الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قُلْتُ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْأَسْبَابِ، وَقَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَى سُكُونِهَا دُونَ الْجِبَالِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى. (وَأَنْهاراً) أَيْ وَجَعَلَ فِيهَا أَنْهَارًا، أَوْ أَلْقَى فِيهَا أَنْهَارًا. (وَسُبُلًا) أَيْ طُرُقًا وَمَسَالِكَ. (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أَيْ إِلَى حَيْثُ تَقْصِدُونَ مِنَ الْبِلَادِ فَلَا تضلون ولا تتحيرون.
[سورة النحل (16): آية 16]
وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَعَلاماتٍ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْعَلَامَاتُ مَعَالِمُ الطُّرُقِ بِالنَّهَارِ، أَيْ جَعَلَ لِلطَّرِيقِ عَلَامَاتٍ يَقَعُ الِاهْتِدَاءُ بِهَا. (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) يَعْنِي بِاللَّيْلِ، وَالنَّجْمُ يُرَادُ بِهِ النُّجُومُ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ" وَبِالنُّجُمِ". الْحَسَنُ: بِضَمِّ النُّونِ وَالْجِيمِ جَمِيعًا وَمُرَادُهُ النُّجُومُ، فَقَصَرَهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنَّ الْفَقِيرَ بَيْنَنَا قَاضٍ حَكَمْ
…
أَنْ تَرِدَ الْمَاءَ إِذَا غَابَ النُّجُمْ
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ لِمَنْ قَرَأَ" النُّجْمُ" إِلَّا أَنَّهُ سَكَّنَ اسْتِخْفَافًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النُّجُمُ جَمْعُ نَجْمٍ كَسُقُفٍ وَسَقْفٍ. وَاخْتُلِفَ فِي النُّجُومِ، فَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْجَدْيُ وَالْفَرْقَدَانِ. وَقِيلَ: الثُّرَيَّا. قَالَ الشَّاعِرُ:
حَتَّى إِذَا مَا اسْتَقَلَّ النَّجْمُ فِي غَلَسٍ
…
وَغُودِرَ الْبَقْلُ مَلْوِيٌّ وَمَحْصُودُ «1»
أَيْ مِنْهُ مَلْوِيٌّ وَمِنْهُ مَحْصُودٌ، وَذَلِكَ عِنْدَ طُلُوعِ الثُّرَيَّا يَكُونُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْعَلَامَاتُ الْجِبَالُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ النُّجُومُ، لِأَنَّ مِنَ النُّجُومِ مَا يُهْتَدَى بِهَا، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ عَلَامَةً لَا يُهْتَدَى بِهَا، وَقَالَهُ قَتَادَةُ وَالنَّخَعِيُّ. وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ:" وَعَلاماتٍ" ثُمَّ ابْتَدَأَ وَقَالَ:" وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ". وَعَلَى الْأَوَّلِ: أي وجعل لكم علامات ونجو ما تَهْتَدُونَ بِهَا. وَمِنَ الْعَلَامَاتِ الرِّيَاحُ يُهْتَدَى بِهَا. وَفِي الْمُرَادِ بِالِاهْتِدَاءِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا- فِي الْأَسْفَارِ،
(1). البيت لذي الرمة. ومعنى" استقل" طلع في آخر الليل. وفى ديوانه:" أحصد" بدل" غودر". وأحصد: حان حصاده.
وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. الثَّانِي- فِي الْقِبْلَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ تَعَالَى:" وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ" قَالَ:" هُوَ الْجَدْيُ يا بن عَبَّاسٍ، عَلَيْهِ قِبْلَتُكُمْ وَبِهِ تَهْتَدُونَ فِي بَرِّكُمْ وَبَحْرِكُمْ" ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. الثَّانِيَةُ- قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَمَّا جَمِيعُ النُّجُومِ فَلَا يَهْتَدِي بِهَا إِلَّا الْعَارِفُ بِمَطَالِعِهَا وَمَغَارِبِهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجَنُوبِيِّ وَالشَّمَالِيِّ مِنْهَا، وَذَلِكَ قَلِيلٌ فِي الْآخَرِينَ. وَأَمَّا الثُّرَيَّا فَلَا يَهْتَدِي بِهَا إِلَّا مَنْ يَهْتَدِي بِجَمِيعِ النُّجُومِ. وَإِنَّمَا الْهُدَى لِكُلِ أَحَدٍ بِالْجَدْيِ وَالْفَرْقَدَيْنِ، لِأَنَّهَا مِنَ النُّجُومِ الْمُنْحَصِرَةِ الْمَطَالِعِ الظَّاهِرَةِ السَّمْتِ الثَّابِتَةِ فِي الْمَكَانِ، فَإِنَّهَا تَدُورُ عَلَى الْقُطْبِ الثَّابِتِ دَوَرَانًا مُحَصَّلًا، فَهِيَ أَبَدًا هُدَى الْخَلْقِ فِي الْبَرِّ إِذَا عَمِيَتِ الطُّرُقُ، وَفِي الْبَحْرِ عِنْدَ مَجْرَى السُّفُنِ، وَفِي الْقِبْلَةِ إِذَا جُهِلَ السَّمْتُ، وَذَلِكَ عَلَى الْجُمْلَةِ بِأَنْ تَجْعَلَ الْقُطْبَ عَلَى ظَهْرِ مَنْكِبِكَ الْأَيْسَرِ فَمَا اسْتَقْبَلْتَ فَهُوَ سَمْتُ الْجِهَةِ. قُلْتُ: وَسَأَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّجْمِ فَقَالَ:" هُوَ الْجَدْيُ عَلَيْهِ قِبْلَتُكُمْ وَبِهِ تَهْتَدُونَ فِي بَرِّكُمْ وَبَحْرِكُمْ". وَذَلِكَ أَنَّ آخِرَ الْجَدْيِ بَنَاتُ نَعْشٍ الصُّغْرَى وَالْقُطْبُ الَّذِي تَسْتَوِي عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ بَيْنَهَا. الثَّالِثَةُ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَحُكْمُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنْ يَرَاهَا وَيُعَايِنَهَا فَيَلْزَمُهُ اسْتِقْبَالُهَا وَإِصَابَتُهَا وَقَصْدُ جِهَتِهَا بِجَمِيعِ بَدَنِهِ. وَالْآخَرُ- أَنْ تَكُونَ الْكَعْبَةُ بِحَيْثُ لَا يَرَاهَا فَيَلْزَمُهُ التَّوَجُّهُ نَحْوَهَا وَتِلْقَاءَهَا بِالدَّلَائِلِ، وَهِيَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالرِّيَاحُ وَكُلُّ مَا يُمْكِنُ بِهِ مَعْرِفَةُ جِهَتِهَا، وَمَنْ غَابَتْ عَنْهُ وَصَلَّى مُجْتَهِدًا إِلَى غَيْرِ نَاحِيَتِهَا وَهُوَ مِمَّنْ يُمْكِنُهُ الِاجْتِهَادُ فَلَا صَلَاةَ لَهُ، فَإِذَا صَلَّى مُجْتَهِدًا مُسْتَدِلًّا ثُمَّ انْكَشَفَ لَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ صَلَاتِهِ أَنَّهُ صَلَّى إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ أَعَادَ إِنْ كَانَ فِي وَقْتِهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى فَرْضَهُ عَلَى مَا أُمِرَ به. عَلَى مَا أُمِرَ بِهِ. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي" الْبَقَرَةِ" «1» مُسْتَوْفًى والحمد لله:
(1). راجع ج 2 ص 160