الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ)" أَنْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ مِنْ أَنْ تُنَزَّلَ. وَيَجُوزُ عَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلَى حَذْفِ مِنْ. وَيَجُوزُ أَنْ تكون في موضع نصب مفعولة ليحذر، لِأَنَّ سِيبَوَيْهِ أَجَازَ: حَذِرْتُ زَيْدًا، وَأَنْشَدَ:
حَذِرٌ أُمُورًا لَا تَضِيرُ وَآمِنٌ
…
مَا لَيْسَ مُنْجِيَهُ مِنَ الْأَقْدَارِ
وَلَمْ يُجِزْهُ الْمُبَرِّدُ، لِأَنَّ الْحَذَرَ شي فِي الْهَيْئَةِ. وَمَعْنَى" عَلَيْهِمْ" أَيْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (سُورَةٌ) فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ تُخْبِرُهُمْ بِمَخَازِيهِمْ وَمَسَاوِيهِمْ وَمَثَالِبِهِمْ، وَلِهَذَا سُمِّيَتِ الْفَاضِحَةُ وَالْمُثِيرَةُ وَالْمُبَعْثِرَةُ، كَمَا تَقَدَّمَ أَوَّلَ السُّورَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يُسَمُّونَ هَذِهِ السُّورَةَ الْحَفَّارَةَ لِأَنَّهَا حَفَرَتْ مَا فِي قُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ فَأَظْهَرَتْهُ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلِ اسْتَهْزِؤُا) هَذَا أَمْرُ وَعِيدٍ وَتَهْدِيدٍ. (إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ) أَيْ مُظْهِرٌ" مَا تَحْذَرُونَ" ظُهُورَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنْزَلَ اللَّهُ أَسْمَاءَ الْمُنَافِقِينَ وَكَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا، ثُمَّ نَسَخَ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ مِنَ الْقُرْآنِ رأفة منه ورحمة، لان أولاد هم كَانُوا مُسْلِمِينَ وَالنَّاسُ يُعَيِّرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. فَعَلَى هَذَا قَدْ أَنْجَزَ اللَّهُ وَعْدَهُ بِإِظْهَارِهِ ذَلِكَ إِذْ قَالَ:" إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ". وَقِيلَ: إِخْرَاجُ اللَّهِ أَنَّهُ عَرَّفَ نَبِيَّهُ عليه السلام أحوالهم وأسماء هم لَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْقُرْآنِ، وَلَقَدْ قَالَ الله تعالى:" وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ"«1» [محمد: 30] وَهُوَ نَوْعُ إِلْهَامٍ. وَكَانَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَتَرَدَّدُ وَلَا يَقْطَعُ بِتَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ عليه السلام وَلَا بِصِدْقِهِ. وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ يَعْرِفُ صِدْقَهُ ومعاند.
[سورة التوبة (9): آية 65]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ. قَالَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ قَتَادَةَ: بَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسِيرُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَرَكْبٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ يسيرون بين يديه فقالوا:
(1). راجع ج 16 ص 251 فما بعد.
انْظُرُوا، هَذَا يَفْتَحُ قُصُورَ الشَّامِ وَيَأْخُذُ حُصُونَ بَنِي الْأَصْفَرِ! فَأَطْلَعَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ وَمَا يَتَحَدَّثُونَ بِهِ، فَقَالَ:(احْبِسُوا عَلَيَّ الرَّكْبَ- ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَالَ- قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا) فَحَلَفُوا: مَا كُنَّا إِلَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، يُرِيدُونَ كُنَّا غَيْرَ مُجِدِّينَ. وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: رَأَيْتُ قَائِلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ وَدِيعَةَ بْنَ ثَابِتٍ مُتَعَلِّقًا بِحَقَبِ ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يُمَاشِيهَا وَالْحِجَارَةُ تُنَكِّبُهُ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ. وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يقول:" أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ". وَذَكَرَ النَّقَّاشُ أَنَّ هَذَا الْمُتَعَلِّقَ كَانَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ. وَكَذَا ذَكَرَ الْقُشَيْرِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ خَطَأٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ تَبُوكَ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَقِيلَ إِنَّمَا قَالَ عليه السلام هَذَا لِوَدِيعَةَ بْنِ ثَابِتٍ وَكَانَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَكَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَالْخَوْضُ: الدُّخُولُ فِي الْمَاءِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ دُخُولٍ فِيهِ تَلْوِيثٌ وَأَذًى. الثَّانِيَةُ- قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَا قَالُوهُ مِنْ ذَلِكَ جِدًّا أَوْ هَزْلًا، وَهُوَ كَيْفَمَا كَانَ كُفْرٌ، فَإِنَّ الْهَزْلَ بِالْكُفْرِ كُفْرٌ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ. فَإِنَّ التَّحْقِيقَ أَخُو الْعِلْمِ وَالْحَقِّ، وَالْهَزْلُ أَخُو الْبَاطِلِ وَالْجَهْلِ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: انْظُرْ إِلَى قَوْلِهِ:" أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ"«1» [البقرة: 67]. الثَّالِثَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْهَزْلِ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: لَا يَلْزَمُ مُطْلَقًا. يَلْزَمُ مُطْلَقًا. التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ. فَيَلْزَمُ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الطَّلَاقِ قَوْلًا وَاحِدًا. وَلَا يَلْزَمُ فِي الْبَيْعِ. قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: يَلْزَمُ نِكَاحُ الْهَازِلِ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ: لَا يَلْزَمُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ: يُفْسَخُ قَبْلُ وَبَعْدُ. وَلِلشَّافِعِيِّ فِي بَيْعِ الْهَازِلِ قَوْلَانِ. وَكَذَلِكَ يَخْرُجُ مِنْ قَوْلِ عُلَمَائِنَا الْقَوْلَانِ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ فِي أَنَّ جِدَّ الطَّلَاقِ وَهَزْلَهُ سَوَاءٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا: إِنِ اتَّفَقَا عَلَى الْهَزْلِ فِي النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ لَمْ يَلْزَمْ، وَإِنِ اخْتَلَفَا غَلَبَ الْجِدُّ الْهَزْلَ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (ثلاث
(1). راجع ج 1 ص 444