الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة البقرة (2): آية 61]
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ فِي التِّيهِ حِينَ مَلُّوا الْمَنَّ وَالسَّلْوَى وَتَذَكَّرُوا عَيْشَهُمُ الْأَوَّلَ بِمِصْرَ. قَالَ الْحَسَنُ: كَانُوا نَتَانَى أَهْلَ كُرَّاثٍ وَأَبْصَالٍ وَأَعْدَاسٍ فَنَزَعُوا إِلَى عِكْرِهِمْ «1» عِكْرِ السُّوءِ وَاشْتَاقَتْ طِبَاعُهُمْ إِلَى مَا جَرَتْ عَلَيْهِ عَادَتُهُمْ فَقَالُوا: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ. وَكَنَّوْا عَنِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى بِطَعَامٍ وَاحِدٍ وَهُمَا اثْنَانِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ فَلِذَلِكَ قَالُوا: طَعَامٌ وَاحِدٌ. وَقِيلَ: لِتَكْرَارِهِمَا فِي كُلِّ يَوْمٍ غِذَاءً كَمَا تَقُولُ لِمَنْ يُدَاوِمُ عَلَى الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ هُوَ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ لِمُلَازَمَتِهِ لِذَلِكَ. وَقِيلَ الْمَعْنَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى الْغِنَى فَيَكُونُ جَمِيعُنَا أَغْنِيَاءُ فَلَا يَقْدِرُ بَعْضُنَا عَلَى الِاسْتِعَانَةِ بِبَعْضٍ لِاسْتِغْنَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا بِنَفْسِهِ. وَكَذَلِكَ كَانُوا فَهُمْ أَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ الْعَبِيدَ وَالْخَدَمَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَلى طَعامٍ) الطَّعَامُ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُطْعَمُ وَيُشْرَبُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى" وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي" وَقَالَ" لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا"[المائدة: 93] أَيْ مَا شَرِبُوهُ مِنَ الْخَمْرِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ «2» . وَإِنْ كَانَ السَّلْوَى الْعَسَلُ- كَمَا حَكَى الْمُؤَرِّجُ- فَهُوَ مَشْرُوبٌ أَيْضًا. وَرُبَّمَا خُصَّ بِالطَّعَامِ الْبُرُّ وَالتَّمْرُ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كُنَّا نُخْرِجُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ
(1). العكر (بكسر أوله وسكون ثانيه): الأصل. وقيل: العادة والديدن. والعكر (بالتحريك): دردي كل شي.
(2)
. راجع ج 6 ص 293.
شَعِيرٍ، الْحَدِيثَ. وَالْعُرْفُ جَارٍ بِأَنَّ الْقَائِلَ: ذَهَبْتُ إِلَى سُوقِ الطَّعَامِ فَلَيْسَ يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعُ بَيْعِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا يُؤْكَلُ أَوْ يُشْرَبُ. وَالطَّعْمُ (بِالْفَتْحِ) هُوَ مَا يُؤَدِّيهِ الذَّوْقُ يُقَالُ طَعْمُهُ مُرٌّ. وَالطَّعْمُ أَيْضًا: مَا يُشْتَهَى مِنْهُ يُقَالُ لَيْسَ لَهُ طَعْمٌ وَمَا فُلَانٌ بِذِي طَعْمٍ إِذَا كَانَ غَثًّا. وَالطُّعْمُ (بِالضَّمِّ): الطَّعَامُ قَالَ أَبُو خِرَاشٍ:
أَرُدُّ شُجَاعَ الْبَطْنِ لَوْ «1» تَعْلَمِينَهُ
…
وَأُوثِرُ غَيْرِي مِنْ عِيَالِكِ بِالطُّعْمِ
وَأَغْتَبِقُ الْمَاءَ الْقَرَاحَ فَأَنْتِهِي
…
إِذَا الزَّادُ أَمْسَى لِلْمُزَلَّجِ «2» ذَا طَعْمِ
أَرَادَ بِالْأَوَّلِ الطَّعَامَ وَبِالثَّانِي مَا يُشْتَهَى مِنْهُ وَقَدْ طَعِمَ يَطْعَمُ فَهُوَ طَاعِمٌ إِذَا أَكَلَ وَذَاقَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى" وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي"[البقرة: 249] أَيْ مَنْ لَمْ يَذُقْهُ. وَقَالَ" فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا" [الأحزاب: 53 [أَيْ أَكَلْتُمْ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي زَمْزَمَ (إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ وَشِفَاءُ سُقْمٍ)«3» . وَاسْتَطْعَمَنِي فُلَانٌ الْحَدِيثَ إِذَا أَرَادَ أَنْ تُحَدِّثَهُ. وَفِي الْحَدِيثِ (إِذَا اسْتَطْعَمَكُمُ الْإِمَامُ فَأَطْعِمُوهُ). يَقُولُ: إِذَا اسْتَفْتَحَ فَافْتَحُوا عَلَيْهِ. وَفُلَانٌ مَا يَطْعَمُ النَّوْمَ إِلَّا قَائِمًا. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
نَعَامًا بِوَجْرَةَ صُفْرَ الْخُدُو
…
دِ مَا تَطْعَمُ النوم إلا صياما «4»
قوله تعالى: (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) لُغَةُ بَنِي عَامِرٍ" فَادْعُ" بِكَسْرِ الْعَيْنِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ يُجْرُونَ الْمُعْتَلَّ مَجْرَى الصَّحِيحِ وَلَا يراعون المحذوف. و" يُخْرِجْ
" مجزوم في مَعْنَى سَلْهُ وَقُلْ لَهُ: أَخْرِجْ يُخْرِجُ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى مَعْنَى الدُّعَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ
(1). في ديوان الهذليين واللسان مادة (طعم): (قد تعلمينه).
(2)
. المزلج: من معانيه البخيل. والملزق بالقوم وليس منهم. وكلاهما محتمل.
(3)
. أي يشبع الإنسان إذا شرب ماءها كما يشبع من الطعام.
(4)
. كذا في نسخ الأصل. ووجرة (بفتح فسكون): موضع بين مكة والبصرة. والذي في كتب اللغة ومعاجم البلدان:
نعاما بخطمه صفر الخدو
…
د لا تطعم الماء إلا صياما
وقبله:
فأما بنو عامر بالنسار
…
غداة لقونا فكانوا نعاما
وهو لبشر بن أبي خازم. وخطمة (بفتح فسكون): موضع أعلى المدينة. وفي اللسان بعد البيت: (يقول: هي صائمة منه لا تطعمه قال: وذلك لان النعام لا ترد الماء ولا تطعمه).
اللَّامِ وَضَعَّفَهُ الزَّجَّاجُ وَ" مِنْ" فِي قَوْلِهِ" مِمَّا" زَائِدَةٌ فِي قَوْلِ الْأَخْفَشِ وَغَيْرُ زَائِدَةٍ فِي قَوْلِ سِيبَوَيْهِ لِأَنَّ الْكَلَامَ مُوجَبٌ قَالَ النَّحَّاسُ وَإِنَّمَا دَعَا الْأَخْفَشُ إِلَى هَذَا لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ مَفْعُولًا لِ" يُخْرِجْ" فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ" مَا" مَفْعُولًا وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ سَائِرُ الْكَلَامِ التَّقْدِيرُ: يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مَأْكُولًا. فَ" مِنْ" الاولى على هذا للتبعيض والثانية للتخصيص. و (مِنْ بَقْلِها) بَدَلٌ مِنْ" مَا" بِإِعَادَةِ الْحَرْفِ. والبقل (وَقِثَّائِها) عطف عليه وكذا ما بعده فاعلمه. والبقل معروف وهو كل نبات ليس له ساق والشجر: ما له ساق. وَالْقِثَّاءُ أَيْضًا مَعْرُوفٌ وَقَدْ تُضَمُّ قَافُهُ وَهِيَ قراءة يحيى بن وثاب وطلحة ابن مُصَرِّفٍ لُغَتَانِ وَالْكَسْرُ أَكْثَرُ وَقِيلَ فِي جَمْعِ قِثَّاءٍ قَثَائِيٌّ مِثْلُ عِلْبَاءَ وَعَلَابِيٍّ إِلَّا أَنَّ قِثَّاءً مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ تَقُولُ: أَقْثَأْتُ الْقَوْمَ أي أطعمتهم ذلك.] وقثأت «1» الْقِدْرَ سَكَنْتُ غَلَيَانَهَا بِالْمَاءِ قَالَ الْجَعْدِيُّ:
تَفُورُ عَلَيْنَا قِدْرُهُمْ فَنُدِيمُهَا
…
وَنَفْثَؤُهَا عَنَّا إِذَا حَمْيُهَا غَلَا
وَفَثَأْتُ الرَّجُلَ إِذَا كَسَرْتَهُ عَنْكَ بِقَوْلٍ أَوْ غَيْرِهِ وَسَكَّنْتَ غَضَبَهُ وَعَدَا حَتَّى أَفْثَأَ أَيْ أَعْيَا وَانْبَهَرَ. وَأَفْثَأَ الْحَرُّ أَيْ سَكَنَ وَفَتَرَ. وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ فِي الْيَسِيرِ مِنَ الْبِرِّ قَوْلُهُمْ: إِنَّ الرَّثِيئَةَ تَفْثَأُ فِي الْغَضَبِ" وَأَصْلُهُ أَنَّ رَجُلًا كَانَ غَضِبَ عَلَى قَوْمٍ وَكَانَ مَعَ غَضَبِهِ جَائِعًا فَسَقَوْهُ رَثِيئَةً فَسَكَنَ غَضَبُهُ وَكَفَّ عَنْهُمْ. الرَّثِيئَةُ: اللَّبَنُ الْمَحْلُوبُ عَلَى الْحَامِضِ لِيَخْثُرَ رَثَأْتُ اللَّبَنَ رَثْأً إِذَا حَلَبْتَهُ عَلَى حامض فخثر والاسم الرثيئة. ورتثأ اللَّبَنُ خَثُرَ [. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَتْ أُمِّي تُعَالِجُنِي لِلسُّمْنَةِ تُرِيدُ أَنْ تُدْخِلَنِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَا اسْتَقَامَ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى أَكَلْتُ الْقِثَّاءَ بِالرُّطَبِ فَسَمِنْتُ كَأَحْسَنِ سمنة. وهذا إسناد صحيح.
(1). الكلام الموضوع بين المربعين نقله المؤلف من معاجم اللغة سهوا على أنه من مادة (قثا) بالقاف والواقع أنه من مادة (فثأ) بالفاء.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَفُومِها) اخْتُلِفَ فِي الْفُومِ فَقِيلَ هُوَ الثُّومُ لِأَنَّهُ الْمُشَاكِلُ لِلْبَصَلِ. رَوَاهُ جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ. وَالثَّاءُ تُبْدَلُ مِنَ الْفَاءِ كَمَا قَالُوا مَغَافِيرُ وَمَغَاثِيرُ «1» . وَجَدَثَ وَجَدَفَ لِلْقَبْرِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ" ثُومِهَا" بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عن ابن عباس. وقال أمية ابن أبي الصلت:
كانت منازلهم إذ ذال ظَاهِرَةً
…
فِيهَا الْفَرَادِيسُ وَالْفُومَانُ وَالْبَصَلُ
الْفَرَادِيسُ وَاحِدُهَا فَرْدِيسٌ. وَكَرْمٌ مُفَرْدَسٌ أَيْ مُعَرَّشٌ. وَقَالَ حَسَّانُ:
وَأَنْتُمْ أُنَاسٌ لِئَامُ الْأُصُولِ
…
طَعَامُكُمُ الْفُومُ وَالْحَوْقَلُ
يَعْنِي الثُّومَ وَالْبَصَلَ وَهُوَ قَوْلُ الْكِسَائِيُّ وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ. وَقِيلَ: الْفُومُ الْحِنْطَةُ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَأَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ قَالَ: وَهُوَ أَوْلَى وَمَنْ قَالَ بِهِ أَعْلَى وَأَسَانِيدُهُ صِحَاحٌ وَلَيْسَ جُوَيْبِرٌ بِنَظِيرٍ لِرِوَايَتِهِ وَإِنْ كَانَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ قَدِ اخْتَارَا الْقَوْلَ الْأَوَّلَ لِإِبْدَالِ الْعَرَبِ الْفَاءَ مِنَ الثَّاءِ وَالْإِبْدَالُ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَأَنْشَدَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنِ الْفُومِ وَأَنَّهُ الْحِنْطَةُ قَوْلَ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ:
قَدْ كُنْتُ أَغْنَى النَّاسِ شَخْصًا وَاجِدًا
…
وَرَدَ الْمَدِينَةَ عَنْ زِرَاعَةِ فُومِ
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ وَكَيْفَ يَطْلُبُ الْقَوْمُ طَعَامًا لَا بُرَّ فِيهِ وَالْبُرُّ أَصْلُ الْغِذَاءِ! وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ أَبُو نَصْرٍ الْفُومُ الْحِنْطَةُ وَأَنْشَدَ الْأَخْفَشُ:
قَدْ كُنْتُ أَحْسَبُنِي كَأَغْنَى وَاجِدٍ
…
نَزَلَ الْمَدِينَةَ عَنْ زِرَاعَةِ فُومِ «2»
وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: الْفُومَةُ السُّنْبُلَةُ وَأَنْشَدَ:
وَقَالَ رَبِيئُهُمْ «3» لَمَّا أَتَانَا
…
بِكَفِّهْ فُومَةٌ أَوْ فومتان
(1). المغافير: قيل: هو صمغ يسيل من شجر العرفط رائحته ليست بطيبة. [ ..... ]
(2)
. في الأغاني (ج 21 ص 211) طبع أوربا: (عن زراعة فول). وقيل البيت:
ولقد نظرت إلى الشموس ودونها
…
حرج من الرحمن غير قليل
وعلى هذا فالقافية لامية.
(3)
. في بعض الأصول: (وقال رئيسهم). الربى. (ومثله الربيئة): العين والطليعة الذي ينظر للقوم لئلا يدهمهم عدو ولا يكون إلا على جبل أو شرف ينظر منه.
وَالْهَاءُ فِي" كَفِّهِ" غَيْرُ مُشْبَعَةٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْفُومُ الْحِمَّصُ لُغَةٌ شَامِيَّةٌ وَبَائِعُهُ فَامِيٌّ، مُغَيَّرٌ عَنْ فُومِيٍّ لِأَنَّهُمْ قَدْ يُغَيِّرُونَ فِي النَّسَبِ، كَمَا قَالُوا سُهْلِيٌّ وَدُهْرِيٌّ. وَيُقَالُ: فَوِّمُوا لَنَا أي اختبزوا. قال القراء: هِيَ لُغَةٌ قَدِيمَةٌ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَقَتَادَةُ: الْفُومُ كُلُّ حَبٍّ يُخْتَبَزُ. مَسْأَلَةٌ- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَكْلِ الْبَصَلِ وَالثُّومِ وَمَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ مِنْ سَائِرِ الْبُقُولِ. فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى إِبَاحَةِ ذَلِكَ، لِلْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ فِي ذَلِكَ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ فَرْضًا- إِلَى الْمَنْعِ، وَقَالُوا: كُلُّ مَا مَنَعَ مِنْ إِتْيَانِ الْفَرْضِ وَالْقِيَامِ بِهِ فَحَرَامٌ عَمَلُهُ وَالتَّشَاغُلُ بِهِ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَمَّاهَا خَبِيثَةً، وَاللَّهُ عز وجل قَدْ وَصَفَ نَبِيَّهُ عليه السلام بِأَنَّهُ يُحَرِّمُ الْخَبَائِثَ. وَمِنَ الْحُجَّةِ لِلْجُمْهُورِ مَا ثَبَتَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِبَدْرٍ فِيهِ «1» خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، قَالَ: فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبُقُولِ، فَقَالَ (قَرِّبُوهَا) إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ كَانَ مَعَهُ فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا، قَالَ:(كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ. فَهَذَا بَيِّنٌ فِي الْخُصُوصِ لَهُ وَالْإِبَاحَةِ لِغَيْرِهِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ عَلَى أَبِي أَيُّوبَ، فَصَنَعَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا فِيهِ ثُومٌ، فَلَمَّا رُدَّ إِلَيْهِ سَأَلَ عَنْ مَوْضِعِ أَصَابِعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقِيلَ لَهُ: لَمْ يَأْكُلْ. فَفَزِعَ وَصَعِدَ إِلَيْهِ فَقَالَ: أَحَرَامٌ هُوَ؟ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (لَا وَلَكِنِّي أَكْرَهُهُ). قَالَ فَإِنِّي أَكْرَهُ مَا تَكْرَهُ أَوْ مَا كَرِهْتَ، قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُؤْتَى (يَعْنِي يَأْتِيهِ الْوَحْيُ) فَهَذَا نَصٌّ عَلَى عَدَمِ التَّحْرِيمِ. وَكَذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَكَلُوا الثُّومَ زَمَنَ خَيْبَرَ وَفَتْحِهَا: (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَيْسَ لِي تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَلَكِنَّهَا شَجَرَةٌ أَكْرَهُ رِيحَهَا). فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تُشْعِرُ بِأَنَّ الْحُكْمَ خَاصٌّ بِهِ، إِذْ هُوَ الْمَخْصُوصُ بِمُنَاجَاةِ الْمَلَكِ. لَكِنْ قَدْ عَلِمْنَا هَذَا الْحُكْمَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ بِمَا يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي هَذَا الْحُكْمِ حَيْثُ قَالَ: (مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ الثُّومِ وقال مرة: من أكل البصل والثوم
(1). في الأصول: (بقدر). والتصويب عن سنن أبي داود. يعنى بالبدر الطبق شبه بالبدر لاستدارته.
وَالْكُرَّاثَ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ (. وَقَالَ عُمَرُ ابن الْخَطَّابِ رضي الله عنه فِي حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ: إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ تَأْكُلُونَ شَجَرَتَيْنِ لَا أَرَاهُمَا إِلَّا خَبِيثَتَيْنِ، هَذَا الْبَصَلُ وَالثُّومُ. وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا وَجَدَ رِيحَهُمَا مِنَ الرَّجُلِ فِي الْمَسْجِدِ أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى الْبَقِيعِ، فَمَنْ أَكَلَهُمَا فَلْيُمِتْهُمَا طَبْخًا. خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَعَدَسِها وَبَصَلِها) الْعَدَسُ مَعْرُوفٌ. وَالْعَدَسَةُ: بَثْرَةٌ تَخْرُجُ بِالْإِنْسَانِ، وربما قتلت. وعدس: زجر للبغال، قال:
عَدَسْ مَا لِعَبَّادٍ عَلَيْكِ إِمَارَةٌ
…
نَجَوْتِ وَهَذَا تحملين طليق «1»
والعدس: شدة الوطي، وَالْكَدْحِ أَيْضًا، يُقَالُ: عَدَسَهُ. وَعَدَسَ فِي الْأَرْضِ: ذَهَبَ فِيهَا. وَعَدَسَتْ إِلَيْهِ الْمَنِيَّةُ أَيْ سَارَتْ، قَالَ الْكُمَيْتُ:
أُكَلِّفُهَا هَوْلَ الظَّلَامِ وَلَمْ أَزَلْ
…
أَخَا اللَّيْلِ مَعْدُوسًا إِلَيَّ وَعَادِسًا
أَيْ يُسَارُ إِلَيَّ بِاللَّيْلِ. وَعَدَسٌ: لُغَةٌ فِي حَدَسٍ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَيُؤْثَرُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ:(عَلَيْكُمْ بِالْعَدَسِ فَإِنَّهُ مُبَارَكٌ مُقَدَّسٌ وَإِنَّهُ يُرِقُّ الْقَلْبَ وَيُكْثِرُ الدَّمْعَةَ فَإِنَّهُ بَارَكَ فِيهِ سَبْعُونَ نَبِيًّا آخِرُهُمْ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ)، ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَأْكُلُ يَوْمًا خُبْزًا بِزَيْتٍ، وَيَوْمًا بِلَحْمٍ «2» ، وَيَوْمًا بِعَدَسٍ. قَالَ الْحَلِيمِيُّ: وَالْعَدَسُ وَالزَّيْتُ طَعَامُ الصَّالِحِينَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضِيلَةٌ إِلَّا أَنَّهُ ضِيَافَةُ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام فِي مَدِينَتِهِ لَا تَخْلُو مِنْهُ لَكَانَ فِيهِ كِفَايَةٌ. وَهُوَ مِمَّا يُخَفِّفُ الْبَدَنَ فيخف للعبادة، ولا تَثُورُ مِنْهُ الشَّهَوَاتُ كَمَا تَثُورُ مِنَ اللَّحْمِ. وَالْحِنْطَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْحُبُوبِ وَهِيَ الْفُومُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالشَّعِيرُ قَرِيبٌ مِنْهَا وَكَانَ طَعَامَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، كَمَا كَانَ الْعَدَسُ مِنْ طَعَامِ قَرْيَةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، فَصَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَبَّتَيْنِ بِأَحَدِ النَّبِيَّيْنِ عليهما السلام فَضِيلَةٌ. وَقَدْ روي أن النبي صلى الله
(1). البيت ليزيد بن مفرغ.
(2)
. في بعض نسخ الأصل: (بملح).
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشْبَعْ هُوَ وَأَهْلُهُ مِنْ خُبْزِ بُرٍّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ إِلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ عز وجل. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) الِاسْتِبْدَالُ: وَضْعُ الشَّيْءِ مَوْضِعَ الآخر، ومنه البدل، وقد تقدم. و" أَدْنى " مَأْخُوذٌ عِنْدَ الزَّجَّاجِ مِنَ الدُّنُوِّ أَيْ الْقُرْبِ فِي الْقِيمَةِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: ثَوْبٌ مُقَارِبٌ، أَيْ قَلِيلُ الثَّمَنِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: هُوَ مَهْمُوزٌ مِنَ الدَّنِيءِ الْبَيِّنِ الدَّنَاءَةِ بِمَعْنَى الْأَخَسِّ، إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ هَمْزَتُهُ. وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الدُّونِ أَيْ الْأَحَطِّ، فَأَصْلُهُ أَدْوَنُ، أَفْعَلُ، قُلِبَ فَجَاءَ أَفْلَعُ، وَحُوِّلَتِ الْوَاوُ أَلِفًا لِتَطَرُّفِهَا. وقرى فِي الشَّوَاذِّ" أَدْنَى" «1». وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَتَسْتَبْدِلُونَ الْبَقْلَ وَالْقِثَّاءَ وَالْفُومَ وَالْعَدَسَ وَالْبَصَلَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالْمَنِّ وَالسَّلْوَى الَّذِي هُوَ خَيْرٌ. وَاخْتُلِفَ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي تُوجِبُ فَضْلَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى عَلَى الشَّيْءِ الَّذِي طَلَبُوهُ وَهِيَ خَمْسَةٌ: الْأَوَّلُ- أَنَّ الْبُقُولَ لَمَّا كَانَتْ لَا خَطَرَ لَهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَنِّ وَالسَّلْوَى كَانَا أَفْضَلَ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. الثَّانِي- لَمَّا كَانَ الْمَنُّ وَالسَّلْوَى طَعَامًا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ وَأَمَرَهُمْ بِأَكْلِهِ وَكَانَ فِي اسْتِدَامَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَشُكْرِ نِعْمَتِهِ أَجْرٌ وَذُخْرٌ فِي الْآخِرَةِ، وَالَّذِي طَلَبُوهُ عَارٍ مِنْ هَذِهِ الْخَصَائِلِ كَانَ أَدْنَى فِي هَذَا الْوَجْهِ. الثَّالِثُ- لَمَّا كَانَ مَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ أَطْيَبَ وَأَلَذَّ مِنَ الَّذِي سَأَلُوهُ، كَانَ مَا سَأَلُوهُ أَدْنَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا مَحَالَةَ. الرَّابِعُ- لَمَّا كَانَ مَا أُعْطُوا لَا كُلْفَةَ فيه ولا تعب، والذي طلبوه لا يجئ إِلَّا بِالْحَرْثِ وَالزِّرَاعَةِ وَالتَّعَبِ كَانَ أَدْنَى. الْخَامِسُ- لَمَّا كَانَ مَا يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ لَا مِرْيَةَ فِي حِلِّهِ وَخُلُوصِهِ لِنُزُولِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، الحبوب وَالْأَرْضُ يَتَخَلَّلُهَا الْبُيُوعُ وَالْغُصُوبُ وَتَدْخُلُهَا الشُّبَهُ، كَانَتْ أدنى من هذا الوجه.
(1). كذا في نسخ الأصل. والذي في كتب الشواذ: (أدنا بالهمز وهي قراءة زهير الفرقبي).
مَسْأَلَةٌ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ وَالْمَطَاعِمِ الْمُسْتَلَذَّاتِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الْحَلْوَى وَالْعَسَلَ، وَيَشْرَبُ الْمَاءَ الْبَارِدَ الْعَذْبَ، وَسَيَأْتِي هَذَا الْمَعْنَى فِي" الْمَائِدَةِ" «1» وَ" النَّحْلِ" «2» إِنْ شَاءَ اللَّهُ مُسْتَوْفًى. قَوْلُهُ تَعَالَى:(اهْبِطُوا مِصْراً) تَقَدَّمَ مَعْنَى الْهُبُوطِ «3» ، وَهَذَا أَمْرٌ مَعْنَاهُ التَّعْجِيزُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً"[الاسراء: 50] لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي التِّيهِ وَهَذَا عُقُوبَةٌ لَهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ أُعْطُوا مَا طَلَبُوهُ. وَ" مِصْراً" بِالتَّنْوِينِ مُنَكَّرًا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ خَطُّ الْمُصْحَفِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: فَمَنْ صَرَفَهَا أَرَادَ مِصْرًا مِنَ الْأَمْصَارِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ. وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:" اهْبِطُوا مِصْراً" قَالَ: مِصْرًا مِنْ هَذِهِ الْأَمْصَارِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِمَّنْ صَرَفَهَا أَيْضًا: أَرَادَ مِصْرَ فِرْعَوْنَ بِعَيْنِهَا. اسْتَدَلَّ الْأَوَّلُونَ بِمَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ مِنْ أَمْرِهِمْ دُخُولَ الْقَرْيَةِ، وَبِمَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ أَنَّهُمْ سَكَنُوا الشَّامَ بَعْدَ التِّيهِ. وَاسْتَدَلَّ الْآخَرُونَ بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ أَوْرَثَ بَنِي إِسْرَائِيلَ دِيَارَ آلِ فِرْعَوْنَ وَآثَارَهُمْ، وَأَجَازُوا صَرْفَهَا. قَالَ الْأَخْفَشُ وَالْكِسَائِيُّ: لِخِفَّتِهَا وَشَبَهِهَا بِهِنْدٍ وَدَعْدٍ، وَأَنْشَدَ:
لَمْ تَتَلَفَّعْ بِفَضْلِ مِئْزَرِهَا
…
دَعْدٌ وَلَمْ تُسْقَ دَعْدُ فِي الْعُلَبِ «4»
فَجَمَعَ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ. وَسِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلُ وَالْفَرَّاءُ لَا يُجِيزُونَ هَذَا، لِأَنَّكَ لَوْ سَمَّيْتَ امْرَأَةً بِزَيْدٍ لَمْ تَصْرِفْ. وَقَالَ غَيْرُ الْأَخْفَشِ: أَرَادَ الْمَكَانَ فَصَرَفَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ وَطَلْحَةُ:" مِصْرَ" بِتَرْكِ الصَّرْفِ. وَكَذَلِكَ هِيَ فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَالُوا: هِيَ مِصْرُ فِرْعَوْنَ. قَالَ أَشْهَبُ قَالَ لِي مَالِكٌ: هِيَ عِنْدِي مِصْرُ قَرْيَتُكَ مَسْكَنُ فِرْعَوْنَ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْمِصْرُ أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الْحَدُّ. وَمِصْرُ الدَّارِ: حُدُودُهَا. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ وَيُقَالُ: إِنَّ أَهْلَ هَجَرَ يَكْتُبُونَ فِي شُرُوطِهِمْ" اشْتَرَى فُلَانٌ الدَّارَ بِمُصُورِهَا" أَيْ حُدُودِهَا، قَالَ عَدِيٌّ:
وَجَاعِلُ الشَّمْسِ مِصْرًا لَا خَفَاءَ بِهِ
…
بَيْنَ النَّهَارِ وَبَيْنَ الليل قد فصلا
(1). راجع ج 6 ص 263.
(2)
. راجع ج 10 ص 136.
(3)
. راجع ص 319.
(4)
. البيت لجرير. والعلب: أقداح من جلود يحلب فيها اللبن ويشرب. يقول هي حضريه رقيقة العيش لا تلبس لبس الاعراب ولا تتغذى غذاءهم. (شرح الشواهد).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ)" مَا" نَصْبٌ بِإِنَّ، وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَالنَّخَعِيُّ" سِأَلْتُمْ" بِكَسْرِ السِّينِ، يُقَالُ: سَأَلْتُ وَسَلْتُ بِغَيْرِ هَمْزٍ. وهو من ذوات الواو، بدليل قولهم: يتساولون. ومعنى (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) أَيْ أُلْزِمُوهُمَا وَقُضِيَ عَلَيْهِمْ بِهِمَا، مَأْخُوذٌ مِنْ ضَرْبِ الْقِبَابِ، قَالَ الْفَرَزْدَقُ فِي جَرِيرٍ:
ضَرَبَتْ عَلَيْكَ الْعَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهَا
…
وَقَضَى عَلَيْكَ بِهِ الْكِتَابُ الْمُنْزَلُ
وَضَرَبَ الْحَاكِمُ عَلَى الْيَدِ، أَيْ حَمَلَ وَأَلْزَمَ. وَالذِّلَّةُ: الذُّلُّ وَالصَّغَارُ. وَالْمَسْكَنَةُ: الْفَقْرُ. فَلَا يُوجَدُ يَهُودِيٌّ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا خَالِيًا مِنْ زِيِّ الْفَقْرِ وَخُضُوعِهِ وَمَهَانَتِهِ. وَقِيلَ: الذِّلَّةُ فَرْضُ الْجِزْيَةِ، عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ. وَالْمَسْكَنَةُ الْخُضُوعُ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ السُّكُونِ، أَيْ قَلَّلَ الْفَقْرُ حَرَكَتَهُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الذِّلَّةُ الصَّغَارُ. وَالْمَسْكَنَةُ مَصْدَرُ الْمِسْكِينِ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ" قَالَ: هُمْ أَصْحَابُ الْقَبَالَاتِ «1» . قوله تعالى: (وَباؤُ) أَيِ انْقَلَبُوا وَرَجَعُوا، أَيْ لَزِمَهُمْ ذَلِكَ. وَمِنْهُ قول عليه السلام فِي دُعَائِهِ وَمُنَاجَاتِهِ:(أَبُوءُ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ) أَيْ أُقِرُّ بِهَا وَأُلْزِمُهَا نَفْسِي. وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الرُّجُوعُ، يُقَالُ بَاءَ بِكَذَا، أَيْ رَجَعَ بِهِ، وَبَاءَ إِلَى الْمَبَاءَةِ وَهِيَ الْمَنْزِلُ أَيْ رَجَعَ. وَالْبَوَاءُ: الرُّجُوعُ بِالْقَوَدِ. وَهُمْ فِي هَذَا الْأَمْرِ بَوَاءٌ، أَيْ سَوَاءٌ، يَرْجِعُونَ فِيهِ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:«2»
أَلَا تَنْتَهِي عَنَّا مُلُوكٌ وَتَتَّقِي
…
مَحَارِمَنَا لَا يَبْوءُ الدَّمُ بِالدَّمِ
أَيْ لَا يَرْجِعُ الدَّمُ بِالدَّمِ فِي الْقَوَدِ. وَقَالَ:
فَآبُوا بِالنِّهَابِ وَبِالسَّبَايَا
…
وَأُبْنَا بِالْمُلُوكِ «3» مُصَفَّدِينَا
أَيْ رَجَعُوا وَرَجَعْنَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ معنى الغضب في الفاتحة «4» .
(1). في تفسير ابن كثير: ( .... القبالات يعني الجزية).
(2)
. هو جابر بن جبير التغلبي (عن شرح الشواهد).
(3)
. البيت من معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي ولا شاهد فيه إذ الرواية فيه: (فآبوا
…
وأبنا) ومادة (آب) غير مادة (باء) وإن كان معنى المادتين واحدا.
(4)
. راجع ص 149. [ ..... ]
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذلِكَ)" ذَلِكَ" تَعْلِيلٌ. (بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ) أَيْ يَكْذِبُونَ- بِآياتِ اللَّهِ) أَيْ بِكِتَابِهِ وَمُعْجِزَاتِ أَنْبِيَائِهِ، كَعِيسَى وَيَحْيَى وَزَكَرِيَّا وَمُحَمَّدٍ عليهم السلام. (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ) مَعْطُوفٌ عَلَى" يَكْفُرُونَ". وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ" يَقْتُلُونَ" وَعَنْهُ أَيْضًا كَالْجَمَاعَةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ" النَّبِيئِينَ" بِالْهَمْزِ حَيْثُ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ: فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ:" إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ"«1» [الأحزاب. 50]. و" لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا"[الأحزاب: 53] فَإِنَّهُ قَرَأَ بِلَا مَدٍّ وَلَا هَمْزٍ. وَإِنَّمَا تَرَكَ هَمْزَ هَذَيْنِ لِاجْتِمَاعِ هَمْزَتَيْنِ مَكْسُورَتَيْنِ. وَتَرَكَ الْهَمْزَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الْبَاقُونَ. فَأَمَّا مَنْ هَمَزَ فَهُوَ عِنْدَهُ مِنْ أَنْبَأَ إِذَا أَخْبَرَ، واسم فاعله منبئ. ويجمع نبئ أَنْبِيَاءَ، وَقَدْ جَاءَ فِي جَمْعِ نَبِيٍّ نُبَآءُ، قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ يَمْدَحُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم:
يَا خَاتَمَ النُّبَآءِ إِنَّكَ مُرْسَلٌ
…
بِالْحَقِّ كُلُّ هُدَى السَّبِيلِ هُدَاكَا
هَذَا مَعْنَى قِرَاءَةِ الْهَمْزِ. وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِتَرْكِ الْهَمْزِ، فَمِنْهُمْ مَنِ اشْتَقَّ اشْتِقَاقَ مَنْ هَمَزَ، ثُمَّ سَهَّلَ الْهَمْزَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ نَبَا يَنْبُو إِذَا ظَهَرَ. فَالنَّبِيُّ مِنَ النُّبُوَّةِ وَهُوَ الِارْتِفَاعُ، فَمَنْزِلَةُ النَّبِيِّ رَفِيعَةٌ. وَالنَّبِيُّ بِتَرْكِ الْهَمْزِ أَيْضًا الطَّرِيقُ، فَسُمِّيَ الرَّسُولُ نَبِيًّا لِاهْتِدَاءِ الْخَلْقِ بِهِ كَالطَّرِيقِ، قَالَ الشَّاعِرُ:«2»
لَأَصْبَحَ رَتْمًا دِقَاقُ الْحَصَى
…
مَكَانَ النَّبِيِّ مِنَ الْكَاثِبِ
رَتَمْتُ الشَّيْءِ: كَسَرْتُهُ، يُقَالُ: رَتَمَ أَنْفَهُ وَرَثَمَهُ، بِالتَّاءِ وَالثَّاءِ جَمِيعًا. وَالرَّتْمُ أَيْضًا الْمَرْتُومُ أَيْ الْمَكْسُورُ. وَالْكَاثِبُ اسْمُ جَبَلٍ. فَالْأَنْبِيَاءُ لَنَا كَالسُّبُلِ فِي الْأَرْضِ. وَيُرْوَى أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: السَّلَامُ عَلَيْكَ يا نبئ اللَّهِ، وَهَمَزَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:(لَسْتَ بنبي اللَّهِ- وَهَمَزَ- وَلَكِنِّي نَبِيُّ اللَّهِ) وَلَمْ يَهْمِزْ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: ضُعِّفَ سَنَدُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَمِمَّا يُقَوِّي ضَعْفَهُ أَنَّهُ عليه السلام قَدْ أَنْشَدَهُ الْمَادِحُ:
يَا خَاتَمَ النُّبَآءِ
…
وَلَمْ يُؤْثَرْ في ذلك إنكار.
(1). ج 14 ص 210 وص 223.
(2)
. هو أوس بن حجر (كما في اللسان).