الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعنى الجملي
بعد أن أخبر سبحانه بأنه سينصر رسله- بيّن سبيل النصر بأنه رزقهم ثبات أقدام ليزدادوا يقينا إلى يقينهم، ثم أخبر بأن من سننه أن يسلّط بعض عباده على بعض، وهو العليم بالمصالح واستعداد النفوس، وقد وعد المؤمنين جنات تجرى من تحتها الأنهار وأوعد عباده الكافرين والمنافقين الذين كانوا يتربصون الدوائر بالمؤمنين- بالعذاب الأليم، وغضب عليهم وطردهم من رحمته.
روى أحمد عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ» مرجعه من الحديبية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لقد أنزلت علىّ آية أحب إلىّ مما على وجه الأرض» ثم قرأها عليهم، فقالوا هنيئا مريئا يا رسول الله، لقد بيّن لك ماذا يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت عليه «لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ- حتى بلغ- فَوْزاً عَظِيماً» وأخرجه الشيخان من رواية قتادة.
الإيضاح
(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) أي هو الذي أنزل فى قلوب المؤمنين طمأنينة وثبات أقدام عند اللقاء ومقاتلة الأعداء (وهو المسمى فى العصر الحديث الروح المعنوية فى الجيوش) ليزدادوا يقينا فى دينهم إلى يقينهم برسوخ عقيدتهم واطمئنان نفوسهم بعد أن دهمهم من الحوادث ما من شأنه أن يزعج ذوى الأحلام، ويزلزل العقائد بصدّ الكفار لهم عن المسجد الحرام ورجوعهم دون بلوغ مقصدهم، ولكن لم يرجع أحد منهم عن الإيمان بعد أن هاج الناس وزلزلوا زلزالا شديدا حتى إن عمر بن الخطاب لم يكن راضيا عن هذا الصلح وقال: ألسنا على الحق
وهم على الباطل؟ وكان للصديق من القدم الثابتة ورسوخ الإيمان ما دل على أنه لا يجارى ولا يبارى.
(وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو الذي يدبر أمر العالم، ويسلط بعض جنده على بعض، فيجعل جماعة يجاهدون لإعلاء كلمة الحق، ويجعل آخرين يقاتلون فى سبيل الشيطان، ولو شاء لأرسل عليهم جندا من السماء فأباد خضراءهم، لكنه سبحانه شرع الجهاد والقتال، لما فى ذلك من مصلحة هو عليم بها، وحكمة قد تغيب عنا، وهذا ما عناه بقوله:
(وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) فهو لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض.
(لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً) أي وإنما دبر ذلك ليعرف المؤمنون نعمة الله ويشكروها فيدخلوا الجنة ماكثين فيها أبدا، وليكفر عنهم سيئات أعمالهم بالحسنات التي يعملونها، شكرا لربهم على ما أنعم به عليهم، وكان ذلك ظفرا لهم بما كانوا يرجون ويسعون له، ونجاة مما كانوا يحذرونه من العذاب الأليم، وهذا منتهى ما يرون من منفعة مجلوبة، ومضرة مدفوعة.
(وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ) أي وليعذب هؤلاء فى الدنيا بإيصال الهمّ والغمّ إليهم بسبب علو كلمة المسلمين، وبما يشاهدونه من ظهور الإسلام وقهر المخالفين، وبتسليط النبي صلى الله عليه وسلم عليهم قتلا وأسرا واسترقاقا، وفى الآخرة بعذاب جهنم.
وهم قد كانوا يظنون أن النبي صلى الله عليه وسلم سيغلب، وأن كلمة الكفر ستعلو كلمة الإسلام، ومما ظنوه ما حكاه الله بقوله:«بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً» .
وإنما قدم المنافقين على المشركين، لأنهم كانوا أشد ضررا على المؤمنين من الكفار المجاهرين، لأن المؤمن كان يتوقى المجاهر، ويخالط المنافق لظنه إيمانه،
وكان يفشى سره إليه، وفى هذا دلالة على أنهم أشد منهم عذابا، وأحق منهم بما أوعدهم الله به.
والخلاصة- إن الفريقين ظنوا أن الله لا ينصر رسوله ولا المؤمنين على الكافرين.
وقد دعا سبحانه عليهم بأن ينزل بهم ما كانوا يظنونه بالمؤمنين من الدوائر وأحداث الزمان فقال:
(عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) أي عليهم تدور الدوائر، وسيحيق بهم ما كانوا يتربصونه بالمؤمنين من قتل وسبى وأسر لا يتخطاهم.
ثم بين ما يستحقونه من الغضب واللعنة فقال:
(وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) أي ونالهم غضب من الله وأبعدهم فأقصاهم من رحمته، وأعدّ لهم جهنم يصلونها يوم القيامة، وساءت منزلا يصير إليه هؤلاء المنافقون والمنافقات والمشركون والمشركات.
(وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الملائكة والإنس والجن، والصيحة والرجفة والحجارة والزلازل والخسف والغرق ونحو ذلك- أنصارا على أعدائه إن أمرهم بإهلاكهم أهلكوهم وسارعوا مطيعين لذلك.
وفائدة إعادة هذه الجملة- بيان أن لله جنودا للرحمة وجنودا للعذاب، فذكرهم أوّلا بيانا لإنزالهم للرحمة، وأنهم يدخلون الجنة مكرمين معظمين، وذكرهم ثانيا بيانا لإنزال العذاب على الكافرين فى نار جهنم كما قال:«عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ» .
روى أنه لما جرى صلح الحديبية قال ابن أبىّ: أيظن محمد أنه إذا صالح أهل مكة أو فتحها لا يبقى له عدوّ، فأين فارس والروم- فبيّن سبحانه أن جنود السموات والأرض أكثر من فارس والروم.
(وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) أي وكان الله غالبا فلا يرد بأسه، حكيما فيما دبره لخلقه.