الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَمْرٌ يُدْرِكُهُ الْبَصَرُ وَيُلْقِيهِ إِلَى الْقَلْبِ مُتَلَائِمًا، فَتَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْسُ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِوَجْهِ ذَلِكَ وَلَا نِسْبَتِهِ لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ. وَأَمَّا جَمَالُ الْأَخْلَاقِ فَكَوْنُهَا عَلَى الصِّفَاتِ الْمَحْمُودَةِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ وَالْعِفَّةِ، وَكَظْمِ الْغَيْظِ وَإِرَادَةِ الْخَيْرِ لِكُلِّ أَحَدٍ. وَأَمَّا جَمَالُ الْأَفْعَالِ فَهُوَ وُجُودُهَا مُلَائِمَةً لِمَصَالِحِ الْخَلْقِ وَقَاضِيَةً لِجَلْبِ الْمَنَافِعِ فِيهِمْ وَصَرْفِ الشَّرِّ عَنْهُمْ. وَجَمَالُ الْأَنْعَامِ وَالدَّوَابِّ مِنْ جَمَالِ الْخِلْقَةِ، وَهُوَ مَرْئِيٌّ بِالْأَبْصَارِ مُوَافِقٌ لِلْبَصَائِرِ. وَمِنْ جَمَالِهَا كَثْرَتُهَا وَقَوْلُ النَّاسِ إِذَا رَأَوْهَا هَذِهِ نَعَمُ فُلَانٍ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَلِأَنَّهَا إِذَا رَاحَتْ تَوَفَّرَ حُسْنُهَا وَعَظُمَ شَأْنُهَا وَتَعَلَّقَتِ الْقُلُوبُ بِهَا، لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ أَعْظَمُ مَا تكون أسمنه وَضُرُوعًا، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَدَّمَ الرَّوَاحَ عَلَى السَّرَاحِ لِتَكَامُلِ دَرِّهَا وَسُرُورِ النَّفْسِ بِهَا إِذْ ذَاكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ عز وجل" وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ" وَذَلِكَ فِي الْمَوَاشِي حِينَ تَرُوحُ إِلَى الْمَرْعَى وَتَسْرَحُ عَلَيْهِ. وَالرَّوَاحُ رُجُوعُهَا بِالْعَشِيِّ مِنَ الْمَرْعَى، وَالسَّرَاحُ بِالْغَدَاةِ، تَقُولُ: سَرَحْتِ الْإِبِلُ أَسْرَحُهَا سَرْحًا وَسُرُوحًا إِذَا غَدَوْتُ بِهَا إِلَى الْمَرْعَى فَخَلَّيْتُهَا، وَسَرَحَتْ هي. المتعدي واللازم واحد.
[سورة النحل (16): آية 7]
وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَاّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7)
فيه ثلاث مسائل: قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ) الْأَثْقَالُ أَثْقَالُ النَّاسِ مِنْ مَتَاعٍ وَطَعَامٍ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مَا يُثْقِلُ الْإِنْسَانَ حَمْلُهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَبْدَانُهُمْ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها «1» " وَالْبَلَدُ مَكَّةُ، فِي قَوْلِ عِكْرِمَةَ. وَقِيلَ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ بَلَدٍ مَسْلَكُهُ عَلَى الظَّهْرِ. وَشِقُّ الْأَنْفُسِ: مَشَقَّتُهَا وَغَايَةُ جَهْدِهَا. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِكَسْرِ الشِّينِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالشِّقُّ الْمَشَقَّةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ"
(1). راجع ج 20 ص 147، ولعل الأثقال في الزلزلة: الكنوز.
وَهَذَا قَدْ يُفْتَحُ، حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَكَسْرُ الشِّينِ وَفَتْحُهَا فِي" شِقٍّ" مُتَقَارِبَانِ، وَهُمَا بِمَعْنَى الْمَشَقَّةِ، وَهُوَ مِنَ الشِّقِّ فِي الْعَصَا وَنَحْوِهَا، لِأَنَّهُ يَنَالُ مِنْهَا كَالْمَشَقَّةِ مِنَ الْإِنْسَانِ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ" إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ" وَهُمَا لُغَتَانِ، مِثْلَ رِقٍّ وَرَقٍّ وَجِصٍّ وَجَصٍّ وَرِطْلٍ وَرَطْلٍ. وَيُنْشَدُ قَوْلُ الشَّاعِرِ بِكَسْرِ الشِّينِ وَفَتْحِهَا:
وَذِي إِبِلٍ يَسْعَى «1» وَيَحْسِبُهَا له
…
أخى نصب من شقه ودءوب
ويجوز أن يكون بمعمى المصدر، من شققت عليه شَقًّا. وَالشِّقُّ أَيْضًا بِالْكَسْرِ النِّصْفِ، يُقَالُ: أَخَذْتُ شِقَّ الشَّاةِ وَشِقَّةَ الشَّاةِ. وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ هَذَا الْمَعْنَى، أَيْ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِنَقْصٍ مِنَ الْقُوَّةِ وَذَهَابِ شِقٍّ مِنْهَا، أَيْ لَمْ تَكُونُوا تَبْلُغُوهُ إِلَّا بِنِصْفِ قُوَى أَنْفُسِكُمْ وَذَهَابِ النِّصْفِ الْآخَرِ. وَالشِّقُّ أَيْضًا النَّاحِيَةُ مِنَ الْجَبَلِ. وَفِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ: وَجَدَنِي فِي أَهْلِ غُنَيْمَةٍ بِشِقٍّ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ اسْمُ مَوْضِعٍ. وَالشِّقُّ أَيْضًا: الشَّقِيقُ، يُقَالُ: هُوَ أَخِي وَشِقِّ نَفْسِي. وَشِقٌّ اسْمُ كَاهِنٍ مِنْ كُهَّانِ الْعَرَبِ. وَالشِّقُّ أَيْضًا: الْجَانِبُ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
إِذَا مَا بَكَى مَنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ
…
بِشِقٍّ وَتَحْتِي شِقُّهَا لَمْ يُحَوَّلِ
فَهُوَ مُشْتَرَكٌ. الثَّانِيَةُ- مَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْأَنْعَامِ عُمُومًا، وَخَصَّ الْإِبِلَ هُنَا بِالذِّكْرِ فِي حَمْلِ الْأَثْقَالِ عَلَى سَائِرِ الْأَنْعَامِ، فَإِنَّ الْغَنَمَ لِلسَّرْحِ وَالذَّبْحِ، وَالْبَقَرَ لِلْحَرْثِ، وَالْإِبِلَ لِلْحَمْلِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" بَيْنَمَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً لَهُ قَدْ حَمَلَ عَلَيْهَا الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ الْبَقَرَةُ فَقَالَتْ إِنِّي لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا وَلَكِنِّي إِنَّمَا خُلِقْتُ لِلْحَرْثِ فَقَالَ الناس سبحان الله تعجبا وفزعا أبقرة تتكلم"؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" وإني أو من به وأبو بكر وعمرو". فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْبَقَرَ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا وَلَا تُرْكَبُ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلْحَرْثِ وللأكل والنسل «2» والرسل.
(1). هو النمر بن تولب، كما في السان مادة شقيق: وفى جوى: يقنى.
(2)
. الرسل بالسر (: اللبن.)