المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة التوبة (9): آية 28] - تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن - جـ ٨

[القرطبي]

فهرس الكتاب

- ‌[سورة الأنفال (8): آية 41]

- ‌[سورة الأنفال (8): آية 42]

- ‌[سورة الأنفال (8): آية 43]

- ‌[سورة الأنفال (8): آية 44]

- ‌[سورة الأنفال (8): آية 45]

- ‌[سورة الأنفال (8): آية 46]

- ‌[سورة الأنفال (8): آية 47]

- ‌[سورة الأنفال (8): آية 48]

- ‌[سورة الأنفال (8): آية 49]

- ‌[سورة الأنفال (8): الآيات 50 الى 51]

- ‌[سورة الأنفال (8): آية 52]

- ‌[سورة الأنفال (8): آية 53]

- ‌[سورة الأنفال (8): آية 54]

- ‌[سورة الأنفال (8): الآيات 55 الى 56]

- ‌[سورة الأنفال (8): آية 57]

- ‌[سورة الأنفال (8): آية 58]

- ‌[سورة الأنفال (8): آية 59]

- ‌[سورة الأنفال (8): آية 60]

- ‌[سورة الأنفال (8): آية 61]

- ‌[سورة الأنفال (8): الآيات 62 الى 63]

- ‌[سورة الأنفال (8): آية 64]

- ‌[سورة الأنفال (8): الآيات 65 الى 66]

- ‌[سورة الأنفال (8): آية 67]

- ‌[سورة الأنفال (8): آية 68]

- ‌[سورة الأنفال (8): آية 69]

- ‌[سورة الأنفال (8): الآيات 70 الى 71]

- ‌[سورة الأنفال (8): الآيات 72 الى 75]

- ‌تفسير سورة براءة

- ‌[سورة التوبة (9): آية 1]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 2]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 3]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 4]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 5]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 6]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 7]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 8]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 9]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 10]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 11]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 12]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 13]

- ‌[سورة التوبة (9): الآيات 14 الى 15]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 16]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 17]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 18]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 19]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 20]

- ‌[سورة التوبة (9): الآيات 21 الى 22]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 23]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 24]

- ‌[سورة التوبة (9): الآيات 25 الى 27]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 28]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 29]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 30]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 31]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 32]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 33]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 34]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 35]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 36]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 37]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 38]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 39]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 40]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 41]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 42]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 43]

- ‌[سورة التوبة (9): الآيات 44 الى 45]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 46]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 47]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 48]

- ‌[سورة التوبة (9): الآيات 49 الى 50]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 51]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 52]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 53]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 54]

- ‌[سورة التوبة (9): الآيات 55 الى 56]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 57]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 58]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 59]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 60]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 61]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 62]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 63]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 64]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 65]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 66]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 67]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 68]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 69]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 70]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 71]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 72]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 73]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 74]

- ‌[سورة التوبة (9): الآيات 75 الى 78]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 79]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 80]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 81]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 82]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 83]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 84]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 85]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 86]

- ‌[سورة التوبة (9): الآيات 87 الى 89]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 90]

- ‌[سورة التوبة (9): الآيات 91 الى 92]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 93]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 94]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 95]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 96]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 97]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 98]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 99]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 100]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 101]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 102]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 103]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 104]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 105]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 106]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 107]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 108]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 109]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 110]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 111]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 112]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 113]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 114]

- ‌[سورة التوبة (9): الآيات 115 الى 116]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 117]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 118]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 119]

- ‌[سورة التوبة (9): الآيات 120 الى 121]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 122]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 123]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 124]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 125]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 126]

- ‌[سورة التوبة (9): آية 127]

- ‌[سورة التوبة (9): الآيات 128 الى 129]

- ‌تفسير سورة يونس عليه السلام

- ‌[سورة يونس (10): آية 1]

- ‌[سورة يونس (10): آية 2]

- ‌[سورة يونس (10): آية 3]

- ‌[سورة يونس (10): آية 4]

- ‌[سورة يونس (10): آية 5]

- ‌[سورة يونس (10): آية 6]

- ‌[سورة يونس (10): الآيات 7 الى 8]

- ‌[سورة يونس (10): آية 9]

- ‌[سورة يونس (10): آية 10]

- ‌[سورة يونس (10): آية 11]

- ‌[سورة يونس (10): آية 12]

- ‌[سورة يونس (10): آية 13]

- ‌[سورة يونس (10): آية 14]

- ‌[سورة يونس (10): آية 15]

- ‌[سورة يونس (10): آية 16]

- ‌[سورة يونس (10): آية 17]

- ‌[سورة يونس (10): آية 18]

- ‌[سورة يونس (10): آية 19]

- ‌[سورة يونس (10): آية 20]

- ‌[سورة يونس (10): آية 21]

- ‌[سورة يونس (10): الآيات 22 الى 23]

- ‌[سورة يونس (10): آية 24]

- ‌[سورة يونس (10): آية 25]

- ‌[سورة يونس (10): آية 26]

- ‌[سورة يونس (10): آية 27]

- ‌[سورة يونس (10): آية 28]

- ‌[سورة يونس (10): آية 29]

- ‌[سورة يونس (10): آية 30]

- ‌[سورة يونس (10): آية 31]

- ‌[سورة يونس (10): آية 32]

- ‌[سورة يونس (10): آية 33]

- ‌[سورة يونس (10): آية 34]

- ‌[سورة يونس (10): آية 35]

- ‌[سورة يونس (10): آية 36]

- ‌[سورة يونس (10): آية 37]

- ‌[سورة يونس (10): آية 38]

- ‌[سورة يونس (10): آية 39]

- ‌[سورة يونس (10): آية 40]

- ‌[سورة يونس (10): آية 41]

- ‌[سورة يونس (10): الآيات 42 الى 43]

- ‌[سورة يونس (10): آية 44]

- ‌[سورة يونس (10): آية 45]

- ‌[سورة يونس (10): آية 46]

- ‌[سورة يونس (10): آية 47]

- ‌[سورة يونس (10): آية 48]

- ‌[سورة يونس (10): آية 49]

- ‌[سورة يونس (10): آية 50]

- ‌[سورة يونس (10): آية 51]

- ‌[سورة يونس (10): آية 52]

- ‌[سورة يونس (10): آية 53]

- ‌[سورة يونس (10): آية 54]

- ‌[سورة يونس (10): آية 55]

- ‌[سورة يونس (10): آية 56]

- ‌[سورة يونس (10): آية 57]

- ‌[سورة يونس (10): آية 58]

- ‌[سورة يونس (10): آية 59]

- ‌[سورة يونس (10): آية 60]

- ‌[سورة يونس (10): آية 61]

- ‌[سورة يونس (10): آية 62]

- ‌[سورة يونس (10): آية 63]

- ‌[سورة يونس (10): آية 64]

- ‌[سورة يونس (10): آية 65]

- ‌[سورة يونس (10): آية 66]

- ‌[سورة يونس (10): آية 67]

- ‌[سورة يونس (10): آية 68]

- ‌[سورة يونس (10): الآيات 69 الى 70]

- ‌[سورة يونس (10): آية 71]

- ‌[سورة يونس (10): آية 72]

- ‌[سورة يونس (10): آية 73]

- ‌[سورة يونس (10): آية 74]

- ‌[سورة يونس (10): آية 75]

- ‌[سورة يونس (10): الآيات 76 الى 77]

- ‌[سورة يونس (10): آية 78]

- ‌[سورة يونس (10): آية 79]

- ‌[سورة يونس (10): آية 80]

- ‌[سورة يونس (10): آية 81]

- ‌[سورة يونس (10): آية 82]

- ‌[سورة يونس (10): آية 83]

- ‌[سورة يونس (10): الآيات 84 الى 85]

- ‌[سورة يونس (10): آية 86]

- ‌[سورة يونس (10): آية 87]

- ‌[سورة يونس (10): آية 88]

- ‌[سورة يونس (10): آية 89]

- ‌[سورة يونس (10): آية 90]

- ‌[سورة يونس (10): آية 91]

- ‌[سورة يونس (10): آية 92]

- ‌[سورة يونس (10): آية 93]

- ‌[سورة يونس (10): الآيات 94 الى 95]

- ‌[سورة يونس (10): الآيات 96 الى 97]

- ‌[سورة يونس (10): آية 98]

- ‌[سورة يونس (10): آية 99]

- ‌[سورة يونس (10): آية 100]

- ‌[سورة يونس (10): آية 101]

- ‌[سورة يونس (10): آية 102]

- ‌[سورة يونس (10): آية 103]

- ‌[سورة يونس (10): آية 104]

- ‌[سورة يونس (10): الآيات 105 الى 106]

- ‌[سورة يونس (10): آية 107]

- ‌[سورة يونس (10): آية 108]

- ‌[سورة يونس (10): آية 109]

الفصل: ‌[سورة التوبة (9): آية 28]

إِلَى بِلَادِهَا بِدِينِهَا وَبِمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أَوْطَاسٍ امْرَأَةً تَعْدُو وَتَصِيحُ وَلَا تَسْتَقِرُّ، فَسَأَلَ عَنْهَا فَقِيلَ: فَقَدَتْ بُنَيًّا لَهَا. ثُمَّ رَآهَا وَقَدْ وَجَدَتِ ابْنَهَا وَهِيَ تُقَبِّلُهُ وَتُدْنِيهِ، فَدَعَاهَا وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ:(أَطَارِحَةٌ هَذِهِ وَلَدَهَا فِي النَّارِ)؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: (لِمَ)؟ قَالُوا: لِشَفَقَتِهَا. قَالَ: (اللَّهُ أَرْحَمُ بِكُمْ منها). وخرجه مسلم بمعناه، والحمد لله.

[سورة التوبة (9): آية 28]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)

فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى وَصْفِ الْمُشْرِكِ بالنجس، فقال قتادة ومعمر بن راشد وغير هما: لِأَنَّهُ جُنُبٌ إِذْ غُسْلُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ لَيْسَ بِغُسْلٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: بَلْ مَعْنَى الشِّرْكِ هُوَ الَّذِي نَجَّسَهُ. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ مَنْ صَافَحَ مُشْرِكًا فَلْيَتَوَضَّأْ. وَالْمَذْهَبُ كُلُّهُ عَلَى إِيجَابِ الْغُسْلِ عَلَى الْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ إِلَّا ابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ فَإِنَّهُ قَالَ: لَيْسَ بِوَاجِبٍ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ. وَبِوُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَيْهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَأَحْمَدُ. وَأَسْقَطَهُ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَغْتَسِلَ. وَنَحْوُهُ لِابْنِ الْقَاسِمِ. وَلِمَالِكٍ قَوْلُ: إِنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْغُسْلَ، رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ. وَحَدِيثُ ثُمَامَةَ وَقَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ يَرُدُّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ. رَوَاهُمَا أَبُو حَاتِمٍ الْبُسْتِيُّ فِي صَحِيحِ مُسْنَدِهِ. وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِثُمَامَةَ يَوْمًا فَأَسْلَمَ فَبَعَثَ بِهِ إِلَى حَائِطِ «1» أَبِي طَلْحَةَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ، فَاغْتَسَلَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(لَقَدْ حَسُنَ إِسْلَامُ صَاحِبِكُمْ) وأخرجه مسلم بمعناه. وفية: أن ثمامة

(1). الحائط: البستان.

ص: 103

لَمَّا مَنَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم انْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ فاغتسل. وأمر قيس ابن عَاصِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ. فَإِنْ كَانَ إِسْلَامُهُ قُبَيْلَ احْتِلَامِهِ فَغُسْلُهُ مُسْتَحَبٌّ. وَمَتَى أَسْلَمَ بَعْدَ بُلُوغِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَنْوِيَ بِغُسْلِهِ الْجَنَابَةَ. هَذَا قَوْلُ عُلَمَائِنَا، وَهُوَ تَحْصِيلُ الْمَذْهَبِ. وَقَدْ أَجَازَ ابْنُ الْقَاسِمِ لِلْكَافِرِ أَنْ يَغْتَسِلَ قَبْلَ إِظْهَارِهِ لِلشَّهَادَةِ بِلِسَانِهِ إِذَا اعْتَقَدَ الْإِسْلَامَ بِقَلْبِهِ وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ فِي النَّظَرِ مُخَالِفٌ لِلْأَثَرِ. وَذَلِكَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَكُونُ بِالنِّيَّةِ مُسْلِمًا دُونَ الْقَوْلِ. هَذَا قَوْلُ جَمَاعَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْإِيمَانِ: إِنَّهُ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَتَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ، وَيَزْكُو بِالْعَمَلِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ «1» يَرْفَعُهُ"[فاطر: 01]. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ)" فَلَا يَقْرَبُوا" نَهْيٌ، وَلِذَلِكَ حُذِفَتْ مِنْهُ النُّونُ." الْمَسْجِدَ الْحَرامَ" هَذَا اللَّفْظُ يُطْلَقُ عَلَى جَمِيعِ الْحَرَمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ فَإِذًا يَحْرُمُ تَمْكِينُ الْمُشْرِكِ مِنْ دُخُولِ الْحَرَمِ أَجْمَعَ. فَإِذَا جَاءَنَا رَسُولٌ مِنْهُمْ خَرَجَ الْإِمَامُ إِلَى الْحِلِّ لِيَسْمَعَ مَا يَقُولُ. وَلَوْ دَخَلَ مُشْرِكٌ الْحَرَمَ مَسْتُورًا وَمَاتَ نُبِشَ قَبْرُهُ وَأُخْرِجَتْ عِظَامُهُ. فَلَيْسَ لَهُمُ الِاسْتِيطَانُ وَلَا الِاجْتِيَازُ. وَأَمَّا جَزِيرَةُ الْعَرَبِ، وَهِيَ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَالْيَمَنُ وَمَخَالِيفُهَا «2» ، فَقَالَ مَالِكٌ: يُخْرَجُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُلُّ مَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُمْنَعُونَ مِنَ التَّرَدُّدِ بِهَا مُسَافِرِينَ. وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله، غَيْرَ أَنَّهُ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْيَمَنَ. وَيُضْرَبُ لَهُمْ أَجَلُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَمَا ضَرَبَهُ لَهُمْ عُمَرُ رضي الله عنه حِينَ أَجْلَاهُمْ. وَلَا يُدْفَنُونَ فِيهَا وَيُلْجَئُونَ إِلَى الْحِلِّ. الثَّالِثَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي دُخُولِ الْكُفَّارِ الْمَسَاجِدَ وَالْمَسْجِدَ الْحَرَامَ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ، فَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ وَسَائِرِ الْمَسَاجِدِ. وَبِذَلِكَ كتب عمر ابن عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عُمَّالِهِ وَنَزَعَ فِي كِتَابِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ"«3» [النور: 36]. وَدُخُولُ الْكُفَّارِ فِيهَا مُنَاقِضٌ لِتَرْفِيعِهَا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: (إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنَ الْبَوْلِ وَالْقَذَرِ). الْحَدِيثَ. وَالْكَافِرُ لَا يخلو عن

(1). راجع ج 14 ص 328.

(2)

. مخاليف جمع مخلاف، وهي قرى اليمن.

(3)

. راجع ج 12 ص 264.

ص: 104

ذَلِكَ. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا لِجُنُبٍ) وَالْكَافِرُ جُنُبٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ" فَسَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى نَجَسًا. فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ نَجَسَ الْعَيْنِ أَوْ مُبْعَدًا مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ. وَأَيُّ ذَلِكَ كَانَ فَمَنْعُهُ مِنَ الْمَسْجِدِ وَاجِبٌ لِأَنَّ الْعِلَّةَ وَهِيَ النَّجَاسَةُ مَوْجُودَةٌ فِيهِمْ، وَالْحُرْمَةُ مَوْجُودَةٌ فِي الْمَسْجِدِ. يُقَالُ: رَجُلٌ نَجَسٌ، وَامْرَأَةٌ نَجَسٌ، وَرَجُلَانِ نَجَسٌ، وَامْرَأَتَانِ نَجَسٌ، وَرِجَالٌ نَجَسٌ، وَنِسَاءٌ نَجَسٌ، لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ. فَأَمَّا النِّجْسُ (بِكَسْرِ النُّونِ وَجَزْمِ الْجِيمِ) فَلَا يُقَالُ إِلَّا إِذَا قِيلَ مَعَهُ رِجْسٌ. فَإِذَا أُفْرِدَ قِيلَ نَجِسٌ (بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْجِيمِ) وَنَجُسٌ (بِضَمِّ الْجِيمِ). وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ، خَاصَّةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ دُخُولِ غَيْرِهِ، فَأَبَاحَ دُخُولَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا جُمُودٌ مِنْهُ عَلَى الظَّاهِرِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ عز وجل:" إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ" تَنْبِيهٌ عَلَى الْعِلَّةِ بِالشِّرْكِ وَالنَّجَاسَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَبَطَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَامَةَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ مُشْرِكٌ. قِيلَ لَهُ: أَجَابَ عُلَمَاؤُنَا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ- وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا- بِأَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا- أَنَّهُ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى نُزُولِ الْآيَةِ. الثَّانِي- أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَدْ عَلِمَ بِإِسْلَامِهِ فَلِذَلِكَ رَبَطَهُ. الثَّالِثُ- أَنَّ ذَلِكَ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُدْفَعَ بِهَا الْأَدِلَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، لِكَوْنِهَا مُقَيِّدَةً حُكْمَ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ. وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا رَبَطَهُ فِي الْمَسْجِدِ لِيَنْظُرَ حُسْنَ صَلَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَاجْتِمَاعَهُمْ عَلَيْهَا، وحسن آدا بهم فِي جُلُوسِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ، فَيَسْتَأْنِسُ بِذَلِكَ وَيُسْلِمُ، وَكَذَلِكَ كَانَ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَوْضِعٌ يَرْبِطُونَهُ فِيهِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَا يُمْنَعُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَا يُمْنَعُ دُخُولُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَّا الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْأَوْثَانِ. وَهَذَا قَوْلٌ يَرُدُّهُ كُلُّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا. قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ: وَيَجُوزُ لِلذِّمِّيِّ دُخُولُ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. وقال الشافعي: تعتبر الحاجة، ومع الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ دُخُولُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: الْحَرَمُ كُلُّهُ قِبْلَةٌ وَمَسْجِدٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعُوا مِنْ دُخُولِ

ص: 105

الْحَرَمِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ"«1» [الاسراء: 1]. وَإِنَّمَا رُفِعَ مِنْ بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يَقْرَبُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ مُشْرِكٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ جِزْيَةٍ أَوْ عَبْدًا كَافِرًا لِمُسْلِمٍ. وَرَوَى إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ أَشْعَثَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا يَقْرُبُ الْمَسْجِدَ مُشْرِكٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً فَيَدْخُلُهُ لِحَاجَةٍ). وَبِهَذَا قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَإِنَّهُ قَالَ: الْعُمُومُ يَمْنَعُ الْمُشْرِكَ عَنْ قُرْبَانِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَهُوَ مَخْصُوصٌ فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:(بَعْدَ عامِهِمْ هذا) فيه قولان: أحد هما- أَنَّهُ سَنَةَ تِسْعٍ الَّتِي حَجَّ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ. الثَّانِي- سَنَةَ عَشْرٍ قَالَهُ قَتَادَةُ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ:" وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يُعْطِيهِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ وَإِنَّ مِنَ الْعَجَبِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَهُوَ الْعَامُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْأَذَانُ. وَلَوْ دَخَلَ غُلَامُ رَجُلٍ دَارَهُ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ مَوْلَاهُ: لَا تَدْخُلْ هَذِهِ الدَّارَ بَعْدَ يَوْمِكَ لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ الْيَوْمَ الَّذِي دَخَلَ فيه". الخامسة- قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) قَالَ عَمْرُو بْنُ فَائِدٍ: الْمَعْنَى وَإِذْ خِفْتُمْ. وَهَذِهِ عُجْمَةٌ، وَالْمَعْنَى بَارِعٌ بِ"- إِنْ". وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ لَمَّا مَنَعُوا الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْمَوْسِمِ وَهُمْ كَانُوا يَجْلِبُونَ الْأَطْعِمَةَ وَالتِّجَارَاتِ، قَذَفَ الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِهِمُ الْخَوْفَ مِنَ الْفَقْرِ وَقَالُوا: مِنْ أَيْنَ نَعِيشُ. فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ أَنْ يُغْنِيَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَابَ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِقَوْلِهِ عز وجل:" قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ"[التوبة: 29] الْآيَةَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَغْنَاهُمُ اللَّهُ بِإِدْرَارِ الْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ وَخِصْبِ الْأَرْضِ. فَأَخْصَبَتْ تَبَالَةُ «2» وَجُرَشُ وَحَمَلُوا إِلَى مَكَّةَ الطَّعَامَ وَالْوَدَكَ «3» وَكَثُرَ الْخَيْرُ. وَأَسْلَمَتِ الْعَرَبُ: أَهْلُ نَجْدٍ وَصَنْعَاءَ وَغَيْرُهُمْ فَتَمَادَى حَجُّهُمْ وَتَجْرُهُمْ. وَأَغْنَى اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ بِالْجِهَادِ وَالظُّهُورِ عَلَى الْأُمَمِ. وَالْعَيْلَةُ: الْفَقْرُ. يُقَالُ: عَالَ الرَّجُلُ يَعِيلُ إِذَا افْتَقَرَ. قَالَ الشَّاعِرِ «4» :

وَمَا يَدْرِي الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ

وَمَا يَدْرِي الْغَنِيُّ مَتَى يعيل

(1). راجع ج 10 ص 204. [ ..... ]

(2)

. تبالة: بلد باليمن خصبة. وجرش كزفر من مخاليف اليمن.

(3)

. الودك: هو دسم اللحم ودهنه الذي يستخرج منه.

(4)

. هو أحيحة كما في اللسان.

ص: 106

وَقَرَأَ عَلْقَمَةُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ" عَائِلَةً" وَهُوَ مَصْدَرٌ كَالْقَائِلَةِ مِنْ قَالَ يَقِيلُ. وَكَالْعَافِيَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: حَالًا عَائِلَةً، وَمَعْنَاهُ خَصْلَةٌ شَاقَّةٌ. يُقَالُ مِنْهُ: عَالَنِي الْأَمْرُ يَعُولُنِي: أَيْ شَقَّ عَلَيَّ وَاشْتَدَّ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ أَنَّهُ يُقَالُ: عَالَ يَعُولُ إِذَا افْتَقَرَ. السَّادِسَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَعَلُّقَ الْقَلْبِ بِالْأَسْبَابِ فِي الرِّزْقِ جَائِزٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُنَافٍ لِلتَّوَكُّلِ وَإِنْ كَانَ الرِّزْقُ مُقَدَّرًا وَأَمْرُ اللَّهِ وَقَسْمُهُ مَفْعُولًا وَلَكِنَّهُ عَلَّقَهُ بِالْأَسْبَابِ حِكْمَةً لِيَعْلَمَ الْقُلُوبَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْأَسْبَابِ مِنَ الْقُلُوبِ الَّتِي تَتَوَكَّلُ عَلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السَّبَبَ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ. قَالَ صلى الله عليه وسلم: (لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا)«1» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. فَأَخْبَرَ أَنَّ التَّوَكُّلَ الْحَقِيقِيَّ لَا يُضَادُّهُ الْغُدُوُّ وَالرَّوَاحُ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَلَكِنَّ شُيُوخَ الصُّوفِيَّةِ قَالُوا: إِنَّمَا يَغْدُو وَيَرُوحُ فِي الطَّاعَاتِ فَهُوَ [السَّبَبُ «2»] الَّذِي يَجْلِبُ الرِّزْقَ". قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ" «3» [طه: 132] الثَّانِي- قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ" «4» [فاطر: 10]. فَلَيْسَ يُنْزِلُ الرِّزْقَ مِنْ مَحَلِّهِ، وَهُوَ السَّمَاءُ، إِلَّا مَا يَصْعَدُ وَهُوَ الذِّكْرُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ وَلَيْسَ بِالسَّعْيِ فِي الْأَرْضِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا رِزْقٌ. وَالصَّحِيحُ مَا أَحْكَمَتْهُ السُّنَّةُ عِنْدَ فُقَهَاءِ الظَّاهِرِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنَ الْحَرْثِ وَالتِّجَارَةِ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْعِمَارَةِ لِلْأَمْوَالِ وَغَرْسِ الثِّمَارِ. وَقَدْ كَانَتِ الصَّحَابَةُ تَفْعَلُ ذَلِكَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بين أظهر هم. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بَطَّالٍ: أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ بِالْإِنْفَاقِ مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبُوا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيِ. وَقَالَ:" فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ" «5» [البقرة: 173]. فأحل للمضطر

(1). الخمص والمخمصة: الجوع. والبطنة: امتلاء البطن من الطعام. أي تغدو بكرة وهي جياع وتروح عشية وهي ممتلئة الأجواف.

(2)

. زيادة عن ابن العربي.

(3)

. راجع ج 11 ص 263.

(4)

. راجع ص 104 من هذا الجزء.

(5)

. راجع ج 2 ص 216.

ص: 107

مَا كَانَ حَرُمَ عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِهِ لِلْغِذَاءِ الَّذِي أَمَرَهُ بِاكْتِسَابِهِ وَالِاغْتِذَاءِ بِهِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِانْتِظَارِ طَعَامٍ يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْ تَرَكَ السَّعْيَ فِي تَرْكِ مَا يَتَغَذَّى بِهِ لَكَانَ لِنَفْسِهِ قَاتِلًا. وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَلَوَّى مِنَ الْجُوعِ مَا يَجِدُ مَا يَأْكُلُهُ، وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ طَعَامٌ مِنَ السَّمَاءِ، وَكَانَ يَدَّخِرُ لِأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ. وَقَدْ رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِبَعِيرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْقِلُهُ وَأَتَوَكَّلُ أَوْ أُطْلِقُهُ وَأَتَوَكَّلُ؟ قَالَ:(اعْقِلْهُ وَتَوَكَّلْ). قُلْتُ: وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا فُقَرَاءَ يَقْعُدُونَ فِي الْمَسْجِدِ مَا يَحْرُثُونَ وَلَا يَتَّجِرُونَ، لَيْسَ لَهُمْ كَسْبٌ وَلَا مَالٌ، إِنَّمَا هُمْ أَضْيَافُ الْإِسْلَامِ عِنْدَ ضِيقِ الْبُلْدَانِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَحْتَطِبُونَ بِالنَّهَارِ وَيَسُوقُونَ الْمَاءَ إِلَى بَيْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ بِاللَّيْلِ وَيُصَلُّونَ. هَكَذَا وَصَفَهُمِ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. فَكَانُوا يَتَسَبَّبُونَ. وَكَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا جَاءَتْهُ هَدِيَّةٌ أَكَلَهَا مَعَهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ صَدَقَةً خَصَّهُمْ بِهَا، فَلَمَّا كَثُرَ الْفَتْحُ وَانْتَشَرَ الْإِسْلَامُ خَرَجُوا وَتَأَمَّرُوا- كَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ- وَمَا قَعَدُوا. ثُمَّ قِيلَ: الْأَسْبَابُ الَّتِي يُطْلَبُ بِهَا الرِّزْقُ سِتَّةُ أَنْوَاعٍ: أَعْلَاهَا كَسْبُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:(جُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي). خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. فَجَعَلَ اللَّهُ رِزْقَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم فِي كَسْبِهِ لِفَضْلِهِ، وَخَصَّهُ بِأَفْضَلِ أَنْوَاعِ الْكَسْبِ، وَهُوَ أَخْذُ الْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ لِشَرَفِهِ. الثَّانِي- أَكْلُ الرَّجُلِ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم:(إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ) خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي التَّنْزِيلِ" وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ"«1» [الأنبياء: 80]، وَرُوِيَ أَنَّ عِيسَى عليه السلام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ غَزْلِ أُمِّهِ. الثَّالِثُ- التِّجَارَةُ، وَهِيَ كَانَتْ عَمَلَ جُلِّ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَخَاصَّةً الْمُهَاجِرِينَ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهَا التَّنْزِيلُ فِي غَيْرِ موضع.

(1). راجع ج 11 ص 320.

ص: 108