الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ كَفَرُوا نِعْمَةَ رَبِّهِمْ، قَالَ: وَيُقَالُ كَفَرْتُهُ وَكَفَرْتُ بِهِ، مِثْلُ شَكَرْتُهُ وَشَكَرْتُ لَهُ. (أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ) أَيْ لَا زَالُوا مُبْعَدِينَ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ. وَالْبُعْدُ الْهَلَاكُ. وَالْبُعْدُ التَّبَاعُدُ مِنَ الْخَيْرِ. يُقَالُ: بَعُدَ يَبْعُدُ بُعْدًا إِذَا تَأَخَّرَ وَتَبَاعَدَ. وَبَعِدَ يَبْعَدُ بَعَدًا إِذَا هَلَكَ، قَالَ:
لَا يَبْعَدْنَ قَوْمِي الَّذِينَ هُمْ
…
سُمُّ الْعُدَاةِ وَآفَةِ الْجُزْرِ «1»
وَقَالَ النَّابِغَةُ:
فَلَا تَبْعَدَنْ إِنَّ الْمَنِيَّةَ مَنْهَلٌ
…
وَكُلُّ امرئ يوما به الحال زائل
[سورة هود (11): آية 61]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)
فيها خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِلى ثَمُودَ) أَيْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ (أَخاهُمْ) أَيْ فِي النَّسَبِ. (صالِحاً). وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ" وَإِلَى ثَمُودٍ" بِالتَّنْوِينِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ. وَاخْتَلَفَ سَائِرُ الْقُرَّاءِ فِيهِ فَصَرَفُوهُ فِي مَوْضِعٍ وَلَمْ يَصْرِفُوهُ فِي مَوْضِعٍ. وَزَعَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّهُ لَوْلَا مُخَالَفَةُ السَّوَادِ لَكَانَ الْوَجْهُ تَرْكَ الصَّرْفِ، إِذْ كَانَ الْأَغْلَبُ عَلَيْهِ التَّأْنِيثُ. قَالَ النَّحَّاسُ: الَّذِي قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ- رحمه الله مِنْ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ التَّأْنِيثُ كَلَامٌ مَرْدُودٌ، لِأَنَّ ثَمُودًا يُقَالُ لَهُ حَيٌّ، وَيُقَالُ لَهُ قَبِيلَةٌ، وَلَيْسَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْقَبِيلَةَ، بَلِ الْأَمْرُ عَلَى ضِدِّ مَا قَالَ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ. وَالْأَجْوَدُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ فِيمَا لَمْ يَقُلْ فِيهِ بَنُو فُلَانٍ الصَّرْفُ، نَحْو قُرَيْشٍ وَثَقِيفٍ وَمَا أَشْبَهَهُمَا، وَكَذَلِكَ ثَمُودٌ، وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ التَّذْكِيرُ الْأَصْلُ، وَكَانَ يَقَعُ لَهُ مُذَكَّرٌ وَمُؤَنَّثٌ كَانَ الْأَصْلُ الْأَخَفُّ أَوْلَى. وَالتَّأْنِيثُ جَيِّدٌ بَالِغٌ حَسَنٌ. وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ «2» فِي التَّأْنِيثِ:
غَلَبَ الْمَسَامِيحَ الْوَلِيدُ سَمَاحَةً
…
وَكَفَى قُرَيْشَ الْمَعْضِلَاتِ وسادها
(1). تقدم شرح البيت في هامش ج 6 ص 14.
(2)
. البيت لعدي بن الرقاع يمدح الوليد بن عبد الملك، والشاهد فيه ترك صرف قريش حملا على معنى القبيلة، والصرف فيها أكثر وأعرف لأنهم قصدوا بها قصد الحي، وغلب ذلك عليها. (شواهد سيبويه).
الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) تَقَدَّمَ. (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أَيِ ابْتَدَأَ خَلْقكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ أَنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنَ الْأَرْضِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ"«1» وَ" الْأَنْعَامِ"«2» وَهُمْ مِنْهُ، وَقِيلَ:" أَنْشَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ". وَلَا يَجُوزُ إِدْغَامُ الْهَاءِ مِنْ" غَيْرُهُ" فِي الْهَاءِ مِنْ" هُوَ" إِلَّا عَلَى لُغَةِ مَنْ حَذَفَ الْوَاوَ فِي الْإِدْرَاجِ. (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) أَيْ جَعَلَكُمْ عُمَّارَهَا وَسُكَّانَهَا. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَمَعْنَى" اسْتَعْمَرَكُمْ" أَعْمَرَكُمْ مِنْ قَوْلِهِ: أَعْمَرَ فُلَانٌ فُلَانًا دَارَهُ، فَهِيَ لَهُ عُمْرَى. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَسْكَنَكُمْ فِيهَا، وَعَلَى هَذَيْنَ الْقَوْلَيْنِ تَكُونُ اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى أَفْعَلَ، مِثْلَ اسْتَجَابَ بِمَعْنَى أَجَابَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَطَالَ أَعْمَارَكُمْ، وَكَانَتْ أَعْمَارُهُمْ مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ إِلَى أَلْفٍ. ابْنُ عَبَّاسٍ: أَعَاشَكُمْ فِيهَا. زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: أَمَرَكُمْ بِعِمَارَةِ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِيهَا مِنْ بِنَاءِ مَسَاكِنَ، وَغَرْسِ أَشْجَارٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَلْهَمَكُمْ عِمَارَتَهَا مِنَ الْحَرْثِ وَالْغَرْسِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ وَغَيْرِهَا. الثالثة- قال ابن عربي قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ: الِاسْتِعْمَارُ طَلَبُ الْعِمَارَةِ، وَالطَّلَبُ الْمُطْلَقُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْوُجُوبِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: تَأْتِي كَلِمَةُ اسْتَفْعَلَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى مَعَانٍ: مِنْهَا، اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى طَلَبِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: اسْتَحْمَلْتُهُ أَيْ طَلَبْتُ مِنْهُ حُمْلَانًا، وَبِمَعْنَى اعْتَقَدَ، كَقَوْلِهِمُ: اسْتَسْهَلْتُ هَذَا الْأَمْرَ اعْتَقَدْتُهُ سَهْلًا، أَوْ وَجَدْتُهُ سَهْلًا، وَاسْتَعْظَمْتُهُ أَيِ اعْتَقَدْتُهُ عَظِيمًا وَوَجَدْتُهُ، وَمِنْهُ اسْتَفْعَلْتُ بِمَعْنَى أَصَبْتُ، كَقَوْلِهِمُ: اسْتَجَدْتُهُ أَيْ أَصَبْتُهُ «3» جَيِّدًا: وَمِنْهَا بِمَعْنَى فَعَلَ: كَقَوْلِهِ: قَرَّ فِي الْمَكَانِ وَاسْتَقَرَّ، وقالوا وقوله:" يَسْتَهْزِؤُنَ" وَ" يَسْتَسْخِرُونَ" مِنْهُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى:" اسْتَعْمَرَكُمْ فِيها" خلقكم لعمارتها"، لا مَعْنَى اسْتَجَدْتُهُ وَاسْتَسْهَلْتُهُ، أَيْ أَصَبْتُهُ جَيِّدًا وَسَهْلًا، وَهَذَا يَسْتَحِيلُ فِي الْخَالِقِ، فَيَرْجِعُ إِلَى أَنَّهُ خَلَقَ، لِأَنَّهُ الْفَائِدَةُ، وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنِ الشَّيْءِ بِفَائِدَتِهِ مَجَازًا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ طلب من الله لِعِمَارَتِهَا، فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ، أَمَّا أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ استدعى
(1). راجع ج 1 ص 279 فما بعد.
(2)
. راجع ج 6 ص 287 فما بعد.
(3)
. في و: وجدته.
عِمَارَتَهَا فَإِنَّهُ جَاءَ بِلَفْظِ اسْتَفْعَلَ، وَهُوَ اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ بِالْقَوْلِ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ إِذَا كَانَ أَمْرًا، وَطَلَبٌ لِلْفِعْلِ إِذَا كَانَ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى [رَغْبَةً «1»]. قُلْتُ: لَمْ يُذْكَرِ اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى أَفْعَلَ، مِثْلَ قَوْلِهِ: اسْتَوْقَدَ بِمَعْنَى أَوْقَدَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، «2» وَهِيَ: الرَّابِعَةُ- وَيَكُونُ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى الْإِسْكَانِ وَالْعُمْرَى وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي" الْبَقَرَةِ"«3» فِي السُّكْنَى وَالرُّقْبَى. وَأَمَّا الْعُمْرَى فَاخْتَلَفَ العلماء فيها على ثلاثة أقوال: أحدهما- أَنَّهَا تَمْلِيكٌ لِمَنَافِعِ الرَّقَبَةِ حَيَاةَ الْمُعْمَرِ مُدَّةَ عُمْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ عَقِبًا فَمَاتَ الْمُعْمَرُ رَجَعَتْ إِلَى الَّذِي أَعْطَاهَا أَوْ لِوَرَثَتِهِ، هَذَا قَوْلُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَيَزِيدَ بْنِ قُسَيْطٍ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ" حُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ. الثَّانِي أَنَّهَا تَمْلِيكُ الرَّقَبَةِ ومنافعا وَهِيَ هِبَةٌ مَبْتُولَةٌ «4» وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِمَا وَالثَّوْرِيِّ والحسن ابن حَيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَأَبِي عُبَيْدٍ، قَالُوا مَنْ أَعْمَرَ رَجُلًا شَيْئًا حَيَاتَهُ فَهُوَ لَهُ حَيَاتَهُ، وَبَعْدَ وَفَاتِهِ لِوَرَثَتِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ رَقَبَتَهَا، وَشَرْطُ الْمُعْطِي الْحَيَاةَ وَالْعُمْرَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:" العمرى جائزة"" والعمرى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ" الثَّالِثُ- إِنْ قَالَ عُمْرَكَ وليم يَذْكُرِ الْعَقِبَ كَانَ كَالْقَوْلِ الْأَوَّلِ: وَإِنْ قَالَ لِعَقِبِكَ كَانَ كَالْقَوْلِ الثَّانِي، وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي الْمُوَطَّأِ. وَالْمَعْرُوفُ عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الْمُعْمِرِ، إِذَا انقرض عقب المعمر، إذا كَانَ الْمُعْمِرُ حَيًّا، وَإِلَّا فَإِلَى مَنْ كَانَ حَيًّا مِنْ وَرَثَتِهِ، وَأَوْلَى النَّاسِ بِمِيرَاثِهِ. وَلَا يملك المعمر بلفظ العمرى عند مَالِكٌ فِي الْحَبْسِ أَيْضًا: إِذَا حُبِسَ عَلَى رَجُلٍ وَعَقِبِهِ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ. وَإِنْ حُبِسَ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ حَيَاتَهُ رَجَعَ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْعُمْرَى قِيَاسًا، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُوَطَّأِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
(1). الزيادة عن ابن العربي.
(2)
. راجع ج 1 ص 212 وص 299.
(3)
. راجع ج 1 ص 212 وص 299.
(4)
. مبتولة: ماضيه غير راجعة إلى الواهب، من بتلة، قطعه وأبانه.