الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ) قَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ" تَرَوْا" بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ. الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْخَبَرِ. (مُسَخَّراتٍ) مُذَلَّلَاتٍ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. وَقِيلَ:" مُسَخَّراتٍ" مذللات لمنافعكم. (فِي جَوِّ السَّماءِ) الْجَوُّ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَأَضَافَ الْجَوَّ إِلَى السَّمَاءِ لِارْتِفَاعِهِ عَنِ الأرض. وَفِي قَوْلِهِ" مُسَخَّراتٍ" دَلِيلٌ عَلَى مُسَخِّرٍ سَخَّرَهَا ومدبر مكنها من التصرف. (مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ) فِي حَالِ الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ وَالِاصْطِفَافِ. بَيَّنَ لَهُمْ كَيْفَ يَعْتَبِرُونَ بِهَا عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أَيْ عَلَامَاتٍ وَعِبَرًا وَدَلَالَاتٍ. (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بِاللَّهِ وَبِمَا جاءت به رسلهم «1» .
[سورة النحل (16): آية 80]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80)
فِيهِ عَشْرُ «2» مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (جَعَلَ لَكُمْ) مَعْنَاهُ صَيَّرَ. وَكُلُّ مَا عَلَاكَ فَأَظَلَّكَ فَهُوَ سَقْفٌ وَسَمَاءٌ، وَكُلُّ مَا أَقَلَّكَ فَهُوَ أَرْضٌ، وَكُلُّ مَا سَتَرَكَ مِنْ جِهَاتِكَ الْأَرْبَعِ فَهُوَ جِدَارٌ، فَإِذَا انْتَظَمَتْ وَاتَّصَلَتْ فَهُوَ بَيْتٌ. وَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا تَعْدِيدُ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ فِي الْبُيُوتِ، فَذَكَرَ أَوَّلًا بُيُوتَ الْمُدُنِ وَهِيَ الَّتِي لِلْإِقَامَةِ الطَّوِيلَةِ. وَقَوْلُهُ:(سَكَناً) أَيْ تَسْكُنُونَ فِيهَا وَتَهْدَأُ جَوَارِحُكُمْ مِنَ الْحَرَكَةِ، وَقَدْ تَتَحَرَّكُ فِيهِ وَتَسْكُنُ فِي غَيْرِهِ، إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ خَرَجَ عَلَى الْغَالِبِ. وَعَدَّ هَذَا فِي جُمْلَةِ النِّعَمِ فَإِنَّهُ لَوْ شَاءَ خَلَقَ الْعَبْدَ مُضْطَرِبًا أَبَدًا كَالْأَفْلَاكِ لَكَانَ ذَلِكَ كَمَا خَلَقَ وَأَرَادَ، لَوْ خَلَقَهُ سَاكِنًا كَالْأَرْضِ لَكَانَ كَمَا خَلَقَ وَأَرَادَ، وَلَكِنَّهُ أَوْجَدَهُ خَلْقًا يَتَصَرَّفُ لِلْوَجْهَيْنِ، وَيَخْتَلِفُ حَالُهُ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ، وَرَدَّدَهُ كَيْفَ وَأَيْنَ. وَالسَّكَنُ مَصْدَرٌ يُوصَفُ بِهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى بيوت القلة والرحلة وهى:
(1). في ج وو: رسلهم.
(2)
. اضطربت الأصول في عد هذه المسائل.
الثَّانِيَةُ- فَقَالَ (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها) أَيْ مِنَ الْأَنْطَاعِ وَالْأَدَمِ." بُيُوتاً" يَعْنِي الْخِيَامَ وَالْقِبَابَ يَخِفُّ عَلَيْكُمْ حَمْلُهَا فِي الْأَسْفَارِ. (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ) الظَّعْنُ: سَيْرُ الْبَادِيَةِ فِي الِانْتِجَاعِ «1» وَالتَّحَوُّلِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ:
ظَعَنَ الَّذِينَ فِرَاقُهُمْ أَتَوَقَّعُ
…
وَجَرَى بِبَيْنِهِمُ الْغُرَابُ الْأَبْقَعُ
وَالظَّعْنُ الْهَوْدَجُ أَيْضًا، قَالَ:
أَلَا هَلْ هَاجَكَ الْأَظْعَانُ إِذْ بَانُوا
…
وَإِذْ جَادَتْ بِوَشْكِ الْبَيْنِ غِرْبَانُ
وَقُرِئَ بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ وَفَتْحِهَا كَالشَّعْرِ وَالشَّعَرِ. وَقِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَعُمَّ (به «2» بُيُوتَ الْأَدَمِ وَبُيُوتَ الشَّعْرِ وَبُيُوتَ الصُّوفِ، لِأَنَّ هَذِهِ مِنَ الْجُلُودِ لِكَوْنِهَا ثَابِتَةً فِيهَا، نَحَا إِلَى ذَلِكَ ابْنُ سَلَّامٍ. وَهُوَ احْتِمَالُ حَسَنٌ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ" وَمِنْ أَصْوافِها" ابْتِدَاءُ كَلَامٍ، كَأَنَّهُ قَالَ جَعَلَ أَثَاثًا، يُرِيدُ الْمَلَابِسَ وَالْوِطَاءَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَهَاجَتْكَ الظَّعَائِنُ يَوْمَ بَانُوا
…
بِذِي الزِّيِّ الْجَمِيلِ مِنَ الْأَثَاثِ
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ" مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ" بُيُوتَ الْأَدَمِ فَقَطْ كَمَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلًا. وَيَكُونُ قَوْلُهُ" وَمِنْ أَصْوافِها" عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ" مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ" أَيْ جَعَلَ بُيُوتًا أَيْضًا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:" وَهَذَا أَمْرٌ انْتَشَرَ فِي تِلْكَ الدِّيَارِ، وَعَزَبَتْ عَنْهُ بِلَادُنَا، فَلَا تُضْرَبُ الْأَخْبِيَةُ عِنْدَنَا إِلَّا مِنَ الْكَتَّانِ وَالصُّوفِ، وَقَدْ كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قُبَّةٌ مِنْ أَدَمٍ، وَنَاهِيكَ مِنْ أَدَمِ الطَّائِفِ غَلَاءٌ فِي الْقِيمَةِ، وَاعْتِلَاءٌ فِي الصَّنْعَةِ، وَحُسْنًا فِي الْبَشَرَةِ، وَلَمْ يَعُدَّ ذَلِكَ صلى الله عليه وسلم تَرَفًا وَلَا رَآهُ سَرَفًا، لِأَنَّهُ مِمَّا امْتَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ نِعْمَتِهِ وَأَذِنَ فِيهِ مِنْ مَتَاعِهِ، وَظَهَرَتْ وُجُوهُ مَنْفَعَتِهِ فِي الِاكْتِنَانِ وَالِاسْتِظْلَالِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ عَنْهُ جِنْسُ الْإِنْسَانِ. وَمِنْ غَرِيبِ مَا جَرَى أَنِّي زُرْتُ بَعْضَ الْمُتَزَهِّدِينَ مِنَ الْغَافِلِينَ مَعَ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فِي خِبَاءِ كَتَّانٍ فَعَرَضَ عَلَيْهِ صَاحِبِي الْمُحَدِّثُ أَنْ يَحْمِلَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ ضَيْفًا، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا مَوْضِعٌ يَكْثُرُ فِيهِ الْحَرُّ وَالْبَيْتُ أَرْفَقُ بِكَ وَأَطْيَبُ لِنَفْسِي فِيكَ، فَقَالَ: هَذَا الْخِبَاءُ لنا كثير، وكان
(1). النجعة والانتجاع: طلب الكلا ومساقط الغيث.
(2)
. من ج وى.
فِي صُنْعِنَا مِنَ الْحَقِيرِ، فَقُلْتُ: لَيْسَ كَمَا زَعَمْتَ فَقَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ رَئِيسُ الزُّهَّادِ قُبَّةٌ مِنْ أَدَمٍ طَائِفِيٍّ يُسَافِرُ مَعَهَا وَيَسْتَظِلُّ بِهَا، فَبُهِتَ، وَرَأَيْتُهُ عَلَى مَنْزِلَةٍ مِنَ الْعِيِّ فَتَرَكْتُهُ مَعَ صاحبي وخرجت عنه. الثالثة-:(. مِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها) أَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالِانْتِفَاعِ بِصُوفِ الْغَنَمِ وَوَبَرِ الْإِبِلِ وَشَعْرِ الْمَعْزِ، كَمَا أَذِنَ فِي الْأَعْظَمِ، وَهُوَ ذَبْحُهَا وَأَكْلُ لُحُومِهَا، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقُطْنَ وَالْكَتَّانَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ، وَإِنَّمَا عَدَّدَ عَلَيْهِمْ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَخُوطِبُوا فِيمَا عَرَفُوا بِمَا فَهِمُوا. وَمَا قَامَ مَقَامَ هَذِهِ وَنَابَ مَنَابَهَا فَيَدْخُلُ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَالنِّعْمَةِ مَدْخَلَهَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ «1» " فَخَاطَبَهُمْ بِالْبَرَدِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ نُزُولَهُ كَثِيرًا عِنْدَهُمْ، وَسَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الثَّلْجِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي بِلَادِهِمْ، وَهُوَ مِثْلُهُ فِي الصِّفَةِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَقَدْ ذَكَرَهُمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعًا فِي التَّطْهِيرِ فَقَالَ:" اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي بِمَاءٍ وَثَلْجٍ وَبَرَدٍ". قال ابن عباس: الثلج شي أَبْيَضُ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا رَأَيْتُهُ قَطُّ. وَقِيلَ: إِنَّ تَرْكَ ذِكْرِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ إِنَّمَا كَانَ إِعْرَاضًا عَنِ التَّرَفِ، إِذْ مَلْبَسُ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ إِنَّمَا هُوَ الصُّوفُ" وَهَذَا فِيهِ نظر، فإنه سبحانه يقول:" يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ" حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي" الْأَعْرَافِ «2» " وَقَالَ هُنَا:" وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ" فَأَشَارَ إِلَى الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ فِي لَفْظَةِ" سَرابِيلَ" وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَ" أَثاثاً
" قَالَ الْخَلِيلُ: مَتَاعًا مُنْضَمًّا بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ، مِنْ أَثَّ إِذَا كَثُرَ. قَالَ:
وَفَرْعٌ يَزِينُ المتن أسود فاحم
…
أثيث كقنو النخلة المتعثكل «3»
ابن عباس:" أَثاثاً" ثيابا. وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَوَازَ الِانْتِفَاعِ بِالْأَصْوَافِ وَالْأَوْبَارِ وَالْأَشْعَارِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: صوف الميتة وشعرها طاهر يجوز
(1). راجع ج 12 ص 289.
(2)
. راجع ج 7 ص 182.
(3)
. البيت من معلقة امرئ القيس. والفرع: الشعر التام و. والمتن والمتنة: ما عن يمين الصلب وشماله من العصب واللحم. والفاحم: الشديد السواد. والقنو (بالكسر والضم): العذق وهو شمراخ. والمتعثكل: الذي قد دخل بعضه في بعض لكثرته.
الِانْتِفَاعُ بِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَيُغْسَلُ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ عَلِقَ بِهِ وَسَخٌ، وَكَذَلِكَ رَوَتْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:" لَا بَأْسَ بِجِلْدِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَ وَصُوفِهَا وَشَعْرِهَا إِذَا غُسِلَ «1» " لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَحُلُّهُ الْمَوْتُ، سَوَاءٌ كَانَ شَعْرُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَوْ لَا، كَشَعْرِ ابْنِ آدَمَ وَالْخِنْزِيرِ، فَإِنَّهُ طَاهِرٌ كُلُّهُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَلَكِنَّهُ زَادَ عَلَيْنَا فَقَالَ: الْقَرْنُ وَالسِّنُّ وَالْعَظْمُ مِثْلُ الشَّعْرِ، قَالَ: لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا لَا رُوحَ فِيهَا لَا تَنْجُسُ بِمَوْتِ الْحَيَوَانِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ: إِنَّ الشُّعُورَ كُلَّهَا نَجِسَةٌ وَلَكِنَّهَا تَطْهُرُ بِالْغَسْلِ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: الْأُولَى- طَاهِرَةٌ لَا تَنْجُسُ بِالْمَوْتِ. الثَّانِيَةُ- تَنْجُسُ. الثَّالِثَةُ- الْفَرْقُ بَيْنَ شَعْرِ ابْنِ آدَمَ وَغَيْرِهِ، فَشَعْرُ ابْنِ آدَمَ طَاهِرٌ وَمَا عَدَاهُ نَجِسٌ. وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَمِنْ أَصْوافِها" الْآيَةَ. فَمَنَّ عَلَيْنَا بِأَنْ جَعَلَ لَنَا الِانْتِفَاعَ بِهَا، وَلَمْ يخصي شَعْرَ الْمَيْتَةِ مِنَ الْمُذَكَّاةِ، فَهُوَ عُمُومٌ إِلَّا أَنْ 0 يَمْنَعَ مِنْهُ دَلِيلٌ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَصْلَ كَوْنُهَا طَاهِرَةً قَبْلَ الْمَوْتِ بِإِجْمَاعٍ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ انْتَقَلَ إِلَى نَجَاسَةٍ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ. فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ:" حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ «2» " وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنِ الْجُمْلَةِ. قُلْنَا: نَخُصُّهُ بِمَا ذَكَرْنَا، فَإِنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي ذِكْرِ الصُّوفِ، وَلَيْسَ فِي آيَتِكُمْ ذِكْرُهُ صَرِيحًا، فَكَانَ دَلِيلُنَا أَوْلَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ عَوَّلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو إِسْحَاقَ إِمَامُ الشَّافِعِيَّةِ بِبَغْدَادَ عَلَى أَنَّ الشَّعْرَ جُزْءٌ مُتَّصِلٌ بِالْحَيَوَانِ خِلْقَةً، فَهُوَ يَنْمِي بِنَمَائِهِ وَيَتَنَجَّسُ بموته كسائر الاجزاء. وأجيب بأن الماء لَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى الْحَيَاةِ، لِأَنَّ النَّبَاتَ يَنْمِي وَلَيْسَ بِحَيٍّ. وَإِذَا عَوَّلُوا عَلَى النَّمَاءِ الْمُتَّصِلِ لِمَا عَلَى الْحَيَوَانِ عَوَّلْنَا نَحْنُ عَلَى الْإِبَانَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْإِحْسَاسِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْحَيَاةِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّونَ فِي الْعَظْمِ وَالسِّنِّ وَالْقَرْنِ أَنَّهُ مِثْلُ الشَّعْرِ، فَالْمَشْهُورُ عِنْدَنَا أَنَّ ذَلِكَ نَجِسٌ كَاللَّحْمِ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَلَنَا قَوْلٌ ثَالِثٌ- هَلْ تُلْحَقُ أَطْرَافُ الْقُرُونِ وَالْأَظْلَافِ بِأُصُولِهَا أَوْ بِالشَّعْرِ، قَوْلَانِ. وَكَذَلِكَ الشَّعْرِيُّ مِنَ الرِّيشِ حُكْمُهُ حُكْمُ الشَّعْرِ، وَالْعَظْمِيُّ مِنْهُ حُكْمُهُ حُكْمُهُ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:" لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِشَيْءٍ" وَهَذَا عَامٌّ فِيهَا وَفِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا، إِلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ، وَمِنَ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَى ذَلِكَ قوله تعالى:" قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ «3» "،
(1). والحديث المشهور" أيها أهاب دبغ قد طهر" رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة.
(2)
. راجع ج 6 ص 47.
(3)
. راجع ج 15 ص 58.
وَقَالَ تَعَالَى:" وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها «1» "، وقال:" فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً «2» "، وقال:" أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً «3» " فَالْأَصْلُ هِيَ الْعِظَامُ، وَالرُّوحُ وَالْحَيَاةُ فِيهَا كَمَا فِي اللَّحْمِ وَالْجِلْدِ. وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٌ:" لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ". فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ:" أَلَا انْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِهَا"؟ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا مَيْتَةٌ. فَقَالَ:" إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا" وَالْعَظْمُ لَا يؤكل. قلنا: العظم يؤكل، وخاصة عظم الحمل «4» الرَّضِيعِ وَالْجَدْيِ وَالطَّيْرِ، وَعَظْمُ الْكَبِيرِ يُشْوَى وَيُؤْكَلُ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْحَيَاةِ فِيهِ، وَمَا كَانَ طَاهِرًا بِالْحَيَاةِ وَيُسْتَبَاحُ بِالذَّكَاةِ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى- (مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ) عَامٌّ فِي جِلْدِ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ، فَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ وَإِنْ لَمْ تُدْبَغْ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَمْ نَجِدْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ جَوَازُ بَيْعِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ إِلَّا عَنِ اللَّيْثِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: يَعْنِي مِنَ الْفُقَهَاءِ أَئِمَّةَ الْفَتْوَى بِالْأَمْصَارِ بَعْدَ التَّابِعِينَ، وَأَمَّا ابْنُ شِهَابٍ فَذَلِكَ عَنْهُ صَحِيحٌ، وَهُوَ قَوْلٌ أَبَاهُ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمَا خِلَافُ هَذَا الْقَوْلِ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ. قُلْتُ: قَدْ ذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ حَدِيثَ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ عَنْ يُونُسَ وَعُقَيْلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَحَدِيثَ بَقِيَّةَ عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، وَحَدِيثَ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ الْعَبْدِيِّ وَأَبِي سَلَمَةَ الْمِنْقَرِيِّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ فِي آخِرِهَا: هَذِهِ أَسَانِيدُ صِحَاحٌ. السَّادِسَةُ «5» - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جِلْدِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَ هَلْ يَطْهُرُ أَمْ لَا، فَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ مَا يُشْبِهُ مَذْهَبَ ابْنِ شِهَابٍ فِي ذَلِكَ. وَذَكَرَهُ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ فِي كِتَابِهِ عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ أَيْضًا. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ: وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَاللَّيْثِ. قَالَ: وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَهُوَ أَنَّ الدِّبَاغَ لَا يُطَهِّرُ جِلْدَ الْمَيْتَةِ، وَلَكِنْ يُبِيحُ الِانْتِفَاعَ بِهِ فِي الْأَشْيَاءِ الْيَابِسَةِ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يؤكل فيه. وفى المدونة لابن القاسم:
(1). راجع ج 3 ص 288.
(2)
. راجع ج 12 ص 108.
(3)
. راجع ج 91 ص 188. [ ..... ]
(4)
. في أ، ج، ح، و: الجمل.
(5)
. اضطربت الأصول في عد هذه المسائل.
مَنِ اغْتَصَبَ جِلْدَ مَيْتَةٍ غَيْرَ مَدْبُوغٍ فَأَتْلَفَهُ كان عليه قيمته. وحكى أذلك قَوْلُ مَالِكٍ. وَذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ أَنَّ مَالِكًا قَالَ: مَنِ اغْتَصَبَ لِرَجُلٍ جِلْدَ مَيْتَةٍ غَيْرَ مدبوغ فلا شي عَلَيْهِ. قَالَ إِسْمَاعِيلُ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِمَجُوسِيٍّ. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ جَوَازَ بَيْعِهِ، وَهَذَا فِي جِلْدِ كُلِّ مَيْتَةٍ إِلَّا الْخِنْزِيرَ وَحْدَهُ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَعْمَلُ فِيهِ، فَالدِّبَاغُ أَوْلَى. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَكُلُّ جِلْدٍ ذَكِيٍّ فَجَائِزٌ اسْتِعْمَالُهُ لِلْوُضُوءِ وَغَيْرِهِ. وَكَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ الْوُضُوءَ فِي إِنَاءِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدِّبَاغِ عَلَى اخْتِلَافٍ مِنْ قَوْلِهِ، وَمَرَّةً قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَكْرَهْهُ إِلَّا فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَبَيْعُهُ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَأَمَّا أَكْثَرُ الْمَدَنِيِّينَ فَعَلَى إِبَاحَةِ ذَلِكَ وَإِجَازَتِهِ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ". وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ،. وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ وَهْبٍ. السَّابِعَةُ- ذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رضي الله عنه إِلَى أَنَّهُ لا يجوز الانتفاع بجلود الميتة في شي وَإِنْ دُبِغَتْ، لِأَنَّهَا كَلَحْمِ الْمَيْتَةِ. وَالْأَخْبَارُ بِالِانْتِفَاعِ بَعْدَ الدِّبَاغِ تَرُدُّ قَوْلَهُ. وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ- رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ- قَالَ: قُرِئَ عَلَيْنَا كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَرْضِ جُهَيْنَةَ وَأَنَا غُلَامٌ شَابٌّ:" أَلَّا تَسْتَمْتِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ". وَفِي رِوَايَةٍ:" قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ «1» ". رَوَاهُ الْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَشْيَخَةٌ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَيْهِمْ .. قَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: سَأَلْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَضَعَّفَهُ وَقَالَ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، إِنَّمَا يَقُولُ حَدَّثَنِي الْأَشْيَاخُ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَلَوْ كَانَ ثَابِتًا لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَسَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبَّقِ وَغَيْرِهِمْ، لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ عُكَيْمٍ" أَلَّا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ" قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَإِذَا احْتَمَلَ أَلَّا يَكُونَ مخالف أفليس لَنَا أَنْ نَجْعَلَهُ مُخَالِفًا، وَعَلَيْنَا أَنْ نَسْتَعْمِلَ الْخَبَرَيْنِ مَا أَمْكَنَ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِشَهْرٍ كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ فَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ قِصَّةُ مَيْمُونَةَ وَسَمَاعُ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْهُ" أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ" قَبْلَ مَوْتِهِ بِجُمْعَةٍ أَوْ دُونَ جُمْعَةٍ، والله أعلم.
(1). لفظة" بشهر" ساقطة من سنن أبى داود.
الثَّامِنَةُ- الْمَشْهُورُ عِنْدَنَا أَنَّ جِلْدَ الْخِنْزِيرِ لَا يَدْخُلُ فِي الْحَدِيثِ وَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْعُمُومُ، وَكَذَلِكَ الْكَلْبُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. وَعِنْدَ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ: لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ إِلَّا جِلْدُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ. وَرَوَى مَعْنُ بْنُ عِيسَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ جِلْدِ الْخِنْزِيرِ إِذَا دُبِغَ فَكَرِهَهُ. قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ: وَسَمِعْتُ سُحْنُونًا يَقُولُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَصْحَابُهُ، لِقَوْلِهِ عليه السلام:" أَيُّمَا مَسْكٍ «1» دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ". قَالَ أَبُو عُمَرَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهَذَا الْقَوْلِ عُمُومَ الْجُلُودِ الْمَعْهُودِ الِانْتِفَاعُ بِهَا، فَأَمَّا الْخِنْزِيرُ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْهُودٍ الِانْتِفَاعُ بِجِلْدِهِ، إِذْ لَا تَعْمَلُ فِيهِ الذَّكَاةُ. وَدَلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ مَا قَالَهُ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: إِنَّ الْإِهَابَ جِلْدُ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْإِبِلِ، وَمَا عَدَاهُ فَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ: جِلْدٌ لَا إِهَابٌ. قُلْتُ: وَجِلْدُ الْكَلْبِ وَمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَيْضًا غَيْرُ مَعْهُودٍ الِانْتِفَاعُ بِهِ فَلَا يَطْهُرُ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم:" أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حَرَامٌ" فَلَيْسَتِ الذَّكَاةُ فِيهَا ذَكَاةٌ، كَمَا أَنَّهَا لَيْسَتْ فِي الْخِنْزِيرِ ذَكَاةٌ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ عن المقدام بن معد يكرب قَالَ:" نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ وَمَيَاثِرِ النُّمُورِ «2». التَّاسِعَةُ- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الدِّبَاغِ الَّتِي تَطْهُرُ بِهِ جُلُودُ الْمَيْتَةِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ وهو المشهور من مذهبه: كل شي دَبَغَ الْجِلْدَ مِنْ مِلْحٍ أَوْ قَرَظٍ أَوْ شَبٍّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَهُوَ قَوْلُ دَاوُدَ. وَلِلشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا- هَذَا، وَالْآخَرُ أَنَّهُ لَا يُطَهِّرُ إِلَّا الشَّبُّ وَالْقَرَظُ، لِأَنَّهُ الدِّبَاغُ الْمَعْهُودُ عَلَى عَهْدِ النبي صلى اله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَيْهِ خَرَّجَ الْخَطَّابِيُّ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَجُرُّونَ شَاةً لَهُمْ مِثْلَ الْحِصَانِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" لَوْ أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا" قَالُوا. إِنَّهَا مَيْتَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" يُطَهِّرُهَا الماء والقرظ".
(1). المسك (بالفتح وسكون السين): الجلد. وخص بعضهم به جلد السخلة، ثم كثر صار كل جلد مسكا، والجمع مسك ومسوك.
(2)
. أي عن أن تقرش جلودها على السرج والرحال للجلوس عليها لما فيه من التكبر أو لأنه زي العجم، أو لان الشعر نجس لا يقبل الدباغ. (عن شرح سنن النسائي). المياثر: جلود محشوة تجعل على الرحل.