الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيه أشهى إلى النفوس وأمتع. تلك البينة التي تعرفهم وجه الحق هي رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ أي محمد صلى الله عليه وسلم يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً وهي صحف القرآن المطهرة من الخلط وحشو المدلّين، فلهذا تنبعث منها أشعة الحق حتى يعرفه طالبوه ومنكروه معا فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ أي مستقيمة لا عوج فيها. واستقامة الكتب اشتمالها على الحق الذي لا يميل إلى باطل لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42] ، والكتب التي في صحف القرآن ومصاحفه، إما أن تكون هي ما صح من كتب الأولين كموسى وعيسى وغيرهما، مما حكاه الله في كتابه عنهم. فإنه لم يأت منها إلا بما هو قوي سليم. وقد ترك حكاية ما لبّس في الملبّسون إلا أن يكون ذكره لبيان بطلانه. ولهذا لم يجد الجاحدون لرسالته عليه السلام من أهل الكتاب سبيلا إلى إنكار الحق. وإنما فضلوا عليه سواه. أن هي سور القرآن. فإن كل سورة من سوره، كتاب قويم. فصحف القرآن أو صحائفه وأوراق مصحفه تحتوي على سور من القرآن هي كتب قيمة. ولما كان لسائل أو يسأل: إذا كان هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، وقد انفكوا عن ذلك الظلام المطبق، وبدا لهم من الحق ما عرفوه كما يعرفون أبناءهم، فما بالهم لم يؤمنوا بهذا الحق الذي جاءهم؟
أجاب الحق تعالى بأن أهل الكتاب قد جاءتهم البينة والحجة القاطعة على الحق الذي لا يختلف وجهه، بما أوحى الله به إلى أنبيائهم. وكان من حقهم أن يسترشدوا بكتبهم في معرفة سبيله حتى لا ينحرفوا عنه. فإذا عرض لأحدهم شبهة رجع في كشفها إلى العارف بمعاني الكتب. ثم كان عليهم أن يحرصوا على تعلم معانيها وفهم أساليبها ويحافظوا عليها حتى لا يضللهم فيها مضلل. لكن هذه البينة لم تفدهم شيئا فإنهم اختلفوا في التأويل وتفرقوا في المذاهب حتى صار أهل كل مذهب يبطل ما عند أهل المذهب الآخر. وكان ذلك بغيا منهم، واستمرارا في المراد، وإصرارا على ما قاد إليه الهوى. وهذا هو قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البينة (98) : الآيات 4 الى 5]
وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَما أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ أي على ألسنة أنبيائهم. فهكذا كان شأنهم في النبيّ صلى الله عليه وسلم جحدوا بينته كما جحدوا بينة أنبيائهم.
بتفرقهم فيها، وبعدهم بالتفرق عن حقيقتها. فإن كان هذا شأن أهل الكتاب في بينتهم وبينتنا، فما ظنك بالمشركين، وهم أعرق في الجهالة وأسلس قيادا للهوى،
منهم؟؟ وقول تعالى: وَما أُمِرُوا أي والحال أن أهل الكتاب ما أمروا بلسان أنبيائهم وكتبهم إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي الإذعان والخضوع، وذلك بتنقيته من أن يشركه فيه شيء. لا واسطة ولا مال، ولا كرامة ولا جاه حُنَفاءَ أي متبعي إبراهيم عليه السلام، أو على مثاله. وأصله جمع (حنيف) بمعنى المائل المنحرف. سمي به إبراهيم عليه السلام لانحرافه عن وثنية الناس كافة وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ أي الإتيان بها، لإحضار القلب هيبة المعبود وترويضه بالخشوع لا أن تكون مجرد حركات ظاهرة. فإن ذلك ليس من الصلاة في شيء، البتة وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ أي بصرفها في مصارفها التي عينها الله تعالى: وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ أي الكتب القيمة.
أو دين الأمة القيمة المستقيمة. ومعنى الآية: إن أهل الكتاب قد افترقوا، ولعنت كل فرقة أختها. وكان افتراقهم في العقائد والأحكام وفروع الشريعة، مع أنهم لم يؤمروا ولم توضع لهم تلك الأحكام إلا لأجل أن يعبدوا الله ويخلصوا له عقائدهم وأعمالهم، فلا يأخذونها إلا عنه مباشرة، ولا يقلدون أهل الضلال من الأمم الأخرى.
وأن يخشعوا لله في صلاتهم، وإن يصلوا عباد الله بزكاتهم. فإذا كان هذا هو الأصل الذي يرجع إليه في الأوامر، فما كان عليهم إلا أن يجعلوه نصب أعينهم، فيردوا إليه كل ما يعرض لهم من المسائل ويحلّوا به كل ما يعترض أمامهم من المشاكل. ومتى تحكم الإخلاص في الأنفس، تسلط الإنصاف عليها، فسادت فيها الوحدة، ولم تطرق طرقها الفرقة. هذا ما نعاه الله من حال أهل الكتاب. فما نقول في حالنا؟ أفما ينعاه كتابنا الشاهد علينا بسوء أعمالنا، في افتراقنا في الدين، وأن صرنا فيه شيعا، وملأناه محدثات وبدعا؟ بهذا الذي تقدم عرفت أن الذين كفروا هم الذين أنكروا رسالة النبيّ صلى الله عليه وسلم عند دعوتهم إلى قبول ما جاء به. وإن مِنْ في قوله: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ للتبعيض. وأن معنى (لم يكونوا منفكين) :
أي لم يكن وجه الحق لينكشف لهم، فيقع الزلزال في عقائدهم، فينفكوا عن الغفلة المحضة التي كانوا فيها، حتى تأتيهم البينة. ويجوز أن يكون المراد من الَّذِينَ كَفَرُوا والله أعلم، أولئك الذين جحدوا شيئا من دين الله تعالى عند ما جاءهم. ولم ينظروا في دليله. أو أعرضوا عنه بعد ما عرفوا دليله سواء كانوا من مشركي العرب أو من أهل الكتاب. وإن آمنوا بعد ذلك وصدقوا. فأراد الله أن يذكر منته على من آمن من هؤلاء. فبين أن الذين كفروا، أي جحدوا ما أوجب الله على عباده أن يعتقدوه عنه من صفاته وشرائعه من أهل الكتاب ومشركي العرب، لم يكونوا براجعين عن كفرهم وجحودهم هذا، حتى يأتيهم الرسول فيبين لهم بطلان ما كانوا عليه من الكفر، فيؤمنوا. فما أعظم فضل الله عليهم في إرسال رسوله إليهم!