المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

لذلك قال سبحانه: {وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ - تفسير الشعراوي - جـ ١٩

[الشعراوي]

الفصل: لذلك قال سبحانه: {وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ

لذلك قال سبحانه: {وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ

} [الروم: 27]

إذن: تكذيبهم ليس للبعث في حَدِّ ذاته، إنما للقاء الله وللحساب، لكنهم ينكرون البعث؛ لأنه يؤدي إلى لقاء الله، وهم يكرهون لقاء الله، فينكرون المسألة من بدايتها.

ص: 11814

تلحظ هنا أنهم يتكلمون عن البعث {وقالوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ

} [السجدة: 10] ومعلوم أن البعث إيجاد حياة، فإذا بالقرآن يُحدِّثهم عن الوفاة، وهي نقْضٌ للحياة، ليُذكِّرهم بهذه الحقيقة.

ومعنى {يَتَوَفَّاكُم. .} [السجدة:‌

‌ 11]

من توفيت دَيْناً من المدين. أي: أخذتهُ كاملاً غيرَ منقوص، والمراد هنا الموت، والتوفِّي يُنسَب مرة إلى الله عز وجل:{الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42]

ويُنسَب لملك الموت {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ

} [السجدة: 11] ويُنسب إلى أعوانه من الملائكة {حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61]

لأن مسألة الموت أمرها الأعلى بيد الخالق سبحانه، فهو وحده واهب الحياة، وهو وحده صاحب الأمر في نَقْضها وسَلْبها من صاحبها؛ لذلك حرَّم الله القتل، وجعل القاتل ملعوناً؛ لأنه يهدم

ص: 11814

بنيان الله، فإذا قدَّر الله على إنسان الموت إذِن لملَك الموت في ذلك، وهو عزرائيل.

إذن: هذه المسألة لها مراحل ثلاث: التوفِّي من الله يأمر به عزرائيل، ثم يأمر عزرائيلُ ملائكته الموكِّلين بهذه المسألة، ثم ينفذ الملائكةُ هذا الأمر.

وتأمل لفظة {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا

} [الأنعام: 61] أي: أخذتْه كاملاً، فلم يقُلْ: أعدمتُه مثلاً؛ لذلك نقول قُبضت روحه أي: ذهبتْ إلى حيث كانت قبل أن تُنفخ فيه، ذهبت إلى الملأ الأعلى، ثم تحلَّل الجسد وعاد إلى أصله، وذاب في الأرض، جزئية هنا وجزئية هناك، كما قالوا: {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ

} [السجدة: 10]

فالذي يُتوفَّى لم يُعدم، إنما هو موجود وجوداً كاملاً، روحه وجسده، والله قادر على إعادته يوم القيامة؛ لذلك لم يقُلْ أعدمنا. وهذه المسألة تحلُّ لنا إشكالاً في قصة سيدنا عيسى عليه السلام فقد قال الله فيه: {إِذْ قَالَ الله ياعيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ

} [آل عمران: 55]

فالبعض يقول: إنه عليه السلام تُوفِّي أولاً، ثم رفعه الله إليه. والصواب أن واو العطف هنا تفيد مطلق الجمع، فلا تقتضي ترتيباً ولا تعقيباً، واقرأ إنْ شئتَ قول الحق سبحانه وتعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ

} [الأحزاب: 7]

والخطاب هنا للنبي محمد صلى الله عليه وسلم َ ونوح عليه السلام قبله.

ص: 11815

فالمعنى هنا أن الله تعالى قدَّم الوفاة على الرفع، حتى لا يظن أحد أن عيسى عليه السلام تبرأ من الوفاة، فقدَّم الشيء الذي فيك شكٌّ أو جدال، وما دام قد توفّاه الله فقد أخذه كاملاً غير منقوص، وهذا يعني أنه لم يُصْلَب ولم يُقتل، إنما رفعه الله إليه كاملاً.

وقوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت. .} [السجدة: 11] جاءت ردّا على قولهم: {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ

} [السجدة: 10] فالحق الذي قال أنا خلقتُ الإنسان لم يقُلْ وأنا سأعدمه إنما سأتوفاه، فهو عندي كاملٌ بروحه وبذراته التكوينية، والذي خلق في البَدْء قادر على الإعادة، وجمع الذرات التي تشتتت.

وقوله عن ملك الموت {الذي وُكِّلَ بِكُمْ. .} [السجدة: 11] أي: يرقبكم ولا يغفل عنكم، يلازمكم ولا ينصرف عنكم، بحيث لا مهربَ منه ولا فكَاك، كما قال أهل المعرفة: الموت سهم انطلق إليك فعلاً، وعمرك بمقدار سفره إليك، فهو واقع لا محالة. كما قلنا في المصيبة وأنها ما سُمّيت مصيبة إلا أنها ستصيبك لا محالة.

وقوله: {ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11] أي: يوم القيامة.

ثم يقول الحق سبحانه: {وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون

} .

ص: 11816

تصوِّر لنا هذه الآية مشهداً من مشاهد يوم القيامة، يوم يُساق

ص: 11816

المجرم ذليلاً إلى ما يستحق من العذاب، كأنْ ترى مجرماً مثلاً تسوقه الشرطة وهو مُكبِّل بالقيود يذوق الإهانة والمذلّة، فتشفى نفسك حين تراه ينال جزءاه بعد أنْ أتعب الدنيا وأداخ الناس.

وفي هذا المشهد يخاطب الحق سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم َ، وهو أول مخاطب، ثم يصبح خطاباً لأمته:{وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ. .} [السجدة: 12] أي: حالة وجودهم أنهم ناكسو رءوسهم. وتقدير جواب الشرط: لرأيتَ أمراً عجيباً يشفى صدرك مما فعلوه بك.

ونلحظ في هذا الأسلوب دقة الأداء في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى. .} [السجدة: 12] فلم يقل مثلاً: ولو تعلم؛ لأن إخبار الله كأنه رؤيا العين، فحين يخبرك الله بأمر، فاعلم أنه أصدق من عينك حين ترى؛ لأن عينك قد تخدعك، أما إخبار الله لك فهو الحق.

ومعنى {نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ. .} [السجدة: 12] النكس هو جَعْل الأعلى أسفل، والرأس دائماً في الإنسان أعلى شيء فيه.

وقد وردتْ هذه المادة في قوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام حين حطم الأصنام، وعلَّق الفأس على كبيرهم:{ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ} [الأنبياء: 65]

فبعد أنْ عادوا إلى رشدهم واتهموا أنفسهم بالظلم انتكسوا وعادوا إلى باطلهم، فقالوا:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ} [الأنبياء: 65]

وورد هذا اللفظ أيضاً في قوله تعالى: {وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخلق أَفَلَا يَعْقِلُونَ} [يس: 68]

ص: 11817

والمعنى: نرجعه من حال القوة والفتوة إلى حال الضعف والهرم وعدم القدرة، كما قال سبحانه: {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً

} [النحل: 70]

فبعد القوة يتكئ على عصا، ثم لا يستطيع السير فيحبو، أو يُحمل كما يُحمل الطفل الصغير، هذا هو التنكيس في الخَلْق، وحين نتأمله نقول: الحمد لله لو عافانا من هذه الفترة وهذه التنكيسة، ونعلم أن الموت لُطْف من الله ورحمة بالعباد، أَلَا ترى أن مَنْ وصل إلى هذه المرحلة يضيق به أهله، وربما تمنَّوْا وفاته ليستريح وليستريحوا؟

وتنكيس رءوس المجرمين فيه إشارة إلى أن هذه هي العاقبة فاحذر المخالفة، فمَنْ تكبر وتغطرس في الدنيا نُكِّسَتْ رأسه في الآخرة، ومَنْ تواضع لله في الدنيا رُفِعت رأسه، وهذا معنى الحديث الشريف:«من تواضع لله رفعه» .

وفي تنكيس رءوس المجرمين يوم القيامة معنى آخر؛ لأن الحق سبحانه وتعالى سيفعل في كل مخالف في الآخرة من جنس ما فعل في الدنيا، وهؤلاء الذين نكَّس الله رءوسهم في الاخرة فعلوا ذلك في الدنيا، واقرأ إن شئتَ قول ربك: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ

} [هود: 5]

أي: يطأطئون رءوسهم؛ لكي لا يواجهوا رسول الله، فللحق صَوْلة وقوة لا يثبت الباطل أمامها؛ لذلك نسمع من أصحاب الحق:

ص: 11818

تعالَ واجهني، هات عيني في عينك، ولا بُدَّ أنْ يستخزي أهل الباطل، وأنْ يجبنوا عن المواجهة؛ لأنها ليست في صالحهم.

وهذا العجز عن المواجهة يدعو الإنسان إلى ارتكاب أفظع الجرائم، ويصل به إلى القتل، والقتل لا يدل على القوة، إنما يدل على عجز وضعف وجُبْن عن المواجهة، فالقاتل أقرَّ بأنه لا يستطيع أنْ يواجه حياة عدوه فقتله، ولو كان قوياً لواجه حياته.

ومن العذاب الذي يأتي من جنس ما فعل الإنسان في الدنيا قول الله تعالى في الذين يكنزون الذهب والفضة، ولا ينفقونها في سبيل الله:{والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34 - 35]

سبحان الله، كأنها صورة طبق الأصل مما فعلوه في الدنيا، فالواحد منهم يأتيه طالب العطاء فيعبس في وجهه، ثم يُعرض عنه، ويعطيه جنبه، ثم يعرض عنه ويعيطه ظهره، ويأتي العذاب بنفس هذا التفصيل. إذن: فعلى العاقل أن يحذر هذه المخالفات، فمن جنسها يكون العذاب في الآخرة.

وهؤلاء المجرمون حال تنكيسهم يقولون: {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا. .} [السجدة: 12] هذا كلامهم، ومع ذلك لم يقل القرآن: قالوا أبصرنا وسمعنا، فحَذْف الفعل هنا يدل على أن القول ليس سهلاً عليهم؛ لأنه إقرار بخطئهم الأول وإعلان لذَّلة التوبة.

وقلنا: إن هذه هي الآية الوحيدة التي تقدَّم فيها البصر على السمع؛ لأن الساعة حين تأتي بأهوالها نرى الهول أولاً، ثم نسمع ما نراه.

ص: 11819

لذلك يقول تعالى مُصوِّراً أثر هذا الهول: {وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ} [الحج: 2]

وفي معرض حديثنا السابق عن الحواس: السمع والبصر والفؤاد فاتنا أنْ نذكر آية مهمة جاءت على غير هذا الترتيب، وهي قول الله تعالى:{خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} [البقرة: 7]

فجاء الفؤاد هنا أولاً، وجمع الفؤاد مع السمع في الختم لأنهما اشتركا فيه، أما البصر فاختص بشيء آخر، وهو الغشاوة التي تُغطِّي أبصارهم؛ ذلك لأن الآية السابقة في السمع والبصر والفؤاد كانت عطاءً من الله، فبدأ بالسمع، ثم البصر، ثم ترقى في العطاء إلى الفؤاد، لكن هنا المقام مقام سلب لهذه النعم، فيسلب الأهم أولاً، فأتى بالفؤاد ثم السمع ثم الأبصار.

لكن أي شيء أبصروه؟ وأي شيء سمعوه في قولهم {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا. .} [السجدة: 12] ؟ أول شيء يبصره الكافر يوم القيامة {وَوَجَدَ الله عِندَهُ

} [النور: 39] وحده سبحانه ليس معه شريك من الشركاء الذين عبدوهم في الدنيا، وليس لهم من دونه سبحانه وليٌّ، ولا شفيع، ولا نصير.

ومعنى {وَسَمِعْنَا. .} [السجدة: 12] أي: ما أنزلته يا رب على رسولك، ونشهد أنه الحق وصدَّقنا الرسول في البلاغ عنك، وأنه

ص: 11820

ليس مُفْترياً، ولا هو شاعر، ولا هو ساحر، ولا هو كذاب.

لكن، ما فائدة هذا الاعتراف الآن؟ وبماذا ينفعهم وهو في دار الحساب؟ لا في دار العمل والتكليف؟! وما أشبه هذا الاعتراف باعتراف فرعون قبل أنْ يغرق: {آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلَاّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ

} [يونس: 90] لذلك ردَّ الله عليه: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين} [يونس: 91]

فقولهم: {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا. .} [السجدة: 12] إقرار منهم بأنهم كانوا على خطأ، وأنهم يرغبون في الرجوع إلى الصواب، كما قال سبحانه في موضع آخر: {حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ رَبِّ ارجعون لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ

} [المؤمنون: 99 - 100]، وردَّ الله عليه:{كَلَاّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا} [المؤمنون: 100]

ثم كشف حقيقة أمرهم: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28]

وهنا يقولون: {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12] وهل يكون اليقين في هذا الموقف؟ اليقين إنما يكون بالأمر الغيبي، وأنتم الآن في اليقين الحسيِّ المشَاهدَ، فهو إذن يقين لا يُجدى.

ص: 11821

ثم يقول الحق سبحانه: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا

} .

ص: 11822

هنا قد يسأل سائل: لماذا جعل الله الناسَ: مؤمناً وكافراً، وطائعاً وعاصياً؟ لماذا لم يجعلنا جميعاً مهتدين طائعين؟ أهذا صعب على الله سبحانه؟ لا، ليس صعباً على الله تعالى، بدليل أنه خلق الملائكة طائعين مُنفِّذين لأوامره سبحانه {لَاّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]

كذلك الأرض والسماء والجبال. . الخ، كلها تُسبِّح الله وتعبده {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ

} [النور: 41]

وقال: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لَاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ

} [الإسراء: 44] ، وبعد ذلك يعطي الله تعالى لبعض خَلْقه معرفة هذا التسبيح، كما قال في حق داود عليه السلام: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ

} [الأنبياء: 79]

نعم، هي تُسبِّح أيضاً مع غير داود، لكن الميزة أنها تشترك معه في تسبيح واحد، كأنهم (كورس) يرددون نشيداً واحداً.

وعرفنا في قصة الهدهد وسليمان عليه السلام أنه كان يعرف قضية التوحيد على أتمَّ وجه، كأحسن الناس إيماناً بالله، وهو الذي قال عن بلقيس ملكة سبأ:{وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} [النمل: 24]

ص: 11822

وقال {أَلَاّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السماوات والأرض وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل: 25]

والحق سبحانه وتعالى حينما يريد أنْ يُدلِّل لخَلْقه على قدرته يجعل من الضعف قوة، ومن القوة ضعفاً، وانظر إلى حال المؤمنين الأوائل، وكم كانوا أذلة مستضعفين، فلما أسلموا رفعهم الله بالإسلام وجعلهم سادة.

ومشهورة قصة الصِّدِّيق أبي بكر لما أَدخل عليه المستضعفين أمثال: عمار وبلال. . وترك صناديد قريش بالباب، فعاتبه أبوه على ذلك: كيف يُدخِل العبيد ويترك هؤلاء السادة بالباب؟ فقال أبو بكر: يا أبي، لقد رفع الإسلام الخسيسة، وإذا كان هؤلاء قد ورمتْ أنوفهم أن يدخل العبيد قبلهم، فكيف بهم حين يُدخِلهم اللهُ الجنةَ قبلهم؟

وعجيب أن يصدر هذا الكرم من الصِّدِّيق أبي بكر، مع ما عُرِف عنه من اللين ورِقَّة القلب والحلم.

وهذا لون من تبديل الأحوال واجتماع الأضداد، وقد عرض الحق تبارك وتعالى لهذه المسألة في قوله تعالى:{إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين: 29 - 30] يعني: يسخرون منهم ويهزأون بهم، كما نسمع من أهل الباطل يقولون للإنسان المستقيم (خدنا على جناحك) .

ص: 11823

وليت الأمر ينتهي عند هذا الحد، إنما إذا عادوا إلى أهلهم كرروا هذا الاستهزاء، وتبجحوا به، وفرحوا لإيذائهم لأهل التقوى والاستقامة:{وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين: 31 - 33] لكن يُنهي الحق سبحانه هذا الموقف بقوله: {فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ} ثم يسألهم الله {عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}

[المطففين: 34 - 36]

فهنا يقول الحق سبحانه: لا تفهموا أن أحداً تأبى عليَّ، من خَلْقي، إنما أردتُ لهم الاختيار، ثم أخبرتهم بما أحبّ أنْ يفعلوه، فيريد الله أن يعلم علم وقوع بمَنْ آمن به، وهو يملك ألَاّ يؤمن. وإلا فهو سبحانه عالم أزلاً؛ ليكون الفعل حجة على أصحابه، إذن: إياك أنْ تظنَّ أنك باختيارك كسرت قهر العلى.

وسبق أنْ قُلْنا: إن الذين أَلِفوا التمرد على الله إيماناً به، فكفروا وتمردوا على طاعته فعصوه. . الخ نقول لهم: ما دُمْتم قد تعودتم التمرد على أوامر الله، فلماذا لا تتمردون على المرض مثلاً أو على الموت؟ إذن: أنت عبد رغم أنفك.

يقول سبحانه هنا: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا. .} [السجدة: 13] أي: لَجعل الناس كالملائكة، وكالمخلوقات المسيَّرة التي لا اختيار لها، وسبق أنْ قُلْنا: إن المخلوقات كلها خُيِّرت في حمل الأمانة، وليس الإنسان وحده، لكن الفرق أن ابن آدم أخذ الاختيار مُفصَّلاً، وبقية الخَلْق أخذوا الاختيار جملة، بدليل قوله تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72]

ص: 11824

ومعنى الهداية في {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا. .} [السجدة: 13] أي: هدى المعونة، وإلا فقد هدى اللهُ جميعَ الناس هُدى الدلالة على طريق الخير، فالذي اخذ بهدى الدلالة وقال على العين والرأس يأخذ هدى المعونة، كما قال سبحانه:{والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17]

ولكي نفهم الفرق بين الهديين، اقرأ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ

} [فصلت: 17] أي: دللناهم وأرشدناهم {فاستحبوا العمى عَلَى الهدى

} [فصلت: 17]

ثم يقول سبحانه: {ولكن حَقَّ القول مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13]

الحق سبحانه يريد أنْ يثبت لخَلْقه أنه هو الأَوْلَى بالحكمة في الخَلْق، بدليل أن الذي يشذ عن مراد الله لا بُدَّ أن يفسد به المجتمع، كما نرى المجتمعات تشقى بكفر الكافر، وبعصيان العاصي.

والحق سبحانه يترك الكافر يكفر باختياره، والعاصي يعصي باختياره ليؤذي الناس بإثم الكافر وبإثم العاصي، وعندها يعودون إلى تشريع الله ويلجئون إلى ساحته سبحانه، ولو أن الناس عملوا بشرع الله ما حدث فساد في الكون ولا خَلَلٌ في حياتهم أبداً.

لذلك نفرح حينما ينتقم الله من أهل الكفر ومن أهل المعصية، ونقول: الحمد لله الذي أراح منهم البلاد والعباد.

إذن: مخالفة منهج الله في القمة كفراً به سبحانه، وفي غيرها معصية لأمره هو الذي يبين مزايا الإيمان وحلاوة التشريع. وقلنا:

ص: 11825

إن التشريع يجب أنْ يأخذه المكلَّف أَخْذاً أَخْذاً كاملاً بما له وبما عليه، فالله كلَّفك ألَاّ تسرق من الناس، وكلَّف الناسَ جميعاً ألَاّ يسرقوا منك.

ومعنى {ولكن حَقَّ القول مِنِّي. .} [السجدة: 13] أي: وقع وثبت وقُطع به، ويأتي هذا المعنى بلفظ سبق، كما في {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين}

[الصافات: 171] وفي قصة نوح عليه السلام: {فاسلك فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين وَأَهْلَكَ إِلَاّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول

} [المؤمنون: 27]

وقال تعالى حكاية عن الكفار في حوارهم يوم القيامة: {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ إِنَّا لَذَآئِقُونَ} [الصافات: 31]

ومعنى {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13] عرفنا أن الله تعالى خلق الجنة، وخلق لها أهلاً يملأونها، وخلق النار وخلق لها أهلاً يملأونها، فليس فيهما أزمة أماكن، فالجنة أُعِدَّتْ لتسع جميع الخَلْق إنْ آمنوا، وكذلك النار أُعِدَّتْ لتسع الخَلْق جميعاً إنْ كفروا.

لذلك حين يذهب أهل الجنة إلى الجنة يرثون أماكن أهل النار فيها، كما قال سبحانه:{ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43]

والجِنَّة: أي الجِنّ والعفاريت.

ص: 11826

ثم يقول الحق سبحانه: {فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ

} .

ص: 11827

والتقدير: ذوقوا العذاب، كما جاء في آية أخرى {ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ} [القمر: 48] ويُقال هذا لزعماء ورءوس الكفر {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49]

واختار حاسة التذوق؛ لأن كل وسيلة إدراك قد تتصل بلون من ألوان الترف في الحياة، أمَّا الذوق فيتصل بإمداد الحياة، وهو الأكل والشرب، وبهما قوام حياة الإنسان، فهما ضرورتان للحياة لا مجردَ ترف فيها.

وفي موضع آخر، يُبيِّن لنا الحق سبحانه أثر الإذاقة، فيقول عن القرية التي كفرت بربها:{فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] وتصور أن يكون الجوع لباساً يستولي على الجسم كله، وكأن الله تعالى يريد أنْ يُبين لنا عضة الجوع، التي لا تقتصر على البطن فحسب، إنما على كل الأعضاء، فقال {لِبَاسَ الجوع

} [النحل: 112] لشمول الإذاقة، فكأن كل عضو في الجسم سيذوق ألم الجوع، وهذا المعنى لا يؤديه إلا اللفظ الذي اختاره القرآن.

وقد فطن الشاعر إلى هذه الشمولية التي تستولي على الجسم كله، فقال عن الحب الإلهي حين يستشرف في القلب ويفيض منه ليشمل كلَّ الجوارح، فقال:

ص: 11827

خَطَراتُ ذِكْرِكَ تَسْتثير مودَّتي

فأُحِسُّ منها في الفُؤادِ دَبيبَا

لا عُضْوَ لي إلَاّ وَفِيه صَبَابةٌ

فَكأنَّ أَعْضَائي خُلِقْنَ قُلُوبَا

وعِلَّة هذه الإذاقة {بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هاذآ. .} [السجدة: 14] أي: يوم القيامة الذي حدَّثناكم عنه، وحذَّرناكم من أهواله، فلم نأخذكم على غِرَّة، لكن نبهناكم إلى سوء العاقبة، فلا عذرَ لكم الآن، وقد ضخَّمنا لكم هذه الأهوال، فكان من الواجب ان تلتفتوا إليها، وأنْ تعتبروا بها، وتتأكدوا من صِدْقها.

أما المؤمنون فحين يروْنَ هذا الهول وهذا العذاب ينزل بالكفرة والمكذِّبين يفرحون؛ لأن الله نجاهم بإيمانهم من هذا العذاب.

وتكون عاقبة نسيان لقاء الله {إِنَّا نَسِينَاكُمْ. .} [السجدة: 14] فأنتم نسيتم لقاء الله، ونسيتم توجيهاته، وأغفلتم إنذاره وتحذيره لكم، ونحن تركناكم ليس هملاً، إنما تركناكم من امتداد الرحمة بكم، فقد كانت رحمتي تشملكم في الدنيا، ولم أخصّ بها المؤمنين بي، بل جعلتُها للمؤمن وللكافر.

فكل شيء في الوجود يعطي الإنسان مطلق الإنسان طالما أخذ بالأسباب، لا فرق بين مؤمن وكافر، هذا في الدنيا، أما في الآخرة فننساكم من هذه الرحمة التي لا تستحقونها، بل:{وَذُوقُواْ عَذَابَ الخلد بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة: 14]

فإنْ كنتم قد تمردتم على الله وكفرتم به في دنيا محدودة، وعمرك فيها محدود، فإن العذاب الواقع بكم اليوم خالد باقٍ دائم، فخسارتكم كبيرة، ومصيبتكم فادحة.

ص: 11828

وقلنا: إن العمل في الدنيا للآخرة يمثل معادلة ينبغي أنْ تُحلّ حلاً صحيحاً، فأنت في الدنيا عمرك لا يُحسب بعمرها، إنما بمدة بقائك فيها، فهو عمر محدود، أما الآخرة فخلود لا ينتهي، فلو أن النعيم فيهما سواء لكان امتداد الزمن مرجحاً للآخرة.

ثم إن نعيمك في الدنيا على قدر إمكاناتك وحركتك فيها، أما نعيم الآخرة فعلى قدر إمكانات الله في الكون، نعيم الدنيا إما أنْ يفوتك أو تفوته أنت، ونعيم الآخرة باقٍ لا يفوتك أبداً لأنك مخلد فيه.

إذن: هي صفقة ينبغي أنْ تُحْسبَ حساباً صحيحاً، وتستحق أن نبيع من أجلها الدنيا بكل ما فيها من غالٍ ونفيس؛ لذلك سماها رسول الله تجارة رابحة.

وقال سبحانه وتعالى عن الكافرين {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16]

ثم يقول الحق سبحانه: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا

} .

ص: 11829

الخرور: السقوط بغير نظام ولا ترتيب، كما جاء في قوله تعالى {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ

} [النحل: 26] وفي موضع آخر قال سبحانه في هذا المعنى: {إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ

} [الإسراء: 107] أي: من قبل القرآن {إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} [الإسراء: 107 - 108]

فالخرور أنْ تهوي إلى الأرض ساجداً دون تفكير، وكل سجود

ص: 11829

في القرآن يتلو هذه المادة (خرَّ) دليل على أنها أصبحتْ مَلَكة وآلية في المؤمن، بل ويؤكدها الحق سبحانه بقوله:{يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً} [الإسراء: 107] لأنه سجود يأخذ الذقن، فهو متمكن في الذلّة، وهو فوق السجود الذي نعرفه في الصلاة على الأعضاء السبعة المعروفة.

ولم يُذكر الخرور مع الركوع إلا في موضع واحد، هو قوله تعالى في شأن داود:{وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [ص: 24]

وفي موضع آخر قال سبحانه: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء: 109] فكلما ازدادوا ذِلَّة ازدادوا خشوعاً، فكأنهم عشقوا التكليف، وأحبوا أوامر الله؛ لذلك بالغوا في الذلة والعبودية لله تعالى، وهذه المسألة تفسر لنا قول النبي صلى الله عليه وسلم َ:«أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا من الدعاء» .

ففي السجود تضع وجهك وجبهتك، وهي رمز العلو والرِّفْعة تضعها على الأرض خضوعاً لله عز وجل.

ثم يقول الحق سبحانه عنهم: {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ

} .

ص: 11830

التجافي يعني الترك، لكن الترك قد يكون معه شوق ويصاحبه ألم، كما تودع حبيباً وتتركه وأنت غير زاهد فيه ولا قَالٍ له، أما الجفوة فترك فيه كراهية للمتروك، فهؤلاء الؤمنون الذين يتركون مضاجعهم كأن جنوبهم تكره المضجع وتجفوه؛ لأنها تتركه إلى لذة أبقى وأعظم هي لذة الاتصال بالله ومناجاته.

ونذكر هنا إن الإمام علياً رضي الله عنه حينما ذهب ليدفن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ رضي الله عنها وقف عند قبر رسول الله وقال: السلام عليك يا سيدي يا رسول الله، قَلَّ عن صفيتك صبري، ورقَّ عنها تجلُّدي، إلا أن لي في التعزي بعظيم فُرْقتك وفادح مصيبتك موضع تأسٍّ - يعني: الذي تحمَّل فَقْدك يا رسول الله يهون عليه أيُّ فَقْد بعدك - فلقد وسدتُك يا رسول الله في ملحودة قبرك، وفاضت بين سَحْري ونَحْري نفسك، أما ليلي فمُسهَّد، وأما حزني فَسَرْمَد، إلى أنْ يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم، هذا وستخبرك ابنتك عن حال أمتك وتضافرها على هضمها

فَأصْغِها السؤال، واستخبرها الحال، هذا ولم يَطلُّ منك العهد، ولم يخْلُ منك الذكر.

ثم لما أراد أنْ ينصرف عن قبر حبيبه قال: والسلام عليك سلام

ص: 11831

مُودِّع، لا قال ولا سئم، فإنْ انصرف فلا عن ملالة، وإنْ أُقِم فلا عن سوء ظنَّ بما وعد الله به عباده الصابرين.

فقوله تعالى: {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع. .} [السجدة: 16] أي: تكرهها وتجفوها، مع أنها أعزُّ ما يركن إليه الإنسان عند راحته، فالإنسان حين تدبّ فيه الحياة، ويستطيع أنْ تكون له قوة ونشاط يعمل في الحياة، فالعمل فرع وجود الحياة، وبالقوة يمشي، وبالقوة يحمل الأثقال.

فإذا ما أتعبه الحِمْل وضعه عن نفسه ليستريح، لكنه يستطيع أن يمشي بدون حمل، فإنْ أتعبه المشي وقف، فإذا أتعبه الوقوف جلس؛ لذلك يحدث أن تقول لصاحبك: لو سمحت احمل عني هذا الحِمْلَ فيقول: يا شيخ، هل أنا قادر أن أحمل نفسي؟

إذن: التعب في هذه الحالة ناشئ من ثِقَل الجسم على القدمين فيتعبه الوقوف، إلَا ترانا إذا أطال الإمام في الصلاة مثلاً نراوح بين القدمين مرة على هذه، ومرة على هذه، أما القعود فيريح الإنسان؛ لأنه يُوسِّع دائرة العضو المحتمل، فثِقَل الجسم في حالة القعود يُوزَّع على المقعدة كلها، فإذا بلغ به التعب حداً بحيث أتعبه القعود فإنه يستلقي على جنبه، ويمد جسمه كله على الأرض فيتوزع الثقل على كل الأعضاء، فلا يحمل العضو إلا ثقله فقط.

فإنْ شعر الإنسان بتعب بعد هذا كله تقلَّب على جنبه الآخر أو على ظهره، هذه كلها ألوان من الراحة لجسم الإنسان، لكنه لا يرتاح الراحة الكاملة إلا إذا استغرق في النوم، ويُسمُّون هذا التسلسل متواليات عضلية.

ص: 11832

والدليل على أن النوم راحة تامة أنك لا تشعر فيه بالألم الذي تشعر به حال اليقظة - إنْ كنت تتألم من مرض مثلاً - وهذه كلها متواليات يمر بها المؤمن، وبالتالي إذا مات استراح أكثر، ثم إذا بُعِث يوم القيامة ارتاح الراحة الكبرى، فهي مراحل نمرُّ بها إلى أنْ نرتمي في حضن خالقنا عز وجل.

إذن: فالمضاجع آخر مرحلة في اليقظة، ولم تأْتِ إلا بعد عدة مراحل من التعب، ومع ذلك شوق المؤمنين إلى ربهم ورغبتهم في الوقوف بين يديه سبحانه يُنسبهم هذه الراحة، ويُزهِّدهم فيها، فيجفونها ليقفوا بين يدي الله.

وفي موضع آخر قال تعالى عنهم: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] ثم يقول سبحانه: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ. .} [السجدة: 16] أي: يدعون ربهم وهم على حال التعب، كأن الدعاء مجرد الدعاء يريحهم، لماذا ولم يُحَابوا بعد؟ قالوا: لأنهم وضعوا حاجاتهم وطلبهم عند قادر على الإنفاذ، ثم إن حلاوة لقائهم بربهم في الصلاة تُنسيهم التعب الذي يعانون.

والمؤمنون يدعون ربهم {خَوْفاً وَطَمَعاً. .} [السجدة: 16] أي: خوفاً مما حدث منهم من تقصير في حق الله، وأنهم لم يُقدِّموا لله تعالى ما يستحق من التقوى ومن الطاعة {وَطَمَعاً. .} [السجدة: 16] أي: في المغفرة {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة: 16] والمراد هنا الزكاة.

لذلك نرى في قوله تعالى: {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع. .} [

ص: 11833