الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قالوا: إذا كان العبد يشكر ربه، وقد علَّمه الله: أن الذي يحيِّيك بتحية ينبغي عليك أنْ تُحيِّيَه بأحسن منها، فربُّك يعاملك هذه المعاملة، فإنْ شكرْتَهُ يزدك، فهذه الزيادة شُكْر لك على شُكْرك لربك. أي: مكافأة لك.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ
…
} .
قوله تعالى {مِن شَجَرَةٍ. .} [لقمان:
27]
مِنْ: هنا تفيد العموم أي: من بداية ما يُقال له شجرة، وفرق بين أنْ تقول: ما عندي مال، وما عندي من مال، فالأولى لا تمنع أن يكون عندك القليل من الله الذي لا يُعتدُّ به، أمّا (من مال) فقد نفيت جنس المال قليله وكثيره. وتقول: ما في الدار أحد. وربما يكون فيها طفل مثلاً أو امرأة، أمّا لو قلْتَ: ما في الدار من أحد، فهذا يعني خُلوها من كل ما يقال له أحد.
والشجرة: هي النبات الذي له ساق، وقد تشابكتْ أغصانها، ومن ذلك قوله تعالى: {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ
…
} [النساء: 65]
أما النبات الذي ليس له ساق فهو العُشْب أو النجم الذي ينتشر على سطح الأرض، خاصة بعد سقوط الأمطار، وهذا لا تُؤخذ منه الأقلام، إنما من الشجرة ذات الغصون والفروع.
وقد ذكر القرآن الكريم هذين النوعين في كلام معجز، فقال سبحانه:{الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 5 - 6] فالشمس والقمر {بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] أي: حساب دقيق محكم؛ لأن بهما حساب الزمن، {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6] أي: في خضوع لله تعالى.
وكلمة النجم هنا يصح أنْ تُضاف إلى الشمس والقمر، ويصح أنْ تضاف للشجر، فهو لفظ يستخدم في معنى، ويؤدي معنى آخر بضميمة ضميره.
وقد تنبه الشاعر إلى هذه المسألة، فقال:
أُرَاعِي النجْمَ في سَيْرِى إليكُمُ
…
ويرعَاهُ مِنَ البَيْدا جَوادِي
فهو ينظر إلى نجم السماء ليهتدي به في سيره، ويرعى جواده نَجْم الأرض، ومن ذلك أيضاً كلمة العين، فتأتي بمعنى الذهب والفضة، وبمعنى الجاسوس، وبمعنى عين الماء، وبمعنى العين المبصرة.
ومعنى: {والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ. .} [لقمان: 27] أي: يُعينه ويساعده إنْ نفذ ماؤه. ولك هنا أن تسأل: لماذا جعل الإمداد للماء، ولم يجعله للشجر؟ قالوا: لأن القلم الواحد يكتب بحبر كثير لا حَصْر له، فالحبر مظنة الانتهاء، كما أن الشجر ينمو ويتجدد، أما ماء البحر فثابت لا يزيد.
واقرأ أيضاً في هذه المسألة: {قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} [الكهف: 109]
والعدد سبعة هنا {سَبْعَةُ أَبْحُرٍ. .} [لقمان: 27] لا يُراد به العدد،
إنما يراد به الكثرة كما في قوله تعالى: {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ
…
} [الطلاق: 12] فهذه مجرتنا الشمسية، فما بالك بالسموات في المجرات الأخرى، وقد علمنا أن السماء هي كل ما علاك فأظلك.
إذن: يرد العدد سبعة على سبيل الكثرة، والعرب كانوا يعتبرون هذا العدد نهاية للعدد؛ لأن العدد معناه الأرقام التي تبين المعدود، فهناك فرق بين العدد والمعدود، ولما تبينّا هذا الفرق استطعنا أنْ نرد على المستشرقين في مسألة تعدد الزوجان، فالعدد يعني 1، 2، 3، 4، 5 أما المعدود، فما يميز هذه الأعداد.
والرسول صلى الله عليه وسلم َ حينما أراد أن يُنهي التعدد المطلق للزوجات لما أنزل الله عليه أن يأمر الناس أن مَنْ معه أكثر من أربع زوجات أنْ يُمسك أربعاً منهن ويفارق الباقيات.
وكان عند رسول الله في هذا الوقت تسع زوجات لم يشملهُنَّ هذا الحكم، فقالوا: لماذا استثنى الله محمداً من هذا الحكم؟ وكيف يكون عنده تسع، وعند امته أربع؟ ولم يفطنوا إلى مسألة العدد والمعدود: هل استثنى الله تعالى رسوله في العدد، أم في المعدود؟
نقول: استثناه في المعدود؛ لأنه تعالى خاطب نبيه في آية أخرى: {لَاّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ
…
} [الأحزاب: 52] ففرض على رسول الله أنْ يقتصر على هؤلاء، لا يزيد عليهن، ولا يتزوج بعدهن حتى لو مُتْنَ جميعاً.
إذن: لم يستثنه في العدد، وإلا لكان من حقِّه إذا ماتت واحدة من زوجاته أنْ يتزوج بأخرى، وإنْ مُتْن جميعاً يأتي بغيرهن.
ولك أن تقول: ولماذا جعل الله الاستثناء في المعدود لا في العدد؟ قالوا: لأن زوجات غير النبي صلى الله عليه وسلم َ إذا طلَّقها زوجها لها أن تتزوج بغيره، لكن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم َ أمهات للمؤمنين ومحرمات عليهم، فإنْ طلَّق رسول الله إحدى زوجاته بقيت بلا زواج.
لذلك أُمِر رسول الله أنْ يمسك زوجاته التسع، شريطة ألَاّ يزيد عليهن، في حين يُباح لغيره أن يتزوج بأكثر من تسع، بشرط ألَاّ يبقى معه أكثر من أربع، وعليه، فهذا الحكم ضيَّق على رسول الله في هذه المسألة في حين وسَّع على أمته.
ونعلم أنَّ معظم زوجات النبي كُنَّ كبيرات في السِّن، وبعضهن كُنَّ لا إرْبة لهن في مسألة الرجل، لكنهن يحرصن على شرف الانتساب لرسول الله، وعلى شرف كَوْنهن أمهات المؤمنين؛ لذلك كانت الواحدة منهن تتنازل عن قَسمْها في البيتوتة لضرتها مكتفية بهذا الشرف.
إذن: التفريق بين العدد والمعدود خلَّصنا من إفك المستشرقين، ومن تحاملهم على رسول الله واتهامهم له بتعدد الزوجات، وأنه صلى الله عليه وسلم َ وسَّع على نفسه وضيَّق على أمته.
ومسألة العدد والمعدود هذه مسألة واسعة حيّرت حتى الدارسين للنحو، فلا إشكال في العدد واحد والعدد اثنان؛ لأننا نقول في المفرد المذكر: واحد والمؤنث: واحدة. وللمثنى المذكر: اثنان،
وللمؤنث: اثنتان. فالعدد يوافق المعدود تذكيراً وتأنيثاً، لكن الخلاف يبدأ من العدد ثلاثة، حيث يذكَّر العدد مع المعدود المؤنث، ويُؤنَّث مع المعدود المذكَّر، فمن أين جاء هذا الاختلاف؟
قالوا: لاحظ أن التذكير هو الأصل؛ ولذلك احتاج التأنيث إلى علامة، أما المذكَّر وهو الأصل فلا يحتاج إلى علامة، تقول: قلم. وتقول: دواة. فاحتاجت إلى علامة للتأنيث فهي الفرع والمذكر هو الأصل.
وتعالَ إلى الأعداد من ثلاثة إلى عشرة، تقول: ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة
…
إلخ فالعدد نفسه مبنيٌّ على التاء، وليست هي تاء التأنيث، لأنها أعداد مجردة بلا معدود، فإذا أردنا تأنيث هذا العدد وبه تاء لا نضيف إليه تاءً أخرى، إنما نحذف التاء فيكون الحذف هو علامة التأنيث ويبقى العدد مع المذكر على الأصل بالتاء.
فما حكاية العدد سبعة بالذات؟ قالوا: إن العدد واحد هو الأصل في الأعداد؛ لأن العدَّ ينشأ من ضم واحد إلى آخر، فواحد هو الخامة التي تتكون منها الأعداد فتضم واحداً إلى واحد وتقول: اثنان وتضم إلى الاثنين واحداً، فيصير العدد ثلاثة. . وهكذا.
ومعلوم أن أقلَّ الجمع ثلاثة، والعدد إما شفع وإما وتر، الشفع هو الذي يقبل القسمة على الاثنين، والوتر لا يقبل القسمة على الاثنين، والله تعالى يقول:{والشفع والوتر} [الفجر: 3] فبدأ بالشفع وأوله الاثنان ثم الثلاثة، وهي أول الوتر، أما الواحد فقد تركناه لأنه كما قلنا الخامة التي يتكون منها جميع الأعداد.
وما دام الله تعالى قال: {والشفع والوتر} [الفجر: 3] فالاثنان أول الشفع، والثلاثة أول الوتر، وأربعة ثاني الشفع، وخمسة ثاني
الوتر، وستة ثالث الشفع، وسبعة ثالث الوتر.
وقلنا: إن الجمع أقلُّه ثلاثة، فاعتبرت العرب العدد سبعة أقصى الجمع وتراً وزوجاً، وانتهت عند هذا العدد، فإذا أرادوا العدَّ أكثر من ذلك أتوْا بواو يسمونها واو الثمانية، وقد سار القرآن الكريم في أحكام العدد هذه على ما سارت عليه العرب.
واقرأ إنْ شئت هذه الآيات: {وَسِيقَ الذين كفروا إلى جَهَنَّمَ زُمَراً حتى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا
…
} [الزمر: 71]
أما في الجنة فيقول سبحانه: {وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا
…
} [الزمر: 73]
فما الفرق بين الآيتين؟ ولماذا جاءت الواو في الثانية، ولم تُذْكر في الأولى؟
قالوا: لأن {فُتِحَتْ
…
} [الزمر: 71] في الأولى جواب شرط، وهذا الجواب كانوا يُكذِّبونه وينكرونه. والشرط تأسيس {حتى إِذَا جَآءُوهَا
…
} [الزمر: 71] ماذا حدث؟ {فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا
…
} [الزمر: 71] إنما هل كان المؤمنون المتقون الذين يذهبون إلى الجنة يُكذِّبون بهذا اليوم؟
إذن ف: {فُتِحَتْ
…
} [الزمر: 71] هنا لا تكون جواباً؛ لأنهم يعلمون يقيناً أنها ستفتح، أما الجواب فسيأتي في:{وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} [الزمر: 73 - 74]
ولما كانت أبواب النار سبعة لم يذكر الواو، أما في الجنة فذكر
الواو، لأن أبوابها ثمانية.
كذلك اقرأ قول الله تعالى ولاحظ متى تستخدم الواو: {عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} [التحريم: 5]
تجد الواو قبل الثمانية، ذلك لأن العرب تعتبر السبعة منتهى العدد بما فيه من زوج وفرد.
وقوله تعالى: {والبحر يَمُدُّهُ. .} [لقمان: 27] أي: يُجعل مِداداً لكلمات الله {مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله.
.} [لقمان: 27] كلمات الله هي السبب في إيجاد المقدورات العجيبة؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] فكل مراد من شيء سببه كن.
وهنا عجيبة ينبغي أنْ نتأملها: فالله تعالى يقول للشيء وهو لم يُخْلق بعد (كن) ، كأن كل الأشياء موجودة في الأزل ومكتوبة، تنتظر هذا الأمر (كن) ، فتبرز إلى الوجود، كما يقول أهل المعرفة: أمور يبديها ولا يبتديها.
إذن: {كَلِمَاتُ الله. .} [لقمان: 27] هي كن وكل مرادات الله في كونه، ما علمنا منه وما سنعلم، وما لم نعلم إلا حين تقوم الساعة.
ألم يَقُلْ في العجيب من أمر عيسى عليه السلام {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ
…
} [النساء: 171] والمعنى أنه لم يُخلق بالطريق
الطبيعي في خَلْق البشر من أب وأم، إنما خَلِق بهذه الكلمة (كن) . لماذا؟
لأن الله تعالى يريد أنْ يثبت لنفسه طلاقة القدرة في الإيجادات وأنه سبحانه يخلق كما يشاء، فمرة يخلق بلا أب وبلا أم، كما خلق آدم عليه السلام، ومرة يخلق بأم دون أب كما خلق عيسى عليه السلام، ومرة يخلق بأب وأم، ويخلق بأب دون أم كما خلق حواء.
إذن: القسمة العقلية موجودة بكل وجوهها.
إذن: مع طلاقة القدرة لا اعتبارَ للأسباب، فأنت إنْ أردتَ أنْ تكوِّن مثلاً قطرة الماء، فعليك أن تأتي بالأكسوجين والأيدروجين بطريقة معينة ليخرج لك الماء وإلا فلا، أما الخالق عز وجل فيخلق بالأشياء وبدون شيء، لأن الأشياء بالنسبة لله تعالى ليست فاعلة بذاتها، وإنما هي فاعلة بمراد الله فيها.
ثم يقول سبحانه: {إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 27] والعزيز هو الذي يَغلب ويَقْهر ولا يُقهر، ولا يستدرك أحد على فعله حتى لو كان مخالفا لعقله هو، وتأمل معنى العزة، وكيف وردت في هذا الموقف من قوله تعالى لسيدنا عيسى عليه السلام. {وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَاّمُ الغيوب} [المائدة: 116] إلى أن يقول: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [المائدة: 118]
والمنطق العقلي يقتضي أن نقول في عرف البشر: فإنك أنت الغفور الرحيم، فالمقام مقام مغفرة، لكن عيسى عليه السلام يأتي
بها، لا من ناحية الغفران والرحمة، وإنما من ناحية طلاقة القدرة والعزة التي لا يستدرك عليها أحد. {فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [المائدة: 118] والمعنى: لو قال الناس لماذا غفرتَ لهم مع أنهم قالوا كذا وكذا؟ فالإجابة أنني أنا العزيز الذي أغلب ولا أُغلب، ولا يستدرك أحد على حكمي، إذن: ذيَّل الآية بالعزة لعزة الله تعالى في خَلْقه.
ثم يقول الحق سبحانه: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا
…
} .
الحق سبحانه وتعالى يؤكد دائماً على قضية البعث والقيامة، ويريد سبحانه أنْ ينصب للناس في حركة حياتهم موازين الجزاء؛ لأن كل عمل لا توجد فيه موازين للجزاء يعتبر عملاً باطلاً، ولا يمكن أنْ يستغنى عن الجزاء ثواباً وعقاباً إلا مَنْ كان معصوماً او مُسخَّراً، فالمعصوم قائم دائماً على فِعْل الخير، والمسخّر لا خيارَ له في أنْ يفعل أو لا يفعل.
إذن: إذا لم يتوفر مبدأ الجزاء ثواباً وعقاباً في غير هذين لا بُدَّ أنْ يوجد فساد، إذا لم يُثب المختار على الفعل، ويعاقب على الترك اضطربت حركة الحياة، حتى في المجتمعات التي لا تؤمن بإله وضعت لنفسها هذا القنون، قانون الثواب والعقاب.
والحق سبحانه وتعالى يعطينا مثالاً لهذا المبدأ في قوله تعالى من قصة ذي القرنين: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً} [الكهف: 84 - 85]
أراد الحق سبحانه أن يبين أن الرجل الممكّن في الأرض له مهمة، هذه المهمة هي شكر الله على التمكين ولا يكون إلا بإقامة ميزان العدالة في الكون {حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس
…
} [الكهف: 86] أي: في رأي العين، وإلا فهي لا تغرب أبداً، إنما تغرب عن جماعة في مكان، وتشرق على جماعة في مكان آخر. {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا ياذا القرنين إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} [الكهف: 86]
ولا يُفوِّض إنسان في أنْ يُعذِّب أو يتخذ الحسنى إلا إذا كانت لديه مقاييس وميزان العدالة، وقد قال الله عنه:{وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} [الكهف: 84] أي: نعمة وميزاناً لتوزيع هذه النعمة، فلم تقتصر نعمة الله عليه في أنه صاحب سلطان وجبروت، إنما عنده المقوِّمات الحياتية، وعنده ميزان العدالة الذي يضبط استطراق النِّعَم في الكون كله.
فالذي خُيِّر في أنْ يفعل أو لا يفعل أراد أنْ يبين منهجه في أنه لم يأخذ الاختيار وسيلة لتثبيت الأهواء؛ لذلك قال بعدها: {قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً} [الكهف: 87] هذا هو العقاب {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} [الكهف: 88] أي: بعد أنْ ينال ثوابه، نعطيه فوق ذلك حوافز تشجعه، ونقيم له حفلة تكريم لنغري غيره بأن يسلك مسلكه.
إذن: فقضية الثواب والعقاب أمر لازم، وإذا كان هذا في الأمور الحياتية الجزئية، فهو أَوْلى في أمور الدين والقيم التي تسيطر على كل موازين الحياة، لا بُدَّ من وقت للثواب وللعقاب، وإلا استشرى
الظلم واغتال الناس، وقضى عليهم وأخذ منهم كل مُتع الحياة، فانتفع بذلك المفسد، وخاب كل مَن التزم بدين الله وقيم منهجه.
لذلك تجد الحق تبارك وتعالى يؤكد دائماًَ على مسألة البعث والقيامة والحساب، وترى أعداء الدين يحاولون أنْ يُشككوا في هذه القضية، وأنْ يُزحزحوا الناس عن الإيمان بها بطرق شتى.
فالفلاسفة لهم في ذلك دور، وللملاحدة دور، ولأهل الكتاب دور؛ لذلك تجد التوراة مثلاً تكاد تخلو من إشارة عن اليوم الآخر، وهذا أمر غريب لا يمكن تصوره في كتاب ودين سماوي ومنهج حياة.
وما ذلك إلا لأن أهل التوراة أرادوا أنْ يُزحزحوا الناس عن أمور عدة ليثبتوا لأنفسهم سلطة زمنية مادية، حتى إنهم طمعوا في أنْ يرتقوا بهذه السلطة حتى يصلوا إلى الله تعالى، كما حكى القرآن عنهم: {وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً
…
} [البقرة: 55]
ولما أنزل الله عليهم المنَّ، وهو مادة حُلْوة كطعم القشدة جعلها تتساقط عليهم، وأنزل عليهم السلوى، وهي طيور مثل السمان تنزل عليهم جاهزة مُعدَّة للتناول رفضوا عطية الله لهم، وطعامه الذي أُعدَّ من أجلهم، وقالوا: بل نريد طعاماً نصنعه بأيدينا، وقالوا: {لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ
…
} [البقرة: 61]، فقال لهم: {اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ
…
} [البقرة: 61]
وما دام الأمر بالنسبة لهؤلاء مادياً فلا بُدَّ أنْ يزحزح نفسه عن
الآخرة وعن القيامة والحساب، لذلك راحوا يُشكِّكون فيها، أما الفلاسفة فقالوا: حين يبعث الله إنساناً بعد الموت وقد تحللتْ أعضاؤه وصارت تراباً، ثم غرست في هذا المكان شجرة فتغذتْ من هذا التراب، وأكل إنسان آخر من ثمارها وانتقلتْ إليه بعض خلايا وجزيئات الأول، فإذا كان هناك بعث أتُبعت هذه الجزئيات مع الأول أم مع الآخر؟ فإنْ كانت مع الأول فهي نقص في الآخر والعكس. هذه هي شبهة الفلاسفة.
وقد تخبَّط الفلاسفة هذا التخبُّط؛ لأنهم لم يفطنوا إلى شيء في الوجود يعطي قيماً للغيبيات، وقد أوضحنا هذه المسألة فقلنا لهم: لو أن إنساناً يزن مائة كيلو مثلاً أصيب بمرض أفقده أربعين كيلو من وزنه، فماذا يعني هذا النقص بالنسبة للشخص نفسه؟
هذه المسألة يتحكم فيها أمران: الغذاء والإخراج، ففي فترة النمو يكون الداخل للجسم أكثر من الخارج، أما في فترة الشيخوخة مثلاً فالخارج أكثر، فإنْ توازن الأمران كانت حالة من الثبات لا يزيد فيها الشخص ولا ينقص، وهي فترة الثبات.
فالشخص الذي نقص من وزنه أربعون كيلو، ثم شفاه الله وعادت إليه عافيته حتى زاد وزنه وعاد إلى حالته الطبيعية، فهل تغيَّر الشخص حال نقصان وزنه؟ وهل تغيَّر حال عودته إلى طبيعته؟ أم ظلت الشخصية والذاتية هي هي؟
إذن: المسألة في تكوين الجسم ليست ذرات وجزئيات، إنما هي شخصية معنوية خاصة وإنْ تكوَّنت من جزيئات المادة وهي الستة عشر عنصراً التي تكوِّن جسم الإنسان، والتي تبدأ بالأكسوجين وتنتهي بالمنجنيز، وهي نفس العناصر المكوِّنة لتربة
الأرض التي نأكل منها، وهذه العناصر بنسب تختلف من شخص لآخر.
والحق سبحانه وتعالى يقول: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق: 4] يعني: نعرف ما نقص من كل إنسان: كذا في الحديد، وكذا من الأكسوجين، وكذا من الفسفور. . إلخ.
إذن: حين يبعث الله الإنسان بعد الموت يبعث هذه الشخصية المعنوية بهذه الأجزاء المعروفة، فيأتي الشخص هو هو.
ومن القضايا التي أثاروها في مسألة البعث ولالتباسات التي يحاولونها يقولون: الله تعالى يخلق الإنسان في مدة تسعة أشهر، أو ستة أشهر، يمر خلالها بعدة مراحل: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظاماً، ثم يكسو هذه العظام لحماً، هذا للإنسان الواحد، فكم تستغرق إعادة خَلْق البشر من لَدُن آدم عليه السلام حتى قيام الساعة؟
ونقول: لقد ذكرتم كيفية خَلْق سلالة الإنسان والتي تستغرق تسعة أو ستة أشهر، لكن لم تذكروا خَلْق الأصل، وهو آدم عليه السلام، وقد خلقه الله على هيئته وصورته التي كان عليها، فلم يكُنْ صغيراً وكبر، إنما خُلِق كبيراً مستوياً كاملاً، ثم نُفِخت فيه الروح.
ثم إن عناصر الفعل هي: الفعل، والفاعل، والمنفعل، يُضاف إليها الزمن الذي سيتم فيه الفعل، فأنا أريد أنْ أنقل هذه (الحملة) من هنا إلى هناك فنقلنا فعل، وأنا الفاعل، والجملة هي المنفعل ثم الزمن الذي يستغرقه الحدث، والزمن يعني توزيع جزئيات الحدث على جزيئات الزمن فإذا أردت أن تخيط ثوبا بطريقة يدوية فإنه يأخذ منك وقتاً طويلاً، فإن خِطَّه بالماكينة أخذ وقتاً أقلّ بكثير.
إذن: فزمن الفعل يتناسب مع قوة الفاعل، وتذكرون أنه في الماضي كانت الشوارع تضاء بمصابيح الزيت، وكان لكل منطقة عامل يصعد إلى سلم إلى كل فانوس ليشعله، أما الآن فتستطيع أن تنير مدينة بأكملها بضغط زر واحد. إذن: كلما زادتْ القوة قلَّ الزمن.
فتعال إذن إلى مسألة البعث والإعادة بعد الموت: أهي بقوتك أنت لتحسبها بما يناسب قوتك وقدرتك؟ إنها بقوة الله عز وجل، والله لا يعالج الأمور كما نفعل ولا يزاولها، إنما يفعل سبحانه بكُنْ. إذن: فالفعل بالنسبة لله تعالى لا يحتاج إلى زمن تُوزَّع فيه جزئيات الفعل على جزئيات الزمن.
ولمَ تستبعد هذا في حقَّ الله تعالى، وقد أعطاك ربك طرفاً منه رغم قدرتك المحدودة؟ ألستَ تجلس في مثل هذا المجلس فترانا جميعاً مرة واحدة في نظرة واحدة، كذلك تسمع الجميع دفعة واحدة؟ ألستَ تقوم بمجرد أن تريد أنْ تقوم، وتنفعل جوارحك لك بمجرد أنْ يخطر الفعل على بالك؟ أتفكر أنت في العضلات التي تحركتْ والإشارات التي تمتْ بداخلك لتقوم من مجلسك؟
وقد سبق أنْ أوضحنا هذه المسألة حين قارنَّا حركة الإنسان في سلاستها وطواعية الجوارح لمراد صاحبها بحركة الحفار مثلاً، فهو لا يؤدي حركة إلا بالضغط على زر خاص بها.
فإذا كنت أنت أيها العبد تنفعل لك جوارحك وأعضاؤك بمرادك في الأشياء، فهل تستبعد في حق الله أنْ يفعل بكلمة كُنْ؟ كيف وأنت ذاتك تفعل بدون أنْ تقولها؟ مجرد الإرادة منك تفعل ما تريد.
فإنْ قلتَ: كيف يفعل الحق سبحانه بكلمة كُنْ، وأنا أفعل بدون أنْ أقولها؟ نقول: نعم أنت تفعل بدون كُنْ؛ لأن الأشياء ليست
منفعلة لك أنت، إنما هي مُسخَّرة بكُنْ الأولى حين قال الله لها كوني مُسخَّرة لإرادته، إذن: أنا أفعل بدون كُنْ؛ لأنها ليست في مقدوري أنا، فكأن كُنْ الأولى من الله تعالى هي كُنْ لنا جميعاً.
وبهذا الفهم استطعنا تفسير حادثة الإسراء والمعراج، واستطعنا الرد على منكريها، فالله يقول: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى
…
} [الإسراء: 1]
فلما سمع الكفار بالحادثة أنكروها وقالوا: كيف ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً؟ نعم أنتم تضربون إليها أكباد الإبل شهراً؛ لأن فعلكم يحتاج إلى زمن ومزاولة نوزع فيها جزئيات الفعل على جزئيات الزمن، أمَّا محمد فلم يقُلْ سريتُ، فيكون في الفعل كأحدكم إنما قال: أُسرِي بي.
إذن: فهو محمول على قدرة أخرى، فالفعل لا يُنسب إليه إنما إلى حامله إلى الله، وقلنا: كلما زادتْ القوة قلَّ الزمن، فإذا كانت القوة قوة الحق تبارك وتعالى فلا زمن؛ لذلك يقول سبحانه في مسألة الخلق والإعادة:{مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَاّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ. .} [لقمان: 28]
فالأمر يسير على الله؛ لأن خَلْق النفس الواحدة وخَلْق جميع الأنفس يتم بكُنْ، فالمسألة لا تحتاج إلى تسعة أو ستة أشهر.
وضربنا مثلاً لتوضيح هذه المسألة بصناعة الزبادي مثلاً، فأنت تأتي باللبن وتضع عليه المادة المعروفة وتتركه في درجة حرارة معينة فيتحول تلقائياً إلى الزبادي الذي تريده، فهل جلستَ أمام كل
علبة تُحوِّلها بنفسك، أم أنك عملت العملية المعروفة في هذه الصناعة، ثم تركت هذه المواد تتفاعل بذاتها؟
كذلك شاء الله تعالى أنْ يوجد الإنسان جنيناً في بطن أمه، وأن تجري عليه أمور النمو بطبيعتها، إذن: خَلْق الإنسان لا يقاس بالنسبة لله تعالى بالزمن، وقد حَلَّ لنا الإمام علي كرم الله وجهه هذه القضية حينما سُئِل: كيف يحاسب الله الناس جميعاً من لَدُن آدم عليه السلام إلى قيام الساعة في وقت واحد؟
فقال: يحاسبهم جميعاً في وقت واحد، كما أنه يرزقهم جميعاً في وقت واحد؛ لأنه سبحانه لا يشغله شأن عن شأن.
ثم يذيل الحق سبحانه هذه الآية بقوله تعالى: {إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [لقمان: 28] سميع بصير صيغة مبالغة من السمع والبصر، وقلنا: إنك وأنت العبد المخلوق تستطيع أن ترى هذا الجمع مرة واحدة في نظرة واحدة، وكذلك تسمعه، فما بالك بسمَعْ الله تعالى وبصره؟
ثم يقول الحق سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله
…
} .