الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إذن: فالإنسان حينما يعلم أن له سنداً من ألوهية قادرة وربوبية لا تُسلمه يستقبل الحوادث بقوة، ويقين، ورضا، وإيمان بأنه لن يُسْلَم أبداً ما دام له إيمان برب، وكلمة رب هذه ستأتي على باله قَسْراً في وقت الشدة، حين يخذله الناس وتُعْييه الأسباب، فلا يجد إلا الله - حتى ولو كان كافراً لقال في الشدة: يارب.
وقوله تعالى: {مِّن دُونِهِ. .} [السجدة: 4] يعني: لا يوجد غيره، وإنْ وُجِد غَيْرٌ فبتحنين الله للغير عليك، فالخير أيّاً كان فمردُّه إلى الله.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء
…
} .
في هذه الآية ردٌّ على الفلاسفة الذين قالوا بأن الله تعالى قادر وخالق، لكنه سبحانه زاول سلطانه في مُلْكه مرة واحدة، فخلق النواميس، وخلق القوانين، ثم تركها تعمل في إدارة هذا الكون، ونقول: لا بل هو سبحانه {يُدَبِّرُ الأمر. .} [السجدة:
5]
أي: أمْر الخَلْق، وهو سبحانه قيُّوم عليه.
وإلا فما معنى {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ
…
} [البقرة: 255] إن قُلْنا بصحة ما تقولون؟ بل هو سبحانه خلق الكون، ويُدبِّر شئونه على عينه عز وجل، والدليل على قيوميته تعالى على خَلْقه أنه خلق الأسباب على رتابة خاصة، فإذا أراد سبحانه خَرْق هذه الرتابة
بشواذ تخرج عن القوانين المعروفة كما خرق لإبراهيم عليه السلام قانون الإحراق، وكما خرق لموسى عليه السلام قانون سيولة الماء، ومسألة خَرْق القوانين في الكون دليل على قيوميته تعالى، ودليل على أن أمر الخَلْق ما يزال في يده سبحانه.
ولو أن المسألة كما يقول الفلاسفة لكان الكون مثل المنبه حين تضبطه ثم تتركه ليعمل هو من تلقاء نفسه، ولو كان الأمر كذلك لانطفأتْ النار التي أُلقِي فيها إبراهيم عليه السلام مثلاً.
لذلك لما سُئِل أحد العارفين عن قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] ما شأن ربك الآن، وقد صحَّ أن القلم قد جفَّ؟ قال: أمور يبديها ولا يبتديها، يرفع أقواماً ويضع آخرين.
إذن: مسألة الخَلْق إبداء لا ابتداء، فأمور الخَلْق مُعدَّة جاهزة مُسْبقاً، تنتظر الأمر من الله لها بالظهور.
وقلنا هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] فكلمة {يَقُولَ لَهُ
…
} [يس: 82] تدل على أن هذا الشيء موجود بالفعل ينتظر أنْ يقول الله له: اظهر إلى حيِّز الوجود.
فالحق سبحانه {يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض. .} [السجدة: 5] ثم تعود إليه سبحانه النتائج {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ. .} [السجدة: 5] فالله سبحانه يرسل إلى الأرض، ثم يستقبل منها؛ لأن المدبِّرات أمراً من الملائكة لكل منهم عمله واختصاصه، وهذه المسألة نسميها في عالمنا عملية المتابعة عند البشر، فرئيس العمل يكلف مجموعة من موظفيه بالعمل، ثم لا يتركهم إنما يتابعهم ليستقيم العمل، بل ويحاسبهم كلاً بما يستحق.
والملائكة هي التي تعرج بالنتائج إليه سبحانه {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة: 5] فالعود سيكون للملائكة، وخَطْو الملائكة ليس كخَطْوِك؛ لذلك الذي يعمله البشر في ألف سنة تعمله الملائكة في يوم.
ومثال ذلك ما قرأناه في قصة سليمان عليه السلام حين قال: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 38]
وهذا الطلب من سليمان عليه السلام كان على ملأ من الإنس والجن، لكن لم يتكلم بشريٌّ، ولم يتصدَّ أحد منهم لهذا العمل، إنما تصدّى له عفريت، وليس جِنِّياً عادياً، والعفريت جنى ماهر له قدراته الخاصة، وإلا ففي الجن أيضاً من هو (لبخة) لا يجيد مثل هذه المهام، كما في الإنسان تماماً.
قال العفريت: {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ
…
} [النمل: 39] وهذا يعني أنه سيتغرق وقتاً، ساعة أو ساعتين، أما الذي عنده علم من الكتاب فقال: {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ
…
} [النمل: 40]