الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثَّانِيَةُ- ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا اقْتَحَمَ مَا يَعْتَقِدُهُ حَرَامًا مِمَّا هُوَ فِي عِلْمِ اللَّهُ حَلَالٌ لَهُ لَا عُقُوبَةَ عَلَيْهِ، كَالصَّائِمِ إِذَا قَالَ: هَذَا يَوْمُ نَوْبِي «1» فَأُفْطِرُ الْآنَ. أَوْ تَقُولُ الْمَرْأَةُ: هَذَا يَوْمُ حَيْضَتِي فَأُفْطِرُ، فَفَعَلَا ذَلِكَ، وَكَانَ النَّوْبُ وَالْحَيْضُ الْمُوجِبَانِ لِلْفِطْرِ، فَفِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ فِيهِ الْكَفَّارَةُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى. وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ طُرُوَّ الْإِبَاحَةِ لَا يُثْبِتُ عُذْرًا فِي عُقُوبَةِ التَّحْرِيمِ عِنْدَ الْهَتْكِ، كَمَا لَوْ وَطِئَ امْرَأَةً ثُمَّ نَكَحَهَا. وَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ حُرْمَةَ الْيَوْمِ سَاقِطَةٌ عِنْدَ اللَّهِ عز وجل فَصَادَفَ الْهَتْكُ مَحَلًّا لَا حُرْمَةَ لَهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ، فَكَانَ بمنزلة ما لو قصد وطئ امْرَأَةٍ قَدْ زُفَّتْ إِلَيْهِ وَهُوَ يَعْتَقِدُهَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَتِهِ فَإِذَا هِيَ زَوْجَتُهُ. وَهَذَا أَصَحُّ. وَالتَّعْلِيلُ الْأَوَّلُ لَا يَلْزَمُ، لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ سبحانه وتعالى مَعَ عِلْمِنَا قَدِ اسْتَوَى فِي مَسْأَلَةِ التَّحْرِيمِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا اخْتَلَفَ فِيهَا عِلْمُنَا وَعِلْمُ اللَّهِ فَكَانَ الْمُعَوَّلُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ. كما قال:" لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ".
[سورة الأنفال (8): آية 69]
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ أَنْ تَكُونَ الْغَنِيمَةُ كُلُّهَا لِلْغَانِمِينَ، وَأَنْ يَكُونُوا مُشْتَرِكِينَ فِيهَا عَلَى السَّوَاءِ، إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:" وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ"[الأنفال: 41] بَيْنَ وُجُوبِ إِخْرَاجِ الْخُمُسِ مِنْهُ وَصَرْفُهُ إِلَى الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي هَذَا مستوفى.
[سورة الأنفال (8): الآيات 70 الى 71]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
فيه ثلاث مسائل:
(1). النوب: ما كان منك مسيرة يوم وليلة، وقيل: على ثلاثة أيام. وقيل: ما كان على فرسخين أو ثلاثة.
الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى) قِيلَ: الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ. وَقِيلَ: لَهُ وَحْدَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: الْأَسْرَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَبَّاسٌ وَأَصْحَابُهُ. قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: آمَنَّا بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَنَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، لَنَنْصَحَنَّ لَكَ عَلَى قَوْمِكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بُطْلَانُ هَذَا مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ. وَفِي مُصَنَّفِ أَبِي دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ فِدَاءَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ يَوْمَ بَدْرٍ أَرْبَعَمِائَةٍ. وَعَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: بَعَثَتْ قُرَيْشٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ، فَفَدَى كُلُّ قَوْمٍ أَسِيرَهُمْ بِمَا رَضُوا. وَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ كُنْتُ مُسْلِمًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِسْلَامِكَ فَإِنْ يَكُنْ كَمَا تَقُولُ فَاللَّهُ يَجْزِيكَ بِذَلِكَ فَأَمَّا ظَاهِرُ أَمْرِكَ فَكَانَ عَلَيْنَا فَافْدِ نَفْسَكَ وَابْنَيْ أَخَوَيْكَ نَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَعَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَحَلِيفَكَ عُتْبَةَ بْنَ عَمْرٍو أَخَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ (. وَقَالَ: مَا ذَاكَ عِنْدِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ:) فَأَيْنَ الْمَالُ الَّذِي دَفَنْتَهُ أَنْتَ وَأُمُّ الْفَضْلِ فَقُلْتَ لَهَا إِنْ أُصِبْتُ فِي سَفَرِي هَذَا فَهَذَا الْمَالُ لِبَنِي الْفَضْلِ وَعَبْدِ اللَّهِ وَقُثَمٍ (؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ مَا عَلِمَهُ غَيْرِي وَغَيْرُ أُمِّ الْفَضْلِ، فَاحْسِبْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَصَبْتُمْ مِنِّي عِشْرِينَ أُوقِيَّةً مِنْ مَالٍ كَانَ مَعِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا ذَاكَ شي أَعْطَانَا اللَّهُ مِنْكَ). فَفَدَى نَفْسَهُ وَابْنَيْ أَخَوَيْهِ وَحَلِيفَهُ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ:" يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى " الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ أَكْثَرُ الْأُسَارَى فِدَاءً الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لِأَنَّهُ كَانَ رَجُلًا مُوسِرًا، فَافْتَدَى نَفْسَهُ بِمِائَةِ أُوقِيَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ. وَفِي الْبُخَارِيِّ: وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رِجَالًا مِنَ الْأَنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لَنَا فَلْنَتْرُكْ لِابْنِ أُخْتِنَا عَبَّاسٍ فِدَاءَهُ. فَقَالَ:(لَا وَاللَّهِ لَا تَذَرُونَ دِرْهَمًا). وَذَكَرَ النَّقَّاشُ وَغَيْرُهُ أَنَّ فِدَاءَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأُسَارَى كَانَ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، إِلَّا الْعَبَّاسَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(أَضْعِفُوا الْفِدَاءَ عَلَى الْعَبَّاسِ) وَكَلَّفَهُ أَنْ يَفْدِيَ ابْنَيْ أخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل
ابن الْحَارِثِ فَأَدَّى عَنْهُمَا ثَمَانِينَ أُوقِيَّةً، وَعَنْ نَفْسِهِ ثَمَانِينَ أُوقِيَّةً وَأُخِذَ مِنْهُ عِشْرُونَ [أُوقِيَّةً «1»] وَقْتَ الْحَرْبِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ أَحَدَ الْعَشَرَةِ الَّذِينَ ضَمِنُوا الْإِطْعَامَ لِأَهْلِ بَدْرٍ، فَبَلَغَتِ النَّوْبَةُ إِلَيْهِ يَوْمَ بَدْرٍ فَاقْتَتَلُوا قَبْلَ أَنْ يُطْعِمَ، وَبَقِيَتِ الْعِشْرُونَ مَعَهُ فَأُخِذَتْ مِنْهُ وَقْتَ الْحَرْبِ، فَأُخِذَ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ مِائَةُ أُوقِيَّةٍ وَثَمَانُونَ أُوقِيَّةً. فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ تَرَكْتَنِي مَا حَيِيتُ أَسْأَلُ قُرَيْشًا بِكَفِّي. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (أَيْنَ الذَّهَبُ الَّذِي تَرَكْتَهُ عِنْدَ امْرَأَتِكَ أُمِّ الْفَضْلِ)؟ فَقَالَ الْعَبَّاسُ: أَيُّ ذَهَبٍ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّكَ قُلْتَ لَهَا لَا أَدْرِي مَا يُصِيبُنِي فِي وَجْهِي هَذَا فَإِنْ حَدَثَ بِي حَدَثٌ فَهُوَ لَكِ وَلِوَلَدِكِ) فَقَالَ: يَا بْنَ أَخِي، مَنْ أَخْبَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ:(اللَّهُ أَخْبَرَنِي). قَالَ الْعَبَّاسُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ صَادِقٌ، وَمَا عَلِمْتُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ لَمْ يُطْلِعْكَ عَلَيْهِ إِلَّا عَالِمُ السَّرَائِرِ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَكَفَرْتُ بِمَا سِوَاهُ. وَأَمَرَ ابْنَيْ أَخَوَيْهِ فَأَسْلَمَا، فَفِيهِمَا نَزَلَتْ" يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى ". وَكَانَ الَّذِي أَسَرَ الْعَبَّاسَ أَبَا الْيُسْرِ كَعْبَ بْنَ عَمْرٍو أَخَا بَنِي سَلَمَةَ، وَكَانَ رَجُلًا قَصِيرًا، وَكَانَ الْعَبَّاسُ ضَخْمًا طَوِيلًا، فَلَمَّا جَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ:(لَقَدْ أَعَانَكَ عَلَيْهِ مَلَكٌ). الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) أَيْ إِسْلَامًا. يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) أَيْ مِنَ الْفِدْيَةِ. قِيلَ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ فِي الْآخِرَةِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَالٌ مِنْ الْبَحْرَيْنِ قَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: إِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي وَفَادَيْتُ عَقِيلًا. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (خُذْ) فَبَسَطَ ثَوْبَهُ وَأَخَذَ مَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَحْمِلَهُ. مُخْتَصَرٌ. فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ: فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ هَذَا خَيْرٌ مِمَّا أُخِذَ مِنِّي، وَأَنَا بَعْدُ أَرْجُو أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي. قَالَ الْعَبَّاسُ: وَأَعْطَانِي زَمْزَمَ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا جَمِيعَ أَمْوَالِ أَهْلِ مَكَّةَ. وَأَسْنَدَ الطَّبَرِيُّ إِلَى
الْعَبَّاسِ أَنَّهُ قَالَ: فِيَّ نَزَلَتْ حِينَ أَعْلَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِإِسْلَامِي، وَسَأَلْتُهُ أَنْ يُحَاسِبَنِي بِالْعِشْرِينَ أُوقِيَّةً الَّتِي أُخِذَتْ مِنِّي قَبْلَ الْمُفَادَاةِ فَأَبَى. وقال:(ذلك في) فَأَبْدَلَنِي اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ عِشْرِينَ عَبْدًا كُلُّهُمْ تَاجَرَ بِمَالِي. وَفِي مُصَنَّفِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ
(1). من ج وهـ. والجمل عن القرطبي.
عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمَّا بَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ بَعَثَتْ زَيْنَبُ فِي فِدَاءِ أَبِي الْعَاصِ بِمَالٍ، وَبَعَثَتْ فِيهِ بِقِلَادَةٍ لَهَا كَانَتْ عِنْدَ خَدِيجَةَ أَدْخَلَتْهَا بِهَا عَلَى أَبِي الْعَاصِ. قَالَتْ: فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَقَّ لَهَا رِقَّةً شَدِيدَةً وَقَالَ: (إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا)؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ عَلَيْهِ أَوْ وَعَدَهُ أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَ زَيْنَبَ إِلَيْهِ. وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَيْدُ بْنَ حَارِثَةَ وَرَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: (كُونَا بِبَطْنِ يَأْجَجَ «1» حَتَّى تَمُرَّ بِكُمَا زَيْنَبُ فَتَصْحَبَاهَا حَتَّى تَأْتِيَا بِهَا). قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَذَلِكَ بَعْدَ بَدْرٍ بِشَهْرٍ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: حُدِّثْتُ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ أَبُو الْعَاصِ مَكَّةَ قَالَ لِي: تَجَهَّزِي، فَالْحَقِي بِأَبِيكِ. قَالَتْ: فَخَرَجْتُ أَتَجَهَّزُ فَلَقِيَتْنِي هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ فَقَالَتْ: يَا بِنْتَ مُحَمَّدٍ، أَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّكِ تُرِيدِينَ اللُّحُوقَ بِأَبِيكِ؟ فَقُلْتُ لَهَا: مَا أَرَدْتُ ذَلِكَ. فَقَالَتْ، أَيْ بِنْتَ عَمِّ، لَا تَفْعَلِي، إِنِّي امْرَأَةٌ مُوسِرَةٌ وَعِنْدِي سِلَعٌ مِنْ حَاجَتِكَ، فَإِنْ أَرَدْتِ سِلْعَةً بِعْتُكِهَا، أَوْ قَرْضًا مِنْ نَفَقَةٍ أَقْرَضْتُكِ، فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ بَيْنَ النِّسَاءِ مَا بَيْنَ الرِّجَالِ. قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا أَرَاهَا قَالَتْ ذَلِكَ إِلَّا لِتَفْعَلَ، فَخِفْتُهَا فَكَتَمْتُهَا وَقُلْتُ: مَا أُرِيدُ ذَلِكَ. فَلَمَّا فَرَغَتْ زَيْنَبُ مِنْ جِهَازِهَا ارْتَحَلَتْ وَخَرَجَ بِهَا حَمُوهَا يَقُودُ بِهَا نَهَارًا كِنَانَةُ بْنُ الرَّبِيعِ. وَتَسَامَعَ بِذَلِكَ أَهْلُ مَكَّةَ، وَخَرَجَ فِي طَلَبِهَا هَبَّارُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَنَافِعُ بْنُ عَبْدِ الْقَيْسِ الْفِهْرِيُّ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ مبق إِلَيْهَا هَبَّارٌ فَرَوَّعَهَا بِالرُّمْحِ وَهِيَ فِي هَوْدَجِهَا. وَبَرَكَ كِنَانَةُ وَنَثَرَ نَبْلَهُ، ثُمَّ أَخَذَ قَوْسَهُ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَدْنُو مِنِّي رَجُلٌ إِلَّا وَضَعْتُ فِيهِ سَهْمًا. وَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ فِي أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فَقَالَ: يَا هَذَا، أَمْسِكْ عَنَّا نَبْلَكَ حَتَّى نُكَلِّمَكَ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ أَبُو سُفْيَانَ وَقَالَ: إِنَّكَ لَمْ تَصْنَعْ شَيْئًا، خَرَجْتَ بِالْمَرْأَةِ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ، وَقَدْ عَرَفْتَ مُصِيبَتَنَا الَّتِي أَصَابَتْنَا بِبَدْرٍ فَتَظُنُّ الْعَرَبُ وَتَتَحَدَّثُ أَنَّ هَذَا وَهَنٌ مِنَّا وَضَعْفٌ خُرُوجُكَ إِلَيْهِ بِابْنَتِهِ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا. ارْجِعْ بِالْمَرْأَةِ فَأَقِمْ بِهَا أَيَّامًا، ثُمَّ سُلَّهَا «2» سَلًّا رَفِيقًا فِي اللَّيْلِ فَأَلْحِقْهَا بِأَبِيهَا، فَلَعَمْرِي مَا لَنَا
(1). يأجج (كيسمع وينصر ويضرب): موضع بمكة.
(2)
. انطلق بها في استخفاء.