبرنا خالد بن الحارث، أخبرنا عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: فِي قَوْلِهِ: أَوْ نُنْسِها قَالَ: إِنَّ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم، قرأ علينا «2» قُرْآنًا ثُمَّ نَسِيَهُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أخبرنا أبي أخبرنا ابن نفيل، أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحَرَّانِيُّ، عَنِ الْحَجَّاجِ يَعْنِي الْجَزَرِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ مِمَّا يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، الْوَحْيُ بِاللَّيْلِ وَيَنْسَاهُ بِالنَّهَارِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها، قال ابن أبي حَاتِمٍ: قَالَ لِي أَبُو جَعْفَرِ بْنُ نُفَيْلٍ، لَيْسَ هُوَ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ هُوَ شَيْخٌ لَنَا جَزَرِيٌّ، وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: أَوْ نُنْسِها نَرْفَعُهَا مِنْ عِنْدِكُمْ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أخبرنا هُشَيْمٌ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقْرَأُ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها قَالَ: قُلْتُ لَهُ فَإِنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يقرأ أَوْ نُنْسِها قال: قال سَعْدٌ: إِنَّ الْقُرْآنَ، لَمْ يَنْزِلْ عَلَى الْمُسَيِّبِ ولا على آل المسيب، قال: قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الْأَعْلَى: 6] وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ [الْكَهْفِ: 24] ، وَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ هُشَيْمٍ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرِكِهِ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ، عَنْ آدَمَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ بِهِ، وَقَالَ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَقَتَادَةَ وَعِكْرِمَةَ نَحْوَ قَوْلِ سعيد.
وقال الإمام أحمد: أخبرنا يحيى أخبرنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: عَلِيٌّ أَقْضَانَا وَأُبَيٌّ أَقْرَأُنَا، وَإِنَّا لَنَدَعُ مِنْ قَوْلِ أُبَيٍّ، وَذَلِكَ أَنَّ أبيا يقول: ما أَدَعُ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاللَّهُ يَقُولُ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها.
قَالَ البخاري: أخبرنا يحيى أخبرنا سُفْيَانُ عَنْ حَبِيبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
قَالَ عُمَرُ: أَقْرَؤُنَا أُبَيٌّ وَأَقْضَانَا عَلِيٌّ، وَإِنَّا لَنَدَعُ مِنْ قَوْلِ أُبَيٍّ، وَذَلِكَ أَنَّ أُبَيًّا يَقُولُ: لَا أَدَعُ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها.
وَقَوْلُهُ: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها، أَيْ فِي الْحُكْمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَصْلَحَةِ الْمُكَلَّفِينَ، كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها ويقول خَيْرٌ لَكُمْ فِي الْمَنْفَعَةِ وَأَرْفُقُ بِكُمْ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ فَلَا نَعْمَلُ بِهَا أَوْ نُنْسِأْهَا، أَيْ نُرْجِئُهَا عِنْدَنَا نَأْتِ بِهَا أَوْ نَظِيرِهَا، وَقَالَ السُّدِّيُّ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها يَقُولُ: نَأْتِ بِخَيْرٍ من الذي نسخناه أو مثل
الذِي تَرَكْنَاهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها يَقُولُ: آيَةٌ فِيهَا تَخْفِيفٌ فِيهَا رُخْصَةٌ فِيهَا أَمْرٌ فِيهَا نَهْيٌ.
وَقَوْلُهُ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ، يرشد عباده تَعَالَى بِهَذَا، إِلَى أَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ، بِمَا يَشَاءُ، فَلَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ، فَكَمَا خَلَقَهُمْ كَمَا يَشَاءُ، وَيُسْعِدُ مَنْ يَشَاءُ، وَيُشْقِي مَنْ يَشَاءُ وَيُصِحُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُمْرِضُ مَنْ يَشَاءُ، وَيُوَفِّقُ مَنْ يَشَاءُ، وَيَخْذُلُ مَنْ يَشَاءُ كَذَلِكَ يَحْكُمُ فِي عِبَادِهِ بِمَا يَشَاءُ، فَيَحِلُّ مَا يَشَاءُ وَيُحَرِّمُ مَا يَشَاءُ وَيُبِيحُ مَا يَشَاءُ وَيَحْظُرُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الذِي يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، وَيَخْتَبِرُ عِبَادَهُ وَطَاعَتَهُمْ لِرُسُلِهِ بِالنَّسْخِ، فَيَأْمُرُ بِالشَّيْءِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ التِي يَعْلَمُهَا تَعَالَى، ثُمَّ يَنْهَى عَنْهُ لِمَا يَعْلَمُهُ تَعَالَى فَالطَّاعَةُ كُلُّ الطَّاعَةِ فِي امْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاتِّبَاعِ رُسُلِهِ فِي تَصْدِيقِ مَا أَخْبَرُوا، وَامْتِثَالِ مَا أَمَرُوا، وَتَرْكِ مَا عَنْهُ زَجَرُوا. وَفِي هَذَا الْمَقَامِ رَدٌّ عَظِيمٌ وَبَيَانٌ بَلِيغٌ لِكُفْرِ الْيَهُودِ وَتَزْيِيفِ شُبْهَتِهِمْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، فِي دَعْوَى اسْتِحَالَةِ النَّسْخِ، إِمَّا عَقْلًا كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُهُمْ جَهْلًا وَكُفْرًا، وَإِمَّا نَقْلًا كَمَا تَخَرَّصَهُ آخَرُونَ مِنْهُمُ افْتِرَاءً وَإِفْكًا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ «1» رحمه الله: فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ: أَلَمْ تَعْلَمْ يَا مُحَمَّدُ، أَنَّ لي ملك السموات وَالْأَرْضِ وَسُلْطَانَهُمَا دُونَ غَيْرِي، أَحْكُمُ فِيهِمَا وَفِيمَا فِيهِمَا بِمَا أَشَاءُ، وَآمُرُ فِيهِمَا وَفِيمَا فِيهِمَا بِمَا أَشَاءُ، وَأَنْهَى عَمَّا أَشَاءُ، وَأَنْسَخُ وَأُبَدِّلُ وَأُغَيِّرُ، مِنْ أَحْكَامِي التِي أَحْكُمُ بِهَا فِي عبادي، بما أشاء إذ أشاء، وأقر منهما مَا أَشَاءُ. ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا الْخَبَرُ وَإِنْ كان خطابا من اللَّهُ تَعَالَى، لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ، عَنْ عَظَمَتِهِ فَإِنَّهُ مِنْهُ جل ثناؤه تَكْذِيبٌ لِلْيَهُودِ، الَّذِينَ أَنْكَرُوا نَسْخَ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ وَجَحَدُوا نُبُوَّةَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِمَجِيئِهِمَا بِمَا جَاءَا بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، بتغيير مَا غَيَّرَ اللَّهُ مِنْ حُكْمِ التَّوْرَاةِ، فَأَخْبَرَهُمُ الله أن له ملك السموات وَالْأَرْضِ وَسُلْطَانَهُمَا، وَأَنَّ الْخَلْقَ أَهْلُ مَمْلَكَتِهِ وَطَاعَتِهِ، وَعَلَيْهِمُ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَأَنَّ لَهُ أَمْرَهُمْ بِمَا يَشَاءُ وَنَهْيَهُمْ عَمَّا يَشَاءُ، وَنَسْخَ مَا يَشَاءُ، وَإِقْرَارَ مَا يَشَاءُ، وَإِنْشَاءَ مَا يشاء من إقراره وأمره ونهيه.
(قُلْتُ) الذِي يَحْمِلُ الْيَهُودَ عَلَى الْبَحْثِ فِي مَسْأَلَةِ النَّسْخِ، إِنَّمَا هُوَ الْكُفْرُ وَالْعِنَادُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ النَّسْخِ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ يَحْكُمُ مَا يَشَاءُ، كَمَا أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي كُتُبِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَشَرَائِعِهِ الْمَاضِيَةِ، كَمَا أَحَلَّ لِآدَمَ تَزْوِيجَ بَنَاتِهِ مِنْ بَنِيهِ، ثُمَّ حَرَّمَ ذَلِكَ، وَكَمَا أَبَاحَ لِنُوحٍ، بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ السَّفِينَةِ أَكْلَ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ، ثُمَّ نَسَخَ حِلَّ بَعْضِهَا، وَكَانَ نِكَاحُ الْأُخْتَيْنِ مُبَاحًا لِإِسْرَائِيلَ وَبَنِيهِ، وَقَدْ حُرِّمَ ذلك في شريعة التوراة
(1) تفسير الطبري 1/ 529.