الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثَّامِنَةُ- رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْلَهُ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا" [الحج: 17] الآية. منسوخ بقوله تعالى:" يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ" [آل عمران: 85] الْآيَةَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ. وَهِيَ فِيمَنْ ثَبَتَ عَلَى إِيمَانِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّبِيِّ عليه السلام.
[تفسير]
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) هَذِهِ الْآيَةُ تُفَسِّرُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى" وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ"«1» [الأعراف: 171]. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمَعْنَى زَعْزَعْنَاهُ فَاسْتَخْرَجْنَاهُ مِنْ مكانه. قال: وكل شي قَلَعْتَهُ فَرَمَيْتَ بِهِ فَقَدْ نَتَقْتَهُ. وَقِيلَ: نَتَقْنَاهُ رَفَعْنَاهُ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: النَّاتِقُ الرَّافِعُ، وَالنَّاتِقُ الْبَاسِطُ، وَالنَّاتِقُ الْفَاتِقُ. وَامْرَأَةٌ نَاتِقٌ وَمُنْتَاقٌ: كَثِيرَةُ الْوَلَدِ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: أُخِذَ ذَلِكَ مِنْ نَتْقِ السِّقَاءِ، وَهُوَ نَفْضُهُ حَتَّى تُقْتَلَعَ الزُّبْدَةَ مِنْهُ. قَالَ وَقَوْلُهُ:" وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ" قَالَ: قُلِعَ مِنْ أَصْلِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي الطُّورِ، فَقِيلَ: الطُّورُ اسْمٌ لِلْجَبَلِ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى عليه السلام وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ فِيهِ التَّوْرَاةَ دُونَ غَيْرِهِ، رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنْهُ أَنَّ الطُّورَ مَا أَنْبَتَ مِنَ الْجِبَالِ خَاصَّةً دُونَ مَا لَمْ يُنْبِتْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: أَيُّ جَبَلٍ كَانَ. إِلَّا أَنَّ مُجَاهِدًا قَالَ: هُوَ اسْمٌ لِكُلِّ جَبَلٍ بِالسُّرْيَانِيَّةِ، وَقَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ هَلْ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ أَلْفَاظٌ مُفْرَدَةٌ غَيْرُ مُعَرَّبَةٍ مِنْ غَيْرِ كَلَامٍ فِي مُقَدِّمَةِ الْكِتَابِ «2» . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَزَعَمَ الْبَكْرِيُّ أَنَّهُ سُمِّيَ بِطُورِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عليه السلام، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الْقَوْلُ فِي سَبَبِ رَفْعِ الطُّورِ وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى عليه السلام لَمَّا جَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِالْأَلْوَاحِ فِيهَا التَّوْرَاةُ قَالَ لَهُمْ: خُذُوهَا وَالْتَزِمُوهَا. فَقَالُوا: لَا! إِلَّا أَنْ يُكَلِّمَنَا اللَّهُ بِهَا كَمَا كَلَّمَكَ. فَصُعِقُوا ثُمَّ أُحْيُوا. فَقَالَ لَهُمْ: خُذُوهَا. فَقَالُوا لَا. فَأَمَرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ فَاقْتَلَعَتْ جَبَلًا من جبال فلسطين طوله
(1). راجع ج 7 ص 313.
(2)
. راجع ص 68 من هذا الجزء.
فَرْسَخٌ فِي مِثْلِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ عَسْكَرُهُمْ، فَجُعِلَ عَلَيْهِمْ مِثْلُ الظُّلَّةِ، وَأُتُوا بِبَحْرٍ مِنْ خَلْفِهِمْ، وَنَارٍ مِنْ قِبَلِ وُجُوهِهِمْ، وَقِيلَ لَهُمْ: خُذُوهَا وَعَلَيْكُمُ الْمِيثَاقُ أَلَّا تُضَيِّعُوهَا، وَإِلَّا سَقَطَ عَلَيْكُمُ الْجَبَلُ. فَسَجَدُوا تَوْبَةً لِلَّهِ وَأَخَذُوا التَّوْرَاةَ بِالْمِيثَاقِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ: لَوْ أَخَذُوهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقٌ. وَكَانَ سُجُودُهُمْ عَلَى شِقٍّ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْقُبُونَ الْجَبَلَ خَوْفًا، فَلَمَّا رحمهم الله قَالُوا: لَا سَجْدَةَ أَفْضَلَ مِنْ سَجْدَةٍ تَقَبَّلَهَا اللَّهُ وَرَحِمَ بِهَا عِبَادَهُ، فَأَمَرُّوا سُجُودَهُمْ عَلَى شِقٍّ وَاحِدٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي لَا يَصِحُّ سِوَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَرَعَ وَقْتَ سُجُودِهِمُ الْإِيمَانَ [فِي قُلُوبِهِمْ «1»] لَا أَنَّهُمْ آمَنُوا كُرْهًا وَقُلُوبُهُمْ غَيْرُ مُطْمَئِنَّةٍ بِذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (خُذُوا) أَيْ فَقُلْنَا خُذُوا، فَحُذِفَ. (مَا آتَيْناكُمْ) أَعْطَيْنَاكُمْ. (بِقُوَّةٍ) أَيْ بجد واجتهاد، قاله ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ. وَقِيلَ: بِنِيَّةٍ وَإِخْلَاصٍ. مُجَاهِدٌ: الْقُوَّةُ الْعَمَلُ بِمَا فِيهِ. وَقِيلَ: بِقُوَّةٍ، بِكَثْرَةِ دَرْسٍ. (وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ) أَيْ تَدَبَّرُوهُ وَاحْفَظُوا أَوَامِرَهُ وَوَعِيدَهُ، وَلَا تَنْسَوْهُ وَلَا تُضَيِّعُوهُ. قُلْتُ: هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكُتُبِ، الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهَا لَا تِلَاوَتُهَا بِاللِّسَانِ وَتَرْتِيلُهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ نَبْذٌ لَهَا، عَلَى مَا قَالَهُ الشَّعْبِيُّ وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَسَيَأْتِي قَوْلُهُمَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ"«2» [البقرة: 101]. وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ رَجُلًا فَاسِقًا يقرأ القرآن لا يرعوي إلى شي مِنْهُ). فَبَيَّنَ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْمَقْصُودَ الْعَمَلُ كَمَا بَيَّنَّا. وَقَالَ مَالِكٌ: قَدْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ. فَمَا لَزِمَ إِذًا مَنْ قَبْلَنَا وَأُخِذَ عَلَيْهِمْ لَازِمٌ لَنَا وَوَاجِبٌ عَلَيْنَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ"«3» [الزمر: 55] فَأُمِرْنَا بِاتِّبَاعِ كِتَابِهِ وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ، لَكِنْ تَرَكْنَا ذَلِكَ، كَمَا تَرَكَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَبَقِيَتْ أَشْخَاصُ الْكُتُبِ وَالْمَصَاحِفِ لَا تُفِيدُ شَيْئًا، لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ وَطَلَبِ الرِّيَاسَةِ وَاتِّبَاعِ الْأَهْوَاءِ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ: (هَذَا أوان
(1). زيادة عن تفسير ابن عطية.
(2)
. راجع ج 2 ص 41.
(3)
. راجع ج 15 ص 270)
(
يُخْتَلَسُ فِيهِ الْعِلْمُ مِنَ النَّاسِ حَتَّى لَا يقدروا منه على شي (. فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيَدٍ الْأَنْصَارِيُّ: كَيْفَ يُخْتَلَسُ منا وقد قرآنا القرآن! فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا. فَقَالَ: (ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ إِنْ كُنْتُ لَأَعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَمَاذَا تُغْنِي عَنْهُمْ) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي. وَخَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ أَيْضًا عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِزِيَادٍ:(ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى). وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ لِإِنْسَانٍ:" إِنَّكَ فِي زَمَانٍ كَثِيرٌ فُقَهَاؤُهُ، قَلِيلٌ قُرَّاؤُهُ، تُحْفَظُ فِيهِ حُدُودُ الْقُرْآنِ وَتُضَيَّعُ حُرُوفُهُ، قَلِيلٌ مَنْ يَسْأَلُ، كَثِيرٌ مَنْ يُعْطِي، يُطِيلُونَ الصَّلَاةَ وَيُقْصِرُونَ فِيهِ الْخُطْبَةَ، يَبْدَءُونَ فِيهِ أَعْمَالَهُمْ قَبْلَ أَهْوَائِهِمْ. وَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ، كَثِيرٌ قُرَّاؤُهُ، تُحْفَظُ فِيهِ حُرُوفُ الْقُرْآنِ، وَتُضَيَّعُ حُدُودُهُ، كَثِيرٌ مَنْ يَسْأَلُ، قَلِيلٌ مَنْ يُعْطِي، يُطِيلُونَ فِيهِ الْخُطْبَةَ، وَيُقْصِرُونَ الصَّلَاةَ، يَبْدَءُونَ فِيهِ أَهْوَاءَهُمْ قَبْلَ أَعْمَالِهِمْ". وَهَذِهِ نُصُوصٌ تَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ قَالَ يَحْيَى: سَأَلْتُ ابْنَ نَافِعٍ عَنْ قَوْلِهِ: يَبْدَءُونَ أَهْوَاءَهُمْ قَبْلَ أَعْمَالِهِمْ؟ قَالَ يَقُولُ: يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَيَتْرُكُونَ الْعَمَلَ بِالَّذِي افْتُرِضَ عَلَيْهِمْ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ:" لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"«1» . فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) تَوَلَّى تَفَعَّلَ، وَأَصْلُهُ الْإِعْرَاضُ وَالْإِدْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ بالجسم، ثم استعمل في الاعراض عن الأوامر والأديان والمعتقدات اتساعا وَمَجَازًا. وَقَوْلُهُ:(مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أَيْ مِنْ بَعْدِ الْبُرْهَانِ، وَهُوَ أَخْذُ الْمِيثَاقِ وَرَفْعُ الْجَبَلِ. وقوله:(فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ)" فَضْلُ" مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ لَا يَجُوزُ إِظْهَارُهُ، لِأَنَّ الْعَرَبَ اسْتَغْنَتْ عَنْ إِظْهَارِهِ، إِلَّا أَنَّهُمْ إِذَا أرادوا إظهاره جاءوا بأن، فَإِذَا جَاءُوا بِهَا لَمْ يَحْذِفُوا الْخَبَرَ. وَالتَّقْدِيرُ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ تَدَارَكَكُمْ. (وَرَحْمَتُهُ) عَطْفٌ عَلَى" فَضْلُ" أي
(1). راجع ص 227 من هذا الجزء. [ ..... ]