الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التَّاسِعَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْحَلَاوَةِ وَالْأَطْعِمَةِ اللَّذِيذَةِ وَتَنَاوُلِهَا، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ يُنَاقِضُ الزُّهْدَ أَوْ يُبَاعِدُهُ، لَكِنْ إِذَا كَانَ مِنْ وَجْهِهِ وَمِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا إِكْثَارٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي" الْمَائِدَةِ «1» " وَغَيْرِهَا. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَقَدْ سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَدَحِي هَذَا الشَّرَابَ كُلَّهُ: الْعَسَلَ وَالنَّبِيذَ وَاللَّبَنَ وَالْمَاءَ. وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ أَكْلَ الْفَالُوذَجِ «2» وَاللَّبَنَ مِنَ الطَّعَامِ، وَأَبَاحَهُ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ عَلَى مَائِدَةٍ وَمَعَهُ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، فَأُتِيَ بِفَالُوذَجٍ فَامْتَنَعَ عَنْ أَكْلِهِ، فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: كُلْ! فَإِنَّ عَلَيْكَ فِي الْمَاءِ الْبَارِدِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا. الْعَاشِرَةُ- رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِلَبَنٍ فَشَرِبَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ، وَإِذَا سُقِيَ لَبَنًا فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ بَارِكْ لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس شي يَجْزِي عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَّا اللَّبَنَ". قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فَكَيْفَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ وَهُوَ أَوَّلُ مَا يَغْتَذِي بِهِ الْإِنْسَانُ وَتَنْمَى بِهِ الْجُثَثُ وَالْأَبْدَانُ، فَهُوَ قُوتٌ خَلِيٌّ عَنِ الْمَفَاسِدِ بِهِ قِوَامُ الْأَجْسَامِ، وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَامَةً لِجِبْرِيلَ عَلَى هِدَايَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ الْأُمَمِ أُمَّةً، فَقَالَ فِي الصَّحِيحِ:" فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ فَقَالَ لِي جِبْرِيلُ اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ أَمَا إِنَّكَ لَوِ اخْتَرْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ «3» أُمَّتُكَ (. ثُمَّ إِنَّ فِي الدُّعَاءِ بِالزِّيَادَةِ مِنْهُ عَلَامَةَ الخصب وظهور الخيرات [وكثرة «4»] والبركات، فهو مبارك كله.
[سورة النحل (16): آية 67]
وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ" قَالَ الطَّبَرِيُّ: التَّقْدِيرُ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ مَا تَتَّخِذُونَ، فَحَذَفَ" مَا" وَدَلَّ عَلَى حَذْفِهِ قَوْلُهُ:" منه". وقيل:
(1). راجع ج 6 ص 260 وما بعدها، وج 7 ص 191.
(2)
. الفالوذج: حلواء تعمل من الدقيق والماء والعسل. (عن الألفاظ الفارسية المعربة).
(3)
. غوت: ضلت وفسدت.
(4)
. من ج.
المحذوف شي، وَالْأَمْرُ قَرِيبٌ. وَقِيلَ: مَعْنَى" مِنْهُ" أَيْ مِنَ الْمَذْكُورِ، فَلَا يَكُونُ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ وَهُوَ أَوْلَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ:" وَمِنْ ثَمَراتِ" عَطْفًا عَلَى" الْأَنْعامِ"، أَيْ وَلَكُمْ مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ عِبْرَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى" مِمَّا" أَيْ وَنُسْقِيكُمْ أَيْضًا مَشْرُوبَاتٍ مِنْ ثَمَرَاتٍ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:(سَكَراً) السَّكَرُ مَا يُسْكِرُ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ. وَأَرَادَ بِالسَّكَرِ الْخَمْرَ، وَبِالرِّزْقِ الْحَسَنِ جَمِيعَ مَا يُؤْكَلُ وَيُشْرَبُ حَلَالًا مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ. وَقَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ ابْنُ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ السَّكَرَ الْخَلُّ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ الطَّعَامُ. وَقِيلَ: السَّكَرُ الْعَصِيرُ الْحُلْوُ الْحَلَالُ، وَسُمِّيَ سَكَرًا لِأَنَّهُ قَدْ يَصِيرُ مُسْكِرًا إِذَا بَقِيَ، فَإِذَا بَلَغَ الْإِسْكَارَ حَرُمَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَسَدُّ، هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيُخَرَّجُ ذَلِكَ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اعْتِدَاءً مِنْكُمْ، وَمَا أَحَلَّ لَكُمُ اتِّفَاقًا أَوْ قَصْدًا إِلَى مَنْفَعَةِ أَنْفُسِكُمْ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَتَكُونُ مَنْسُوخَةً، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ بِاتِّفَاقٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَتَحْرِيمَ الْخَمْرِ مَدَنِيٌّ. قُلْتُ: فَعَلَى أن السكر الخمر أَوِ الْعَصِيرُ الْحُلْوُ لَا نَسْخَ، وَتَكُونُ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ وَهُوَ حَسَنٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحَبَشَةُ يُسَمُّونَ الْخَلَّ السَّكَرَ، إِلَّا أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ السَّكَرَ الْخَمْرُ، مِنْهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو رَزِينٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، كُلُّهُمْ قَالُوا: السَّكَرُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنْ ثَمَرَتَيْهِمَا. وَكَذَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: السَّكَرُ اسْمٌ لِلْخَمْرِ وَمَا يُسْكِرُ، وَأَنْشَدُوا:
بِئْسَ الصُّحَاةُ وَبِئْسَ الشُّرْبُ شُرْبُهُمْ
…
إِذَا جَرَى فِيهِمُ الْمُزَّاءُ وَالسَّكَرُ
وَالرِّزْقُ الحسن: ما أحله الله من مرتيهما. وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ" تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً" خَبَرٌ مَعْنَاهُ الِاسْتِفْهَامُ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، أَيْ أَتَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَتَدَعُونَ رِزْقًا حَسَنًا الْخَلَّ وَالزَّبِيبَ
وَالتَّمْرَ، كَقَوْلِهِ:" فَهُمُ الْخالِدُونَ «1» " أَيْ أَفَهُمُ الْخَالِدُونَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: السَّكَرُ الطُّعْمُ، يُقَالُ: هَذَا سَكَرٌ لَكَ أَيْ طُعْمٌ. وَأَنْشَدَ:
جَعَلْتَ عَيْبَ الْأَكْرَمِينَ سَكَرَا
أَيْ جَعَلْتَ ذَمَّهُمْ طُعْمًا. وَهَذَا اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ أَنَّ السَّكَرَ مَا يُطْعَمُ مِنَ الطَّعَامِ وَحَلَّ شُرْبُهُ مِنْ ثِمَارِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ، وَهُوَ الرِّزْقُ الْحَسَنُ، فَاللَّفْظُ مُخْتَلِفٌ والمعنى واحد، مثل"نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي
«2» لَى اللَّهِ" وَهَذَا حَسَنٌ وَلَا نَسْخَ، إِلَّا أَنَّ الزَّجَّاجَ قَالَ: قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ هَذَا لَا يُعْرَفُ، وَأَهْلُ التَّفْسِيرِ عَلَى خِلَافِهِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْبَيْتِ الَّذِي أَنْشَدَهُ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ عِنْدَ غَيْرِهِ أَنَّهُ يَصِفُ أَنَّهَا تَتَخَمَّرُ بِعُيُوبِ النَّاسِ. وَقَالَ الْحَنَفِيُّونَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:" سَكَراً" مَا لَا يُسْكِرُ مِنَ الْأَنْبِذَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى امْتَنَّ عَلَى عِبَادِهِ بِمَا خَلَقَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَقَعُ الِامْتِنَانُ إِلَّا بِمُحَلَّلٍ لَا بِمُحَرَّمٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ شُرْبِ مَا دُونَ الْمُسْكِرِ مِنَ النَّبِيذِ، فَإِذَا انْتَهَى إِلَى السُّكْرِ لَمْ يَجُزْ، وَعَضَّدُوا هَذَا مِنَ السُّنَّةِ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:" حَرَّمَ اللَّهُ الْخَمْرَ بِعَيْنِهَا وَالسُّكْرَ مِنْ غَيْرِهَا". وَبِمَا رَوَاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهو عِنْدَ الرُّكْنِ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ الْقَدَحَ فَرَفَعَهُ إِلَى فِيهِ فَوَجَدَهُ شَدِيدًا فَرَدَّهُ إِلَى صَاحِبِهِ، فَقَالَ لَهُ حِينَئِذٍ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحَرَامٌ هُوَ؟ فَقَالَ:" عَلَيَّ بِالرَّجُلِ" فَأُتِيَ بِهِ فَأَخَذَ مِنْهُ الْقَدَحَ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَصَبَّهُ فِيهِ ثُمَّ رَفَعَهُ إِلَى فِيهِ فَقَطَّبَ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ أَيْضًا فَصَبَّهُ فِيهِ ثُمَّ قَالَ:" إِذَا اغْتَلَمَتْ «3» عَلَيْكُمْ هَذِهِ الْأَوْعِيَةُ فَاكْسِرُوا مُتُونَهَا بِالْمَاءِ". وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه السلام كَانَ يُنْبَذُ لَهُ فَيَشْرَبُهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَإِذَا كَانَ مِنَ الْيَوْمِ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ سَقَاهُ الْخَادِمُ إِذَا تَغَيَّرَ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا سَقَاهُ إِيَّاهُ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَقَدْ رَوَى أَبُو عَوْنٍ الثَّقَفِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا الْقَلِيلُ مِنْهَا وَالْكَثِيرُ وَالسَّكَرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ، خَرَّجَهُ الدارقطني أيضا.
(1). راجع ج 11 ص 287.
(2)
. راجع ج 9 ص 251. [ ..... ]
(3)
. الاغتلام مجاوزة الحد، أي إذا جاوزت حدها الذي لا يسكر إلى حدها الذي يسكر.
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ وَمَا كَانَ مِثْلُهُ، أَنَّ غَيْرَ الْخَمْرِ لَمْ تُحَرَّمْ عَيْنُهُ كَمَا حُرِّمَتِ الخمر بعينها. قالوا: والخمر شراب العنب خِلَافَ فِيهَا، وَمِنْ حُجَّتِهِمْ أَيْضًا مَا رَوَاهُ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّا نَأْكُلُ لُحُومَ هَذِهِ الْإِبِلِ وَلَيْسَ يُقَطِّعُهُ فِي بُطُونِنَا إِلَّا النَّبِيذُ. قَالَ شَرِيكٌ: وَرَأَيْتُ الثَّوْرِيَّ يَشْرَبُ النَّبِيذَ فِي بَيْتِ حَبْرِ أَهْلِ زَمَانِهِ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ. وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى امْتَنَّ عَلَى عِبَادِهِ وَلَا يَكُونُ امْتِنَانُهُ إِلَّا بِمَا أَحَلَّ فَصَحِيحٌ، بَيْدَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فَيَكُونُ مَنْسُوخًا كَمَا قَدَّمْنَاهُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنْ قِيلَ كَيْفَ يُنْسَخُ هَذَا وَهُوَ خَبَرٌ وَالْخَبَرُ لَا يَدْخُلُهُ النَّسْخُ، قُلْنَا: هَذَا كَلَامُ مَنْ لَمْ يَتَحَقَّقِ الشَّرِيعَةَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْخَبَرَ إِذَا كَانَ عَنِ الْوُجُودِ الْحَقِيقِيِّ أَوْ عَنْ إِعْطَاءِ ثَوَابٍ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ فَهُوَ الَّذِي لَا يَدْخُلُهُ النَّسْخُ، فَأَمَّا إِذَا تَضَمَّنَ الْخَبَرُ حُكْمًا شَرْعِيًّا فَالْأَحْكَامُ تَتَبَدَّلُ وَتُنْسَخُ، جَاءَتْ بِخَبَرٍ أَوْ أَمْرٍ، وَلَا يَرْجِعُ النَّسْخُ إِلَى نَفْسِ اللَّفْظِ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ، فَإِذَا فَهِمْتُمْ هَذَا خَرَجْتُمْ عَنِ الصِّنْفِ الْغَبِيِّ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنِ الْكُفَّارِ فِيهِ بِقَوْلِهِ:" وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ «1» ". الْمَعْنَى أَنَّهُمْ جَهِلُوا أَنَّ الرَّبَّ يَأْمُرُ بِمَا يَشَاءُ وَيُكَلِّفُ مَا يَشَاءُ، ويرفع من ذلك بعدل مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ. قُلْتُ: هَذَا تَشْنِيعٌ شَنِيعٌ حَتَّى يَلْحَقَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ الْأَخْيَارُ فِي قُصُورِ الْفَهْمِ بِالْكُفَّارِ، وَالْمَسْأَلَةُ أُصُولِيَّةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْأَخْبَارَ عَنِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ هَلْ يَجُوزُ نَسْخُهَا أَمْ لَا؟ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا كَانَ مِثْلُهَا، وَلِأَنَّ الْخَبَرَ عَنْ مَشْرُوعِيَّةِ حُكْمِ مَا يَتَضَمَّنُ طَلَبَ ذَلِكَ الْمَشْرُوعِ، وَذَلِكَ الطَّلَبُ هُوَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي يُسْتَدَلُّ عَلَى نَسْخِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا مَا ذَكَرُوا مِنَ الْأَحَادِيثِ فَالْأَوَّلُ وَالثَّانِي ضَعِيفَانِ، لِأَنَّهُ عليه السلام قَدْ رُوِيَ عَنْهُ بِالنَّقْلِ الثَّابِتِ أَنَّهُ قَالَ:" كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ" وَقَالَ:" كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ" وَقَالَ:" مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ". قَالَ النَّسَائِيُّ: وَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الثبت والعدالة مشهورون
(1). راجع ص 176 من هذا الجزء
بِصِحَّةِ النَّقْلِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ لَا يَقُومُ مَقَامَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَلَوْ عَاضَدَهُ مِنْ أَشْكَالِهِ جَمَاعَةٌ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَأَمَّا الثَّالِثُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَإِنَّهُ مَا كَانَ يَسْقِيهِ لِلْخَادِمِ عَلَى أَنَّهُ مُسْكِرٌ، وَإِنَّمَا كَانَ يَسْقِيهِ لِأَنَّهُ مُتَغَيِّرُ الرَّائِحَةِ. وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَكْرَهُ أَنْ تُوجَدَ مِنْهُ الرَّائِحَةُ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَشْرَبْهُ، وَلِذَلِكَ تحيل عليه أزواجه في عسل زبيب بِأَنْ قِيلَ لَهُ: إِنَّا نَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، يَعْنِي رِيحًا مُنْكَرَةً، فَلَمْ يَشْرَبْهُ بَعْدُ. وَسَيَأْتِي فِي التَّحْرِيمِ «1». وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُ ذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ:" مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ"، وَرَوَاهُ عَنْهُ قَيْسُ بْنُ دِينَارٍ. وَكَذَلِكَ فُتْيَاهُ فِي الْمُسْكِرِ، قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. والحديث الأول رواه عنه عبد الله ابن شَدَّادٍ وَقَدْ خَالَفَهُ الْجَمَاعَةُ، فَسَقَطَ الْقَوْلُ بِهِ مَعَ مَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ: لَيْسَ يُقَطِّعُهُ فِي بُطُونِنَا إِلَّا النَّبِيذُ، فَإِنَّهُ يُرِيدُ غَيْرَ الْمُسْكِرِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيذُ الَّذِي شَرِبَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدْ خُلِّلَ. قَالَ النَّسَائِيُّ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا حَدِيثُ السَّائِبِ، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: إِنِّي وَجَدْتُ مِنْ فُلَانٍ رِيحَ شَرَابٍ، فَزَعَمَ أَنَّهُ شَرَابَ الطِّلَاءِ، وَأَنَا سَائِلٌ عَمَّا شَرِبَ، فَإِنْ كَانَ مُسْكِرًا جَلَدْتُهُ، فَجَلَدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه الْحَدَّ تَامًّا. وَقَدْ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ: مِنَ الْعِنَبِ وَالْعَسَلِ وَالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ. وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْمَائِدَةِ «2» ". فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَحَلَّ شُرْبَهُ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ وَكَانَ إِمَامَ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَكَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَشْرَبُهُ. قُلْنَا: ذَكَرَ النَّسَائِيُّ فِي كِتَابِهِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحَلَّ الْمُسْكِرَ مِنَ الْأَنْبِذَةِ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَهَذِهِ زَلَّةٌ مِنْ عَالِمٍ وَقَدْ حَذَّرْنَا مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ، وَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ مَعَ السُّنَّةِ «3». وَذَكَرَ النَّسَائِيُّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: مَا وَجَدْتُ الرُّخْصَةَ فِي الْمُسْكِرِ عَنْ أَحَدٍ صَحِيحًا إِلَّا عَنْ إِبْرَاهِيمَ. قَالَ أَبُو أُسَامَةَ: ما رأيت
(1). راجع ج 18 ص 177.
(2)
. راجع ج 285.
(3)
. لعل ما يشربه النخعي وهو إمام- ليس من النبيذ المسكر فإن منه ما لم يبلغ حد الإسكار.
رَجُلًا أَطْلَبَ لِلْعِلْمِ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ الشَّامَاتِ «1» وَمِصْرَ وَالْيَمَنَ وَالْحِجَازَ. وَأَمَّا الطَّحَاوِيُّ وَسُفْيَانُ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُمَا لَمْ يُحْتَجَّ بِهِمَا عَلَى مَنْ خَالَفَهُمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ فِي تَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ مَعَ مَا ثَبَتَ مِنَ السُّنَّةِ، عَلَى أَنَّ الطَّحَاوِيَّ قَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ فِي الِاخْتِلَافِ خِلَافَ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ التَّمْهِيدِ لَهُ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ عَصِيرَ الْعِنَبِ إِذَا اشْتَدَّ وَغَلَى وَقَذَفَ بِالزَّبَدَ فَهُوَ خَمْرٌ وَمُسْتَحِلُّهُ كَافِرٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي نَقِيعِ التَّمْرِ إِذَا غَلَى وَأَسْكَرَ. قَالَ: فَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:" الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ النَّخْلَةِ وَالْعِنَبِ" غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ عِنْدَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَوْ قَبِلُوا الْحَدِيثَ لَأَكْفَرُوا مُسْتَحِلَّ نَقِيعِ التَّمْرِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْخَمْرِ الْمُحَرَّمَةِ غَيْرُ عَصِيرِ الْعِنَبِ الَّذِي قَدِ اشْتَدَّ وَبَلَغَ أَنْ يُسْكِرَ. قَالَ: ثُمَّ لَا يَخْلُوَ مِنْ أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ مُعَلَّقًا بِهَا فَقَطْ غَيْرَ مَقِيسٍ عَلَيْهَا غَيْرُهَا أَوْ يَجِبُ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا، فَوَجَدْنَاهُمْ جَمِيعًا قَدْ قَاسُوا عَلَيْهَا نَقِيعَ التَّمْرِ إِذَا غَلَى وَأَسْكَرَ كَثِيرُهُ وَكَذَلِكَ نَقِيعُ الزَّبِيبِ. قَالَ: فَوَجَبَ قِيَاسًا عَلَى ذَلِكَ أَنْ يُحَرَّمَ كُلُّ مَا أَسْكَرَ مِنَ الْأَشْرِبَةِ. قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:" كُلُّ مُسْكِرٍ حرام" واستغنى عن سنده لِقَبُولِ الْجَمِيعِ لَهُ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِهِ جِنْسَ مَا يُسْكِرُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِهِ مَا يَقَعُ السُّكْرُ عِنْدَهُ كَمَا لَا يُسَمَّى قَاتِلًا إِلَّا مَعَ وُجُودِ الْقَتْلِ. قُلْتُ: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُحَرَّمٌ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ لِقَوْلِهِ، فَوَجَبَ قِيَاسًا عَلَى ذَلِكَ أَنْ يُحَرَّمَ كُلُّ مَا أَسْكَرَ مِنَ الْأَشْرِبَةِ. وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمِ الْخَمْرَ لِاسْمِهَا وَإِنَّمَا حَرَّمَهَا لِعَاقِبَتِهَا، فَكُلُّ شَرَابٍ يَكُونُ عَاقِبَتُهُ كَعَاقِبَةِ الْخَمْرِ فَهُوَ حَرَامٌ كَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَجَاءَ أَهْلُ الْكُوفَةِ بِأَخْبَارٍ مَعْلُولَةٍ، وَإِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الشَّيْءِ وَجَبَ رَدُّ ذَلِكَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ عليه السلام، وَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ أَنَّهُ شَرِبَ الشَّرَابَ الَّذِي يُسْكِرُ كَثِيرُهُ فَلِلْقَوْمِ ذُنُوبٌ يَسْتَغْفِرُونَ
(1). في حاشية السندي على سنن النسائي:" قوله الشامات، كأنه جمع على إرادة البلاد الشامية":