الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَبِيهِ. (رَأَيْتُهُمْ) تَوْكِيدٌ. وَقَالَ:" رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ" فَجَاءَ مُذَكَّرًا، فَالْقَوْلُ عِنْدَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ أَنَّهُ لما أخبر عن هذه الأشياء بالطاعة السجود وهما من أفعال من يعقل أخبر عنهما كَمَا يُخْبِرُ عَمَّنْ يَعْقِلُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ:" وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ «1» ". وَالْعَرَبُ تجمع مالا يعقل جمع من يعقل إذا أنزلوه منزله، وإن كان خارجا عن الأصل.
[سورة يوسف (12): آية 5]
قالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)
وفيه إحدى عشرة مسألة: الأولى قوله تعالى: (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) أي يحتالون فِي هَلَاكِكَ، لِأَنَّ تَأْوِيلَهَا ظَاهِرٌ، فَرُبَّمَا يَحْمِلُهُمُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَصْدِكَ بِسُوءٍ حِينَئِذٍ. وَاللَّامُ فِي" لَكَ" تأكيد، كقوله:" إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ". الثَّانِيَةُ- الرُّؤْيَا حَالَةٌ شَرِيفَةٌ، وَمَنْزِلَةٌ رَفِيعَةٌ، قَالَ صلى الله عليه وسلم:" لَمْ يَبْقَ بَعْدِي مِنَ الْمُبَشِّرَاتِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ الصَّادِقَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوْ تُرَى لَهُ". وَقَالَ: أَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا". وَحَكَمَ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، وَرُوِيَ" مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ". وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما" جُزْءًا مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ". وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ" جُزْءٌ مِنْ تِسْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا". وَمِنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ" جُزْءٌ مِنْ خَمْسِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ". وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ" مِنْ سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ" وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ" مِنْ أَرْبَعَةٍ وَأَرْبَعِينَ مِنَ النُّبُوَّةِ". وَالصَّحِيحُ مِنْهَا حَدِيثُ السِّتَّةِ وَالْأَرْبَعِينَ، وَيَتْلُوهُ فِي الصِّحَّةِ حَدِيثُ السَّبْعِينَ، وَلَمْ يُخَرِّجْ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ غَيْرَ هَذَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، أَمَّا سَائِرُهَا فَمِنْ أَحَادِيثِ الشُّيُوخِ، قَالَهُ ابْنُ بَطَّالٍ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيُّ: وَالْأَكْثَرُ وَالْأَصَحُّ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ" مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ". قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَالصَّوَابُ أن
(1). راجع ج 7 ص 344.
يُقَالَ إِنَّ عَامَّةَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَوْ أَكْثَرَهَا صِحَاحٌ، وَلِكُلِّ حَدِيثٍ مِنْهَا مَخْرَجٌ مَعْقُولٌ، فَأَمَّا قَوْلُهُ:" إِنَّهَا جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ" فَإِنَّ ذَلِكَ قَوْلٌ عَامٌّ فِي كُلِّ رُؤْيَا صَالِحَةٍ صَادِقَةٍ، وَلِكُلِّ مُسْلِمٍ رَآهَا فِي مَنَامِهِ عَلَى أَيِّ أَحْوَالِهِ كَانَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ:" إنها من أربعين- أوستة وَأَرْبَعِينَ" فَإِنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ مَنْ كَانَ صَاحِبُهَا بِالْحَالِ الَّتِي ذَكَرْتُ عَنِ الصِّدِّيقِ- رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ بِهَا، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ فِي السَّبَرَاتِ «1» ، وَالصَّبْرِ فِي اللَّهِ عَلَى الْمَكْرُوهَاتِ، وَانْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فرؤياه صالحة- إِنْ شَاءَ اللَّهُ- جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، وَمَنْ كَانَتْ حَالُهُ فِي ذَاتِهِ بين ذلك فرؤياه الصادقة بين جزءين، ما بين الأربعين إلى الستين، ولا تَنْقُصُ عَنْ سَبْعِينَ، وَتَزِيدُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ، وَإِلَى هذا المعنى أشار أبو عمر ابن عَبْدِ الْبَرِّ فَقَالَ: اخْتِلَافُ الْآثَارِ فِي هَذَا الْبَابِ فِي عَدَدِ أَجْزَاءِ الرُّؤْيَا لَيْسَ ذَلِكَ عندي اختلاف متضاد متدافع- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ مِنْ بَعْضِ مَنْ يَرَاهَا عَلَى حَسَبِ مَا يَكُونُ مِنْ صِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَالدِّينِ الْمَتِينِ، وَحُسْنِ الْيَقِينِ، فَعَلَى قَدْرِ اخْتِلَافِ الناس فيما وصفناه تَكُونُ الرُّؤْيَا مِنْهُمْ عَلَى الْأَجْزَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ الْعَدَدِ، فَمَنْ خَلَصَتْ نِيَّتُهُ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ وَيَقِينُهُ وَصَدَقَ حَدِيثُهُ، كَانَتْ رُؤْيَاهُ أَصْدَقَ، وَإِلَى النُّبُوَّةِ أَقْرَبَ: كَمَا أَنَّ الْأَنْبِيَاءُ يَتَفَاضَلُونَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ «2» ". قُلْتُ: فَهَذَا التَّأْوِيلُ يَجْمَعُ شَتَاتَ الْأَحَادِيثِ، وَهُوَ أولى من تفسير بعضها دون البعض وَطَرْحِهِ، ذَكَرَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْأَسْفَاقُسِيُّ «3» عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ:" جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ" فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي النُّبُوَّةِ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ عَامًا- فِيمَا رَوَاهُ عِكْرِمَةُ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا- فَإِذَا نَسَبْنَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ عَامًا وَجَدْنَا ذَلِكَ جُزْءًا مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا، وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ أَشَارَ الْمَازِرِيُّ فِي كِتَابِهِ" الْمُعَلِّمِ" وَاخْتَارَهُ الْقُونَوِيُّ «4» فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ سُورَةِ" يُونُسَ" عند قوله تعالى:"هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
" «5» . وَهُوَ فَاسِدٌ مِنْ وجهين:
(1). السبرات (جمع سبرة) بسكون الباء: شدة البرد.
(2)
. راجع ج 10 ص 278.
(3)
. كذا في الأصول وصوابه: الصفاقسى.
(4)
. في ع: الغزنوي.
(5)
. راجع ج 8 ص 458.
أَحَدُهُمَا- مَا رَوَاهُ أَبُو سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ بِأَنَّ مُدَّةَ الْوَحْيِ كَانَتْ عِشْرِينَ سَنَةٍ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ عَلِيَّ رَأْسِ أَرْبَعِينَ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ، وَهُوَ قَوْلُ عُرْوَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَابْنِ شِهَابٍ والحسن وعطاء والخراساني وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَلَى اخْتِلَافٍ عَنْهُ، وَهِيَ رِوَايَةُ رَبِيعَةَ وَأَبِي غَالِبٍ عَنْ أَنَسٍ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ «1» بَطَلَ ذَلِكَ التَّأْوِيلُ- الثَّانِي: أَنَّ سَائِرَ الْأَحَادِيثِ فِي الْأَجْزَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ تَبْقَى بِغَيْرِ مَعْنًى. الثَّالِثَةُ- إِنَّمَا كَانَتْ الرُّؤْيَا جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، لِأَنَّ فِيهَا مَا يُعْجِزُ وَيَمْتَنِعُ كالطيران، وقلب الأعيان، والاطلاع على شي مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ، كَمَا قَالَ عليه السلام:" إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ" الْحَدِيثَ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَإِنَّ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةَ مِنَ اللَّهِ، وَإِنَّهَا مِنَ النُّبُوَّةِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم:" الرُّؤْيَا مِنَ اللَّهِ وَالْحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ" وَأَنَّ التَّصْدِيقَ بِهَا حَقَّ، وَلَهَا التَّأْوِيلُ الْحَسَنُ، وَرُبَّمَا أَغْنَى بَعْضُهَا عَنِ التَّأْوِيلِ، وَفِيهَا مِنْ بَدِيعِ اللَّهِ وَلُطْفِهِ مَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ فِي إِيمَانِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا بَيْنَ أَهْلِ الدِّينِ وَالْحَقِّ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْأَثَرِ، وَلَا يُنْكِرُ الرُّؤْيَا إلا أهل الإلحاد وشر ذمة مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ. الرَّابِعَةُ- إِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَتِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْكَافِرُ وَالْكَاذِبُ وَالْمُخَلِّطُ أَهْلًا لَهَا؟ وَقَدْ وَقَعَتْ مِنْ بَعْضِ الْكُفَّارِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يُرْضَى دِينُهُ مَنَامَاتٌ صَحِيحَةٌ صَادِقَةٌ، كَمَنَامِ رُؤْيَا الْمَلِكِ الَّذِي رَأَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ، وَمَنَامِ الْفَتَيَيْنِ فِي السجن، ورؤيا بخت نصر، الَّتِي فَسَّرَهَا دَانْيَالُ فِي ذَهَابِ مُلْكِهِ، وَرُؤْيَا كِسْرَى فِي ظُهُورِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَنَامِ عَاتِكَةَ، عَمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَمْرِهِ وَهِيَ كَافِرَةٌ، وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ" بَابَ رُؤْيَا أَهْلِ السِّجْنِ"- فَالْجَوَابُ أَنَّ الْكَافِرَ وَالْفَاجِرَ وَالْفَاسِقَ وَالْكَاذِبَ وَإِنْ صَدَقَتْ رُؤْيَاهُمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لَا تَكُونُ مِنَ الْوَحْيِ وَلَا مِنَ النُّبُوَّةِ، إِذْ لَيْسَ كل من صدق في حديثه عَنْ غَيْبٍ يَكُونُ خَبَرُهُ ذَلِكَ نُبُوَّةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْأَنْعَامِ"«2» أَنَّ الْكَاهِنَ وَغَيْرُهُ قَدْ يُخْبِرُ بِكَلِمَةِ الْحَقِّ فَيَصْدُقُ، لَكِنَّ ذَلِكَ عَلَى النُّدُورِ وَالْقِلَّةِ، فَكَذَلِكَ رُؤْيَا هَؤُلَاءِ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: إنما ترجم البخاري
(1). في ع وى: هذا الخلاف.
(2)
. راجع ج 7 ص 3 فما بعدها.
بِهَذَا لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ رُؤْيَا أَهْلِ الشِّرْكِ رُؤْيَا صَادِقَةً، كَمَا كَانَتْ رُؤْيَا الْفَتَيَيْنِ صَادِقَةً، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُضَافَ إِلَى النُّبُوَّةِ إِضَافَةَ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ إِلَيْهَا، إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَا يَصِحُّ لَهُ تَأْوِيلٌ مِنَ الرُّؤْيَا حَقِيقَةً يَكُونُ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ. الْخَامِسَةُ- الرُّؤْيَا المضافة إلى الله تعالى الَّتِي خَلَصَتْ مِنَ الْأَضْغَاثِ وَالْأَوْهَامِ، وَكَانَ تَأْوِيلُهَا مُوَافِقًا لِمَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَالَّتِي هِيَ مِنْ خَبَرِ «1» الْأَضْغَاثِ هِيَ الْحُلْمُ، وَهِيَ الْمُضَافَةُ إِلَى الشَّيْطَانِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ ضِغْثًا، لِأَنَّ فِيهَا أَشْيَاءَ مُتَضَادَّةً، قَالَ مَعْنَاهُ الْمُهَلَّبُ. وَقَدْ قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرُّؤْيَا أَقْسَامًا تُغْنِي عَنْ قَوْلِ كُلِّ قَائِلٍ، رَوَى عوف ابن مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" الرُّؤْيَا ثَلَاثَةٌ مِنْهَا أَهَاوِيلُ الشَّيْطَانِ لِيُحْزِنَ ابْنَ آدَمَ وَمِنْهَا مَا يَهْتَمُّ بِهِ فِي يَقِظَتِهِ فَيَرَاهُ فِي مَنَامِهِ وَمِنْهَا جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ،. قَالَ قُلْتُ: سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ نَعَمْ! سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ) الْآيَةَ. الرُّؤْيَا مَصْدَرُ رَأَى فِي الْمَنَامِ، رُؤْيَا عَلَى وَزْنِ فُعْلَى كَالسُّقْيَا وَالْبُشْرَى، وَأَلِفُهُ لِلتَّأْنِيثِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَنْصَرِفْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَقِيقَةِ الرُّؤْيَا، فَقِيلَ: هِيَ إِدْرَاكٌ فِي أَجْزَاءٍ لَمْ تَحُلَّهَا آفَةٌ، كَالنَّوْمِ الْمُسْتَغْرِقِ وَغَيْرِهِ، وَلِهَذَا أَكْثَرُ مَا تَكُونُ الرُّؤْيَا فِي آخِرِ اللَّيْلِ لِقِلَّةِ غَلَبَةِ النَّوْمِ، فَيَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى لِلرَّائِي عِلْمًا نَاشِئًا، وَيَخْلُقُ لَهُ الَّذِي يَرَاهُ عَلَى مَا يَرَاهُ لِيَصِحَّ الْإِدْرَاكُ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَلَا يَرَى فِي الْمَنَامِ إِلَّا مَا يَصِحُّ إِدْرَاكُهُ فِي الْيَقِظَةِ، وَلِذَلِكَ لَا يَرَى فِي الْمَنَامِ شَخْصًا قَائِمًا قَاعِدًا بِحَالٍ، وَإِنَّمَا يَرَى الْجَائِزَاتِ الْمُعْتَادَاتِ. وَقِيلَ إِنَّ لِلَّهِ مَلَكًا يَعْرِضُ الْمَرْئِيَّاتِ عَلَى الْمَحَلِّ الْمُدْرِكِ مِنَ النَّائِمِ، فَيُمَثِّلُ لَهُ صُوَرًا مَحْسُوسَةً، فَتَارَةً تَكُونُ تِلْكَ الصُّوَرُ أَمْثِلَةً مُوَافِقَةً لِمَا يَقَعُ في الوجود، وتارة تكون لمعاني معقولة غير محسوسة، وفى الحالتين تكون مشرة أَوْ مُنْذِرَةً، قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ:" رَأَيْتُ سَوْدَاءَ «2» ثَائِرَةَ الرَّأْسِ تَخْرُجُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَهْيَعَةٍ «3» فَأَوَّلْتُهَا الحمى".
(1).: ع حيز.
(2)
. أي امرأة سوداء، كما في رواية النسائي.
(3)
. المهيعة: هي الجحفة، ميقات أهل الشام.
و" رأيت سيفي قد انقطع صدره وبقرا تنحر فأولتها رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُقْتَلُ وَالْبَقَرُ نَفَرٌ من أصحابي يقتلون". و" رأيت أَنِّي أَدْخَلْتُ يَدَيَّ فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ فَأَوَّلْتُهَا المدينة". و" رأيت فِي يَدَيَّ سِوَارَيْنِ فَأَوَّلْتُهُمَا كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ بَعْدِي". إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ضُرِبَتْ لَهُ الْأَمْثَالُ، ومنها ما يظهر معناه أولا [فأول «1»]، ومنها ما لا يظهر الأبعد التَّفَكُّرِ، وَقَدْ رَأَى النَّائِمُ فِي زَمَنِ يُوسُفَ عليه السلام بَقَرًا فَأَوَّلَهَا يُوسُفُ السِّنِينَ، وَرَأَى أحد عشر كوكبا فَأَوَّلَهَا بِإِخْوَتِهِ وَأَبَوَيْهِ. السَّابِعَةُ- إِنْ قِيلَ: إِنَّ يوسف عليه السلام كان صغيرا حين رؤياه، والصغير لأحكم لِفِعْلِهِ، فَكَيْفَ تَكُونُ لَهُ رُؤْيَا لَهَا حُكْمٌ حَتَّى يَقُولَ لَهُ أَبُوهُ:" لَا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ"؟ فَالْجَوَابُ- أَنَّ الرُّؤْيَا إِدْرَاكُ حَقِيقَةٍ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، فَتَكُونُ مِنَ الصَّغِيرِ كَمَا يَكُونُ مِنْهُ الْإِدْرَاكُ الْحَقِيقِيُّ فِي الْيَقَظَةِ، وَإِذَا أَخْبَرَ عَمَّا رَأَى صَدَقَ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَخْبَرَ عَمَّا يَرَى فِي الْمَنَامِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ رُؤْيَاهُ وَأَنَّهَا وُجِدَتْ كَمَا رَأَى فلا اعتراض، ورى أَنَّ يُوسُفَ عليه السلام كَانَ ابْنَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. الثَّامِنَةُ- هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي ألا نقص الرُّؤْيَا عَلَى غَيْرِ شَفِيقٍ وَلَا نَاصِحٍ، وَلَا عَلَى مَنْ لَا يُحْسِنُ التَّأْوِيلَ فِيهَا، رَوَى أَبُو رَزِينٍ الْعُقَيْلِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعِينَ جزءا من النبوة". و" الرؤيا مُعَلَّقَةٌ بِرِجْلِ طَائِرٍ مَا لَمْ يُحَدِّثْ بِهَا صَاحِبُهَا فَإِذَا حَدَّثَ بِهَا وَقَعَتْ فَلَا تُحَدِّثُوا بِهَا إِلَّا عَاقِلًا أَوْ مُحِبًّا أَوْ نَاصِحًا" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ فِيهِ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَأَبُو رَزِينٍ اسْمُهُ لَقِيطُ بْنُ عَامِرٍ. وَقِيلَ لِمَالِكٍ: أَيَعْبُرُ الرُّؤْيَا كُلُّ أَحَدٍ؟ فَقَالَ: أَبِالنُّبُوَّةِ يُلْعَبُ؟ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَعْبُرُ الرُّؤْيَا إِلَّا مَنْ يُحْسِنُهَا، فَإِنْ رَأَى خَيْرًا أَخْبَرَ بِهِ، وَإِنْ رَأَى مَكْرُوهًا فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ، قِيلَ: فَهَلْ يَعْبُرُهَا عَلَى الْخَيْرِ وَهِيَ عِنْدُهُ عَلَى الْمَكْرُوهِ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّهَا عَلَى مَا تَأَوَّلَتْ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: لَا! ثُمَّ قَالَ: الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ فَلَا يُتَلَاعَبُ بِالنُّبُوَّةِ. التَّاسِعَةُ- وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُبَاحًا أَنْ يُحَذِّرُ الْمُسْلِمُ «2» أَخَاهُ الْمُسْلِمَ مِمَّنْ يَخَافُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي مَعْنَى الْغِيبَةِ، لِأَنَّ يَعْقُوبَ- عليه السلام قَدْ حَذَّرَ يوسف أن
(1). من ع وووى.
(2)
. في ع: الرجل. [ ..... ]
يقص رؤياه على إخوته فيكيدوا له، وفيها مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَرْكِ إِظْهَارِ النِّعْمَةِ عِنْدَ مَنْ تُخْشَى غَائِلَتُهُ حَسَدًا وَكَيْدًا، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" اسْتَعِينُوا عَلَى [إِنْجَاحِ] «1» حَوَائِجِكُمْ بِالْكِتْمَانِ فَإِنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ محسود". وفيها دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى مَعْرِفَةِ يَعْقُوبَ عليه السلام بِتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا، فَإِنَّهُ عَلِمَ مِنْ تَأْوِيلِهَا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُبَالِ بِذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ، فإن الرجل يود أن يكون ولده خير مِنْهُ، وَالْأَخُ لَا يَوَدُّ ذَلِكَ لِأَخِيهِ. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ يَعْقُوبَ عليه السلام كَانَ أَحَسَّ مِنْ بَنِيهِ حَسَدَ يُوسُفَ وَبُغْضَهُ، فَنَهَاهُ عن قصص «2» الرؤيا عليهم خوفا أَنْ تَغِلَّ بِذَلِكَ صُدُورُهُمْ، فَيَعْمَلُوا الْحِيلَةَ فِي هَلَاكِهِ، وَمِنْ هَذَا وَمِنْ فِعْلِهِمْ بِيُوسُفَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا غَيْرَ أَنْبِيَاءَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَوَقَعَ فِي كِتَابِ الطَّبَرِيِّ لِابْنِ زَيْدٍ أَنَّهُمْ كَانُوا أَنْبِيَاءُ، وَهَذَا يَرُدُّهُ الْقَطْعُ بِعِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَنِ الْحَسَدِ الدُّنْيَوِيِّ، وَعَنْ عُقُوقِ الْآبَاءِ، وَتَعْرِيضِ مُؤْمِنٍ لِلْهَلَاكِ، وَالتَّآمُرِ فِي قَتْلِهِ، وَلَا الْتِفَاتَ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّهُمْ كَانُوا أَنْبِيَاءُ، وَلَا يَسْتَحِيلُ فِي الْعَقْلِ زَلَّةُ نَبِيٍّ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الزَّلَّةَ قَدْ جَمَعَتْ أَنْوَاعًا مِنْ الْكَبَائِرَ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِنْهَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الصَّغَائِرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَيَأْتِي. الْعَاشِرَةُ- رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتُ" قَالُوا: وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ؟ قَالَ:" الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ" وَهَذَا الْحَدِيثُ بِظَاهِرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَا بُشْرَى عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةَ قَدْ تَكُونُ مُنْذِرَةً مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُسِرُّ رَائِيَهَا، وَإِنَّمَا يُرِيهَا اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنَ رِفْقًا بِهِ وَرَحْمَةً، لِيَسْتَعِدَّ لِنُزُولِ الْبَلَاءِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، فَإِنْ أَدْرَكَ تَأَوُّلَهَا بِنَفْسِهِ، وَإِلَّا سَأَلَ عَنْهَا مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ ذَلِكَ. وَقَدْ رَأَى الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه وَهُوَ بِمِصْرَ رُؤْيَا لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ تَدُلُّ عَلَى مِحْنَتِهِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ لِيَسْتَعِدَّ لِذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" يُونُسَ" فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:"هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
" «3» [يونس: 64] أَنَّهَا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ. وَهَذَا وَحَدِيثُ الْبُخَارِيِّ مَخْرَجُهُ على الأغلب، والله أعلم.
(1). الزيادة عن" الجامع الصغير".
(2)
. في ع: قص.
(3)
. راجع ج 8 ص 458.