الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبعض أهل المعرفة والشطح يقولون: الله قدَّم الإحسان أولاً، فيجب على العبد أن يأتي بالإحسان جزاء الإحسان؛ لأنه {هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلَاّ الإحسان} [الرحمن: 60]
وحين يُحسِن العبد في التكليف يُحيِّيه ربه بإحسان آخر، فيرد العبد على إحسان ربه إليه بالإحسان، وهكذا يتواصل الإحسان بين العبد وربه إلى ما لا نهاية.
ثم يقول الحق سبحانه: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً
…
} .
أولاً: نلحظ في اللفظ أن مؤمناً وفاسقاً جاءت بصيغة المفرد، فكان القياس أنْ نقول: لا يستويان، إنما سياق القرآن {لَاّ يَسْتَوُونَ} [السجدة:
18]
وسبق أنْ قُلْنا: إن (من وما) الموصولتين تأتي للمفرد أو للمثنى أو للجمع، وللمذكر وللمؤنث، فمرة يراعي السياق لفظها، ومرة يراعى معناها.
والمعنى هنا {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً} [السجدة: 18] الحق سبحانه لا يتكلم عن المفرد، إنما عن الجمع، أو أنها قيلت رداً لحالة مخصوصة بين مؤمن وكافر وأراد الحق سبحانه أن يعطيها
العموم لا خصوص السبب، فراعى السياق خصوص السبب في مؤمن وكافر، وراعى عموم الموضوع فقال {لَاّ يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] والقاعدة الفقهية تقول: إن العبرة في القرآن بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقيل: إن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين جادل علياً رضي الله عنه. فقال له: أنا أشبُّ منك شباباًً، وأجلد منك جَلَداً، وأذرب منك لساناً، وأحدُّ منك سناناً، وأشجع منك وجداناً، وأكثر منك مَرَقاً، فردَّ عليه عليٌّ - كرَّم الله وجهه - بما يدحض هذا كله ويبطله، فقال له: اسكت يا فاسق، ولا موهبة لفاسق.
والمعنى: إنْ كنت كما تقول فقد ضيعتَ هذا كله بفسقك، حيث استعملتَ قوة شبابك وجَلَدك وذَرَب لسانك وشجاعة وجدانك في الباطل وفي المعصية، وفي الصدِّ عن سبيل الله.
وهكذا جمعتْ الآية بين خصوصية هذا السبب في {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً. .} [السجدة: 18] وبين عموم الموضوع في {لَاّ
يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] ، فهذا الحكم ينسحب على الجمع أيضاً.
وجاء قوله تعالى: {لَاّ يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] كأنه جواب للسؤال {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً. .} [السجدة: 18] لكن، لماذا لم يأت الجواب مثلاً: لا يستوي المؤمن والفاسق؟ قالوا: لأن هذا الأسلوب يسمى أسلوب الإقناع التأكيدي، وهو أن تجعل الخصم هو الذي ينطق بالحكم.
كما لو قال لك صديق: لقد مررتُ بأزمة ولم تقف بجانبي. فتستطيع أنْ تقول له: وقفتُ بجانبك يوم كذا ويوم كذا - على سبيل الخبر منك، لكن الإخبار منك يحتمل الصدق ويحتمل الكذب، فتلجأ إلى أسلوب آخر لا يستطيع معه الإنكار، ولا يملك إلا الاعتراف لك بالجميل فتقول بصيغة السؤال: ألم أقدم لك كذا وكذا يوم كذا وكذا؟ وأنت لا تسأله إلا إذا وثقتَ بأن جوابه لا بُدَّ أنْ يأتي وَفْق مرادك وعندها يكون كلامه حجة عليه.
لذلك طرح الحق سبحانه هذه المسألة في صورة سؤال: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً. .} [السجدة: 18] ولا بد أن نقول نحن في جواب هذا السؤال: لا يستوي مؤمن وفاسق، ومَنْ يقُلْ بهذا فقد وافق مراد ربه.
وما دام أن المؤمن لا يستوي والفاسق، فلكل منهما جزاء يناسبه: {أَمَّا الذين آمَنُواْ
…
} .
وإنْ كانت لفظة (مؤمن) جاءت مفردة، فقد أوضحتْ هذه الآية
أن المراد الجمع {أَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات. .} [السجدة: 19] أي: العموم؛ لأنه أُخِذ مما كان مفرداً جمعاً، وهذا دليل على أن هذا المفرد في جنسه جمع كثير، كما في قوله تعالى {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 1 - 2] فالإنسان مفرد يُستثنى منه الجمع {إِلَاّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات
…
} [العصر: 3] لأن لفظة الإنسان هنا تدل على الجماعة، و (ال) فيها ال الاستغراقية.
فالحق سبحانه ينقلنا من المؤمن إلى العموم {أَمَّا الذين آمَنُواْ. .} [السجدة: 19] ومن الفاسق إلى {وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ
…
} [السجدة: 20] فهما جماعتان متقابلتان لكل منهما جزاؤه الذي يناسبه:
{أَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ جَنَّاتُ المأوى. .} [السجدة: 19] والمأوى هو المكان الذي يأوي إليه الإنسان ويلجأ إليه ليحفظه من كل مكروه، كما قال تعالى في شأن عيسى وأمه مريم عليهما السلام:{وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50] يعني: يمكنهما الاستقرار فيها؛ لأن بها مُقوِّمات الحياة (ومعين) يعني: عيْن ماء.
ومن ذلك قوله تعالى في قصة ابن نوح حين قال لأبيه: {سآوي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المآء
…
} [هود: 43] فنبَّهه أبوه وحذره، فقال: {لَا عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلَاّ مَن رَّحِمَ
…
} [هود: 43]
ونلحظ في هذه القصة حنان الأبوة من سيدنا نوح حين قال {رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي
…
} [هود: 45] لكن ربه عز وجل لا يتركه على هذه القضية، إنما يُصحِّحها له {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ
…
} [هود: 46]
إذن: فالبنوة هنا ليست بنوة نسب، إنما بنوة إيمان وعمل، أَلَا
ترى أن سيدنا رسول الله قال لسلمان الفارسي وهو من غير العرب بالمرة: «سلمان منا آل البيت» .
وإنْ كان النسب ينفع من الآباء إلى الأبناء، فهذه ليست خصوصية للأنبياء، إنما لكل الناس، كما قال سبحانه: {والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ
…
} [الطور: 21]
وإلحاق الأبناء بالآباء في الحقيقة كرامة للآباء أنْ يجدوا أولادهم معهم في الجنة جزاء إيمان الآباء وعملهم الصالح، فإنْ كان الأولاد دون سِنِّ التكليف فطبيعي أنْ يلحقوا بالآباء، بل وتكون منزلتهم أعظم من منزلة آبائهم؛ لأن الأطفال الذين يموتون قبل الرُّشْد ليس لهم أماكن محددة، إنما ينطلقون في الجنة يمرحون فيها كما يشاؤون.
وقد مثَّلنا لذلك بالولد الصغير تأخذه معك في زيارة أحد الأصدقاء، فتجلس أنت في حجرة الجلوس، بينما الولد الصغير يجري في أنحاء البيت، ويدخل أي مكان فيه لا يمنعه أحد، لذلك يسمون الأطفال (دعاميص) الجنة.