المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

هذا إفحام لهم، حيث شهدوا بأنفسهم أن الله تعالى هو - تفسير الشعراوي - جـ ١٩

[الشعراوي]

الفصل: هذا إفحام لهم، حيث شهدوا بأنفسهم أن الله تعالى هو

هذا إفحام لهم، حيث شهدوا بأنفسهم أن الله تعالى هو خالق السماوات والأرض، وتعجب بعد ذلك لأنهم ينصرفون عن عبادة الخالق سبحانه إلى عبادة مَنْ لا يخلق ولا يرى ولا يسمع.

لذلك بعد هذه الشهادة منهم، وبعد أنْ قالوا (الله) يُتبعها الحق سبحانه بقول {قُلِ الحمد لِلَّهِ. .} [لقمان:

‌ 25]

أي: الحمد لله؛ لأنهم أقروا على أنفسهم، ونحن في معاملاتنا نفعل مثل هذا، فحين يعترف لك خَصمْك تقول: الحمد لله.

وهذه الكلمة تُقال تعليقاً على أشياء كثيرة، فحين يعترف لك الخَصْم بما تريد تقول: الحمد لله، وحين يُخلِّصك الله من أذى أحد الأشرار تقول: الحمد لله أي: الذي نجانا من فساد هذا المفسد.

فلو بلغنا خبر موت أحد الأشقياء أو قُطّاع الطرق نقول: الحمد لله أي: الذي خلصنا من شرِّه، وأراح منه البلاد والعباد، ومن ذلك قول الله تعالى:{فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [الأنعام: 45]

كذلك تقال حينما يُنصَف المظلوم، وتُردُّ إليه مظلمته، أو تظهر براءته، كما سنقول - إنْ شاء الله - في الآخرة:{الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 34]{وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} [الزمر: 73 - 74]

فالحمد لله تُقال أيضاً عند خلوصك إلى غاية تُخرِجك مما كنتَ فيه

ص: 11716

من الضيق، ومن الهَمِّ، ومن الحزن، وتقال حين ندخل الجنة، وننعم بنعيمها ونعلم صِدْق الله تعالى فيما أخبرنا به من نعيمها.

هذا كله حَمْد على نِعمه، وهناك الحمد الأعلى: ألم تقرأ الحديث القدسي: «إن الله يتجلى على خَلْقه المؤمنين في الجنة فيقول: يا عبادي، ألا أزيدكم؟ فيقولون: وكيف تزيدنا وقد أعطيْتنا مَا لا عين رأتْ، ولا أذن سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر؟ قال: أُحِلُّ عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعدها أبداً» فماذا بعد هذا الرضوان؟

يقول تعالى: {وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالحق وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين} [الزمر: 75]

هذا هو الحمد الأعلى، فقد كنت في الحمد مع النعمة، وأنت الآن في الحمد مع المنعم سبحانه.

ثم يقول سبحانه: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [لقمان: 25] وهم أهل الغفلة عن الله، أو {لَا يَعْلَمُونَ} [لقمان: 25] أي: العلم الحقيقي، النافع، وإنْ كانوا يعلمون العلم من كتاب غير منير، أو: يعلمون العلم الذي يُحقِّق لهم شهواتهم.

ثم ينتقل السياق إلى آيات كونية فيقول سبحانه: {لِلَّهِ مَا فِي السماوات

} .

ص: 11717

بعد أن سجَّل الله تعالى عليهم اعترافهم وشهادتهم بأنه سبحانه خالق السماوات والأرض، أراد سبحانه أنْ يُبيِّن لنا أن السماوات والأرض ظرف لما فيهما، وفيهما أشياء كثيرة، منها ما نعرفه، ومنها ما لا نعرفه، والمظروف دائماً أغلى من المظروف فيه، فما في (المحفظة) من نقود عادة أغلى من المحفظة ذاتها، وما في الخزانة من جواهر وأموال أو أوراق هامة أنفَسُ من الخزانة وأهمّ.

لذلك قلنا: إياك أنْ تجعل كتاب الله حافظة لشيء هام عندك؛ لأنه أغلى من أيِّ شيء فينبغي أنْ نحفظه، لا أنْ نحفظ فيه.

وكأن في الآية إشارة إلى أنهم كما اقرُّوا لله تعالى بخَلْق السماوات والأرض ينبغي أنْ يُقروا كذلك بأن له سبحانه ما فيهما، وهذه مسألة عقلية يهتدي إليها كل ذي فكر سليم، فما دامت السماوات والأرض لله، فله ما فيهما، وهَبْ أن لك قطعة أرض تمتلكها، ثم عثرتَ فيها على شيء ثمين، إنه في هذه الحالة يكون مِلكك شرعاً وعقلاً.

وينبغي للعاقل أنْ يتأمل هذه المسألة: لله تعالى ما في السماوات وما في الأرض، ومن هذه الأشياء الإنسان الذي كرَّمه الله، وجعله سيداً لجميع المخلوقات وأعلى منها، بدليل أنها مُسخَّرة لخدمته: الحيوان والنبات والجماد، فهل يصح أن يكون الخادم أعظم من سيده أو أطول عمراً منه؟

فعلى العاقل أن يتأمل هذه المسألة، وأن يستعرض أجناس الكون ويتساءل: أيكون الجماد الذي يخدمني أطول عمراً مني؟

إذن: لا بد أن لي حياة أخرى تكون أطول من حياة الشمس والقمر وسائر الجمادات التي تخدمني، وهذا لا يكون إلا في الآخرة

ص: 11718

حيث تنكدر الشمس، وتتلاشى كل هذه المخلوقات ويبقى الإنسان.

إذن: أنت محتاج لما في الأرض ولما في السماء من مخلوقات الله، وبه وحده سبحانه قوامها مع أنه سبحانه غنيٌّ عنها لا يستفيد منها بشيء، فالله سبحانه خلق ما هو غنيٌّ عنه؛ لذلك يقول:{إِنَّ الله هُوَ الغني الحميد} [لقمان: 26] لأنه سبحانه بصفات الكمال خلق، فلم يزِدْه الخلق صفة كمال لم تكُنْ له، فهو مُحْيٍ قبل أنْ يوجد مَنْ يُحييه، مُعِزٌّ قبل أنْ يوجد من يعزه.

وقلنا: إنك لا تقول فلان شاعر لأنك رأيته يقول قصيده؛ بل لأنه شاعر قبل أن يقولها، ولولا أنه شاعر ما قال.

فمعنى {إِنَّ الله هُوَ الغني

} [لقمان: 26] أي: الغني المطلق؛ لأن له سبحانه كل هذه الملْك في السماوات والأرض، بل جاء في الحديث القدسي أن السماء والأرض بالنسبة لملْك الله تعالى كحلقة ألقاها مُلْقٍ في فلاة، فلا تظن أن مُلْك الله هو مجرد هذه المخلوقات التي نعلمها، رغم ما توصَّل إليه العلم من الهندسة وحساب المسافات الضوئية.

فالله سبحانه هو الغنيُّ الغِنَي المطلق؛ لأنه خلق هذا الخَلْق وهو غني عنه، ثم أعطاه لعبيده وجعله في خدمتهم، فكان من الواجب لهذا الخالق أن يكون محموداً {إِنَّ الله هُوَ الغني الحميد} [لقمان: 26] وحميد فعيل بمعنى محمود، وهو أيضاً حامد كما جاء في قوله تعالى:{فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158] لكن، شاكر لمن؟

ص: 11719