الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعد أن حذرنا ربنا تبارك وتعالى من الغرور في الحياة الدنيا يُذكِّرنا أن بعد هذه الحياة حياة أخرى، وقيامه وساعة {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة. .} [لقمان:
34]
والساعة لا تعني القيامة فحسب، إنما لكل منا ساعته، لأنه مَنْ مات فقد قامت قيامته.
لماذا؟ لأنه انقطع عمله، ولا يمكنه تدارك ما فاته من الإيمان أو العمل الصالح، فكأن قيامته قامت بموته.
وقلنا: إن عمر الدنيا بالنسبة لك هو مقدار عمرك فيها، وإنْ كان عمر الدنيا على الحقيقة من لَدُن آدم عليه السلام إلى قيام الساعة، لكن ماذا استفدتَ أنت من عمر غيرك؟
إذن: لا ينبغي أن تقول: إن الدنيا طويلة؛ لأن عمرك فيها قصير، ثم إنك لا تعلمه، ولا تستطيع أنْ تتحكم فيه، وكما أبهم الله الساعة أبهم الأجل؛ لأن في إبهامه أنفع البيان، فلما أبهم الله الأجل جعل النفس البشرية تترقبه في كل لحظة، فكل لحظة تمر عليك يمكن أن يأتيك فيها الموت.
وهكذا أشاع الموت في كل الزمن، وما دام الأمر كذلك فلا بُدَّ أن ينتبه الإنسان ويخشى أن يموت وهو على معصية، فالإبهام هنا هو عَيْن البيان.
وقلنا: إن الذين ماتوا من لَدُن آدم عليه السلام يلبثون في قبورهم طوال هذه المدة، فإذا ما قامت القيامة {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلَاّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46] لماذا؟ قالوا: لأن قياس الزمن إنما يتأتى بالأحداث، فحيث لا توجد أحداث لا يوجد زمن.
ومثَّلْنا لذلك بأهل الكهف الذين مكثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً، ومع ذلك لما سأل بعضهم بعضاً {كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا
يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ
…
} [الكهف: 19]
لماذا؟ لأن النوم يخلو من الأحداث، فلا يشعر النائم فيه بالزمن، كما أنهم لما رأى بعضهم بعضاً بعد هذه الفترة رآه على حالته التي نام عليها لم يتأثر بمرور هذه المدة، ولم تتغير هيئته، فأقصى ما يمكن تصوُّره أن يقول: لبثنا يوماً أو بعض يوم.
وكذلك الحال في قصة العُزير الذي قال الله عنه: {أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا قَالَ أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ الله مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ
…
} [البقرة: 259] ؛ لأن هذه هي أطول مدة يمكن أن ينامها الإنسان.
ثم أخبره ربه {بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ
…
} [البقرة: 259] ويريد الحق سبحانه أن يُدلِّل على صدق الرجل في قوله يوماً أو بعض يوم، وعلى صدقه تعالى في قوله مائة عام، فيقول سبحانه: {فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ
…
} [البقرة: 259] أي: لم يتغير.
وهذا دليل على صِدْقه في يوم أو بعض يوم
{وانظر إلى حِمَارِكَ
…
} [البقرة: 259]
وهذا دل على صدق الحق تبارك وتعالى في قوله {مائَةَ عَامٍ
…
} [البقرة: 259] فكلا القولين صادق؛ لأن الله تعالى هو القابض الباسط، يقبض الزمن في حق قوم، ويبسطه في حق آخرين.
وهذه الآية جمعتْ خمسة أمور استأثر الله تعالى بعلمها: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة وَيُنَزِّلُ الغيث وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ. .} [لقمان: 34]
فهل هذه هي كل الغيبيات في الكون؟ نقول: في الكون غيبيات
كثيرة لا نعرفها، فلا بُدَّ أن هذه الخمس هي المسئول عنها، وجاء الجواب على قدر السؤال، بالله لو هَبَّتْ الريح، وحملتْ معها بعض الرمال، أنعرف أين ذهبت هذه الذرات؟ وفي أي ناحية، أنعرف ورق الشجر كم تساقط منها؟
هذه كلها غيبيات لا يعلمها أيضاً إلا الله، أما نحن فلا نعلم حتى عدد النِّعَم التي أنعم الله بها علينا {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لَا تُحْصُوهَا
…
} [إبراهيم: 34]
إذن: فهذه نماذج لما استأثر الله بعلمه؛ لأن الله تعالى قال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 27]
فلله تعالى في كونه أسرار لا تُحصى، أجَّل الله ميلادها؛ لنعلم أننا في كل يوم نجهل ما عند الله، وكل يوم يطلع علينا العلماء والباحثون بجديد من أسرار الكون - هذا ونحن لا نزال في الدنيا، فما بالنا في الآخرة، وفي الجنة إن شاء الله؟
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم َ عنها فقال: «فيها ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» .
والإنسان يكتسب المعلومات، إما برؤية العين، أو بسماع الأذن، ومعلوم أن رقعة السمع أوسع من البصر؛ لأنك لا ترى إلا ما تراه عيناك، لكن تسمع لمرائي الآخرين، ثم أنت تسمع وترى موجوداً،
لكن هناك ما لا يخطر على قلب بشر يعني: أشياء غيبية لم تطرأ على بال أحد، وفي ذلك يقول سبحانه:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]
وقد ورد في أسباب نزول مفاتح الغيب هذه، أن رجلاً من محارب، اسمه الحارث بن عمرو بن حارثة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وقال: يا رسول الله: أريد أنْ أعرف متى الساعة، وقد بذرْت بذري، وأنتظر المطر فمتى ينزل؟ وامرأتي حامل، وأريد أن تلد ذكراً، وقد أعددت لليوم عُدَّته، فماذا أُعِد لغد؟ وقد عرفت موقع حياتي، فكيف أعرف موقع مماتي؟
هذه خمس مسائل مخصوصة جاء بها الجواب من عند الله تعالى {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة وَيُنَزِّلُ الغيث وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ.
.} [لقمان: 34] .
وعجيب أنْ نرى من خَلْق الله مَنْ يحاول أن يستدرك على مقولة الله في هذه الغيبيات الخمس، كالذين حاولوا أنْ يتنبأوا بموعد قيام الساعة، وقد كذبوا جميعاً، ولو قُدِّر لهم الإيمان بالله، والعلم كما قاله الله في قيام الساعة ما تجرأ منهم أحد على هذه المسألة.
وقلنا: إن الحق سبحانه أخفى موعد الساعة لكي نستشعرها دائماً، وفي كل وقت، حتى الذين لا يؤمنون بها ويشكُّون فيها، وإذا ما استشعرها الناس عملوا لها، واستعدوا لأهوالها، كما أخفى الله عن الإنسان ساعة موته ومكان أجله، وجعل الموت يدور على
العباد على غير قاعدة.
فمنهم مَنْ يموت بعد دقائق من مولده، ومنهم مَنْ يعمر مئات السنين، كما أنه سبحانه لم يجعل للموت مقدمات من مرض أو غيره، فكم من مريض يُعافى، وصحيح يموت، كما يقولون: كيف مريضكم؟ قال: سليمنا مات، وصدق القائل:
فلا تَحْسَب السُّقْم كأْسَ الممات
…
وإنْ كَان سُقْماً شَديد الأثَر
فرُبَّ عليل تَرَاهُ اسْتفَاق
…
ورُبّ سِلَيم تَرَاه اسْتتر
كذلك الموت لا يرتبط بالسِّن:
كم بُودرت غادة كعَابٌ
…
وغُودِرَتْ أمُّها العَجُوزُ
يجوُزُ أنْ تبطئ المنَايَا
…
والخُلْدُ في الدَّهْرلا لا يَجُوزُ
إذن: أخفى الله القيامة وأخفى الموت؛ لنظل على ذُكْر له نتوقعه في كل لحظة، فنعمل له، ولنتوقع دائماً أننا سنلقى الله، فنعد للأمر عُدته؛ لأن مَنْ مات فقد قامت قيامته؛ لأنه انقطع عمله، ففي إبهام موعد القيامة وساعة الموت عَيْن البيان لكل منهما، فالإبهام أشاعه في كل وقت.
وقوله: {وَيُنَزِّلُ الغيث. .} [لقمان: 34] وهذا أيضاً، ومع تقدُّم العلوم حاول البعض التنبؤ به بناء على حسابات دقيقة لسرعة الرياح ودرجة الحرارة. . إلخ، وربما صَحَّتْ حساباتهم، لكن فاتهم أن الله أقداراً في الكون تحدث ولا تدخل في حساباتهم، فكثيراً ما نُفَاجأ بتغيُّر درجة الحرارة أو اتجاه الريح، فتنقلب كل حساباتنا.
لذلك من عجائب الخَلْق أنك كلما اقتربتَ من الشمس وهي مصدر الحرارة تقِلُّ درجة الحرارة، وكلما ابتعدت عنها زادت درجة
الحرارة، إذن: المسألة ليست روتينية، إنما هي قدرة لله سبحانه، والله يجمع لك الأسباب ليثبت لك طلاقة قدرته التي تقول للشيء: كُنْ فيكون.
ألسنا نُؤمر في الحج بأن نُقبِّل حجراً ونرمي آخر، وكل منهما إيمان وطاعة، هذا يُباس وهذا يُداس، هذا يُقبَّل وهذا يقنبل، لماذا؟ لأن الله تعالى يريد منا الالتزام بأمره، وانصياع النفس المؤمنة للرب الذي أحيا، والرب الذي كلَّف.
وقوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام. .} [لقمان: 34] هذه أيضاً من مفاتح الغيب، وستظل كذلك مهما تقدمت العلوم، ومها ادَّعى الخَلْق أنهم يعلمون ما في الأرحام، والذي أحدث إشكالاً في هذه المسألة الآن الأجهزة الحديثة التي استطاعوا بها رؤية الجنين، وتحديد نوعه أذكر أم أنثى، فهذه الخطوة العلمية أحدثتْ بلبلة عند بعض الناس، فتوهموا أن الأطباء يعلمون ما في الأرحام، وبناءً عليه ظنوا أن هذه المسألة لم تَعُدْ من مفاتح الغيب التي استأثر الله بها.
ونقول: أنتم بسلطان العلم علمتم ما في الأرحام بعد أن تكوَّن ووضحتْ معالمه، واكتملتْ خِلْقته، أما الخالق عز وجل فيعلم ما في الأرحام قبل أنْ تحمل الأم به، ألم يُبشِّر الله تعالى نبيه زكريا عليه السلام بولده يحيى قبل أن تحمل فيه أمه؟ ونحن لا نعلم هذا الغيب بذواتنا، إنما بما علّمنا الله، فالطبيب الذي يُخبرك بنوع الجنين لا يعلم الغيب، إنما مُعلَّم غيب.
والله تبارك وتعالى يكشف لبعض الخلق بعض الغيبيات،
ومن ذلك ما كان من الصِّدِّيق أبي بكر رضي الله عنه حين أوصى ابنته عائشة رضي الله عنها قبل أن يموت وقال لها: يا عائشة إنما هما أخواك وأختاك، فتعجبت عائشة حيث لم يكن لها من الإخوة سوى محمد وعبد الرحمن، ومن الأخوات أسماء، لكن كان الصِّديق في هذا الوقت متزوجاً من بنت خارجة، وكانت حاملاً وبعد موته ولدتْ له بنتاً، فهل تقول: إن الصِّدِّيق كان يعلم الغيب؟ لا، إنما أُعِلم من الله. إذن: الممنوع هنا العلم الذاتي أن تعلم بذاتك.
ثم إن الطبيب يعلم الآن نوع الجنين، إما من صورة الأشعة أو التحاليل الي يُجريها على عينة الجنين، وهذا لا يُعتبر علماً للغيب، و (الشطارة) أن تجلس المرأة الحامل أمامك وتقول لها: أنت إنْ شاء الله ستلدين كذا أو كذا، وهذا لا يحدث أبداً.
ثم يقول سبحانه: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً. .} [لقمان: 34] الإنسان يعمل، إما لدنياه، وإما لأُخْراه، فالمعنى إما تكسب من الخير المادي لذاتك لتعيش، وإن كان من مسألة التكليف، فالنفس إما تعمل الخير أو الشر، الحسنة أو السيئة، والإنسان في حياته عُرضَة للتغيُّر.
لذلك يقال في الأثر: «يا ابن آدم، لا تسألني عن رزق غدٍ، كما لو أطالبك بعمل غد» .
وقوله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ. .} [لقمان: 34] وهذه المسألة حدث فيها إشكال؛ «لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أخبر الأنصار
أنه سيموت بالمدينة حينما وزع الغنائم على الناس جميعاً ما عدا الأنصار؛ لذلك غضبوا ووجدوا في أنفسهم شيئاً؛ لأن رسول الله حرمهم، لكن سيدنا رسول الله جمعهم وتلطَّف معهم في الحديث واعترف لهم بالفضل فقال: والله لو قلتم أني جئت مطروداً فآويتموني فأنتم صادقون، وفقيراً فأغنيتموني فأنتم صادقون. . لكن الأ تحبون أن يرجع الناس بالشاه والبعير، وترجعون أنتم برسول الله» ، وقال في مناسبة أخرى «المحيا محياكم، والممات مماتكم» .
إذن: نُبِّئ رسول الله أنه سيموت بالمدينة، والله يقول: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ.
.} [لقمان: 34] نقول: الأرض منها عام ومنها خاصّ، فأرض المدينة شيء عام، نعم سيموت بالمدينة، لكن في أيِّ بقعة منها، وفي أي حجرة من حجرات زوجاته، إذن: إذا علمتَ الأرض العامة، فإن الأرض
الخاصة ما زالت مجهولة لا يعلمها أحد.
يُروى أن أبا جعفر المنصور الخليفة العباسي كان يحب الحياة ويحرص عليها، ويخاف الموت، وكان يستشير في ذلك المنجِّمين والعرافين، فأراد الله أنْ يقطع عليه هذه المسألة، فأراه في المنام أن يداً تخرج من البحر وتمتد إليه، وهي مُفرَّجة الأصابع هكذا، فأمر بإحضار مَنْ يُعبِّر له هذه الرؤيا، فكان المتفائل منهم، أو الذي يبغي نفاقه يقول له: هي خمس سنوات وآخرون قالوا: خمسة أشهر، أو خمسة أيام أو دقائق.
إلى أن انتهى الأمر عند أبي حنيفة رضي الله عنه فقال له: إنما يريد الله أن يقول لك: هي خمسة لا يعلمها إلا الله، وهي:{إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة وَيُنَزِّلُ الغيث وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ. .} [لقمان: 34]
وما دامت هذه المسائل كلها مجهولة لا يعلمها أحد، فمن المناسب أن يكون ختام الآية {إِنَّ الله عَلَيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34]
إذن: الحق سبحانه يريد أنْ يُريح خَلْقه من الفكر في هذه المسائل الخمس، وكل ما يجب أن نعلمه أن المقادير تجري بأمر الله لحكمة أرادها الله، وأنها إلى أجل مسمى، وأن العلم بها لا يُقدِّم ولا يُؤخِّر، بالله ماذا يحدث لو علمت ميعاد موتك؟ لا شيء أكثر من أنك ستعيش نَكِداً حزيناً طول الوقت لا تجد للحياة لذة.
لذلك أخفى الله عنَّّا هذه المسألة لنُقبِل على الله بثقتنا في مجريات قدر الله فينا.
هذه من الحروف المقطَّعة المبنية على الوقف، على خلاف آيات القرآن التي بُنِيتْ كما قُلْنا على الوصل من أول القرآن إلى آخره، بل على وصل آخره بأوله؛ لذلك لا ينبغي أن تقرأ القرآن على الوصل، ما دام نَفَسُكَ يساعدك، ولا تقف إلا إذا انقطع النفَس، فتقف وتُسكِّن الحرف الذي وقفتَ عليه.
وقد قال علماء القراءات: وليس في القرآن مِنْ وقف وجب؛ لأنه
بُني على الوصل، فلا تقف إلا إذا ضاق نَفَسُك؛ لذلك جعلوا في القرآن مواضع للوقف، وتُرسم في المصحف (صِلى، قِلى، ج) ، لكن الأصل الوصل.
وقلنا: إن أوضح مثال على الوصل في القرآن أن كلمة الناس في آخر سورة الناس، وهي آخر القرآن لم تأْتِ ساكنة، إنما متحركة بالكسر (الناسِ) ؛ لأن الله تعالى قدَّر حلَّكَ في الناس فجعلك ترحل إلى بسم الله الرحمن الرحيم في أول الفاتحة، فلا تقطع الصلة بين آخر القرآن وأوله، وسمَّيْنا قارئ القرآن لذلك (الحالّ المرتحل) .
وهنا تأتي {الم} [السجدة: 1] بعد مفاتح الغيب الخمسة التي سبقتْ في آخر سورة لقمان، وكأنها مُلْحقة بها، فهي سِرٌّ استأثر الله تعالى بعلمه، ونحن في تفسيرنا لها نحوم حولها؛ لذَلك كل مَنْ فسَّر الحروف المقطَّعة في بدايات السور لا بُدَّ أن يقول بعدها: والله أعلم بمراده؛ لأن تفسيراتنا كلها اجتهادات تحوم حول المعنى المراد؛ لذلك نحن لا نقول هذه الكلمة في كل آيات القرآن، إنما في هذه الآيات والحروف بالذات.
وكيف بنا حين يجمعنا الله تعالى إنْ شاء الله في مقعد صِدْق عند مليك مقتدر، كيف بنا حين نسمع هذا القرآن مباشرة من الله عز وجل؟ لا شكَّ أننا سنسمع كلاماً كثيراً غير الذي سمعناه، ومعاني كثيرة غير التي توصَّلنا إليها في اجتهاداتنا، وعندها سنعرف مرادات الله تعالى في هذه الحروف، وسنعرف كم قَصُرَتْ عقولنا عن فهمها، وكم كنا أغبياء في فَهْمنا لمرادات ربنا.
وقوله تعالى {الم} [السجدة: 1] عادةً يأتي بعد هذه الحروف المقطعة أمر يخصُّ الكتاب العزيز.
وهنا يقول سبحانه: {تَنزِيلُ الكتاب لَا
…
} .
مادة (نزل) وردتْ في القرآن بلفظ: نزل، ونزَّل، وأنزل، أنزل تدل على التعدية، يعني: أن الله تعالى عدَّى القرآن من اللوح المحفوظ، إلى أنْ يباشر مهمته في السماء الدنيا، وهذا الإنزال من الله تعالى.
أما نزَّل فالتنزيل مهمة الملائكة؛ لذلك يقول تعالى في الإنزال: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] أي: من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم تتنزَّل به الملائكة مُنجَّماً حسب الأحداث، وفي ذلك يقول تعالى:{نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193]
ويقول سبحانه: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ
…
} [الإسراء: 105] فقد كان محفوظاً عندنا في اللوح المحفوظ {لَاّ يَمَسُّهُ إِلَاّ المطهرون} [الواقعة: 193] ثم نزل به الروح الأمين جبريل.
وما دام {نَزَلَ بِهِ
…
} [الشعراء: 193] فهذا يعني أن القرآن نزل معه، فقوله:{نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193] تساوي تماماً {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ
…
} [الإسراء: 105] . فالنزول يُنسَب مرة إلى القرآن، ومرَّة إلى الروح الأمين.
ومادة نزل وما يُشتق منها من إنزال وتنزيل تفيد كلها أنه جاء من جهة العلو إلى جهة أسفل منه، كأنك تتلقّى من جهة أعلى منك وأرفع، وما دُمْتَ تتلقى من جهة أعلى منك، فإيَّاك أنْ يضل بك الفكر لناحية أخرى.
لذلك يقول تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم َ في أمر التكليف: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ
…
} [الأنعام: 151] فنحن نفهم أن تعالوا بمعنى تعالَ. أي: أقبل، لكنها تحمل مع هذا المعنى معنى العلو: أقبل دانياً إلى متعالٍ، تعالَ من أوضاعك الرضية إلى عُلُو ربك في الملأ الأعلى.
تعالَ يعني: لا تأخذ من نفسك ولا من مُسَاوٍ لك، إنما ارتفع وخُذْ من الأعلى، ارتفع عن مستوى الأرض وعقولهم وأفكارهم، وخُذْ من الذي شرَّع لك؛ لأنه لا بُدَّ أن تكون عنده أمور ومواصفات آمن لك وأسلم؛ لأن علمه أوسع، فلا يُشَرِّع لك اليوم ما ينقضه غداً.
ثم إنَّ شرعه لك يستوعب كل نواحي حياتك وأقضيتها، وهذه المواصفات لا تكون إلا في الحق تبارك وتعالى وهو سبحانه أرحم بك من الوالدة بولدها، فلا يُشرِّع لك إلا ما يُصلحك، ثم هو سبحانه ليس له غرض أو مصلحة ذاتية من وراء هذا التشريع، كما نرى في تشريعات البشر للبشر.
وقد رأينا الرأسماليين حينما شرّعوا قانوناً جاء يخدمهم، وليكونوا هم أول المنتفعين به؛ لذلك سرعان ما تهاوى؛ لأن شرط المشرِّع الحق ألَاّ ينتفع هو بما يُشرِّع، وعليه فلا مشرِّع حقٍّ إلا الله.
لذلك رأينا حتى غير المؤمنين بالله من الكافرين أو المشركين بعد أنْ تعضَّهم الأحداث، وتخفق قوانينهم في حَلَّ مشاكلهم يلجئون إلى حلول لها من قوانين الإسلام.
ولما سُئلنا في سان فرانسيسكو عن قوله تعالى: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون}
[التوبة: 33] وفي موضع آخر {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ والله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} [الصف: 8]
قالوا لنا: هذا يعني أن الإسلام ظاهر على الأديان منذ أربعة عشر قرناً من الزمان، فما بالنا نرى الآن أكثر أهل الأرض من غير المسلمين؟
فقلت في الرد عليهم: والله لو فهمتُم أسرار اللغة، وتأملتُم هذه الآية لوجدتم أن الرَّد فيها، فواحدة تقول:{وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} [الصف: 8]، والأخرى تقول {وَلَوْ كَرِهَ المشركون} [التوبة: 33]
إذن: فالكفر والشرك موجودان مع وجود الإسلام، وليس معنى الظهور هنا أن يطمس هؤلاء، أو أنْ يُقْضَى عليهم قضاء مبرماً، إنما يظهر عليهم بحيث يُضطرون إليه، ويلجئون إلى أحكامه، رغم عدم إيمانهم به، وهذا أبلغ في الظهور، أنْ تأخذ بما في القرآن وأنت غير مؤمن به؛ لأنك لا تجد حلاً لقضاياك إلا فيه.
وأوضح مثال على ذلك أنهم هاجموا شرع الله في مسألة الطلاق، وفي مسألة تعدُّد الزوجات، واتهموا الإسلام بالوحشية. . إلخ، ثم تضطرهم أقضية الحياة ومشاكلها أنْ يشرِّعوا الطلاق، وأنْ يأخذوا به على مرأى ومَسْمع من الفاتيكان، فماذا جرى؟ فنقول لهم: هل أسلمتم وآمنتم؟ لا، إنما لجأنا إليه؛ لأن فيه الحل لهذه المشاكل التي أحاطتْ بنا.
فهذه إذن شهادة العدو لدين الله، وهذا هو أعظم الإظهار للإسلام على هذه الأديان؛ لأنهم أسلموا، لقالوا عنهم: أخذوا بهذا الشرع لأنهم لو أسلموا، إنما ها هم يأخذون به وهم به كافرون مشركون.
ومعنى {لَا رَيْبَ فِيهِ. .} [السجدة: 2] أي: لا شكَّ فيه، وقلنا: إن النسب في القضايا. أي نسبة شيء لشيء إما مجزوم بها أو غير مجزوم بها، فلو قُلْنا: الأرض كروية هذه قضية جزم بها
الآن، ونستطيع التدليل على صحتها دليلاً حسياً، فهذه قضية واقعة ومجزوم بصحتها، وعليها دليل في الكون.
فإنْ كانت القضية غَيْرَ مجزوم بها، فهي بين ثلاث حالات: إما فيها شكّ، أو ظنّ، أو وهم: الشك أنْ تتساوى الكِفَّتان: الإثبات والنفي، والظن أن تغلب جانب الإثبات فلا تجزم به إنما ترجِّحه، فإنْ غلَّبْتَ الأخرى وجعلتها هي الراجحة، فهذا توهم.
وهنا قال سبحانه {لَا رَيْبَ فِيهِ. .} [السجدة: 2] لا شكَّ فيه، فنفى الشكَّ، وهو تساوي النفي والإثبات، وما دام قد نفى التساوي، فهذا يعني أنه أراد أنْ يثبت الأعلى. أي: أنه حقٌّ لا يرقى إليه الشك.
وجملة {لَا رَيْبَ فِيهِ. .} [السجدة: 2] جملة اعتراضية بين {الكتاب. .} [السجدة: 2]، وبين {مِن رَّبِّ العالمين} [السجدة: 2] وما دام أنه من {مِن رَّبِّ العالمين} [السجدة: 2] فلا بُدَّ أنه حقٌّ لا ريب فيه.
ثم يقول الحق سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه بَلْ
…
} .
عجيب أنْ يقابلَ العربُ كلامَ الله بهذا الاتهام، وهم أمة فصاحة وبلاغة وبيان، وقد بلغوا في هذا شأناً عظيماً، حتى جعلوا للكلام معارض وأسواقاً، كما نقيم الآن المعارض لمنتجاتنا، ولا يُعرض في المعارض هذه إلا السلع الجيدة محلّ الفخر، فقبل الإسلام كان في عكاظ وذي المجاز مضمار للقول وللأداء البياني بين الأدباء والشعراء.
فعجيبٌ منهم ألَاّ يميزوا كلام الله عن كلام البشر، خاصة وقد تحدَّاهم وتحدَّى فصاحتهم وبلاغتهم أنْ تأتي بآية واحدة من مثله، ومعلوم أن التحدي يكون للقوي لا للضعيف، فتحدَّى القرآن للعرب يُحسَبُ لهم، وهو اعتراف بمكانتهم ومكانة لغتهم، فهو - إذن - شهادة لهم، ويكفيهم أن الله تعالى أدخلهم معه في مجال التحدي.
ولما عجزوا عن الإتيان بمثله راحوا يتهمونه ويتهمون رسول الله، فمرة يقولون: شاعر، ومرة: ساحر، وأخرى يقولون: مجنون، ومرة يقولون: بل يُعلِّمه ذلك أحد الأعاجم. . إلخ، وهذا كله إفلاس في الحجة، فهم يريدون أنْ يُكذِّبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ، أما القرآن في حدِّ ذاته، فلا يَخْفى عليهم أنه كلام الله، وأن البشر لا يقولون مثل هذا الكلام، بدليل أن الوليد بن المغيرة لما سمعه قال:«والله، إن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغْدِق، وأنه يعلو ولا يُعلى عليه» .
لذلك لما لم يجدوا في القرآن مطعناً اعترفوا بأنه من عند الله، لكن كان اعتراضهم أنْ ينزل على هذا الرجل بالذات:{وَقَالُواْ لَوْلَا نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] فكانوا
ينتظرون أنْ يُنزَّل القرآن على عظيم من عظمائهم او مِلَك من الملوك، لكن أنْ ينزل على محمد هذا اليتيم الفقير، فهذا لا يُرضيهم، وقد ردَّ القرآن عليهم: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ
…
} [الزخرف: 32]
يعني: إذا كنا قد قسمنا بينهم أمور الدنيا وما يتفاضلون به من عرضها، فهل نترك لهم أمور الآخرة يُقسمونها على هواهم وأمزجتهم؟ والرسالة رحمة من الله يختصُّ بها مَنْ يشاء من عباده {والله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ
…
} [الأنعام: 124]
وهذا يعني أنهم انتهوا إلى أن القرآن مُعْجِز، وأنه من عند الله لا غُبَار عليه، والذي قرأه منهم، وأيقن أنه حق قال:{اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]
وهذا كلام لا يقول به عاقل، وقد دلَّ على غبائهم وحُمْقهم، وكان الأَوْلَى بهم أنْ يقولوا: اللهم إنْ كان هذا هو الحق من عندك فاهْدِنا إليه.
وقد ردَّ القرآن على كل افتراءاتهم على رسول الله، وفنَّدها جميعاً، وأظهر بطلانها، لما قالوا عن رسول الله إنه مجنون ردَّ الله عليهم:
والمجنون لا يكون أبداً على خلق عظيم؛ لأنه محكوم بالغريزة لا يختار بين البدائل والتصرفات كالحيوان، ولا ينشأ عن ذلك خُلق كريم.
أما الإنسان السَّويُّ فإنه يختار بين البدائل المتعددة، فلو اعتدى عليه إنسان فقد يردُّ عليه. بمثل هذا الاعتداء، وقد يفكر في المثلية، وأن اعتداءه قد يزيد فيميل إلى التسامح، واحد يكظم غيظه وآخر يزيل كل أثر للغيظ، ويبغي الأجر على ذلك من الله، عملاً بقوله تعالى: {أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ
…
} [النور: 22] وكأن الله يشجعنا على عمل الخير.
لذلك لما سُئل الحسن البصري: كيف يطلب الله منَّا أنْ نُحسن إلى مَنْ أساء إلينا؟ قال: هذه مَرَاق في مجال الفضائل، وقد أباح الله لك أنْ تردَّ الإساءة بمثلها {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا
…
} [الشورى: 40] لكن بترك الباب مفتوحاً أمام أريحية النفس المؤمنة {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله
…
} [الشورى: 40]
ثم إذا حسبنا هذه المسألة بمقاييس العقل، فإن الخَلْق كلهم عيال الله، وهم عنده سبحانه سواء، فماذا لو اعتدى أحد عيالك على الآخر؟ لا شكَّ أنك ستكون في جانب المظلوم، فتأخذه في حضنك وترعاه وتعطف عليه، وكذلك الحق تبارك وتعالى يكون في جانب عبده إذا ظلم. وقد قال أحدهم: ألَا أُحسن إلى مَنْ جعل الله في جانبي؟
من هنا يقولون: أنت لا تكسب كثيراً من الأخيار، إنما كل كسب
لك يأتي من الأشرار حين يسيئون إليك وتحسِن إليهم؛ لذلك يقولون: فلان هذا رجل طيب، لكن مَنْ يمشي معه لا يستفيد منه حسنة أبداً، لماذا؟ يقولون: لأنه خادم للجميع، وجعل خدَّه (مداساً) لمن معه، فلا يجعل أحد (يستفتح) منه بحسنة.
ورُوي عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أنه تبسَّم في مجلس مع أصحابه، فقالوا: ما يُضحك يا رسول الله؟ فقال: «رأيتُ ربي، وقد أجلس بين يديه خَصْمين، فقال أحدهما: يا ربِّ إن هذا ظلمني فخُذْ لي حقِّي منه، فقال: كيف آخذ لك حقك منه؟ قال: أعطني من حسناته بقدر ما أساء إليّ، فقال: ليست له حسنات، فقال: فخُذْ من سيئاتي واطرح عليه، فقال أَوَيرضيك ألَاّ تكون لك سيئة؟ قال: إذن، يا رب كيف أقضي حقي منه؟ قال: انظر يمينك، فنظر الرجل يمينه، فوجد قصوراً وبساتين وجِنَاناً، مما لا عَيْنٌ رأت، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر، فقال: لمَنْ هذه يا ربِّ؟ قال: لمن يدفع ثمنها، فقال: وما ثمنها يا رب؟ قال: أنْ تأخذَ بيد أخيك إلى الجنة، فعجبتُ من رَبِّ يُصِلح بين عباده» .
هذا عن قولهم عن رسول الله: مجنون، أما قولهم: ساحر.
فالردُّ عليها ميسور، فإذا كان محمد ساحراً، سحر مَنْ آمن به، فلماذا لم يَسْحركم أنتم أيضاً؟ فكونكم سالمين من السحر دليل على أنه صلى الله عليه وسلم َ ليس ساحراً، بل هذا كذب وافتراء على رسول الله.
أما قولهم: شاعر، فهذا عجيب منهم، وهم أمة كلام وبلاغة،
وهم أكثر خَلْق الله تمييزاً للشعر من النثر، وخير مَنْ يفرق بين الأساليب وطرق الأداء، وقد تولى الله تعالى الردَّ عليهم، فقال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ
…
} [يس: 69]
وفي سورة الحاقة، يقول سبحانه:{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة: 41 - 42]
فلما خابتْ كُلُّ هذه الحيل، وكذبتْ كل هذه الافتراءات قالوا: بل له شيطان يُعلِّمه، وكانوا يقولون ذلك للشاعر البليغ الذي لا يُشَقُّ له غبار في الفصاحة وحُسْن الأداء، حتى جعلوا لهؤلاء الجن مكاناً خاصاً بهم، فقالوا (وادي عبقر) ، وهو مسكن هؤلاء الجن الذي يُلْهِمون البشر ويُعلِّمونهم.
والشعر كلام موزون مُقفَّى، وله بحور معروفة، فهل القرآن على هذه الشاكلة؟ لا، إنما هو افتراء على رسول الله، كافترائهم عليه هنا:{أَمْ يَقُولُونَ افتراه. .} [السجدة: 3]
فقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ. .} [السجدة: 3] أم تعني أن لها مقابلاً: يعني: أيقولون كذا؟ أم يقولون: افتراه، فماذا هذا المقابل؟ المقابل {تَنزِيلُ الكتاب لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين} [السجدة: 2] فالمعنى: أيُصدِّقون بأن هذا الكتاب من عند رب العالمين، وأنه لا رَيْبَ فيه؟ أم يقولون افتراه محمد، فأَمْ هنا جاءت لتنقض ما يُفهَم من الكلام السابق عليها.
وقوله: {بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبِّكَ. .} [السجدة: 3] نعرف أن (بل) تأتي للاستدراك، لكنها هنا ليست للاستدراك، إنما لإبطال قولهم:{افتراه. .} [السجدة: 3] كما لو قُلْت: زيد ليس عندي بل
عمرو، فأفادتْ الإضراب عما قبلها، وإثبات الحكم لما بعدها، وهم يقولون افتراه والله يقول:{بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبِّكَ. .} [السجدة: 3ٍ فكلامهم واتهامهم باطل، والقرآن هو الحق من عند الله.
وقُلْنا: إن {الحق. .} [السجدة: 3] هو الشيء الثابت الذي لا يطرأ عليه التغيير؛ لذلك فالحقائق ثابتة لا تتغير أبداً، كيف؟ هَبْ أن حادثة وقعتْ نتج عنها مُدَّع ومُدَّعًى عليه وشهود، واجتمعوا جميعاً أمام القاضي، وقد يحدث أن يُغيِّر أحدهم أقواله، أو يشهد الشهود شهادة زور.
لكن خبرة القاضي ودُرْبته تكشف الحقائق وتُظهِر كذبهم حين يضرب أقوال بعضهم ببعض، ويسألهم ويحاورهم إلى أنْ يصل إلى الحقيقة؛ ذلك لأن الواقع شيء واحد، ولو أنهم يصفون واقعاً لا تفقوا فيه، ولباقة القاضي هي التي تُظهِر الباطل المتناقض وتُبِطله وتُحِقّ وتغلب الحق الذي لا يمكن أن يتناقض.
كالقاضي الذي اجتمع أمامه خَصمْان، يدَّعي أحدهما على الاخر أنه أخذ منه مالاً ولم يردّه إليه، فقال المدَّعَي عليه: بل رددته إليه في مكان كذا وكذا، فأنكر المدَّعى، فقال القاضي للمدَّعَى عليه: اذهب إلى هذا المكان، فلعل هذا المال وقع منك هناك، فذهب الرجل وأبطأ بعض الوقت، فقال القاضي للمدعى: لقد أبطأ صاحبك، فقال: أبطأ؛ لأن المكان بعيد، فوقع في الحقيقة التي كان ينكرها.
ثم يقول سبحانه: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ. .} [السجدة: 3] ومعلوم أنه سيدنا رسول الله جاء بشيراً ونذيراً، لكن خصَّ هنا النذير؛ لأنه جاء ليصلح معتقدات فاسدة، وإصلاح الفاسدلا بُدَّ أن يسبق ما يُبشر به، ولم يأْتِ ذكر البشارة هنا؛ لأنهم
ما سمعوا للنذارة، وما استفادوا بها.
لكن قوله تعالى: {مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ. .} [السجدة: 3] تصطدم لفظياً بقوله تعالى: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَاّ خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] وقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] وليس بين هذه الآيات تناقض؛ لأن المعنى: ما أتاهم من نذير قريب، ولا مانع من وجود نذير بعيد، كما قال تعالى: {يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ على فَتْرَةٍ مَّنَ الرسل
…
} [المائدة: 19]
وإلا، فمن أين عرفوا أن الله تعالى خالق السموات والأرض، كما حكى القرآن عنهم: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله قُلِ الحمد لِلَّهِ
…
} [لقمان: 25] فهذا أثر من آثار الرسل السابقين، كما كان فيهم أناس متبعون لمنهج الدين الحق، والذين سماهم الله الحنفاء، وهم الذين لم يسجدوا لصنم، ولم ينحرفوا عن الفطرة السوية.
وقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [السجدة: 3] لعل تفيد الرجاء، والرجاء من الله كأنه واقع متحقق؛ لأن الله تعالى يحب لعباده جميعاً أنْ يؤمنوا به؛ ليأخذوا جميل عطائه في الآخرة، كما أخذوا عطاءه في الدنيا، وهم جميعاً خَلْقه وصَنْعته، وسبق أن ذكرنا الحديث القدسي: «
…
دعوني وما خلقت، إنْ تابوا إليَّ فأنا حبيبهم، وإنْ لم يتوبوا إلىَّ فأنا طبيبهم. .» .
ثم ينقلنا الحق سبحانه إلى قضية من قضايا أصول الكون: {الله الذي
…
} .
يخبرنا الحق تبارك وتعالى أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما لخدمة الإنسان، وهو المكرَّم الأول في هذا الكون، وجميع الأجناس في خدمته حيواناً ونباتاً وجماداً، فهو سيد في هذا الكون، لكن هل أخذ هذا السيد سيادته بذاته وبفعله؟ لا إنما أخذها بفضل الله عليه، فكان عليه أولاً أنْ يشكر مَنْ أعطاه هذه السيادة على غيره.
وهذا السيد عمره ومروره في الحياة عبور، فعمره فيها يطول أو يقصر ينتهي إلى الموت، في حين أن الجمادات التي تخدمه عمرها أطول من عمره، وهي خادمة له، فكان لزاماً عليه أنْ يتأمل هذه المسألة: كيف يكون عمر الخادم أطول وأبقى من عمر السيد المخدوم؟
إذن: لا بد أن لي عمراً آخر أطول من هذا، عمراً يناسب تكريم الله لي، ويناسب سيادتي في هذا الكون، إنها الآخرة حيث تندثر هذه المخلوقات التي خدمتني في الدنيا وأبقى أنا، لا أعيش مع الأسباب، إنما مع المسبب سبحانه، فلا أحتاج إلى الأسباب التي خدمتني في الدنيا، إنما أجد كل ما أشتهيه بين يديَّ دون تعب ودون سَعْى، وهذه ارتقاءات لا تكون إلا لمَنْ يطيع المرقى المعطي.
لذلك، الحق سبحانه وتعالى يلفتنا ويقول: صحيح أنت أيها الإنسان سيد هذا الكون وكل مخلوقاتي في خدمتك، لكن خَلْقها أكبر من خَلْقك: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس
…
} [غافر: 57]
لماذا؟ لأن الناس أعماراً محددة، مهما طالت لا بُدَّ أن تنتهي إلى أجل، ثم إن هذه الأعمار لا تًسْلم لهم، إنما تنتابها الأغيار، فالغنيّ قد يفتقر، والصحيح قد يمرض، والقوي قد يضعف، أمّا الشمس والقمر والنجوم والكون كله فلا يتعرض لهذه الأغيار فما رأينا الشمس أو القمر أو النجوم أصابتها علة وانتهت كانتهاء الإنسان، ثم أنتَ لستَ مثلها في العظمة المستوعبة؛ لأن قصارى ما فيك أنك تخدم نفسك أو تخدم البيئة التي حولك، أمَّا هذه المخلوقات فتخدم الكون كله.
فإذا اقرَّ - حتى الكفار - بأن الله تعالى هو خالق السماء والأرض إذن: فهي دليل أول على وجود الحق تبارك وتعالى.
ومسألة خَلْق السماوات والأرض من الأشياء التي استأثر الله بعلمها وليس لأحد أنْ يقول: كيف خُلقت ولا حتى كيف خُلق الإنسان؛ لأن مسائل الخَلْق لم يشهدها أحد فيخبرنا بها؛ لذلك يقول تعالى: {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً} [الكهف: 51]
فسماهم الله مُضلِّين، والمضلّ هو الذي يجنح بك إلى طريق باطل، ويصرفك عن الحق، وقد رأينا فعلاً هؤلاء المضلِّين وسمعنا افتراءاتهم في مسألة خَلْق السماوات والأرض.
إذن: خَلْق السماوات والأرض مسألة لا تُوخَذ إلا ممَّنْ خلق؛
لذلك قَصَّ لنا ربنا تبارك وتعالى قصة خَلْق آدم، وقصَّ لنا قصة خلق السماوات والأرض، لكن الخَلْق حدث وفعل، والفعل يحتاج إلى زمن تعالج فيه الحدث وتزاوله، والإشكال هنا في قوله تعالى {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ.
.} [السجدة: 4] . فهل الحدث بالنسبة لله تعالى يحتاج إلى زمن؟
الفِعْل من الإنسان يحتاج إلى علاج يستغرق زمناً، حيث نوزع جزيئات الفعل على جزئيات الزمن، أما في حقه تعالى فهو سبحانه يفعل بلا علاج للأمور، إنما يقول: للشيء كن فيكون، أما قوله تعالى:{فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ. .} [السجدة: 4] فقد أوضحناها بمثال، ولله المثل الأعلى.
قلنا: أنت حين تصنع الزبادي مثلاً تأتي بالحليب، ثم تضع عليه خميرة زبادي سبق إعداده، ثم تتركه في درجة حرارة معينة سبع أو ثماني ساعات بعدها تجد الحليب قد تحوَّل إلى زبادي، فهل تقول: إن صناعة الزبادي استغرقت مني سبعاً أو ثماني ساعات؟ لا، إنها استغرقتْ مجرد إعداد المواد اللازمة، ثم أخذت هذه المواد تتفاعل بعضها ببعض، إلى أن تحولت إلى المادة الجديدة.
كذلك الحق تبارك وتعالى خلق السماوات والأرض بأمره (كُنْ) ، فتفاعلت هذه الأشياء مُكوِّنه السماوات والأرض.
ومسألة خلق السماوات والأرض في ستة أيام عُولجت في سبع سور من القرآن، أربع منها تكلمْن عن خلق السماوات والأرض ولم تتعرض لما بينهما، وثلاث تعرضتْ لخَلْق السماوات والأرض وما بينهما، ففي الأعراف مثلاً، وفي يونس، وهود،
والحديد. تعرضت الآيات لخلق السماوات والأرض فقط.
وفي الفرقان والسجدة وق. فتكلَّمتْ عن البينية، فكأن السماوات والأرض ظرف خُلق أولاً، ثم خُلِق المظروف في الظرف، وهذا هو الترتيب المنطقي أنْ تُعِدَّ الظرف أولاً، ثم تضع فيه المظروف.
وقوله تعالى: {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ. .} [السجدة: 4] الله يخاطب بهذه الآيات العرب، واليوم له مدلول عند العرب مرتبط بحركة الشمس والقمر، فكيف يقول سبحانه {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ. .} [السجدة: 4] ولم تخلق بعد لا الشمس ولا القمر؟
نقول: المعنى خلقها في زمن يساوي ستة أيام بتقديرنا نحن الآن، وإلا فاليوم عند الله تعالى يختلف عن يومنا، ألم يقل سبحانه وتعالى:{وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47] أي: في الدنيا.
وقال عن اليوم في الآخرة: {تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ
كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] فلله تعالى تقدير لليوم في الدنيا، ولليوم في الآخرة.
والحق سبحانه لم يُفصِّل لنا مسألة الخَلْق هذه إلا في سورة (فُصِّلَت) فهي التي فصَّلَتْ القول في خَلْق السماوات والأرض، وهذه من عجائب هذه السورة.
فقال تعالى: {قُلْ أَئنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ
…
} [فصلت: 9 - 10] هذه ستة أيام. {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ
…
}
[فصلت: 11 - 12] وهكذا يصبح المجموع ثمانية أيام.
إذن: كيف نُوفِّق بين ستة أيام في الإجمال، وثمانية أيام في التفصيل؟ قالوا: الأعداد يُحمل مُجْملها على مفصَّلها؛ لأن المفصَّل تستطيع أن تضم بعضه إلى بعض، أما المجمل فهو النهاية.
وأَعْد معي قراءة الآيات: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا
…
} [فصلت: 9 - 10] وهذا كله من لوازم الأرض {في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ
…
} [فصلت: 10] أي: أن هذه اللوازم تابعة لما قبلها.
فالمعنى: في تتمة أربعة أيام، فاليومان الأولان داخلان في الأربعة، كما لو قلت: سِرْتُ من القاهرة إلى طنطا في ساعة، وإلى الأسكندرية في ساعتين، فالساعة الأولى محسوبة من هاتين الساعتين.
فالحق سبحانه خلق الأرض في يومين، وخلق ما يلزمها في تتمة الأربعة الأيام، فالزمن تتمة للزمن؛ لأن الحدث يُتمِّم الحدث، إذن: المحصلة النهائية ستة أيام، وليس هناك خلاف بين الآيات {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82] ومن العجيب أن يأتي هذا التفصيل في (فَصِّلت) .
وقوله تعالى: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش. .} [السجدة: 4] الحق - سبحانه تبارك وتعالى يخاطب الخَلْق بما يُقرِّب الأشياء إلى أذهانهم؛ لأن الملوك أو أصحاب الولاية في الأرض لا يستقرون على كراسيهم إلا بعد أنْ يستتبَّ لهم الأمر.
فمعنى {استوى. .} [السجدة: 4] صعد وجلس واستقر، كل هذه المعاني تناسب الآية، لكن في إطار قول الحق سبحانه وتعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
…
} [الشورى: 11]
فكما أن لله تعالى وجوداً ليس كوجودك، وسَمْعاً ليس كسمعك، وفعلاً ليس كفِعْلك، فكذلك له سبحانه استواء، لكن ليس كاستوائك، وإذا دخلت حجرة الجلوس مثلاً عند شيخ البلد وعند العمدة والمحافظ ورئيس الجمهورية ستجد مستويات متباينة، كلٌّ على حسب ما يناسبه، فإذا كان البشر يتفاوتون في الشيء الواحد، فهل نُسوِّى بينا وبين الخالق عز وجل؟
فالمعنى إذن {ثُمَّ استوى عَلَى العرش. .} [السجدة: 4] استتبَّ له أمر الخَلْق، {مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ. .} [السجدة: 4] الوليُّ: مَنْ يليك، ويكون قريباً منك، وإليه تفزع في الأحداث، فهو ملجؤك الأول. والشفيع: الذي يشفع لك عند مَنْ يملك أمرك، فالوليُّ هو الذي ينصرك بنفسه، أمَّا الشفيع فهو يتوسط لك عند مَنْ
ينصرك، فليس لك وليٌّ ولا شفيع من دون الله عز وجل.
لذلك يقول سبحانه: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ
…
} [الإسراء: 67] فلا أحد ينجيكم، ولا أحدَ يُسعفكم إلا الله {أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة: 4]
كأن هذه المسألة يجب أنْ تكون على بالك دائماً، فلا تغفل عن الله؛ لأنك ابْنُ أغيار، والأحداث تتناوبك، فلا يستقرّ بك حال، فأنت بين الغِنَى والفقر، والصحة والمرض، والقوة والضعف.
لذلك تذكَّر دائماً أنه لا وليَّ ولا نصير لك إى الله، وإذا استحضرتَ ذلك دائماً اطمأنَّ قلبك، ولم لا وأنت تستند إلى ولَّ وإلى نصير لا يخذلك أبداً، ولا يتخلى عنك لحظة، فإذا خالط هذا الشعورُ قلبَك أقبلتَ على الأحداث بجسارة، وإذا أقبلتَ على الحدث بجسارة لم يأخذ الحدث من قوتك شيئاً؛ لأن الذي يخاف الأحداث يُضعِف قوته الفاعلة.
فمثلاً صاحب العيال الذي يخاف الموت فيتركهم صغاراً لا عائلَ لهم لو راجع نفسه لقال لها: وَلِمَ الخوفُ على العيال من بعدي، فهل أنا خلقتهُم، أم لهم خالق يرعاهم ويجعل لهم من المجتمع الإيماني آباءً متعددين؟ لو قال لنفسه ذلك ما اهتم لأمرهم، وصَدَق الذي قال مادحاً: أنتَ طِرْتَ باليُتْم إلى حَدِّ الكَمالِ
وقال آخر:
قَال ذُو الآبَاءِ لَيْتِى لَا أبَا لِي
…
ولَم لا؟ وقد كفل الإسلام للأيتام أنْ يعيشوا في ظل المجتمع المسلم أفضل مما يعيش مَنْ له أب وأم.