الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلَقَدْءَآتَيْنَا مُوسَى
…
} .
والإيتاء يختلف، فهناك مَنْ يُؤْتَى بمنهج أو بمعجزة أو بهما معاً، وهناك إيتاء لكتاب موقوت، لزمن موقوت، لقوم موقوتين، وإيتاء آخر لكل الأزمان لكل الأمكنة.
و {الكتاب} [السجدة:
23]
أي: التوراة {فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ} [السجدة: 23] أي: في شك {مِّن لِّقَآئِهِ. .} [السجدة: 23] لقاء موسى عليه السلام أم لقاء الكتاب؟ إنْ كان لقاء موسى فهو تبشير بأن الله سيجمع بين سيدنا رسول الله وهو حَيٌّ بقانون الأحياء وموسى عليه السلام الميت بقانون الأموات، وهذا لا يتأتَّى إلا إذا كان حديث الإسراء والمعراج في أنهما التقيا فيه صادقاً.
لذلك في القرآن آية ينبغي أن نقف عندها، وأن نتأملها بيقظة، وهي قوله تعالى:{وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45]
هذا تكليف من الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم َ أنْ يسأل الرسل، فمتى يسألهم؟ فهذه الآية تنبئ بأنهم لا بُدَّ أنْ يلتقوا. فهذه الآية في لقاء موسى والأخرى في لقاء كل الرسل. إذن: علينا أن نصدق بحديث
الإسراء والمعراج، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ اجتمع بإخوانه من الأنبياء وصلى بهم ودار بينهم حوار.
أما إذا كان المعنى {فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ. .} [السجدة: 23] أي: لقاء الكتاب، فالتوراة كما قلنا أصابها التحريف والتبديل، وزِيدَ عليها وكُذِب فيها، لكن سيأتيك يا محمد من أهل التوارة أمثال عبد الله بن سلام مَنْ يعرفون التوراة بلا تحريف ويُسرُّون إليك بها، هؤلاء الذين قال الله فيهم:{مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113]
ألم يواجه عبد الله بن سلام قومه من اليهود، فيقول لهم: كيف تُكذَّبون بمحمد، وقد كنتم تستفتحون به على الذين كفروا، فتقولون لهم: لقد أطلَّ زمان نبي يأتي فنتبعه، ونقتلكم به قتل عاد وإرم، لقد تجمعتم من شتى البلاد التي اضطهدتكم، وجئتم إلى يثرب تنتظرون مَقْدِم هذا النبي، فما بالكم تكذَّبونه؟
وقال القرآن عنهم: {وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ
…
} [البقرة: 89]
ومن لقاء الكتاب الذي وعد به النبي صلى الله عليه وسلم َ ما رُوي عن عبد الله بن سلام أنه لما أراد أنْ يؤمن أتى النبي صلى الله عليه وسلم َ فقال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بُهْتٌ - يعني: يتبجحون بالكذب - فإذا أسلمتُ قالوا فيَّ ما ليس فيَّ. فاسألهم عني يا رسول الله قبل أنْ أعلن إسلامي، فلَما اجتمع اليهود سألهم رسول الله: ما تقولون في ابن سلام؟ فقالوا: سيدنا وابن سيدنا وحبرنا وابن حبرنا
…
فقال عبد الله: أما وقد قالوا ما قالوا يا رسول الله فأشهد أنْ لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقالوا: شرُّنا وابن شرنِّا.
فقال عبد الله: ألم أَقُلْ لك يا رسول الله أنهم قوم بُهْتٌ؟
وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لبني إِسْرَائِيلَ} [السجدة: 23] أي: جعلنا الكتاب هدى، وهذا دليل على أن منهم مهتدين بدليل شهادة القرآن لهم:{مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113]
وقوله تعالى في الآية بعدها: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً
…
} .
أئمة: ليس المقصود بالإمامة هنا السلطة الزمنية من باطنهم، إنما إمامة القدوة بأمر الله؛ لذلك قال سبحانه:{يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا. .} [
السجدة: 24] ، فهم لا يصدرون في شيء إلا على هدى من الله.
وفي سورة الأنبياء قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات وَإِقَامَ الصلاة وَإِيتَآءَ الزكاة وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 73]
الإيقان: هو الإيمان الذي لا يتزعزع، ولا يطفو إلى العقل ليبحث من جديد، يعني: أصبحت مسألة مُسلَّماً بها، مستقرة في النفس.
تلحظ على أسلوب الآية أنها لم تقل مثلاً: إن ربك يفصل بينهم، إنما استخدمت الضمير المنفصل (هو) ليفيد التأكيد والاختصاص، فالمعنى لا أحدَ يفصل بينهم في القيامة إلا الله، كما قال سبحانه:{لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16]
إذن: جاءت (هو) لتقطع الشك في وجود الغير.
ولك أنْ تتأمل هذا الضمير في هذه الآيات، ومتى استعمله الأسلوب، يقول تعالى في قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي
…
} [الشعراء: 77] أي: الأصنام {اإِلَاّ رَبَّ العالمين الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء: 77 - 81]
فاستخدم الضمير الدالّ على الاختصاص في الهداية والإطعام والسُّقْيا والشفاء، وهذه الأفعال مظنة أنْ يدعيها أحد لنفسه، أما الإحياء والإماتة فهي لله وحده لا يمكن أنْ يدَّعيها أحد؛ لذلك جاءت بدون هذا التوكيد، فهي مسألة مُسلَّم بها لله تعالى.
والشك يأتي في مسألة الفصل يوم القيامة؛ لأن الله تعالى جعل الملائكة المدبرات أمراً لتدبر أمر الخلق، وقال سبحانه {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله
…
} [الرعد: 11] أي: تبعاً لأمر الله فيه، فقد يفهم البعض أن للملائكة دوراً في الفصل بين الناس يوم القيامة، كما أن لهم مهمة في الدنيا.
وتأمل هنا أن الله تعالى ذكر لفظ الربوبية فقال {إِنَّ رَبَّكَ. .} [السجدة: 25] ولم يقُلْ: إن الله، والربوبية كما قُلْنا عطاء وتربية، وكأنه سبحانه يقول: اطمئنوا فالذي سيتولَّى مسألة الفصل هو ربكم.
وقوله سبحانه: {فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [السجدة: 25] لأن الفصل لا يكون إلا عن نزاع، والنزاع لا بُدَّ أن يكون عن قضية تريد مراجعة من حكم حاكم.
ثم يقول الحق سبحانه: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ
…
} .
الحق سبحانه وتعالى تكلم عن الرسالة التي أرسل بها رسوله صلى الله عليه وسلم َ ليؤكد في الناس عقيدة أعلى، وهي عقيدة الوجود للإله الواحد الذي لا شريك له، ثم بيَّن أن لنا مع الله لقاء آخر حين تنتهي هذه
الدنيا الفانية، ثم نستقبل حياة خالدة، إما إلى جنة إنْ شاء الله، وإما إلى نار ونعوذ بالله.
والحق سبحانه حين يعرض آياته في الكون يعرضها لتثبت أنه هو الذي خلق هذه الآيات العجيبة، فلم يتركنا سبحانه ننظر وننصرف إنما لفتنا ونبَّهنا إلى وجوب النظر إلى آياته في الكون، وحين يأتي مَنْ يريد أنْ يُنبه عقلك فاعلم أنه لا يريد أنْ يخدعك، أو أن يأخذك على غرَّة، فربك يقول لك: استقبل كلامي هذا بمنتهى التدُّبر والتذكُّر والتعقُّل.
ولو لم يكُنْ واثقاً من أنه سيصل بالتدبُّر والتعقُّل والتذكر إلى الغاية التي يريدها لما نبَّه عقلَك لآياته، كما ترى عارض السلعة الجيدة الواثق من جودتها يعرضها عليك، ويكشفها لك، ويدعوك إلى فحصها وتأمُّل ما فيها، فهو لا يفعل ذلك إلا لثقته في بضاعته وأنها ستنال رضاك.
أما صاحب السلعة المغشوشة فيخدعك ويسلك معك أساليب اللفَّ والدوران والتغرير، فحين تدهب مثلاً لشراء حذاء وجاء ضيقاً يقول لك: سيتسع بعدما تمشي فيه، فإنْ جاء واسعاً يقول لك: أحضر لك واحداً أوسع؟ ليوهمك أنه ضيِّق، وأساليب هؤلاء مكشوفة لا تخفى على أحد، فالذي يريد أنْ يغشَّ أو يخدع يلف القضايا ليسترها عن عقلك المتدبر المتذكر المتمعن.
أما الحق سبحانه، فكثيراً ما قال في قرآنه: أفلا يسمعون، أفلا يعقلون، أفلا يتدبرون القرآن؛ لذلك من مصلحة الدعوة أنْ يتعقلها الناس، وأن يتدبروها، في حين أن بعض أصحاب الديانات الأخرى يقول لك حين تناقشه: أبعِدْ العقل عن هذه المسألة، لماذا؟ لأنه
واثق أنها لو بُحثَتْ بالعقل لردها العقل ولم يقبلها - والحق سبحانه يريد إلَاّ يترك عذراً لأحد في البلاغ، فالدعوة قد بلغتْ الجميع بلاغاً سليماً واضحاً، تلك آيات الله في الكون.
ثم يأتي الحق سبحانه بآيات معجزة ليثبت صِدْق الرسول، فيجعلها تخالف نواميس الكون فيما نبغ فيه القوم ليقطع عليهم الحجة، ثم يأتي بآيات الأحكام التي تحمل المنهج بافعل ولا تفعل، ويُبيِّن أنَّ صلاح حركة الحياة في تطبيق هذا المنهج ويترك للمخالفات أن تُظهِر بعض العيوب، فإذا ما نظرتَ إلى عيب أو عورة في المجتمع عرفتَ أنها نتيجة طبيعية لمخالفة منهج الله، فكأن المخالفة ذاتها من مُؤكِّدات الحكم.
ثم يُبيِّن سبحانه أنه أرسل رسلاً كثيرين من لَدُنْ آدم عليه السلام؛ لأن الإنسان الذي هو خليفته في الكون تصيبه غفلة حين ينخرط في أسباب الدنيا، وتأخذ عليه كل فكره وكل همه، فينسى ما طلب الله منه، فمن عادة الإنسان ألَاّ يتذكر إلَاّ ما ينفعه النفع العاجل.
لذلك نجد كثيراً من الناس ينسى ما للناس عنده، ويتذكر ما له عندهم.
فالحق سبحانه يقول: أنا لم يَعُدْ لخَلْقي عندي حجة، فقد نثرتُ لهم آيات الكون المُلْفتة، وهي آيات واضحات لم يدَّعها أحد لنفسه، ومع كثرة الملحدين والكافرين لم نَرَ أبداً من ادَّعى خَلْق الشمس أو القمر، ولم يقُلْ أحد: إنني أُسيِّر الريح، أو أُنبِت الزرع، أو أُنزِل الماء من السحاب.
والحق سبحانه يُنبهنا أيضاً: لا تنْس أيها الإنسان أنك خليفة لله في الأرض، وإياك أنْ تظن أنك أصيل فيها، فساعةَ تظن أنك أصيل
في الدنيا يتخلى الله عنك، ويتركك لنفسك فتهلك، كما حدث لقارون حين وسَّع الله عليه في الدنيا، فاغترَّ بما في يده، وظن أنه من سعيه وعلمه وجهده.
فكانت النتيجة {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض
…
} [القصص: 81] لينبه الناس جميعاً أن المال ليس مال صاحبه، إنما هو مُستْخلف فيه، ولو كان ماله لحافظ عليه، فالحق يردُّ الناس بالأحداث إلى طبيعة الفطرة الخلافية، لأن فساد الكون يأتي من اعتبار الإنسان نفسه أصيلاً في الكون.
وسبق أنْ قُلْنا: إن الإنسان إذا نظر في الكون نظرة فاحصة عادلة لَعلِم ما يأتي: أن كل شيء لم تتدخل فيه يَدُ الإنسان سليم، ويؤدي مهمته على أكمل وجه، وأن كل فساد في الكون إنما هو من تدخُّل الإنسان فيه بغير قانون ربه، ولو تدخَّل فيه بقانون ربه لَصَلُحت له الأشياء التي تدخَّل فيها، كما صَلُحَتْ له الأشياء التي لم يتدخل فيها.
وقلنا: إنك إذا رأيتَ عواراً في الكون فاعلم أنه نتيجة حقٍّ مُضيَّع من حقوق الله، فحين ترى فقيراً يتضوَّر جوعاً أو عرياناً لا يملك ما يستر عورته، فاعلم أن الأغنياء قصَّروا في أداء حق الله في الزكاة؛ لأن الله تعالى شرعها بحساب، فلو أن القادر أخرج الزكاة المفروضة في ماله لما بقي في المجتمع المحيط به محتاج.
ثم يريد منا الحق سبحانه أن نحافظ في نفوسنا على إيمان الفطرة، وعلى الذرة الإيمانية الأولى التي لم تدخلها الشهوة، ولم يخالطها النسيان، هذه الذرة التي شهدت العهد الأول الذي قال الله فيه:
أي: قبل أنْ تأخذكم شهوات الدنيا ونسيانها فتُنكروا هذه الشهادة، وتقولون:{إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون} [الأعراف: 172 - 173]
فالذي يحافظ على هذه الذرة، وعلى هذه اللمسة الربانية التي وضعها الله فيه بيده، وعلى العهد الذي أخذه الله عليه يبقى له نور هذه الفطرة، وتظل هذه النورانية متأججة في نفسه، فإن أهملها طمستْها الذنوب والغفلة.
لذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم َ يضرب لنا المثل فيقول: «تُعرض الأمانة - أي: التكاليف الاختيارية من الله - على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأيُّما قلب أُشْرِبها نُكتَتْ فيه نكتة بيضاء، وأيُّما قلب أنكرها نُكِتت فيه نكتة سوداء حتى تكون على قلبين: أبيض مثل الصَّفا، لا تضره فتنة ما دامتْ السماوات والأرض، والآخر أسود مُربَاداً كالكوز مجَخَّياً ممقوتاً، لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكراً» .
فالطاعات أو الذنوب تتراكم على القلب كما تُصَفُّ عيدان الحصير عوداً بجوار عود، فيبيضّ القلب بالطاعات، أو يسودّ بالمعاصي.
والإنسان منه مادة ومنه روح، الروح في المادة تعطيها الحياة والحركة والفهم والفكر والتصرف، وهما قبل أن يلتقيا كانا مُسبِّحَيْن لله تعالى، فكل شيء في الوجود مُسبِّح {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ
…
} [النور: 41]
وعلى الإنسان أنْ يفهم هذه الحقيقة، وأن يحافظ على الطبيعة الإيمانية في ذراته ومكوناته لتظل مشرقة نيَّرة بنور الإيمان، فإنْ غفل عن هذه الطبيعة حدثتْ الأغيار، وحدث عدم الانسجام بين ذراته في الذات البشرية، فحين تحمل إرادتُك الجسمَ والروحَ على المعصية يكرهك جسمك، وتكرهك روحك؛ لأنك خالفتَ منهج خالقها عز وجل فهي مُسبّحة عابدة وأنت لاهٍ غافل عَاصٍ؛ لذلك تلعنك روحك وتلعنك أبعاضك.
ومن رحمة الله بالعاصي أن ينام فترتاح أبعاضه، وترتاح روحه من معاصيه، وتأخذ راحتها في عبادة ربها، حيث لا منازع لها، ولا معاند من إرادة صاحبها، لذلك يشعر الإنسان بالراحة عند النوم، ويقوم منه نشيطاً لما حدث من انسجام وتعادل بين ذرات ذاته أثناء النوم.
لذلك ورد أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ كانت تنام عينه ولا ينام قلبه؛ لأن أبعاضه منسجمة دائماً في نومه وفي يقظته، فإذا رأيتَ
إنساناً يغلب عليه أنه مُنْهك القوى فاعرف أنه قد أتعب ذراته، وأنها تودُّ الخلاص منه بالنوم، وكأنها تقول له نَمْ فلم تَعْدُ صالحاً للتعايش معي.
إذن: الحق سبحانه يُنبِّهنا دائماً من هذه الغفلة بواسطة الرسل، ثم يترك سبحانه للرسالات التي سبقتْ أدلة تؤيد الرسل الموجودين، وتعينهم على أداء مهمتهم؛ لذلك يقول لنا: انظروا إلى الرسل الذين سبقوا، وكيف كانت عاقبة المكذِّبين بهم.
{أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ القرون. .} [السجدة: 26] كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد} [الفجر: 6 - 10]
فهذه الأهرامات التي يَفِد إليها الناس، والتي تُعَدُّ مزاراً سياحياً هي آية من آيات الله تقوم دليلاً على هلاك أصحابها من المكذِّبين للرسل، فالحق سبحانه لم يترك لأحد من خَلْقه عذراً بعد أنْ كشف له الآيات الكونية تشهد بوحدانيته تعالى وألوهيته، والمعجزات التي
تثبت صدق الرسل في البلاغ عن ربه، ثم آيات الأحكام التي تحمل أقضية الحياة، والتي لا يمكن لبشر أنْ يستدرك عليها، والتي تحمل الحلَّ الشافي والدواء الناجع لكل داءات المجتمع.
وبعد ذلك تركت لهم تكذيب المكذِّبين أمام أعينهم، كما قال سبحانه:{وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وباليل أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137 - 138]
فها هي آثار عاد وثمود وغيرهم ما تزال شاهدةً عليهم، بعضها فوق الأرض، ومعظمها مطمور تحت طبقات الثَّرى؛ لذلك نجد أن كل الآثار القديمة يجدونها في الحفريات تحت الأرض، ولم لا وقد كانت العاصفة تهبُّ الهبَّة الواحدة، فتبتلع القافلة بأكملها، فما بالك بهبَّات الرياح من أيام عاد حتى الآن. إذن: خذوا عبرة من مصير هؤلاء.
ومعنى {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ. .} [السجدة: 26] يهدي: أي: يدلُّ ويرشد ويُبيِّن ويُوضّح، والهداية لها عناصر ثلاثة: هاد ومهديٌّ والشيء المهْدَى إليه، ومادة:(هدى) تُستعمل في كتاب الله ثلاثة استعمالات:
الأول: أنْ يُذكر الهادي، وهو الله عز وجل، والثاني: أن يُذكر المهديّ وهم الخَلْق، والثالث: وهو أنْ يُذكر المهدي إليه، وهي الغاية التي يريدها الله.
وهذا الفعل يأتي مرة متعدِّياً بنفسه، كما في سورة الفاتحة:{اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6] أي: يا الله، فالله هو الهادي، ونحن المهديون، والغاية هي الصراط المستقيم.
ومرة يُعدَّى الفعل باللام، كما في {الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا
…
} [
الأعراف: 43] فلم يَقُلْ: هِدانا هذا، ومرة يتعدى بإلى كما في {. . والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213]
فتلحظ أن الهادي واحد وهو الله تعالى، والمهديّ هو الخَلْق، لكن المهْدَي إليه هو المختلف، أما في هذه الآية فالأمر مختلف، حيث يقول سبحانه:{أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ. .} [السجدة: 26] فلم تدخل اللام على المهْدى إليه، إنما دخلتْ على المهدى، فلم يقُلْ الحق سبحانه: أو لم يَهْدِ الله هؤلاء القوم لكذا.
فلماذا؟
قالوا: لأن بعض الناس يظنون أن الله حين يهدي إلى الطريق يُحمِّلك مشقات التكاليف؛ لذلك نرى بعض الناس ينفرون من التكاليف ويروْنَ فيها عبئاً عليهم، ومن هنا عبد بعضهم الأصنام، وعبد بعضهم الشمس أو القمر. . الخ؛ لأنها آلهة بدون منهج وبدون تكاليف، ليس لها أوامر، وليس عندها نَواهٍ، وما أيسر أنْ يعبد الإنسان مثل هذه الآلهة التي لا مطلوبات لها.
والذي يرى في التكاليف مشقة، ويراها عبئاً عليه يراها كذلك؛ لأنها تصادم مراد نفسه في الشهوات وتحدُّ من رغباته، ومرادات النفس ربما أعطتْك لذة عاجلة، لكن يعقبها حسرة وشر آجل.
ومثَّلْنا لذلك بالتلميذ الذي يتحمل مشقة المذاكرة والدرس طمعاً في التفوق الذي ينتظر حلاوته، وآخر يفضل اللذة السريعة العاجلة فيلعب ولا يهتم، فيلاقي مذلَّة الفشل والاحتقار آخر العام.
إذن: عليك أنْ تقرن بين مشقة العمل والنتيجة والثمرة التي تنالها من ورائه، وعندها تهون عليك مشقة التكاليف؛ لأن ما ينتظرك من
الأجر عليها أعظم مما قدَّمتَ وأبقى.
فالحق سبحانه يريد منا أنْ نُقبل على التكاليف، ونعرف أنها لمصلحتنا نحن، وأنها في الحقيقة تشريف لنا لا تكليف؛ لأن الذي كلفني لا يحتاج مني إلى هذا، ولا ينتفع من عبادتي بشيء، بل هو سبحانه يتحنن إليَّ؛ لأكون أهلا لإنعامه وجديراً بفضله وكرمه.
ألم يقُلْ سبحانه: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ
…
} [إبراهيم: 7] فالمسألة إذن منك وإليك، فالله سبحانه له صفات الكمال قبل أنْ يخلق عباده.
فاللام في {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ. .} [السجدة: 26] أي: لصالحهم ومن أجلهم، وليس عليهم، فالهدى لصالح المهدي لا الهادي، ولو فهم الإنسان هذه الحقيقة وعرف أن الهداية راجعة إليه لَقبَّل يد مَنْ بلَغه عن الله هذا الفضل.
ويؤكد هذا المعنى - لمن فطن - قوله تعالى عن المؤمنين: {أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ
…
} [لقمان: 5] فالهدى ليس حِمْلاً يحملونه، إنما مطية يركبونها إلى الغاية النبيلة التي أرادها الله لهم.
فما الذي بيَّنه الله للمؤمنين ودلَّهم عليه؟
يقول سبحانه: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ القرون يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ. .} [السجدة: 26] أي: انظروا إلى المخالفين للرسل من قبلكم، وكيف أخذهم الله فلم يُمكِّنهم من رسله، بل انتصر الرسل عليهم.
وكم هنا تفيد الاستفهام عن العدد، وهي بمعنى كثير، كما تقول لمن ينكر جميلك: كم أحسنتُ إليك أي: مرات كثيرة لا تُعَدُّ،
والمراد أننا بيَّنا لكم كثيراً من الأمم التي عادتْ رسلها، وكيف كانت عاقبتهم وغايتهم التي انتهوا إليها. {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40]
ومن مصلحتنا أن يُبيِّن الله لنا عاقبة المكذبين؛ لأنه ينبهنا إلى الخطر قبل أنْ نقع فيه. وسبق أنْ أوضحنا هذه المسألة في كلامنا عن قوله تعالى - من سورة الرحمن: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 35 - 36] فاعتبر الشواظ والنار من النِّعم التي ينبغي ألَاّ نُكذِّب بها، لماذا؟ لأنه نبَّهنا إليها حتى لا نقع فيها.
وقوله تعالى: {مِّنَ القرون. .} [السجدة: 26] القرن حدده العلماء بمائة عام، لكن هذه المائة تتداخل، ويقترن فيها عدة أجيال يجتمعون على مذهب أو مبدأ واحد، فالقرن يقرن بين الجد والابن والحفيد، هذا إنْ أردتَ الزمن وحده، فإنْ قُرِن الزمن بعصر دين من الأديان أو نبي أو ملك، فقد يطول القرن إلى الألف عام، كما في قرن نوح عليه السلام.
فالقرن مرتبط بما قُرن به؛ لذلك نقول: العصر الجاهلي، عصر صدر الإسلام، عصر بني أمية، العصر العباسي، عصر المماليك،
وما نزال حتى الآن نقول عن عصرنا: العصر الحديث.
والحق سبحانه يبين لنا في الحياة التي نعيشها أن الزمن متغير، إلى أعلى في الماديات، وإلى أدنى في المعنويات، فكلما تقدَّم الزمن انحلَّ الناس من رِبْقة الدين وتفلَّتوا منه؛ ذلك لأن الارتقاءات المادية ينتج عنها حضارات تستهوي النفوس وتغريها، والنتيجة انحدار في القيم وفي الدين، ولو أن الارتقاء كان متساوياً لسار الأمران في خطين متوازيين.
لذلك يقول تعالى: {حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً
…
} [يونس: 24]
ثم إنك لو نظرتَ إلى جزئيات الحضارة في الكون تجد أن الأمم صاحبة الحضارات لم تستطع أنْ تجعل لنفسها وقاية من اندحار حضارتهم، ولم يستطيعوا صيانتها. حتى العصور التقدمية: كنا في العصر الحجري، ثم عصر البخار، ونحن الآن في عصر الفضاء.
إذن: نحن مرتقون فقط في الماديات، لكن منحدرون في المعنويات، لكن هل هذا الارتقاء المادي جاء عن امتلاك لمعالم هدى الله في الأرض؟ لا، لأن الله تعالى بيِّن لنا:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]
فأنا الذي أنزلتُ، وأنا الذي ضمنتُ حفظه، فلم أتركه لكم تحفظوه، إذن: المسألة عن عجز منا، وإلا فكتاب البداية موجود حجة علينا.
وقوله تعالى: {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ. .} [السجدة: 26] أي: أنني لا ألقى القضايا بدون حجة أو دليل، بل هي شاخصة أمامكم تمرون
بها، وتروْنَها ليل نهار، كما قال سبحانه:{وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وباليل أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137 - 138]
ثم يقول سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ} [السجدة: 26] فالله يحضُّهم على أنْ يستمعوا إلى سِيَر المكذِّبين المعاندين، وما حاق بهم من انتقام الله منهم.
وبالله: الإنسان مهما قَصُر عمره، ألم يَرَ ظالماً، وألم يَرَ مصرع هذا الظالم وعاقبة ظلمه، فإنْ لم يَرَ ظالماً ألم يُحدَّث عنه؟ إذن: مما يصلح حال الناس أنْ يستمعوا إلى حكايات عن الظالمين وعن نهايتهم، وما ينزل بهم من الانتقام الذي لا ينتظر الآخرة، بل يُعَجِّل لهم في الدنيا.
وفي ذلك حكمة لله بالغة؛ لأن الظالم ربما لا يرعوى ولا يرجع في الدنيا عن ظلمه، فيظل يُعربد في الخَلْق ما أحياه الله، لكن إنْ مسَّه شيء من العذاب، فلربما عاد إلى رُشْده، وإن لم يَعُدْ كان عبرة لغيره.
لذلك قال أهل المعرفة: لن يموت ظلوم حتى ينتقم الله منه. وربما مَنْ رآه ظالماً يراه مظلوماً، ومَنْ أراد أن يرى نهاية ظالم فلينظر إلى مصارع الظالمين قبله.
وتأمل قول ربك: {وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً
…
} [الأنعام: 129] فكأن الظالم له رسالة، هي أن ينتقم من ظالم مثله، وهكذا يُهلك الله هؤلاء بعضهم ببعض؛ لأن الخيِّر طيِّب القلب لا يؤدب ظالماً، فإن اعتديتَ عليه غلب عليه طابع التسامح والعفو.
ألم يَقُلْ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ لكفار مكة: «اذهبوا فأنتم
الطلقاء» فكأن الله عز وجل يقول للخيِّر: اجلس أنت واسترح، واترك الأشرار لي، فسوف أرسل عليهم من هو أشرّ منهم ليؤدبهم.
واختار الحق هنا حاسة السمع {أَفَلَا يَسْمَعُونَ} [السجدة: 26] لأنها وسيلة الإدراك المناسبة للموقف، فبها نسمع ما يُحكَى عن الظالمين وبها نعتبر، وفي موضع آخر سيقول {أَفَلَا يُبْصِرُونَ} [السجدة: 27] ويقول: {أَفَلَا يَعْقِلُونَ} [يس: 68] فيُنوِّع لنا، ويُقلِّب كل وسائل الإدراك لينبهنا من خلالها.
والمعنى {أَفَلَا يَسْمَعُونَ} [السجدة: 26] ما يُرْوَى لهم عن مصارع الظالمين، لقد نبهناهم وذكَّرناهم، ومع ذلك أشركوا وجعلوا سمعهم (ودن من طين، وودن من عجين) .
أولاً لك أن تلحظ هنا توافق النسق القرآني بين صدر الآيات وعَجُزها، ففي الآية السابقة قال سبحانه {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ
…
} [السجدة: 26] أي: يدلُّ ويرشد، والكلام فيها عن قصص تاريخي، فناسبها {أَفَلَا يَسْمَعُونَ} [السجدة: 26] أما هنا فالكلام عن مشاهد
مرئية، فناسبها {أَفَلَا يُبْصِرُونَ} [السجدة: 27] فهذا ينبغي أنْ يُسمع، وهذا ينبغي أنْ يُرى.
وفي الآية السابقة قال سبحانه {أَهْلَكْنَا
…
} [السجدة: 26] لنعتبر بإهلاك المكذبين في الماضي، أما هنا فيلفتنا إلى آية من آياته في الكون، فيأتي الفعل {نَسُوقُ المآء. .} [السجدة: 27] بصيغة المضارع الدالّ على التجدّد والاستمرار، ففي كل الأوقات يسوق الله السحب، فينزل منها المطر على الأرض (الجرز) أي: المجدبة، فتصبح مُخضرة بأنواع الزروع والثمار، وهذه آية مستمرة نراها جميعاً، ولا تزال في الحال وفي الاستقبال، ولأن هذه الآية واقعة الآن تحتاج منا المشاهدة والتأمل قال في ختامها {أَفَلَا يُبْصِرُونَ} [السجدة: 27]
وفي موضع آخر قال سبحانه: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} [الكهف: 7 - 8] فالجُرُز هي الأرض المقطوع منها النبات، إما لأن الماء شحَّ عليه فجفَّ، وإما أنه استُحصد فحصدوه.
ومعنى {نَسُوقُ المآء. .} [السجدة: 27] السَّوْق: حَثٌّ بسرعة؛ لذلك تقول للذي يتعجلك (ما لك سايقنا كده) ، ومعلوم أن السَّوْق يكون من الوراء، على خلاف القيادة، فهي من الأمام، فالذي تسوقه تسوقه وهو أمامك، تراه فلا يتفلت منك، ولو كان خلفك فهو عُرْضة لأنْ يهرب منك، فلا تشعر به.
والسَّوْق مرة يكون للسحاب، كما في قول الله تعالى {والله الذي أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ
…
} [فاطر: 9]
ومرة يكون السَّوْق للماء نفسه كما في هذه الآية، وسَوْق الماء له عدة مظاهر: فالله يسوق الماء من السحاب إلى الأرض، فإذا نزل
إلى الأرض ساقه في الأنهار، أو سلكه ينابيع في الأرض ليحتفظ لنا به لحين الحاجة إليه.
فربُّنا عز وجل جعل لنا خزانات للماء تحت الأرض، لا لنحرم منه حين يوجد، لكن لنجده حين يُفقد، وكون الماء ينابيع في الأرض يجعلنا نتغلب على مشاكل كثيرة، فالأرض تحفظه لنا، فلا يتبخر ولا نحتاج إلى بناء السدود وغيرها، مما يحفظ لنا الماء العَذْب.
لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم َ: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقياً - أرض خصبة - قبلتْ الماء، فأنبتت الكلأ والعُشْب، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فشرب الناس منه وسَقُوا أنعامهم وزروعهم، وكان منها قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم» .
فهذه أنواع ثلاثة من الأرض تمثل انتفاع الناس بالعلم، فالأولى تسمك الماء، وتُخرِج الزرع، والثانية تمسك الماء حتى ينتفع الناس به، ولك أن تسأل: فما فائدة الثالثة: القيعان التي لا تُمسِك ماء، ولا تنبت كلأ؟ ولماذا خلقها الله إذن؟
نقول: هذه القيعان هي التي تسلك الماء في باطن الأرض، وصدق الله:{فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر: 22] وقال سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ} [الملك: 30]
إذن: هذه القيعان لها مهمة يعرفها مَنْ فَطِن لهذه المسألة، وإلا فالله تعالى لم يخلق شيئاً عبثاً أبداً، كذلك يكون انتفاع الناس بالعلم، فمنهم مَنْ نرى أثر علمه خيراً عاجلاً، ومنهم مَنْ يتأخر نَفْع علمه للأجيال القادمة.
ثم إياك أنْ تظن أنَّ الماء حين يسلكه اللهُ ينابيع في باطن الأرض يسيح فيها، أو يحدث له استطراق سائلي يختلط فيه العذب بالمالح، لا. . إنما يسير الماء العَذْب في شبه أنابيب ومسارب خاصة، يجدونها حتى تحت مياه الخليج المالحة.
وهذه من عجائب الخَلْق الدالة على قدرة الخالق عز وجل، وكما يوجد برزخ بين المائيْن على وجه الأرض {مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَاّ يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 19 - 20] كذلك هناك برزخ للماءين تحت الأرض.
فالحق سبحانه يلفت أنظارنا إلى هذه الآية المشاهدة {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ المآء إِلَى الأرض الجرز. .} [السجدة: 27] نعم، هذه آية نشاهدها جميعاً، لكن المراد هنا مشاهدة تمعُّن وتذكّر وعظة وتعقُّل، نهتدي من خلالها إلى قدرة الخالق عز وجل.
وقوله سبحانه {أَنَّا نَسُوقُ. .} [السجدة: 27] فيه دليل على قيُّوميته تعالى على الخلق، فإنْ كان سَوْق الماء يتم بواسطة الملائكة المكلفين به، إلا إنه تعالى صاحب الأمر الأول والمتتبع لعملية تنفيذه.
وقدَّم الحق سبحانه الأنعامَ على الإنسان في الأكل من الزرع، مع أنها كلها مملوكة للإنسان؛ لأن الأنعام في الغالب ما تأكل من
الزرع، وهو ما يزال أخضر لم ينضج بَعْد، ليأكل منه الإنسان، وأيضاً هو سبحانه حين يطعم الأنعام فإنما يطعم مَنْ جعله له فاكهة طعام، وهي الأنعام.
وأشرنْا إلى أن دِقَّة البيان القرآني اقتضتْ أنْ تختم هذه الآية المشاهدة بقوله تعالى: {أَفَلَا يُبْصِرُونَ} [السجدة: 27] لأن هذه مسألة تتعلق بالبصر.
ولك أن تقرأ في مثل هذه الدقَّة قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلَا تُبْصِرُونَ} [القصص: 71 - 72]
فقال في الأولى {أَفَلَا تَسْمَعُونَ} [القصص: 71] لأنها تتكلم عن آية الليل، والسمع هو وسيلة الإدراك فيه، وقال في الأخرى {أَفلَا تُبْصِرُونَ} [القصص: 72] لأنها تتكلم عن آية النهار، والبصر هو وسيلة الإدراك في النهار، إذن: نلحظ دقَّة الأداء وإعجازه؛ لأن المتكلم إله ورب، فلا بُدَّ أنْ تجد كل لفظة في مكانها المناسب.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَيَقُولُونَ متى هذا
…
} .
(متى) يُستفهم بها عن الزمان، والاستفهام بها يدل على أنك استبطأت الشيء فاستفهمتَ: متى يحدث؟
الرسول صلى الله عليه وسلم َ حين بُعِث أخبر قومه أنه مُرْسَل إليهم بمنهج من الله، وقد أيده الله بالمعجزات، وأخبرهم بمصير مَن اتبعه ومصير مَنْ
خالفه، وأن ربه عز وجل ما كان ليرسله إليهم، ثم يُسلْمه أو يتخلى عنه، فهو لا بُدَّ منتصر عليهم، فهذه سنة الله في أنبيائه ورسله، حيث قال سبحانه:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 171 - 173]
لذلك قلنا: إذا رأيت موقفاً لم ينتصر فيه المسلمون، حتى في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم َ وحياة الصحابة، فاعلم أن الجندية عندهم قد اختلتْ شروطها، فلم يكونوا في حال الهزيمة جنوداً لله متجردين.
وحين نتأمل الأحداث في (أحُد) نجد أن الله تعالى يقول للمسلمين: لا تظنوا أن وجود رسول الله بينكم يحميكم أو يُخرِجكم عن هذه القضية، فهذه سنة الله في كونه لا تتبدل.
ففي (أُحُد) خالف المسلمين أوامر رسول الله، حين نزل الرماة وتركوا أماكنهم طمعاً في الغنائم، فالتفَّ عليهم المشركون، وكانت النتيجة لا نقول انهزموا إنما هم لم ينتصروا؛ لأن المعركة (ماعت) والرسول موجود بينهم.
والبعض يرى في هذه النتيجة التي انتهتْ إليها الحرب في أُحُد مأْخذاً، فيقول: كيف يُهزم جيش يقوده رسول الله؟ وهذه المسألة تُحسَب للرسول لا عليه، فالرسول لن يعيش بينهم دائماً، ولا بُدَّ لهم أن يروْا بأعينهم عاقبة مخالفتهم لأمر رسول الله، وأنْ يشعروا
بقداسة هذه الأوامر، ولو أنهم انتصروا مع المخالفة لفقدوا الثقة في أوامر رسول الله بعد ذلك، ولِمَ لا وقد خالفوه في أُحُد وانتصروا!!
كذلك في يوم حنين الذي قال الله فيه: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ
…
} [التوبة: 25]
وكان من إعجاب المؤمنين بكثرتهم أن يقول أبو بكر نفسه: لن نُغْلَب اليوم عن قلة، لذلك لقَّنهم الله تعالى درساً، وكادوا أنْ يُهزموا، لولا أن الله تداركهم في النهاية برحمته، وتحوَّلت كفَّة الحرب لصالحهم، وكأن التأديب جاء على قدر المخالفة.
فالحق سبحانه يُعلِّمنا امتثال أمره، وأنْ نخلص في الجندية لله سبحانه، وأن ننضبط فيها لنصل إلى الغاية منها، فإنْ خالفنا حُرِمْنا هذه الغاية؛ لأنني لو أعطيتُك الغاية مع المخالفة لما أصبح لحكَمي مكان احترام ولا توقير.
وهنا يحكي الحق تبارك وتعالى عن المشركين قولهم لرسول الله: {متى هذا الفتح. .} [السجدة: 28] أي: النصر الذي وعدكم الله به، وقد كان هذا النصر غاية بعيدة المنال أمام المؤمنين، فما زالوا قلَّة مُستْضعفة.
لذلك لما نزل قول الله تعالى:
{سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] تعجب عمر حتى قال: أيُّ جمع هذا، ونحن لا نستطيع أنْ نحمي أنفسنا؟ لكن الحق سبحانه لم يُطل عليهم هذا الوضع، وسرعان ما جاءتْ بدر، ورأى عمر بعينه كيف تحقَّق وعد الله، وكيف هُزِم جَمْع المشركين، ورددها بنفسه بعد المعركة: نعم يا رب، سَيُهزم الجمع ويولون الدبر.
ومن العجيب أنْ يدل رسول الله على الكفار وعلى أصحابه وأنصاره بفيض الله عليه، وأنه أخبره بنتيجة المعركة قبل حدوثها، فيقف صلى الله عليه وسلم َ في أرض بدر، ويشير بعصا في يده إلى مصارع المشركين: هذا مصرع أبي جهل، وهذا مصرع عتبة، وهذا مصرع الوليد. . الخ.
فمَنْ يستطيع أنْ يحدد نتيجة معركة بهذا التفصيل، والمعركة أَخْذٌ وردّ وكرّ وفرّ واختلاط، مع أنهم لم يخرجوا لحرب، إنما خرجوا لملاقاة قافلة قريش التجارية، فما بالك لو خرجوا على حال استعداد للحرب، وهذه سيأخذها الكفار قياساً يقيسون عليه قوة المسلمين الوليدة، وسيقذف الله بهذه النتيجة الرعب في قلوب الكفار، ولم لا وقد انتصرتْ القلة المستضعفة غير المجهزة علة الكثرة المتعجرفة المستعدة للحرب.
والاستفهام هنا {متى هذا الفتح
…
} [السجدة: 28] ليس استفهاماً على حقيقته، إنما يراد به الاستهزاء والسخرية، وجواب الله على هذا الاستفهام يحدد نيتهم منه، فهم يستبعدون هذا النصر وهذه الغلبة التي وعد الله بها عباده المؤمنين، لكنهم يستبعدون قريباً، ويستعلجون أمراً آتياً لا ريب فيه.
وقد سجَّل القرآن عليهم مثل هذا الموقف في قوله تعالى حكاية عن الكفار يقولون لرسولهم: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [الأعراف: 70]
كلمة (الفتح) إنْ جاءت مُعرَّفة بأل فخيرها مضمون، فاعلم أنها
نعمة محروسة لك سينالك نفعها، فإنْ جاءت نكرة فلا بُدَّ لها من متعلق يوضح الغاية منها: أهذا الفتح لك أم عليك؛ فقوله تعالى في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم َ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} [الفتح: 1] دلَّ على أن هذا الفتح لصالحه صلى الله عليه وسلم َ، فهو غُنْم لا غُرْم، كما يقولون في حسابات البنوك: له وعليه.
أما الأخرى، ففي قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ
…
} [الأنعام: 44]
إذن: تنبَّه لما يفتحه الله عليك؛ ولا تغتَرَّ به، وتأمَّل: أهو لك أم عليك؟ وإياك أنْ تُطغيك النعمة إذا (زهزهتْ) لك الدنيا، فلعلها استدراج وأنت لا تدري، فالفتح يحتمل المعنيين، واقرأ إنْ شئتَ: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض
…
} [الأعراف: 96] أي: احذروا هذه النعمة لا تطغيكم.
وكلمة (الفتح) تأتي بمعانٍ متعددة، يحددها السياق، كما قلنا في كلمة العين، فتأتي بمعنى العين الباصرة. تقول: رأيت فلاناً بعيني، وتقول: جُدْت على فلان بعيْن مني أي: بالذهب أو الفضة، وتقول: سمحتُ له أنْ يروي أرضه من عيني أي: عين الماء، وتقول: هؤلاء عيون فلان أي: جواسيسه.
وهذا يسمونه: المشترك اللفظي.
وكلمة (الفتح) تستخدم أولاً في الأمر المادي، تقول: فتحتُ الباب أي: أزلت مغاليقه، وهذا هو الأصل في معنى الفتح. فالحق سبحانه يقول في قصة سيدنا يوسف عليه السلام: {وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ
…
} [يوسف: 65] ففتحوا متاعهم الفتح المادي الذي يزيل عنه الأربطة.
وقد يُراد الفتح المعنوي، كما في قول الله تعالى: {وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ قالوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ
…
} [البقرة: 76] أي: بما أعطاكم الله ومنحكم من الخير ومن العلم.
ويأتي الفتح بمعنى إظهار الحق في الحكم بين حق وباطل وتجلية الأمر فيه؛ لذلك يسمى أهل ُ اليمن القاضي (الفاتح) .
ويأتي بمعنى النصر والغلبة، كما في هذه الآية التي معنا:{وَيَقُولُونَ متى هذا الفتح إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [السجدة: 28] ولا بد أنْ يقول المؤمنون في إجابة هذا السؤال: نحن لا نقول أننا صادقون أو كاذبون في هذا الخبر؛ لأن هذه مسألة بعيدة عنا، ولا دخْلَ لنا بها، إنما هي من الله الذي أخبرنا هذا الخبر، فنحن لا نُوصَف فيه، لا بصدق ولا بكذب.
ولكي يكون الإنسان عادلاً ينبغي أنْ ينسب الفعل إلى فاعله، أرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ حين أخبر قومه خبر إسرائه قال:«لقد أُسْرِي بي الليلة من مكة إلى بيت المقدس» ولم يقل سريت ومع ذلك سأله القوم: أتدَّعى أنك أتيتها في ليلة، ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً؟ وهذه مغالطة منهم، لا عدم فهم لمقالة رسول الله؛ لأنهم أمة كلام، ويفهمون جيداً معاني الألفاظ.
إذن: رسول الله ما سَرَى بذاته، إنما أَسْرى الله به، فمَنْ أراد أن يبحث هذه المسألة فليبحثها في ضوء قدرة الله، وكيف يكون الزمن بالنسبة لله تعالى، وقلنا: إن الفعل الذي يستغرق زمناً هو
الفعل العلاجي، إنما ربنا تبارك وتعالى لا يعالج الأفعال، فقط يقول كُنْ فيكون، والفعل يتناسب مع زمنه تناسباً عكسياً، فكلما زادت قوة الفاعل قَلَّ زمن الفعل. وعليه لو نسبتَ حادثة الإسراء إلى قوة الحق تبارك وتعالى لوجدتَ الزمن لا زمن.
ثم يجيب الحق تبارك وتعالى عن سؤالهم {متى هذا الفتح. .} [السجدة: 28] بما يفيد أنه سؤال استبعاد واستهزاء، فيقول سبحانه: {قُلْ يَوْمَ الفتح
…
} .
أي: لِمَ تسألون عن يوم الفتح؟ وماذا ينفعكم العلم به؟ إن يوم الفتح إذا جاء أُسْدل الستار على جرائمكم، ولن تنفعكم فيه توبة أو إيمان، ولن تنفعكم فيه توبة أو إيمان، ولن يُنْظِرَكم الله إلى وقت آخر.
ومعلوم أن الإيمان لا ينفع صاحبه إلا إذا كانت لديه فُسْحة من الوقت، أما الإيمان الذي يأتي في النزع الأخير، وإذا بلغت الروح الحلقوم فهو كإيمان فرعون الذي قال حين أدركه الغرق:{قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلَاّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} [يونس: 90] فردَّ الله عليه هذا الإيمان {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين} [يونس: 91]
الآن لا ينفع منك إيمان؛ لأنك مُقْبل على الله، وقد فات أوان العمل، وحَلَّ أوان الحساب، الإيمان أنْ تؤمن وأنت حريص صحيح تستقبل الحياة وتحبها، الإيمان أن تؤمن عن طواعية.