الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ»
من الخاسرين: أي الذين ضيعوا نظرهم الشبيه برءوس الأموال باتباعهم همزات الشياطين، والدرجات: المنازل واحدها درجة، وهى المنزلة، ويقال لها منزلة إذا اعتبرت صعودا، ودركة إذا اعتبرت حدورا، ومن ثم يقال درجات الجنة، ودركات النار، فالتعبير بالدرجات هنا على سبيل التغليب، طيباتكم: أي شبابكم وقوتكم يقولون ذهب أطيباه أي شبابه وقوته، الهون: أي الهوان والذل، تفسقون:
أي تخرجون من طاعة الله.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عزّ اسمه حال الداعين للوالدين، البررة بهما، ثم ذكر ما أعد لهما من الفوز والنجاة فى الدار الآخرة- أعقب هذا بذكر حال الأشقياء العاقّين للوالدين، المنكرين للبعث والحساب، المحتجين بأن القرون الخوالى لم تبعث، ثم رد الآباء عليهم بأن هذا اليوم حق لا شك فيه، ثم بإجابة الأبناء لهم بأن هذه أساطير الأولين وخرافاتهم، ثم ذكر أن أمثال هؤلاء ممن حق عليهم القول بأن مصيرهم إلى النار.
ثم أردف هذا أن لكل من البررة والكفرة منازل عند ربهم كفاء ما قدموا من عمل وسيجزون عليها الجزاء الأوفى، ثم أخبر بأنه يقال للكفار حين عرضهم على النار:
أنتم قد تمتعتم فى الحياة الدنيا، واستكبرتم عن اتباع الحق، وتعاطيتم الفسوق والمعاصي، فجازاكم الله بالإهانة والخزي والآلام الموجبة للحسرات المتتابعة فى دركات النار.
الإيضاح
(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما، أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي؟) أي والذي قال لوالديه أن دعواه إلى الإيمان والإقرار ببعث الله خلقه من
قبورهم ومجازاته إياهم بأعمالهم: أفّ لكما: إنى لضجر منكما، أتقولان إنى أبعث من قبرى حيا بعد موتى وفنائى، وما لحقنى من بلى وتفتت عظام؟ إن هذا لعجب عاجب فها هى ذى قرون مضت، وأمم قد خلت من قبلى كعاد وثمود ولم يبعث منهم أحد، ولو كنت مبعوثا بعد وفاتي كما تقولان لبعث من قبلى من القرون الغابرة ألا ترى إلى قول من قال:
ما جاءنا أحد يخبّر أنه
…
فى جنة لمّا مضى أو نار
وزعم مروان بن الحكم أنها نزلت فى عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق رضى الله عنه، وقد ردت عليه عائشة رضى الله عنها. أخرج ابن أبى حاتم وابن مردويه عن عبد الله قال: إنى لفى المسجد حين خطب مروان فقال: إن الله قد رأى لأمير المؤمنين (يعنى معاوية) فى يزيد رأيا حسنا أن يستخلفه، فقد استخلف أبوبكر وعمر، فقال عبد الرحمن بن أبى بكر: سنة هرقل وقيصر «1» إن أبا بكر رضى الله عنه ما جعلها فى أحد من ولده ولا أحد من أهل بيته، ولا جعلها معاوية إلا رحمة وكرامة لولده، فقال مروان: ألست «الّذى قال لوالديه أفّ لكما» فقال عبد الرحمن: ألست ابن اللعين الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباك، فسمعت عائشة فقالت لمروان: أنت القائل لعبد الرحمن كذا وكذا، كذبت والله ما فيه نزلت، نزلت فى فلان بن فلان.
والحق أن الآية لم ترد فى شخص معين، بل المراد كل شخص يقول أمثال هذه المقالة فيدعوه أبواه إلى الإيمان بالبعث وإلى الدين الصحيح فيأبى وينكر.
(وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) أي ووالداه يستصرخان الله عليه، ويستغيثانه أن يوفقه إلى الإيمان بالبعث، ويقولان له حثا وتحريضا: هلاكا لك، صدّق بوعد الله، وأنك مبعوث بعد وفاتك، إن وعد الله الذي وعده خلقه أنه باعثهم من قبورهم ومخرجهم منها إلى موقف الحساب لمجازاتهم حق لا شك فيه.
(1) يريد أن البيعة لأولاد الملوك ستة ملوك الروم، وهرقل: اسم ملك الروم.
والخلاصة- إنهما يستعظمان قوله، ويلجآن إلى الله فى دفعه، ويدعوان عليه بالويل والثبور، ليستحثاه على ترك ما هو فيه، ويشعراه بأن ما يرتكبه جدير بأن يهلك فاعله.
ثم ذكر ردّه عليهما مع الاستهزاء بهما والتعجيب من حالهما.
(فَيَقُولُ: ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي فيقول مجيبا والديه، رادّا عليهما نصحهما، مكذبا بوعد الله: ما هذا الذي تقولان لى، وتدعوان إليه، إلا ما سطره الأولون من الأباطيل، فأصبتماه أنتما وصدقتما به، ولا ظلّ له من الحقيقة.
ثم ذكر سبحانه جزاء هؤلاء على ما قالوا واعتقدوا فقال:
(أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أي هؤلاء الذين هذه أوصافهم هم الذين وجب عليهم عذاب الله، وحلت عليهم عقوبته وسخطه، فيمن حل به العذاب من الأمم الذين قد مضوا من قبلهم من الجن والإنس ممن كذّبوا الرسل، وعتوا عن أمر ربهم.
وفى الآية إيماء إلى أن الجن يموتون قرنا بعد قرن كالإنس. قال أبو حيان فى البحر: قال الحسن البصري فى بعض مجالسه: الجن لا يموتون، فاعترضه قتادة بالآية فسكت.
وفيها ردّ أيضا على من قال: إنها نزلت فى عبد الرحمن بن أبى بكر، لأنه رضى الله عنه أسلم وجبّ عنه ما قبل وكان من أفاضل الصحابة، أما من حق عليه القول فهو من علم الله تعالى أنه لا يسلم أبدا.
ثم ذكر العلة فى هذا العذاب المهين فقال:
(إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) لأنهم ضيعوا فطرهم التي فطرهم الله عليها واتبعوا الشيطان، فغبنوا ببيعهم الهدى بالضلال، والنعيم بالعذاب.
ثم ذكر أن لكل من الفريقين الذين قالوا ربنا الله، والذي قال لوالديه مراتب متفاوتة فقال:
(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي ولكل من الأبرار والفجار من الإنس والجن مراتب عند الله يوم القيامة بحسب أعمالهم من خير أو شر فى الدنيا، وليوفيهم أجور أعمالهم، المحسن منهم بإحسانه، والمسيء منهم بإساءته، وهم لا يظلمون شيئا، فلا يعاقب المسيء إلا بعقوبة ذنبه، ولا يحمل عليه ذنب غيره، ولا يبخس المحسن منهم ثواب إحسانه.
وبعد أن بين سبحانه أنه يعطى كل ذى حق حقه- بين الأهوال التي يلاقيها الكافرون فقال:
(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) أي واذكر لقومك حال الذين كفروا حين يعذبون فى النار، ويقال لهم على سبيل التأنيب والتوبيخ: إن كل ما قدر لكم من اللذات والنعيم قد استوفيتموه فى الدنيا ونلتموه ولم يبق لكم منه شىء، ولكن بقيت لكم الإهانة والخزي جزاء استكباركم وفسوقكم عن أمر ربكم وخروجكم من طاعته.
وفى هذا تحريض على التقلل من زخرف الدنيا وزينتها والأخذ بالتقشف فيها.
أخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم والبيهقي عن ابن عمر أن عمر رضى الله عنه رأى فى يد جابر بن عبد الله رضى الله عنه درهما فقال ما هذا الدرهم؟
قال أريد أن أشترى به لأهلى لحما قرموا إليه، فقال: أكلما اشتهيتم شيئا اشتريتموه؟
أين تذهب عنكم هذه الآية: «أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها» وروى الحسن عن الأحنف بن قيس أنه سمع عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول:
لأنا أعلم بخفض العيش، ولو شئت لجعلت أكبادا وصلاء «1» وصنابا وصلائق ولكنى
(1) الصلاء. الشواء بالمد والكسر، والصناب: صباغ (سلطة) يتخذ من الخردل والزبيب، والصلائق: الحملان المشوية.
أستبقى حسناتى، فإن الله عز وجل وصف أقواما فقال:«أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها» .
وقد كان السلف الصالح يؤثرون التقشف والزهد فى الدنيا رجاء أن يكون ثوابهم فى الآخرة أكمل، لا أن التمتع بزخارف الدنيا مما يمتنع، بدليل قوله تعالى «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ» .
نعم إن الاحتراز عن التنعم أولى، لأن النفس إذا اعتادت ذلك وألفته صعب عليها تركه والاكتفاء بما دونه، ولله درّ البوصيرى إذ يقول:
والنفس كالطفل إن تهمله شبّ على
…
حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
والذي يضبط هذا الباب ويحفظ قانونه: أن على المرء أن يأكل ما وجد، طيبا كان أو قفارا (الطعام بلا أدم) ولا يتكلف الطيب ويتخذه عادة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشبع إذا وجد، ويصبر إذا عدم، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها