الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ، خُوطِبُوا بِأَلَّا يُوَالُوا الْآبَاءَ وَالْإِخْوَةَ فَيَكُونُوا لَهُمْ تَبَعًا فِي سُكْنَى بِلَادِ الْكُفْرِ." إِنِ اسْتَحَبُّوا" أَيْ أَحَبُّوا، كَمَا يُقَالُ: اسْتَجَابَ بِمَعْنَى أَجَابَ. أَيْ لَا تُطِيعُوهُمْ وَلَا تَخُصُّوهُمْ. وَخَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْآبَاءَ وَالْإِخْوَةَ إِذْ لَا قَرَابَةَ أَقْرَبُ مِنْهَا. فَنَفَى الْمُوَالَاةَ بَيْنَهُمْ كَمَا نَفَاهَا بَيْنَ النَّاسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ"«1» [المائدة: 51] لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْقُرْبَ قُرْبُ الْأَدْيَانِ لَا قُرْبُ الْأَبْدَانِ. وَفِي مِثْلِهِ تُنْشِدُ الصُّوفِيَّةُ:
يَقُولُونَ لِي دَارُ الْأَحِبَّةِ قَدْ دَنَتْ
…
وَأَنْتَ كَئِيبٌ إِنَّ ذَا لَعَجِيبُ
فَقُلْتُ وَمَا تُغْنِي دِيَارٌ قَرِيبَةٌ
…
إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقُلُوبِ قَرِيبُ
فَكَمْ مِنْ بَعِيدِ الدَّارِ نَالَ مُرَادَهُ
…
وَآخَرُ جَارُ الْجَنْبِ مَاتَ كَئِيبُ
وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَبْنَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِذِ الْأَغْلَبُ مِنَ الْبَشَرِ أَنَّ الْأَبْنَاءَ هُمُ التَّبَعُ لِلْآبَاءِ. وَالْإِحْسَانُ وَالْهِبَةُ مُسْتَثْنَاةٌ مِنَ الْوِلَايَةِ. قَالَتْ أَسْمَاءُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ رَاغِبَةً وَهِيَ مُشْرِكَةٌ أفأصلها؟ قال:(صلي أمك) خرجه البخاري. قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ مُشْرِكٌ مِثْلُهُمْ لِأَنَّ مَنْ رضي بالشرك فهو مشرك.
[سورة التوبة (9): آية 24]
قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24)
لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ جَعَلَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِأَبِيهِ وَالْأَبُ لِابْنِهِ وَالْأَخُ لِأَخِيهِ وَالرَّجُلُ لِزَوْجَتِهِ: إِنَّا قَدْ أُمِرْنَا بِالْهِجْرَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَسَارَعَ
(1). راجع ج 6 ص 216.
لِذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبَى أَنْ يُهَاجِرَ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ تَخْرُجُوا إِلَى دَارِ الْهِجْرَةِ لَا أَنْفَعُكُمْ وَلَا أُنْفِقُ عَلَيْكُمْ شَيْئًا أَبَدًا. وَمِنْهُمْ مَنْ تَتَعَلَّقُ بِهِ امْرَأَتُهُ وَوَلَدُهُ وَيَقُولُونَ لَهُ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ أَلَّا تَخْرُجَ فَنَضِيعَ بَعْدَكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَرِقُّ فَيَدَعُ الْهِجْرَةَ وَيُقِيمُ مَعَهُمْ، فَنَزَلَتْ" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ". يَقُولُ:[إِنِ اخْتَارُوا] الْإِقَامَةَ عَلَى الْكُفْرِ بِمَكَّةَ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ." وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ" بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ" فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ". ثُمَّ نَزَلَ فِي الَّذِينَ تَخَلَّفُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا:" قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ" وَهِيَ الْجَمَاعَةُ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى عَقْدٍ وَاحِدٍ كَعَقْدِ الْعَشَرَةِ فَمَا زَادَ، وَمِنْهُ الْمُعَاشَرَةُ وَهِيَ الِاجْتِمَاعُ عَلَى الشَّيْءِ. (وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها) يَقُولُ: اكْتَسَبْتُمُوهَا بِمَكَّةَ. وَأَصْلُ الِاقْتِرَافِ اقْتِطَاعُ الشَّيْءِ مِنْ مَكَانِهِ إِلَى غَيْرِهِ. (وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها) قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: هِيَ الْبَنَاتُ وَالْأَخَوَاتُ إِذَا كَسَدْنَ فِي الْبَيْتِ لَا يَجِدْنَ لَهُنَّ خَاطِبًا. قَالَ الشَّاعِرُ:
كَسَدْنَ مِنَ الْفَقْرِ فِي قَوْمِهِنَّ
…
وَقَدْ زَادَهُنَّ مَقَامِي كُسُودَا
(وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها) يَقُولُ: وَمَنَازِلُ تُعْجِبُكُمُ الْإِقَامَةُ فِيهَا. (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ) مِنْ أَنْ تُهَاجِرُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِالْمَدِينَةِ. وَ" أَحَبَّ" خَبَرُ كَانَ. وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ رَفْعُ" أَحَبَّ" عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، وَاسْمُ كَانَ مُضْمَرٌ فِيهَا. وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
إِذَا مِتُّ كَانَ النَّاسُ صِنْفَانِ: شَامِتٌ
…
وَآخَرُ مُثْنٍ بِالَّذِي كُنْتُ أَصْنَعُ «1»
وَأَنْشَدَ:
هِيَ الشِّفَاءُ لِدَائِي لَوْ ظَفِرْتُ بِهَا
…
وَلَيْسَ مِنْهَا شِفَاءُ الدَّاءِ مَبْذُولُ «2»
وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ حُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُقَدَّمٌ عَلَى كُلِّ مَحْبُوبٍ. وَقَدْ مَضَى فِي" آلِ عِمْرَانَ" «3» مَعْنَى مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِ. (وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا) صِيغَتُهُ صِيغَةُ أَمْرٍ وَمَعْنَاهُ التَّهْدِيدُ. يَقُولُ: انْتَظِرُوا. (حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ)
(1). البيت للعجير السلولي.
(2)
. البيت لهشام أخى ذي الرمة. (عن كتاب سيبويه).
(3)
. راجع ج 4 ص 59.