الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْأَيْمَانِ الْبَرَاءَةُ مِنَ الدَّعْوَى وَمَنْ لَمْ يُدَّعَ عليه برئ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْخَطَأِ: يَحْلِفُ فِيهَا الْوَاحِدُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَمَهْمَا كَمُلَتْ خَمْسِينَ يَمِينًا مِنْ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ اسْتَحَقَّ الْحَالِفُ مِيرَاثَهُ، وَمَنْ نَكَلَ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا، فَإِنْ جَاءَ مَنْ غَابَ حَلَفَ مِنَ الْأَيْمَانِ مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ لَوْ حَضَرَ بِحَسَبِ مِيرَاثِهِ. هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ الْمَشْهُورُ عَنْهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَرَى فِي الْخَطَأِ قَسَامَةً. وَتَتْمِيمُ مَسَائِلِ الْقَسَامَةِ وَفُرُوعِهَا وَأَحْكَامِهَا مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْخِلَافِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. مَسْأَلَةٌ: فِي قِصَّةِ الْبَقَرَةِ هَذِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، وَقَالَ بِهِ طَوَائِفُ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَقَوْمٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَاخْتَارَهُ الْكَرْخِيُّ وَنَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ بُكَيْرٍ الْقَاضِي مِنْ عُلَمَائِنَا، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَهَّابِ: هُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ أُصُولُ مَالِكٍ وَمَنَازِعُهُ فِي كُتُبِهِ، وَإِلَيْهِ مَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَدْ قَالَ الله:" فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ"[الانعام: 90] عَلَى مَا يَأْتِي «1» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قوله تعالى: (كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى)
أَيْ كَمَا أَحْيَا هَذَا بَعْدَ مَوْتِهِ كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ كُلَّ مَنْ مَاتَ فَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ. (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ)
أَيْ عَلَامَاتِهِ وَقُدْرَتَهُ. (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)
كَيْ تَعْقِلُوا. وَقَدْ تَقَدَّمَ «2» . أَيْ تَمْتَنِعُونَ مِنْ عِصْيَانِهِ. وَعَقَلْتُ نَفْسِي عَنْ كَذَا أَيْ منعتها منه والمعاقل: الحصون.
[سورة البقرة (2): آية 74]
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الْقَسْوَةُ: الصَّلَابَةُ وَالشِّدَّةُ وَالْيُبْسُ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ خُلُوِّهَا مِنَ الْإِنَابَةِ وَالْإِذْعَانِ لِآيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ وغيرهما:
(1). راجع ج 7 ص 35.
(2)
. راجع ص 226 من هذا الجزء
الْمُرَادُ قُلُوبُ جَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ قُلُوبُ وَرَثَةِ الْقَتِيلِ، لِأَنَّهُمْ حِينَ حَيِيَ وَأَخْبَرَ بِقَاتِلِهِ وَعَادَ إِلَى مَوْتِهِ أَنْكَرُوا قَتْلَهُ، وَقَالُوا: كَذَبَ، بَعْدَ مَا رَأَوْا هَذِهِ الْآيَةَ الْعُظْمَى، فَلَمْ يَكُونُوا قَطُّ أَعْمَى قُلُوبًا، وَلَا أَشَدَّ تَكْذِيبًا لِنَبِيِّهِمْ مِنْهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ، لَكِنْ نَفَذَ حُكْمُ اللَّهِ بِقَتْلِهِ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ قَسْوَةٌ لِلْقَلْبِ وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ الْقَلْبُ الْقَاسِي (. وَفِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:) أَرْبَعَةٌ مِنَ الشقاء جمود العين وقساء «1» الْقَلْبِ وَطُولُ الْأَمَلِ وَالْحِرْصُ عَلَى الدُّنْيَا (. قَوْلُهُ تَعَالَى:) فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً (" أَوْ" قِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى الْوَاوِ كَمَا قَالَ:" آثِماً أَوْ كَفُوراً"[الإنسان: 24]." عُذْراً أَوْ نُذْراً" وَقَالَ الشَّاعِرُ:
نَالَ الْخِلَافَةَ أَوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا
أَيْ وَكَانَتْ. وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى بَلْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ"«2» [الصافات: 147] الْمَعْنَى بَلْ يَزِيدُونَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ فِي رَوْنَقِ الضُّحَى
…
وَصُورَتُهَا أَوْ أَنْتِ فِي الْعَيْنِ أَمْلَحُ «3»
أَيْ بَلْ أَنْتِ وَقِيلَ: مَعْنَاهَا الْإِبْهَامُ عَلَى الْمُخَاطَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ:
أُحِبُّ مُحَمَّدًا حُبًّا شَدِيدًا
…
وَعَبَّاسًا وَحَمْزَةَ أَوْ عَلِيًّا
فَإِنْ يَكُ حُبُّهُمْ رُشْدًا أُصِبْهُ
…
وَلَسْتُ بِمُخْطِئٍ إِنْ كَانَ غَيًّا
وَلَمْ يَشُكَّ أَبُو الْأَسْوَدِ أَنَّ حُبَّهُمْ رُشْدٌ ظَاهِرٌ، وَإِنَّمَا قَصَدَ الْإِبْهَامَ. وَقَدْ قِيلَ لِأَبِي الْأَسْوَدِ حِينَ قَالَ ذَلِكَ: شَكَكْتَ! قَالَ: كَلَّا، ثُمَّ اسْتَشْهَدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ"«4» [سبأ: 24] وَقَالَ: أَوَ كَانَ شَاكًّا مَنْ أَخْبَرَ بِهَذَا! وقيل: معناها التخيير، أي شبهوها بالحجارة
(1). القساء (بالفتح والمد): مصدر مثل القسوة والقساوة.
(2)
. راجع 15 ص 130.
(3)
. راجع البيت في خزانة الأدب في الشاهد 895. [ ..... ]
(4)
. راجع ج 14 ص 298
تُصِيبُوا، أَوْ بِأَشَدِّ مِنَ الْحِجَارَةِ تُصِيبُوا، وَهَذَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ: جَالِسِ الْحَسَنَ أَوِ ابْنِ سِيرِينَ، وتعلم الفقه أو الحديث أو النحو. وقيل: بَلْ هِيَ عَلَى بَابِهَا مِنَ الشَّكِّ، وَمَعْنَاهَا عِنْدَكُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ وَفِي نَظَرِكُمْ أَنْ لَوْ شَاهَدْتُمْ قَسْوَتَهَا لَشَكَكْتُمْ: أَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ مِنَ الْحِجَارَةِ؟ وَقَدْ قِيلَ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ"[الصافات: 147]. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنَّمَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ فِيهِمْ مَنْ قَلْبُهُ كَالْحَجَرِ،. وَفِيهِمْ مَنْ قَلْبُهُ أشد من الحجر. فالمعنى هم فرقتان. قوله تعالى:(أَوْ أَشَدُّ)" أَشَدُّ" مَرْفُوعٌ بِالْعَطْفِ عَلَى مَوْضِعِ الْكَافِ فِي قَوْلِهِ" كَالْحِجارَةِ"، لِأَنَّ الْمَعْنَى فَهِيَ مِثْلُ الْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ. وَيَجُوزُ أَوْ" أَشَدُّ" بِالْفَتْحِ عَطْفٌ عَلَى الْحِجَارَةِ. وَ" قَسْوَةً" نَصْبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ" قَسَاوَةً" وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ) قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الِانْفِجَارِ «1» . وَيَشَّقَّقُ أَصْلُهُ يَتَشَقَّقُ، أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الشِّينِ، وَهَذِهِ عِبَارَةٌ عَنِ الْعُيُونِ الَّتِي لَمْ تَعْظُمْ حَتَّى تَكُونَ أَنْهَارًا، أَوْ عَنِ الْحِجَارَةِ الَّتِي تَتَشَقَّقُ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ مَاءٌ مُنْفَسِحٌ. وَقَرَأَ ابْنُ مُصَرِّفٍ" يَنْشَقِقْ" بِالنُّونِ، وَقَرَأَ" لَمَّا يَتَفَجَّرُ"" لَمَّا يَتَشَقَّقُ" بِتَشْدِيدِ" لَمَّا" فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَهِيَ قِرَاءَةٌ غَيْرُ مُتَّجَهَةٍ. وَقَرَأَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ" يَنْفَجِرُ" بِالنُّونِ وَكَسْرِ الْجِيمِ. قَالَ قَتَادَةُ: عَذَرَ الْحِجَارَةَ وَلَمْ يَعْذِرْ شَقِيَّ بَنِي آدَمَ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: يَجُوزُ لَمَا تَتَفَجَّرُ بِالتَّاءِ، وَلَا يَجُوزُ لَمَا تَتَشَقَّقُ بِالتَّاءِ، لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ تَتَفَجَّرُ أَنَّثَهُ بِتَأْنِيثِ الْأَنْهَارِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ فِي تَشَقَّقَ. قَالَ النَّحَّاسُ: يَجُوزُ مَا أَنْكَرَهُ عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمَعْنَى وَإِنَّ مِنْهَا لَحِجَارَةً تَتَشَقَّقُ، وَأَمَّا يَشَّقَّقُ فَمَحْمُولٌ عَلَى لَفْظِ مَا. وَالشَّقُّ وَاحِدُ الشُّقُوقِ، فَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ، تَقُولُ: بِيَدِ فُلَانٍ وَرِجْلَيْهِ شُقُوقٌ، وَلَا تَقُلْ: شِقَاقٌ، إِنَّمَا الشِّقَاقُ دَاءٌ يَكُونُ بِالدَّوَابِّ، وَهُوَ تَشَقُّقٌ يُصِيبُ أَرْسَاغَهَا وَرُبَّمَا ارْتَفَعَ إِلَى وَظِيفِهَا «2» ، عَنْ يَعْقُوبَ. وَالشَّقُّ: الصُّبْحُ. وَ" مَا" فِي قوله:
(1). راجع ص 419 من هذا الجزء.
(2)
. الوظيف: مستدق الذراع والساق. وقيل: ما فوق الرسغ إلى الساق.
" لَما يَتَفَجَّرُ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّهَا اسْمُ إِنَّ وَاللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ." مِنْهُ" عَلَى لَفْظِ مَا، وَيَجُوزُ مِنْهَا عَلَى الْمَعْنَى، وَكَذَلِكَ" وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ". وَقَرَأَ قَتَادَةُ" وَإِنْ" فِي الْمَوْضِعَيْنِ، مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) يَقُولُ إِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ مَا هُوَ أَنْفَعُ مِنْ قُلُوبِكُمْ، لِخُرُوجِ الْمَاءِ مِنْهَا وَتَرَدِّيهَا. قَالَ مُجَاهِدٌ: مَا تَرَدَّى حَجَرٌ مِنْ رَأْسِ جَبَلٍ، وَلَا تَفَجَّرَ نَهْرٌ مِنْ حَجَرٍ، وَلَا خَرَجَ مِنْهُ مَاءٌ إِلَّا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، نَزَلَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ. وَمِثْلُهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي قَوْلِهِ:" وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ": الْبَرَدُ الْهَابِطُ مِنَ السَّحَابِ. وَقِيلَ: لَفْظَةُ الْهُبُوطِ مَجَازٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحِجَارَةَ لَمَّا كَانَتِ الْقُلُوبُ تَعْتَبِرُ بِخَلْقِهَا، وَتَخْشَعُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا، أُضِيفَ تَوَاضُعُ النَّاظِرِ إِلَيْهَا، كَمَا قَالَتِ الْعَرَبُ: نَاقَةٌ تَاجِرَةٌ، أَيْ تَبْعَثُ مَنْ يَرَاهَا عَلَى شِرَائِهَا. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ فِرْقَةٍ أَنَّ الْخَشْيَةَ لِلْحِجَارَةِ مُسْتَعَارَةٌ، كَمَا اسْتُعِيرَتِ الْإِرَادَةُ لِلْجِدَارِ فِي قَوْلِهِ:" يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ" وَكَمَا قَالَ زَيْدُ الْخَيْلِ: «1»
لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَوَاضَعَتْ
…
سُوَرُ الْمَدِينَةِ وَالْجِبَالُ الْخُشَّعُ
وَذَكَرَ ابْنُ بَحْرٍ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَإِنَّ مِنْها" رَاجِعٌ إِلَى الْقُلُوبِ لَا إِلَى الْحِجَارَةِ أَيْ مِنَ الْقُلُوبِ لَمَا يَخْضَعُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. قُلْتُ: كُلُّ مَا قِيلَ يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، وَالْأَوَّلُ صَحِيحٌ، فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُعْطَى بَعْضَ الْجَمَادَاتِ الْمَعْرِفَةَ فَيَعْقِلُ، كَالَّذِي رُوِيَ عَنِ الْجِذْعِ الَّذِي كَانَ يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذا خَطَبَ، فَلَمَّا تَحَوَّلَ عَنْهُ حَنَّ، وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: (إِنَّ حَجَرًا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ في الجاهلية
(1). نسب هذا البيت في كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد في ترجمة الزبير بن العوام وفي كتاب سيبويه إلى جرير. ويلاحظ أن زيد الخيل توفى عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أو في آخر خلافة عمر رضى الله عنه. فوفاته إذا قبل وفاة الزبير. وقد وصف مقتل الزبير بن العوام حين أنصرف يوم الجمل وقتل في الطريق غيلة. يقول: لما وافى خبره المدينة (مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم تواضعت هي وجبالها وخشعت حزنا له.
إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ (. وَكَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:) قَالَ لِي ثَبِيرٌ «1» اهْبِطْ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَقْتُلُوكَ عَلَى ظَهْرِي فَيُعَذِّبُنِي اللَّهُ (. فَنَادَاهُ حِرَاءٌ: إِلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَفِي التَّنْزِيلِ:" إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ"«2» [الأحزاب: 72] الْآيَةَ. وَقَالَ:" لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ"«3» [الحشر: 21] يَعْنِي تَذَلُّلًا وَخُضُوعًا، وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيدُ بَيَانٍ فِي سُورَةِ" سُبْحَانَ"»
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)" بِغافِلٍ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَعَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ. والياء تَوْكِيدٌ." عَمَّا تَعْمَلُونَ" أَيْ عَنْ عَمَلِكُمْ حَتَّى لَا يُغَادِرَ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا يُحْصِيهَا عَلَيْكُمْ،" فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ" «5» [الزلزلة: 7، 8]. وَلَا تَحْتَاجُ" مَا" إِلَى عَائِدٍ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَهَا بِمَعْنَى الَّذِي فَيُحْذَفُ الْعَائِدُ لِطُولِ الِاسْمِ، أَيْ عَنِ الَّذِي تَعْمَلُونَهُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ" يَعْمَلُونَ" بِالْيَاءِ، وَالْمُخَاطَبَةُ عَلَى هَذَا لِمُحَمَّدٍ عليه السلام.
(1). ثبير: جبل معروف عند مكة.
(2)
. راجع ج 14 ص 253.
(3)
. راجع ج 18 ص 44.
(4)
. راجع ج 10 ص 267.
(5)
. راجع ج 20 ص 150.