المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

قوله تعالى: {ذَلِكَ. .} [لقمان:‌ ‌ 30] إشارة إلى ما تقدم - تفسير الشعراوي - جـ ١٩

[الشعراوي]

الفصل: قوله تعالى: {ذَلِكَ. .} [لقمان:‌ ‌ 30] إشارة إلى ما تقدم

قوله تعالى: {ذَلِكَ. .} [لقمان:‌

‌ 30]

إشارة إلى ما تقدم ذِكْره من دخول الليل في النهار، ودخول النهار في الليل، وتسخير الشمس والقمر، ذلك كله {ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الحق. .} [لقمان: 30] فكل ما تقدم نشأ عن صفة من صفات الله وهو الحق، والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير، فكأن ناموس الكون بكل أفلاكه وبكل المخلوقات فيه له نظام ثابت لا يتغير؛ لأن الذي خلقه وأبدعه حق {بِأَنَّ الله هُوَ الحق. .} [لقمان: 30]

وما دام الله تعالى هو (الحق) فما يدَّعونه من الشركاء هم الباطل {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل. .} [لقمان: 30] ، فلا يوجد في الشيء الواحد حَقَّان، فإنْ كان أحدهما هو الحق فغيره هو الباطل، فالحق واحد ومقابله الباطل. وأيُّ باطل أفظع من عبادتهم للأصنام واتخاذها آلهة وشركاء مع الله عز وجل؟

كيف وهي حجارة صوَّروها بأيديهم وأقاموها ليعبدوها من دون الله، والحجارة جماد من جمادات الأرض، والجماد هو العبد الأول لكل المخلوقات، عبد للنبات، وعبد للحيوان، وعبد للإنسان؛ لأنه مُسخّر لخدمة هؤلاء جميعاً.

فكيف بك وأنت الإنسان الذي كرَّمك ربك وجعل لك عقلاً مفكراً تتدنى بنفسك وترضى لها أنْ تعبد أدنى أجناس الوجود، وتتخذها شريكاً مع الله، وأنت ترى الريح إذا اشتدتْ أطاحتْ باللات أو بالعزى، وألقتْه على الأرض، وربما كُسرت ذراعه، فاحتاج لمن يصلح هذا الإله، إذن {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل. .} [لقمان: 30]

لذلك؛ قلنا في الحروب التي تنشب بين الناس: إنها لا تنشب بين حقين؛ لأن الحقيقة لا يوجد فيها حقَّان، إنما هو حق واحد،

ص: 11744

والآخر لا بُدَّ أن يكون باطلاً، أو تنشأ بين باطلين، أما نشأتها بين حق وباطل فإنها في الغالب لا تطول؛ لأن الباطل زهوق.

والعاقبة لا بُدَّ أنْ تكون للحق ولو بعد حين، أما الباطل فإنه زَهُوق، إنما تطول المعركة إنْ نشبت بين باطلين، فليس أحد الطرفين فيها أهلاً لنصرة الله، فتظل الحروب بينهما حتى يتهالكا، وتنتهي مكاسب طغيان كل منهما، ولا يردهما إلا مذلَّة اللجوء إلى التصالح بعد أنْ فقدا كل شيء.

لذلك نرى هذه الظاهرة أيضاً في توزيع التركات والمواريث بين المستحقين لها، حيث ينشب بينهم الخلاف والطعن واللجوء إلى القضاء والمحامين حتى يستنفد هذا كله جزءاً كبيراً من هذه التركة، حتى إذا ما صَفَتْ مما كان بها من أموال جُمعتْ بالباطل ترى الأطراف يميلون إلى الاتفاق والتصالح وتقسم ما بقي.

واقرأ إنْ شئت حديث رسول الله صلى الله عليهم وسلم: «مَنْ أصاب مالاً من مهاوش أذهبه الله في نهابر» ومعنى: مهاوش يعني التهويش أو كما نقول (بيهبش) من هنا ومن هنا، وطبيعي أن يُذهِب الله هذا المال في الباطل وما لا فائدة منه.

وسبق أن أعطينا مثلاً لمصارف المال الحرام بالأب يرجع إلى بيته، فيجد ابنه مريضاً حرارته مرتفعة، فيسرع به إلى الطبيب

ص: 11745

ويصيبه الرعب، ويتراءى له شبح المرض، فينفق على ابنه المئات، أما الذي يعيش على الكفاف ويعرق في كسب عيشه بالحلال فيكفيه في مثل هذه الحالة قرص أسبرين وكوب ليمون، فالأول أصاب ماله من مهاوش، والآخر أصابه من الحلال.

فقول الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الحق. .} [لقمان: 30] يعني: أن الحق هو الظاهر وهو الغالب، فإنْ قلتَ كيف ونحن نرى الباطل قد يعلو على الحق ويظهر عليه؟ ونقول: نعم، قد يعلو الباطل لكن إلى حين، وهو في هذه الحالة يكون جندياً من جنود الحق، كيف؟ حينما يعلو الباطل وتكون له صَوْلَة لا بُدَّ أن يعض الناس ويؤذيهم ويذيقهم ويلاته، فيلتفتون إلى الحق ويبحثون عنه ويتشوقون إليه.

إذن: لولا الباطل ما عرفنا ميزة الحق، ومثال ذلك الألم الذي يصيب النفس الإنسانية فينبهها إلى المرض، ويظهر لها علتها، فتطلب الدواء، فالألم جندي من جنود الشفاء، وقلنا سابقاً: إن الكفر جندي من جنود الإيمان.

لذلك لا تحزن إنْ رأيتَ الباطل عالياً، فذلك في صالح الحق، واقرأ قول ربك عز وجل: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا

} [الرعد: 17] يعني: يأخذ كل وادٍ على قدره وسِعَته من الماء {فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً

} [الرعد: 17] وهو القش والفتات الذي يحمله الماء {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل

} [الرعد: 17] أي: مثلاً لكل منهما. {فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً

} [الرعد: 17] يعني: مطروداً مُبْعداً من الجفوة {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال} [الرعد: 17]

ص: 11746

وبعد أن بيَّن الحق سبحانه وتعالى أنه {الحق. .} [لقمان: 30] وأن غيره من آلهة المشركين هم الباطل ذكر لنفسه سبحانه صفتين أخريين {وَأَنَّ الله هُوَ العلي الكبير} [لقمان: 30] العلي الكبير يقولها الله تعالى، ويقولها رسوله صلى الله عليه وسلم َ، ونقولها نحن؛ لأن الله قالها؛ ولأن النبي الصادق أخبرنا بها، لكن المسألة أن يشهد بها مَنْ كفر بالله.

لذلك يعلمنا ربنا تبارك وتعالى أن نحمد الله حينما يشهد الكافر لله رغم كفره به، كما ورد في الآيات السابقة:{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله قُلِ الحمد لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [لقمان: 25]

فهذه الشهادة منهم تستحق من المؤمن أن يقول: الحمد لله؛ لأنها شهادة ممَّنْ كفر بالله وكذَّب رسوله وحاربه، وأيضاً تنظر إلى هذا الكافر الذي تأبَّى على منهج الله وكذَّب رسوله حين يصيبه مرض مثلاً، أيستطيع أنْ يتأبى على المرض كما تأبَّى على الله؟ هذا الذي أَلِف التمرد على الله: أيتمرد إنْ جاءه الموت.

واقرأ قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ

} [الإسراء: 76] أي: لا يجدون أمامهم ساعة الكرب والهلاك إلا الله؛ لأن الإنسان في هذه الحالة لا يخدع نفسه ولا يكذب عليها، بالله أرأيتم إنساناً أحاطتْ به الأمواج، وأشرف على الهلاك يدعو يقول: يا هبل؟ إذن: الله هو العلي وهو الكبير، وغيره شرك وباطل.

وسبق أن ضربنا مثلاً للإنسان، وأنه لا يغشُّ نفسه، ولا يخدعها خاصة إذا نزلتْ به ضائقة بالحلاق أو حكيم الصحة كما يطلقون عليه، فهو يداوي أهل القرية ويسخر من طبيب الوحدة

ص: 11747