الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(بالضم والفتح) كالضعف والضعف: المشقة، وحمله: أي مدة حمله، وفصاله: فطامه والمراد به الرضاع التام المنتهى بالفطام، والأشد: استحكام القوة والعقل، أوزعنى:
أي رغبنى ووفقني، من أوزعته بكذا: أي جعلته مولعا به راغبا فى تحصيله، والقبول:
هو الرضا بالعمل والإثابة عليه، فى أصحاب الجنة: أي منتظمين فى سلكهم كما تقول أكرمنى الأمير فى أصحابه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فى سابق الآيات توحيده سبحانه وإخلاص العبادة له والاستقامة فى العمل- أردف هذا الوصية بالوالدين، وقد فعل هذا فى غير موضع من القرآن الكريم كقوله:«وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» وقوله:
«أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ» .
روى أن هذه الآية نزلت فى أبى بكر إذ أسلم والداه ولم يتفق ذلك لأحد من الصحابة، فأبوه أبو قحافة عثمان بن عمرو، وأمه أمّ الخير بنت صخر بن عمرو.
الإيضاح
(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً) أي أمرناه بالإحسان إليهما والحنوّ عليهما، والبر بهما فى حياتهما وبعد مماتهما، وجعلنا البر بهما من أفضل الأعمال، وعقوقهما من الكبائر، والآيات والأحاديث فى هذا الباب كثيرة.
ثم ذكر سبب التوصية وخص الكلام بالأم لأنها أضعف وأولى بالرعاية، وفضلها أعظم كما ورد فى صحيح الأحاديث ومن ثم كان لها ثلثا البر فقال:
(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) أي إنها قاست فى حمله مشقة وتعبا من وحم وغثيان وثقل إلى نحو أولئك مما ينال الحوامل، وقاست فى وضعه مشقة من تعب الطلق وألم الوضع، وكل هذا يستدعى البر بها واستحقاقها للكرامة وجميل الصحبة.
(2- مراغى- السادس والعشرون)
ثم بين سبحانه مدة حمله وفصاله فقال:
(وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) أي ومدة حمله وفصاله ثلاثون شهرا تكابد الأمّ فيها الآلام الجسمية والنفسية، فتسير الليالى ذوات العدد إذا مرض، وتقوم بغذائه وتنظيفه وكل شئونه بلا ضجر ولا ملل، وتحزن إذا اعتل جسمه أو ناله مكروه يؤثّر فى نموّه وحسن صحته.
وفى الآية إيماء إلى أن أقل الحمل ستة أشهر، لأن أكثر مدة الإرضاع حولان كاملان لقوله تعالى:«وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ» فلم يبق للحمل إلا ستة أشهر، وبذلك يعرف أقل الحمل وأكثر الإرضاع.
وأول من استنبط هذا الحكم منها علىّ كرم الله وجهه ووافقه عليه عثمان وجمع من الصحابة رضى الله عنهم.
روى محمد بن إسحاق صاحب السيرة عن معمر بن عبد الله الجهني قال: تزوج منا رجل من امرأة من جهينة فولدت له لتمام ستة أشهر، فانطلق زوجها إلى عثمان رضى الله عنه فذكر ذلك له، فبعث إليها، فلما قامت لتلبس ثيابها بكت أختها، فقالت لها: وما يبكيك؟ فو الله ما التبس بي أحد من خلق الله تعالى غيره قط، فيقضى الله فىّ ما شاء، فلما أتى بها عثمان أمر برجمها، فبلغ ذلك عليا فأتاه فقال ما تصنع؟ قال ولدت لتمام ستة أشهر وهل يكون ذلك؟ فقال له علىّ: أما تقرأ القرآن؟ قال بلى، قال: أما سمعت الله عز وجل يقول (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) وقال:
«حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ» فلم تجده أبقى إلا ستة أشهر، فقال عثمان: والله ما فطنت لهذا، علىّ بالمرأة، فوجدها قد فرغ منها، قال معمر فو الله ما الغراب بالغراب ولا البيضة بالبيضة بأشبه منه بأبيه، فلما رآه أبوه قال: ابني والله لا أشك فيه.
وعن ابن عباس أنه كان يقول: إذا ولدت المرأة لتسعة أشهر كفاها من الرضاع
أحد وعشرون شهرا، وإذا ولدت لسبعة أشهر كفاها من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرا، وإذا ولدت لستة أشهر فحولان كاملان لأن الله يقول:(وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) .
(حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) أي حتى إذا اكتهل واستوفى السن التي تستحكم فيها قوته وعقله وهى فيما بين الثلاثين والأربعين.
(وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) وهذا نهاية استحصاد العقل واستكماله، ومن ثم روى عن ابن عباس: من أتى عليه الأربعون ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار ولهذا قيل:
إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن
…
له دون ما يهوى حياء ولا ستر
فدعه فلا تنفس عليه الذي مضى
…
وإن جرّ أسباب الحياة له العمر
قال المفسرون: لم يبعث الله نبيا قط قيل الأربعين إلا ابني الخالة «عيسى ويحيى» (قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ) أي رب وفقني لشكر نعمك التي غمرتنى بها فى دينى ودنياى، بما أتمتع به من سعة فى العيش، وصحة فى الجسم، وأمن ودعة، للإخلاص لك، واتباع أوامرك، وترك نواهيك، وأنعمت بها على والدىّ من تحننهما علىّ حين ربيانى صغيرا.
(وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) أي واجعل عملى وفق رضاك لأنال مثوبتك.
(وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) أي واجعل الصلاح ساريا فى ذريتى، متمكنا من نفوسهم، راسخا فى قلوبهم.
قال ابن عباس: أجاب الله دعاء أبى بكر فأعتق تسعة من المؤمنين منهم بلال وعامر بن فهيرة، ولم يرد شيئا من الخير إلا أعانه عليه، ودعا فقال: أصلح لى فى ذريتى، فأجابه الله تعالى، فلم يكن له ولد إلا آمنوا جميعا، فاجتمع له إسلام أبويه وأولاده جميعا، وقد أدرك أبوه وولده عبد الرحمن وولده أبو عتيق النبىّ صلى الله عليه وسلم وآمنوا به، ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة رضى الله عنهم أجمعين.
(إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي إنى تبت إليك من ذنوبى التي فرطت منى فى أيامى الخوالى، وإنى من الخاضعين لك بالطاعة، المستسلمين لأمرك ونهيك، المنقادين لحكمك.
ثم ذكر جزاء أصحاب هذه الأوصاف الجليلة فقال:
(أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) أي هؤلاء الذين هذه صفاتهم هم الذين يتقبل الله عنهم أحسن ما عملوا فى الدنيا من صالح الأعمال، فيجازيهم به، ويثيبهم عليه، ويصفح عن سيئات أعمالهم التي فرطت منهم فى الدنيا لماما ولم تكن عادة لهم، بل جاءت بحافز من القوة الشهوانية، أو القوة الغضبية، فلا يعاقبهم عليها، وهم منتظمون فى سلك أصحاب الجنة، داخلون فى عدادهم.
ثم أكد الوعد السابق بقوله:
(وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) أي وعدهم الله الوعد الحق الذي لا شك فيه، وأنه موفّ به.
وهذه الآية كما تنطبق على سعد بن أبى وقاص وعلى أبى بكر الصديق اللذين قيل فى كل منهما إن الآية نزلت فيه تنطبق على كل مؤمن، فهو موصّى بوالديه،