الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأتى بالقصص بأسلوب الاستفهام تفخيما لشأن الحديث كما تقول لمخاطبك هل بلغك كذا وكذا، وأنت تعلم أنه لم يبلغه، توجيها لأنظاره حتى يصغى إليه ويهتم بأمره، ولو جاء على صورة الخبر لم يكن له من الروعة والجلال مثل ما كان وهو بهذه الصورة، وتنبيها إلى أن الرسول لم يعلم به إلا من طريق الوحى.
الإيضاح
(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ. إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ؟) أي هل عندك نبأ بما حدث بين إبراهيم وضيوفه من الملائكة الذين وفدوا عليه وهم ذاهبون فى طريقهم إلى قوم لوط، فسلموا عليه فرد عليهم التحية بأحسن منها.
ثم أراد أن يتعرف بهم فقال:
(قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أي إنكم قوم لا عهد لنا بكم من قبل فعرفونى أنفسكم- من أنتم؟
واستظهر بعض العلماء أن هذه مقالة أسرّها فى نفسه أو لمن كان معه من أتباعه وجلسائه من غير أن يشعرهم بذلك، لأن فى خطاب الضيف بنحو ذلك إيحاشا له، إلى أنه لو كان أراد ذلك لكشفوا له أحوالهم، ولم يتصد لمقدمات الضيافة، ثم ذكر أنه أسرع فى قرى ضيوفه فقال:
(فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ. فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) أي فذهب خفية مسرعا وقدم لضيوفه عجلا سمينا أنضجه شيّا، كما جاء فى سورة هود «فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ» أي مشوى على الرضف.
(قالَ أَلا تَأْكُلُونَ؟) أي قال مستحثا لهم على الأكل: ألا تأكلون؟ وفى هذا تلطف منه فى العبارة وعرض حسن، وقد انتظم كلامه وعمله آداب الضيافة، إذ جاء بطعام من حيث لا يشعرون، وأتى بأفضل ماله، وهو عجل فتىّ مشوى، ووضعه بين أيديهم، ولم يضعه بعيدا منهم حتى يذهبوا إليه، وتلطف فى العرض فقال: ألا تأكلون؟
(فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) أي فأعرضوا عن طعامه ولم يأكلوا فأضمر فى نفسه الخوف منهم، ظنا منه أن امتناعهم إنما كان لشرّ يريدونه، فإنّ أكل الضيف أمنة ودليل على سروره وانشراح صدره، وللطعام حرمة، وفى الإعراض عنه وحشة موجبة لسوء الظن، وقد جاء فى سورة هود:«فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً» .
ثم ذكر أنهم طمأنوه حينئذ فقال:
(قالُوا لا تَخَفْ) منا إنا رسل ربك، وجاء فى الآية الأخرى:«قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ» .
(وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) أي فبشروه بإسحاق بن سارّة كما جاء فى سورة هود:
«فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ» وجاءت البشارة بذكر لأنه أسرّ للنفس، وأقر للعين، ووصفه بالعلم لأنه الصفة التي يمتاز بها الإنسان الكامل، لا الصورة الجميلة ولا القوة ولا نحوهما.
ثم أخبر عما حدث من امرأته حينئذ فقال:
(فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) أي فأقبلت امرأته سارّة حين سمعت بشارتهم (كانت فى ناحية من البيت تنظر إليهم) وهى تصرخ صرخة عظيمة وضربت بيديها على جبيتها وقالت: أنا عجوز عقيم فكيف ألد؟ وجاء فى الآية الأخرى: «قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً» فأجابوها عما قالت:
(قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) أي قالوا لها: مثل الذي أخبرناك به قال ربك، فنحن نخبرك عن الله، والله قادر على ما تستبعدين، وهو الحكيم فى أفعاله، العليم الذي لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء.
والخلاصة- إنها استبعدت الولادة لسببين: كبر السن والعقم، وقد كانت لا تلد فى عنفوان شبابها والآن قد عجزت وأيست، فأجدر بها الآن ألا تلد، فكأنها قالت:
ليتكم دعوتم دعاء قريبا من الإجابة، ظنا منها أن ذلك منهم كما يصدر من الضيف من الدعوات الطيبات كما يقول الداعي: أعطاك الله مالا، ورزقك ولدا، فردوا عليها بأن هذا ليس منا بدعاء، وإنما ذلك قول الله تعالى.
قد تمّ ما أردنا تصنيفه فى تفسير هذا الجزء بمدينة حلوان من أرباض القاهرة كورة الديار المصرية فى اليوم العاشر من شهر ربيع الثاني من سنة خمس وستين وثلاثمائة بعد الألف من هجرة سيد ولد عدنان.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.