الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سبق الحكم بتأخير العقاب هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) إِنْ حُمِلَتْ عَلَى قَوْمِ مُوسَى، أَيْ لَفِي شَكٍّ مِنْ كِتَابِ مُوسَى فهم في شك من القرآن.
[سورة هود (11): آية 111]
وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) أَيْ إِنَّ كُلًّا مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي عَدَدْنَاهُمْ يَرَوْنَ جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ، فَكَذَلِكَ قَوْمُكَ يَا مُحَمَّدُ. وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ" وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا" فَقَرَأَ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ- نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ مَعَهُمْ-" وَإِنْ كُلًّا لَمَّا" بِالتَّخْفِيفِ، عَلَى أَنَّهَا" إِنْ" الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ مُعْمَلَةً، وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: حَدَّثَنَا مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّهُ سَمِعَ الْعَرَبَ تَقُولُ: إِنْ زَيْدًا لَمُنْطَلِقٌ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ «1»:
كَأَنْ ظَبْيَةً تَعْطُو إِلَى وَارِقِ السَّلَمْ
أَرَادَ كَأَنَّهَا ظَبْيَةٌ فَخَفَّفَ وَنَصَبَ مَا بَعْدَهَا، وَالْبَصْرِيُّونَ يُجَوِّزُونَ تَخْفِيفَ" إِنَّ" الْمُشَدَّدَةَ مَعَ إِعْمَالِهَا، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْكِسَائِيُّ وَقَالَ: مَا أدري على أي شي قُرِئَ" وَإِنْ كُلًّا"! وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّهُ نَصَبَ كُلًّا" فِي قِرَاءَةِ مَنْ خَفَّفَ بِقَوْلِهِ:" لَيُوَفِّيَنَّهُمْ" أَيْ وَإِنْ لَيُوَفِّيَنَّهُمْ كُلًّا، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ جَمِيعُ النَّحْوِيِّينَ، وَقَالُوا: هَذَا مِنْ كَبِيرِ الْغَلَطِ، لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ زَيْدًا لَأَضْرِبَنَّهُ «2». وَشَدَّدَ الْبَاقُونَ" إِنَّ" وَنَصَبُوا بِهَا" كُلًّا" عَلَى أَصْلِهَا. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَابْنُ عَامِرٍ" لَمَّا" بِالتَّشْدِيدِ. وَخَفَّفَهَا الْبَاقُونَ عَلَى مَعْنَى: وَإِنَّ كُلًّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ، جَعَلُوا" مَا" صِلَةً. وَقِيلَ: دَخَلَتْ لِتَفْصِلَ بَيْنَ اللَّامَيْنِ اللَّتَيْنِ تَتَلَقَّيَانِ الْقَسَمَ، وَكِلَاهُمَا مَفْتُوحٌ فَفُصِلَ بَيْنَهُمَا بِ" مَا". وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَامُ" لَمَّا" لَامُ" إِنَّ" وَ" مَا" زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ، تَقُولُ: إِنَّ زيدا لمنطلق، فإن
(1). هو: ابن صريم اليشكري، وصدر البيت: ويوما توافينا بوجه مقسم يجوز نصب الظبية بكان تشبيها بالفعل إذا حذف وعمل، والخبر محذوف لعلم السامع. ويجوز جر الظبية على تقدير: كظبية، وأن زائدة مؤكدة.
(2)
. قال الطبري: وذلك أن العرب لا تنصب بفعل بعد لام اليمين اسما قبلها.
تَقْتَضِي أَنْ يَدْخُلَ عَلَى خَبَرِهَا أَوِ اسْمِهَا لَامٌ كَقَوْلِكَ: إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ، وَقَوْلُهُ:" إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى «1» ". وَاللَّامُ فِي" لَيُوَفِّيَنَّهُمْ" هِيَ الَّتِي يُتَلَقَّى بِهَا الْقَسَمُ، وَتَدْخُلُ عَلَى الْفِعْلِ وَيَلْزَمُهَا النُّونُ الْمُشَدَّدَةُ أَوِ الْمُخَفَّفَةُ، وَلَمَّا اجْتَمَعَتِ اللَّامَانِ فُصِلَ بَيْنَهُمَا بِ" مَا" وَ" مَا" زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ:" مَا" بِمَعْنَى" من" كقوله:" وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ"[النساء: 72] أَيْ وَإِنَّ كُلًّا لَمَنْ لَيُوَفِّيَنَّهُمْ، وَاللَّامُ فِي" لَيُوَفِّيَنَّهُمْ" لِلْقَسَمِ، وَهَذَا يَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ، غَيْرَ أَنَّ" مَا" عِنْدَ الزَّجَّاجِ زَائِدَةٌ وَعِنْدَ الْفَرَّاءِ اسْمٌ بِمَعْنَى" مَنْ". وَقِيلَ: لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ، بَلْ هِيَ اسْمٌ دَخَلَ عَلَيْهَا لَامُ التَّأْكِيدِ، وَهِيَ خَبَرُ" إِنَّ" وَ" لَيُوَفِّيَنَّهُمْ" جَوَابُ الْقَسَمِ، التَّقْدِيرُ: وَإِنَّ كُلًّا خُلِقَ لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ. وَقِيلَ:" مَا" بِمَعْنَى" مَنْ" كَقَوْلِهِ:" فَانْكِحُوا «2» ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ"[النِّسَاءِ: 3] أَيْ مَنْ، وَهَذَا كُلُّهُ هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ بِعَيْنِهِ. وَأَمَّا مَنْ شَدَّدَ" لَمَّا" وَقَرَأَ" وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا" بِالتَّشْدِيدِ فِيهِمَا- وَهُوَ حَمْزَةُ وَمَنْ وَافَقَهُ- فَقِيلَ: إِنَّهُ لَحْنٌ، حُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ زَيْدًا إِلَّا لَأَضْرِبَنَّهُ، وَلَا لَمَّا لَضَرَبْتُهُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَمَا أَعْرِفُ لَهَا وَجْهًا. وَقَالَ هُوَ وَأَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: التَّشْدِيدُ فِيهِمَا مُشْكِلٌ. قَالَ النَّحَّاسُ وَغَيْرُهُ: وَلِلنَّحْوِيِّينَ فِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ- أَنَّ أَصْلَهَا" لِمَنْ مَا" فَقُلِبَتِ النُّونُ مِيمًا، وَاجْتَمَعَتْ ثَلَاثُ مِيمَاتٍ فَحُذِفَتِ الْوُسْطَى فَصَارَتْ" لَمَّا" وَ" مَا" عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِمَعْنَى" مَنْ" تَقْدِيرُهُ: وَإِنَّ كُلًّا لِمَنِ الَّذِينَ، كَقَوْلِهِمْ:
وَإِنِّي لَمَّا أُصْدِرُ الْأَمْرَ وَجْهَهُ
…
إِذَا هُوَ أَعْيَا بِالسَّبِيلِ مَصَادِرُهُ
وَزَيَّفَ الزَّجَّاجُ هَذَا الْقَوْلِ، وَقَالَ:" مَنْ" اسْمٌ عَلَى حَرْفَيْنِ فَلَا يَجُوزُ حَذْفُهُ. الثَّانِي- أَنَّ الْأَصْلَ. لَمِنْ مَا، فَحُذِفَتِ الْمِيمُ الْمَكْسُورَةُ لِاجْتِمَاعِ الْمِيمَاتِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنَّ كُلًّا لَمِنْ خَلْقٍ لَيُوَفِّيَنَّهُمْ. وَقِيلَ:" لَمَّا" مَصْدَرُ" لَمَّ" وَجَاءَتْ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ حَمْلًا لِلْوَصْلِ عَلَى الْوَقْفِ، فَهِيَ عَلَى هَذَا كَقَوْلِهِ:" وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا"«3» [الفجر: 19] أَيْ جَامِعًا لِلْمَالِ الْمَأْكُولِ، فَالتَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا: وَإِنَّ كُلًّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ تَوْفِيَةً لَمًّا، أَيْ جَامِعَةً لِأَعْمَالِهِمْ جَمْعًا، فَهُوَ كَقَوْلِكَ: قِيَامًا لَأَقُومَنَّ. وَقَدْ قَرَأَ الزُّهْرِيُّ" لَمًّا" بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّنْوِينِ على هذا المعنى. الثالث-
(1). راجع ج 15 ص 245.
(2)
. راجع ج 5 ص 225 وص 12.
(3)
. راجع ج 20 ص 52.)
أَنَّ" لَمَّا" بِمَعْنَى" إِلَّا" حَكَى أَهْلُ اللُّغَةِ: سَأَلْتُكَ بِاللَّهِ لَمَّا فَعَلْتَ، بِمَعْنَى إِلَّا فَعَلْتَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ"«1» [الطارق: 4] أَيْ إِلَّا عَلَيْهَا، فَمَعْنَى الْآيَةِ: مَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ، قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَزَيَّفَ الزَّجَّاجُ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّهُ لَا نَفْيَ لِقَوْلِهِ:" وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا" حَتَّى تُقَدَّرَ" إِلَّا" وَلَا يُقَالُ: ذَهَبَ النَّاسُ لَمَّا زَيْدٍ. الرَّابِعُ- قَالَ أَبُو عُثْمَانَ الْمَازِنِيُّ: الْأَصْلُ وَإِنَّ كُلًّا لَمَا بِتَخْفِيفِ" لَمَّا" ثُمَّ ثُقِّلَتْ كَقَوْلِهِ «2» :
لَقَدْ خَشِيتُ أن أرى جدبا
…
في عامنا ذا بعد ما أَخْصَبَّا
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: هَذَا خَطَأٌ، إِنَّمَا يُخَفَّفُ الْمُثَقَّلُ، وَلَا يُثَقَّلُ الْمُخَفَّفُ. الْخَامِسُ- قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّشْدِيدُ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَمَمْتُ الشَّيْءَ أَلُمُّهُ لَمًّا إِذَا جَمَعْتُهُ، ثُمَّ بُنِيَ مِنْهُ فعلى، كما قرئ" ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا" «3» [المؤمنون: 44] بِغَيْرِ تَنْوِينٍ وَبِتَنْوِينٍ. فَالْأَلِفُ عَلَى هَذَا لِلتَّأْنِيثِ، وتمال على هذا القول لأصحا الْإِمَالَةِ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: الْقَوْلُ الَّذِي لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَتَكُونُ بِمَعْنَى" مَا" مِثْلُ:" إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ"[الطارق: 4] وَكَذَا أَيْضًا تُشَدَّدُ عَلَى أَصْلِهَا، وَتَكُونُ بِمَعْنَى" مَا" وَ" لَمَّا" بِمَعْنَى" إِلَّا" حَكَى ذَلِكَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وَجَمِيعُ الْبَصْرِيِّينَ، وَأَنَّ" لَمَّا" يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى" إِلَّا" قُلْتُ: هَذَا الْقَوْلُ [الَّذِي «4»] ارْتَضَاهُ الزَّجَّاجُ حَكَاهُ عَنْهُ النَّحَّاسُ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ وَتَضْعِيفُ الزَّجَّاجِ لَهُ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ صَوَابُهُ «5» " إِنْ" فِيهِ نَافِيَةٌ، وَهُنَا مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ فَافْتَرَقَا «6» وَبَقِيَتْ قِرَاءَتَانِ، قَالَ أَبُو حاتم: وفي حرف أبي:" وإن كلا إلا ليوفينهم"«7» [هود: 111] وَرُوِيَ عَنِ الْأَعْمَشِ" وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا" بِتَخْفِيفِ" إِنْ" وَرَفْعِ" كُلٌّ" وَبِتَشْدِيدِ" لَمَّا". قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذِهِ الْقِرَاءَاتُ الْمُخَالِفَةُ لِلسَّوَادِ تَكُونُ فِيهَا" إِنْ" بِمَعْنَى" مَا" لَا غَيْرَ، وَتَكُونُ عَلَى التَّفْسِيرِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ بِمَا خَالَفَ السَّوَادَ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ. (إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) تهديد ووعيد.
(1). راجع ج 20 ص 3. [ ..... ]
(2)
. البيت لرؤبة.
(3)
. راجع ج 12 ص 124.
(4)
. من ووى.
(5)
. من اوج وو.
(6)
. وردت العبارة الآتية بإحدى النسخ تصويبا لعبارة القرطبي، ومذيلة بكلمة. (حاشية):(صواب ما ذكره الشيخ رحمه الله أن يقول: إلا أن هذا القول" إن" فيه نافيه والقول المتقدم" إن" فيه مخففة من الثقيلة فافترقا).
(7)
. في ى: وإن كلا إلا ليوفينهم. وفي الشواذ: وإن كل بفتح الكاف وتخفيف اللام لما.)