الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذه الأُسْوة لمَنْ؟ {لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر وَذَكَرَ الله كَثِيراً} [الأحزاب: 21]
وصف ذكر الله بالكثرة؛ لأن التكاليف الإيمانية تتطلب من النفس استعداداً وتهيؤاً لها، وتؤدي إلى مشقة، أما ذِكْر الله فكما قُلْنا لا يكلفك شيئاً، ولا يشق عليك؛ لذلك قال تعالى: {وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ
…
} [العنكبوت: 45]
يعني: أكبر من أيِّ طاعة أخرى؛ لأنه يسير على لسانك، تستطيعه في كل عمل من أعمالك، وفي كل وقت، وفي أيِّ مكان، ولذلك قُلْنا في آية الجمعة: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً
…
} [الجمعة: 10]
أي: لما رأى المؤمنون الأحزاب منصرفين مهزومين {قَالُواْ هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ. .} [الأحزاب:
22]
أي: هذا النصر، وهذا الوعد الذي تحقق ما زادهم {إِلَاّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب: 22]
وهذه المسألة دليل من أدلة أن الإيمان يزيد وينقص، فالإيمان يزيد بزيادة الجزئيات التي تُعليه، فبعد الإيمان بالحق سبحانه وتعالى هناك إيمان بالجزئيات التي تثبت صِدْق الحق في كلِّ تصرف.
وتسليماً: أي لله في كلِّ ما يُجريه على العباد.
نزلت هذه الآية في جماعة من المؤمنين صادقي الإيمان، إلا أنهم لم يشهدوا بدراً ولا أُحُداً، ولكنهم عاهدوا الله إنْ جاءت معركة أخرى لَيُبَادِرُونَّ إليها، ويبلُون فيها بلاءً حسناً.
وورد أنها نزلت في أنس بن النضر، فقد عاهد الله لما فاتته بدر لو جاءت مع المشركين حرب أخرى لَيبلونَّ فيها بلاء حسناً، وفعلاً لما جاءت أُحُد أبلى فيها بلاءً حسناً حتى استشهد فيها، فوجدوا جسده في نيِّفاً وثمانين طعنةً برمح، وضربة بسيف، وهذا معنى
{صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ. .} [الأحزاب: 23]
وساعة تسمع كلمة {رِجَالٌ. .} [الأحزاب: 23] في القرآن، فاعلم أن المقام مقام جدٍّ وثبات على الحق، وفخر بعزائم صُلْبة لا تلين، وقلوب رسخ فيها الإيمان رسوخ الجبال، وهؤلاء الرجال وَفَّوا العهد الذي قطعوه أمام الله على أنفسهم، بأنْ يبلُوا في سبيل نصرة الإسلام، ولو يصل الأمر إلى الشهادة.
وقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ. .} [الأحزاب: 23] قضى نحبه: أي أدَّى العهد ومات، والنحب في الأصل هو النذر، فالمراد: أدى ما نذره، أو ما عاهد الله عليه من القتال، ثم اسْتُعمِلَت (النحب) بمعنى الموت.
لكن، ما العلاقة بين النذر والموت؟ قالوا: المعنى إذا نذرتَ فاجعل الحياةَ ثمناً للوفاء بهذا النذر، وجاء هذا التعبير {فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ. .} [الأحزاب: 23] لتعلم أن الموت يجب أن يكون منك نذراً. أي: انذر لله أنْ تموت، لكن في نُصْرة الحق وفي سبيل الله، فكأن المؤمن هو الذي ينذر نفسه وروحه لله، وكأن الموت عنده مطلوب ليكون في سبيل الله.
فالمؤمن حين يستصحب مسألة الموت ويستقرئها يرى أن جميع الخَلْق يموتون من لُدن آدم عليه السلام حتى الآن؛ لذلك تهون عليه حياته ما دامت في سبيل الله، فينذرها ويقدمها لله عن رضا، ولِمَ لا وقد ضحيتَ بحياة، مصيرها إلى زوال، واشتريتَ بها حياة باقية خالدة مُنعَّمة.
وقد ورد في الأثر: «ما رأيتُ يقيناً أشبه بالشك من يقين الناس بالموت» ومع أننا نرى الموت لا يُبقى على أحد فينا إلا أن كل
إنسان في نفسه يتصور أنه لن يموت.
وحَقٌّ للمؤمن أنْ ينذر نفسه، وأنْ يضحي بها في سبيل الله؛ لأن الله يقول:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ وَأَنَّ الله لَا يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين} [آل عمران: 169 - 171]
وهذه الحياة التي عند الله حياة على الحقيقة، لأن الرزق سِمة الحيِّ الذي يعيش ويأكل ويشرب.
. إلخ، وإياك أنْ تظن أنها حياة معنوية فحسب.
وقد تسمع مَنْ يقول لك: هذا يعني أنني لو فتحتُ القبر على أحد الشهداء أجده حياً في قبره؟ ونقول لمن يحب أنْ يجادل في هذه المسألة: الله تعالى قال: {أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ
…
} [آل عمران: 169] ولم يقل: أحياء عندك، فلا تحكم على هذه الحياة بقانونك أنت، لا تنقل قانون الدنيا إلى قانون الآخرة.
والمؤمن ينبغي أن يكون اعتقادة في الموت، كما قال بعض العارفين: الموت سهم أُرسِل إليك بالفعل، وعمرك بقدر سفره إليك.
والقرآن حين يعالج هذه المسألة يقول تعالى: {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الذي خَلَقَ الموت والحياة
…
} [الملك: 1 - 2] فقدَّم الموت على الحياة، حتى لا نستقبل الحياة بغرور الحياة، إنما نستقبلها مع نقيضها حتى لا نغترَّ بها.
وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ. .} [الأحزاب: 23] أي: ينتظر الوفاء بعهده مع الله، وكأن الله تعالى يقول: الخير فيكم يا أمة محمد