الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة الكهف (18): الآيات 17 الى 18]
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ) أَيْ تَرَى أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ الشَّمْسَ عِنْدَ طُلُوعِهَا تَمِيلُ عَنْ كَهْفِهِمْ. وَالْمَعْنَى: إِنَّكَ لَوْ رَأَيْتَهُمْ لَرَأَيْتَهُمْ كَذَا، لَا أن المخاطب رآهم على التحقيق." تَتَزاوَرُ" تَتَنَحَّى وَتَمِيلُ، مِنْ الِازْوِرَارِ. وَالزَّوْرُ الْمَيْلُ. وَالْأَزْوَرُ فِي الْعَيْنِ الْمَائِلُ النَّظَرِ إِلَى نَاحِيَةٍ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ الْعَيْنِ، كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي رَبِيعَةَ:
وَجَنْبِي خِيفَةَ الْقَوْمِ أَزْوَرُ «1»
وَمِنَ اللَّفْظَةِ قول عنترة:
ازور مِنْ وَقْعِ الْقَنَا بِلَبَانِهِ «2»
وَفِي حَدِيثِ غَزْوَةِ موتة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رَأَى فِي سَرِيرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ ازْوِرَارًا عَنْ سَرِيرِ جَعْفَرٍ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ وَأَبُو عَمْرٍو" تَزَّاوَرُ" بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الزَّايِ، وَالْأَصْلُ" تَتَزَاوَرُ". وَقَرَأَ عَاصِمٌ وحمزة والكسائي" تَتَزاوَرُ" مخففة الزاي.
(1). والبيت بتمامه كما في ديوانه:
وخفض عنى الصوت أقبلت مشية ال
…
حباب وشخصي خشية الحي أزور
والحباب (بالضم): الحية. وقيل هذا بيت:
فلما فقدت الصوت منهم وأطفئت
…
مصابيح شبت بالعشاء وأنور
وغاب قمير كنت أهوى غيوبه
…
وروّح رعيان ونوّم سمر
(2)
. وتمامه:
وشكا إلى بعبرة وتحمم
واللبان (بالفتح): الصدر. والتحمحم: صوت مقطع ليس بالصهيل.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ" تَزْوَرُّ" مِثْلَ تَحْمَرُّ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ" تَزْوَارُّ" مِثْلَ تَحْمَارُّ، كُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. (وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ) قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالتَّاءِ عَلَى مَعْنَى تَتْرُكُهُمْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: تَدَعُهُمْ. النَّحَّاسُ: وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ، حَكَى الْبَصْرِيُّونَ أَنَّهُ يُقَالُ: قَرَضَهُ يَقْرِضُهُ إِذَا تَرَكَهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا لَا تُصِيبُهُمْ شَمْسٌ أَلْبَتَّةَ كَرَامَةً لَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. يَعْنِي أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ مَالَتْ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ، أَيْ يَمِينَ الْكَهْفِ، وَإِذَا غَرَبَتْ تَمُرُّ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، أَيْ شِمَالَ الْكَهْفِ، فَلَا تُصِيبُهُمْ فِي ابْتِدَاءِ النَّهَارِ وَلَا فِي آخِرِ النَّهَارِ. وَكَانَ كَهْفُهُمْ مُسْتَقْبِلُ بَنَاتِ نَعْشٍ فِي أَرْضِ الرُّومِ، فَكَانَتِ الشَّمْسُ تَمِيلُ عَنْهُمْ طَالِعَةً وَغَارِبَةً وَجَارِيَةً لَا تَبْلُغُهُمْ لِتُؤْذِيَهُمْ بِحَرِّهَا، وَتُغَيِّرَ أَلْوَانَهُمْ وَتُبْلِيَ ثِيَابَهُمْ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ لِكَهْفِهِمْ حَاجِبٌ مِنْ جِهَةِ الْجَنُوبِ، وَحَاجِبٌ مِنْ جِهَةِ الدَّبُورِ وَهُمْ فِي زَاوِيَتِهِ. وَذَهَبَ الزَّجَّاجُ إِلَى أَنَّ فِعْلَ الشَّمْسِ كَانَ آيَةً مِنَ اللَّهِ، دُونَ أَنْ يَكُونَ بَابُ الْكَهْفِ إِلَى جِهَةٍ تُوجِبُ ذَلِكَ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ" يَقْرِضُهُمْ" بِالْيَاءِ مِنَ الْقَرْضِ وَهُوَ الْقَطْعُ، أَيْ يَقْطَعهُمُ الْكَهْفُ بِظِلِّهِ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ. وَقِيلَ:" وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ
" أَيْ يُصِيبُهُمْ يَسِيرٌ مِنْهَا، مَأْخُوذٌ مِنْ قارضة الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، أَيْ تُعْطِيهِمُ الشَّمْسُ الْيَسِيرَ مِنْ شُعَاعِهَا. وَقَالُوا: كَانَ فِي مَسِّهَا لَهُمْ بِالْعَشِيِّ إِصْلَاحٌ لِأَجْسَادِهِمْ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَالْآيَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى آوَاهُمْ إِلَى كَهْفٍ هَذِهِ صِفَتُهُ لَا إِلَى كَهْفٍ آخَرَ يَتَأَذَّوْنَ فِيهِ بِانْبِسَاطِ الشَّمْسِ عَلَيْهِمْ فِي مُعْظَمِ النَّهَارِ. وَعَلَى هَذَا فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَرْفُ الشَّمْسِ عَنْهُمْ بِإِظْلَالِ غَمَامٍ أَوْ سَبَبٍ آخَرَ. وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ حِفْظِهِمْ عَنْ تَطَرُّقِ الْبَلَاءِ وَتَغَيُّرِ الْأَبْدَانِ وَالْأَلْوَانِ إِلَيْهِمْ، وَالتَّأَذِّي بِحَرٍّ أَوْ بَرْدٍ. (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) أَيْ مِنَ الْكَهْفِ وَالْفَجْوَةُ الْمُتَّسَعُ، وَجَمْعُهَا فَجَوَاتٌ وَفِجَاءٌ، مِثْلُ رَكْوَةٍ وَرِكَاءٍ وَرَكَوَاتٍ وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَنَحْنُ مَلَأْنَا كُلَّ وَادٍ وَفَجْوَةٍ
…
رِجَالًا وَخَيْلًا غَيْرَ مِيلٍ «1» وَلَا عُزْلِ
أَيْ كَانُوا بِحَيْثُ يُصِيبُهُمْ نَسِيمُ الْهَوَاءِ. (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ) لُطْفٌ بِهِمْ. وَهَذَا يُقَوِّي قَوْلَ الزَّجَّاجِ. وَقَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ مَفْتُوحَةٌ وَهُمْ نَائِمُونَ، فَكَذَلِكَ كَانَ الرَّائِي يَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا. وقيل: تحسبهم أَيْقَاظًا وَقِيلَ: (تَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً) لِكَثْرَةِ تَقَلُّبِهِمْ كَالْمُسْتَيْقِظِ في مضجعه. و (أَيْقاظاً)
(1). ميل: جمع أميل وهو والجبان. وله معالن. [ ..... ]
جَمْعُ يَقِظٍ وَيَقْظَانَ، وَهُوَ الْمُنْتَبِهُ. (وَهُمْ رُقُودٌ) كَقَوْلِهِمْ: وَهُمْ قَوْمٌ رُكُوعٌ وَسُجُودٌ وَقُعُودٌ، فَوَصَفَ الْجَمْعَ بِالْمَصْدَرِ. (وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِئَلَّا تَأْكُلَ الْأَرْضُ لُحُومَهُمْ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: كَانَ لَهُمْ فِي كُلِّ عَامٍ تَقْلِيبَتَانِ. وَقِيلَ: فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِي كُلِّ سَبْعِ سِنِينَ مَرَّةً. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنَّمَا قُلِّبُوا فِي التِّسْعِ الْأَوَاخِرِ، وَأَمَّا فِي الثَّلَاثمِائَةِ فَلَا. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ التَّقْلِيبَ كَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَلَكٍ بِأَمْرِ اللَّهِ، فَيُضَافُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) فيه أربع مسائل الاولى- قوله تعالى:" وَكَلْبُهُمْ" قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: إِنَّ مِمَّا أُخِذَ عَلَى الْعَقْرَبِ أَلَّا تَضُرَّ «1» أَحَدًا [قَالَ «2»] فِي لَيْلِهِ أَوْ فِي نَهَارِهِ: صَلَّى «3» اللَّهُ عَلَى نُوحٍ. وَإِنَّ مِمَّا أُخِذَ عَلَى الْكَلْبِ أَلَّا يَضُرَّ مَنْ حَمَلَ عَلَيْهِ [إِذَا قَالَ «4»]: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ. أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ كَلْبٌ حَقِيقَةً، وَكَانَ لِصَيْدِ أَحَدِهِمْ أَوْ لِزَرْعِهِ أَوْ غَنَمِهِ، عَلَى مَا قَالَ مُقَاتِلٌ. وَاخْتُلِفَ فِي لَوْنِهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ. تَحْصِيلُهُ: أَيُّ لَوْنٍ ذَكَرْتَ أَصَبْتَ، حَتَّى قِيلَ لَوْنُ الْحَجَرِ وَقِيلَ لَوْنُ السَّمَاءِ. وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي اسْمِهِ، فَعَنْ عَلِيٍّ: رَيَّانَ. ابْنِ عَبَّاسٍ: قِطْمِيرُ. الْأَوْزَاعِيُّ: مُشِيرٌ «5» . عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: بسيط. كعب: صهيا. وهب: نقيا. وقيل قطفير «6» ، ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَكَانَ اقْتِنَاءُ الْكَلْبِ جَائِزًا فِي وَقْتِهِمْ، كَمَا هُوَ عِنْدَنَا الْيَوْمَ جَائِزٌ فِي شَرْعِنَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَرَبُوا لَيْلًا، وَكَانُوا سَبْعَةً فَمَرُّوا بِرَاعٍ مَعَهُ كَلْبٌ فَاتَّبَعَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ. وَقَالَ كَعْبٌ: مَرُّوا بِكَلْبٍ فَنَبَحَ لَهُمْ فَطَرَدُوهُ فَعَادَ فَطَرَدُوهُ مِرَارًا، فَقَامَ الْكَلْبُ عَلَى رِجْلَيْهِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ كَهَيْئَةِ الدَّاعِي، فَنَطَقَ فَقَالَ: لَا تَخَافُوا مِنِّي أَنَا أُحِبُّ أَحِبَّاءَ اللَّهِ تَعَالَى فَنَامُوا حَتَّى أَحْرُسَكُمْ. الثَّانِيَةُ- وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ". وَرَوَى الصحيح أيضا عن
(1). في ج: إلا تضرب.
(2)
. زيادة من كتاب حياة الحيوان.
(3)
. في حياة الحيوان:" سلام على نوح".
(4)
. زيادة من كتاب حياة الحيوان.
(5)
. في ج: تبر.
(6)
. من ج.
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا إِلَّا كلب ماشية أو صيد أو زرع انقص مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ". قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَذُكِرَ لِابْنِ عُمَرَ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ صَاحِبَ زَرْعٍ. فَقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ عَلَى اقْتِنَاءِ الْكَلْبِ لِلصَّيْدِ وَالزَّرْعِ وَالْمَاشِيَةِ. وَجَعَلَ النَّقْصَ فِي أَجْرِ مَنِ اقْتَنَاهَا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنْفَعَةِ، إِمَّا لِتَرْوِيعِ الْكَلْبِ الْمُسْلِمِينَ وَتَشْوِيشِهِ عَلَيْهِمْ بِنُبَاحِهِ، أَوْ لِمَنْعِ دُخُولِ الْمَلَائِكَةِ الْبَيْتَ، أَوْ لِنَجَاسَتِهِ، عَلَى مَا يَرَاهُ الشَّافِعِيُّ، أَوْ لِاقْتِحَامِ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ" قِيرَاطَانِ" وَفِي الْأُخْرَى" قِيرَاطٌ". وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي نَوْعَيْنِ مِنَ الْكِلَابِ أَحَدُهُمَا أَشَدُّ أَذًى مِنَ الْآخَرِ، كَالْأَسْوَدِ الَّذِي أَمَرَ عليه السلام بِقَتْلِهِ، وَلَمْ يُدْخِلْهُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ حِينَ نَهَى عَنْ قَتْلِهَا كَمَا هُوَ مَنْصُوصٌ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ، أَخْرَجَهُ الصَّحِيحُ. وَقَالَ:" عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ ذِي النُّقْطَتَيْنِ فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ". وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ، فَيَكُونُ مُمْسِكُهُ بِالْمَدِينَةِ مَثَلًا أَوْ بِمَكَّةَ يُنْقَصُ قِيرَاطَانِ وَبِغَيْرِهَا قِيرَاطٌ. وَأَمَّا الْمُبَاحُ اتِّخَاذُهُ فَلَا يُنْقِصُ، كَالْفَرَسِ وَالْهِرَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ- وَكَلْبُ الْمَاشِيَةِ الْمُبَاحُ اتِّخَاذُهُ عِنْدَ مَالِكٍ هُوَ الَّذِي يَسْرَحُ مَعَهَا، لَا الَّذِي يَحْفَظُهَا فِي الدَّارِ مِنَ السُّرَّاقِ. وَكَلْبُ الزَّرْعِ هُوَ الَّذِي يَحْفَظُهَا مِنَ الْوُحُوشِ بِاللَّيْلِ أَوْ بِالنَّهَارِ لَا مِنَ السُّرَّاقِ. وَقَدْ أَجَازَ غَيْرُ مَالِكٍ اتِّخَاذَهَا لِسُرَّاقِ الْمَاشِيَةِ وَالزَّرْعِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْمَائِدَةِ «1» " مِنْ أَحْكَامِ الْكِلَابِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الرَّابِعَةُ- قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَحَدَّثَنِي أَبِي رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الْفَضْلِ الْجَوْهَرِيَّ فِي جَامِعِ مِصْرَ يَقُولُ عَلَى مِنْبَرِ وَعْظِهِ سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ: إِنَّ مَنْ أَحَبَّ أَهْلَ الْخَيْرِ نَالَ مِنْ بَرَكَتِهِمْ، كَلْبٌ أَحَبَّ أَهْلَ فَضْلٍ وَصَحِبَهُمْ فَذَكَرَهُ اللَّهُ في محكم تنزيله. قلت: إذ كَانَ بَعْضُ الْكِلَابِ قَدْ نَالَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ الْعُلْيَا بِصُحْبَتِهِ وَمُخَالَطَتِهِ الصُّلَحَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ حَتَّى أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ جَلَّ وَعَلَا فما ظنك بالمؤمنين الموحدين المخالطين
(1). راجع ج 6 ص، 65
الْمُحِبِّينَ لِلْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ بَلْ فِي هَذَا تَسْلِيَةٌ وَأُنْسٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُقَصِّرِينَ عَنْ دَرَجَاتِ الْكَمَالِ، الْمُحِبِّينَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَآلِهِ خَيْرِ آلٍ. رَوَى الصَّحِيحُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: بَيْنَا أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَارِجَانِ مِنَ الْمَسْجِدِ فَلَقِيَنَا رَجُلٌ عِنْدَ سُدَّةِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" مَا أَعْدَدْتَ لَهَا" قَالَ فَكَأَنَّ الرجل استكان، ثم قال: ويا رسول الله، ما أعددت بها كَثِيرَ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ وَلَا صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. قَالَ:" فَأَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ". فِي رِوَايَةٍ قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: فَمَا فَرِحْنَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَرَحًا أَشَدَّ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:" فَأَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ". قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِأَعْمَالِهِمْ. قُلْتُ: وَهَذَا الَّذِي تَمَسَّكَ بِهِ أَنَسٌ يَشْمَلُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كُلَّ ذِي نَفْسٍ، فَكَذَلِكَ تَعَلَّقَتْ أَطْمَاعُنَا بِذَلِكَ وَإِنْ كُنَّا مُقَصِّرِينَ، وَرَجَوْنَا رَحْمَةَ الرَّحْمَنِ وَإِنْ كُنَّا غَيْرَ مُسْتَأْهِلِينَ، كَلْبٌ أَحَبَّ قَوْمًا فَذَكَرَهُ اللَّهُ مَعَهُمْ فَكَيْفَ بِنَا وَعِنْدَنَا عَقْدُ الْإِيمَانِ وَكَلِمَةُ الْإِسْلَامِ، وَحُبُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم،" وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا «1» ". وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: لم يكن كلبا حقيقة، و. إنما كَانَ أَحَدُهُمْ، وَكَانَ قَدْ قَعَدَ عِنْدَ بَابِ الْغَارِ طَلِيعَةً لَهُمْ، «2»
…
كَمَا سُمِّيَ النَّجْمُ التَّابِعُ لِلْجَوْزَاءِ كَلْبًا، لِأَنَّهُ مِنْهَا كَالْكَلْبِ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَيُقَالُ لَهُ: كَلْبُ الْجَبَّارِ «3» قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَسُمِّيَ بِاسْمِ الْحَيَوَانِ اللَّازِمِ لِذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَمَّا إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُضْعِفُهُ ذِكْرُ بَسْطِ الذِّرَاعَيْنِ فَإِنَّهَا فِي الْعُرْفِ مِنْ صِفَةِ الْكَلْبِ حَقِيقَةً، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:" وَلَا يَبْسُطُ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ". وَقَدْ حَكَى أَبُو عُمَرَ الْمُطَرِّزُ فِي كِتَابِ الْيَوَاقِيتِ
(1). راجع ص 293 من هذا الجزء.
(2)
. في بعض نسخ الأصل بعد قوله" طليعة لهم":" قال ابن عطية: فسمى باسم الحيوان الملازم لذلك الموضوع" ونراها غير لازمة. والذي في حياة الحيوان للدميري في اسم الكلب:" وقالت فرقة: كأن أحدهم وكان قد فعد عند باب الغار طليعة يهم، فسمى باسم الحيوان الملازم لذلك الموضع من الناس كَمَا سُمِّيَ النَّجْمُ التَّابِعُ لِلْجَوْزَاءِ كَلْبًا لِأَنَّهُ منها كالكلب من الإنسان، وهذا القول يضعفه
…
" إلخ.
(3)
. الجبار: اسم الجوزاء.
أَنَّهُ قُرِئَ" وَكَالِبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ". فَيَحْتَمِلُ أن يريد بالكالب هذا لرجل عَلَى مَا رُوِيَ، إِذْ بَسْطُ الذِّرَاعَيْنِ وَاللُّصُوقُ بِالْأَرْضِ مَعَ رَفْعِ الْوَجْهِ لِلتَّطَلُّعِ هِيَ هَيْئَةُ الرِّيبَةِ الْمُسْتَخْفِي بِنَفْسِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْكَالِبِ الْكَلْبَ. وَقَرَأَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ" كَالِبُهُمْ" يَعْنِي صَاحِبَ الْكَلْبِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:(باسِطٌ ذِراعَيْهِ) أُعْمِلَ اسْمُ الْفَاعِلِ وَهُوَ بِمَعْنَى الْمُضِيِّ، لِأَنَّهَا حكاية حال ولم يفصد الاخبار عن فعل الكلب. والذرع من طرف المرفق الطرف الْأُصْبُعِ الْوُسْطَى. ثُمَّ قِيلَ: بَسَطَ ذِرَاعَيْهِ لِطُولِ الْمُدَّةِ. وَقِيلَ: نَامَ الْكَلْبُ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنَ الآيات. وقيل: نام مفتوح العين. الوصيد: القناء، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ، أَيْ فِنَاءُ الْكَهْفِ، وَالْجَمْعُ وَصَائِدُ وَوُصُدٌ. وَقِيلَ الْبَابُ. وقال ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَأَنْشَدَ:
بِأَرْضٍ فَضَاءٍ لَا يُسَدُّ وَصِيدُهَا
…
عَلَيَّ وَمَعْرُوفِي بِهَا غَيْرُ مُنْكَرِ
وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: عَتَبَةُ الْبَابِ، وَالْبَابُ الْمُوصَدُ هُوَ الْمُغْلَقُ. وَقَدْ أَوْصَدْتُ الْبَابَ وَآصَدْتُهُ أَيْ أَغْلَقْتُهُ. وَالْوَصِيدُ: النَّبَاتُ الْمُتَقَارِبُ الْأُصُولِ، فَهُوَ مُشْتَرَكٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:(لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ) قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الْوَاوِ. وَالْأَعْمَشُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ بِضَمِّهَا. (لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً) أَيْ لَوْ أَشْرَفْتَ عَلَيْهِمْ لَهَرَبْتَ مِنْهُمْ. (وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) أَيْ لِمَا حَفَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الرُّعْبِ وَاكْتَنَفَهُمْ مِنَ الْهَيْبَةِ. وَقِيلَ: لِوَحْشَةِ مَكَانِهِمْ، وَكَأَنَّهُمْ آوَاهُمُ اللَّهُ إِلَى هَذَا الْمَكَانِ الْوَحْشِ «1» في الظاهر لينقر النَّاسَ عَنْهُمْ. وَقِيلَ: كَانَ النَّاسُ مَحْجُوبِينَ عَنْهُمْ بِالرُّعْبِ، لَا يَجْسُرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى الدُّنُوِّ إِلَيْهِمْ. وَقِيلَ: الْفِرَارُ مِنْهُمْ لِطُولِ شُعُورِهِمْ وَأَظْفَارِهِمْ، وذكر الْمَهْدَوِيُّ وَالنَّحَّاسُ وَالزَّجَّاجُ وَالْقُشَيْرِيُّ. وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا اسْتَيْقَظُوا قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ. وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ شُعُورَهُمْ وَأَظْفَارَهُمْ كَانَتْ بِحَالِهَا، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى أَظْفَارِهِمْ وَشُعُورِهِمْ. قَالَ «2» ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالصَّحِيحُ فِي أَمْرِهِمْ أَنَّ اللَّهَ عز وجل حَفِظَ لَهُمُ الْحَالَةَ الَّتِي نَامُوا عَلَيْهَا لِتَكُونَ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ فيهم
(1). مكان وحش: خال.
(2)
. في ج: قاله ابن عطية.