المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأصل في الهجروذكر بعض أقوال وأحوال العلماء حوله - إمعان النظر في مشروعية البغض والهجر

[عبد الكريم الحميد]

الفصل: ‌الأصل في الهجروذكر بعض أقوال وأحوال العلماء حوله

‌الأصل في الهجر

وذِكر بعض أقوال وأحوال العلماء حوله

إنَّ الأصل في هجر أهل البدع والمعاصي في السنة حديث الثلاثة الذين خُلِّفُوا.

قال الطَّبَرِي رحمه الله: (قصةُ «كَعْب بن مَالك» أصلٌ فِي هُجْرانِ أهلِ الْمَعاصي)(1)، وحديث قصة كعب رواه الشيخان " البخاري ومسلم " وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي، قال الخطابي في «مَعَالِمِ السُّنَنِ» في حديث كعب بن مالك:(ونهى رسُول الله صلى الله عليه وسلم عن كَلامِنَا أيها الثلاثة): (فيه من العلم أن تحريم الهجرة بين المسلمين أكثر مِنْ ثلاث إنَّمَا هو فيمَا يكونُ بينهما من قِبَلِ عَتَبٍ ومَوْجدة (2) أو لِتقصير في حقوق العِشْرة ونحوها دون ما كان من ذلك في حق الدِّين فإن هِجْرة أهل الأهواء والبدعة دائمة على مَرِّ الأوقات والأزمان ما لَم يظهر منهم التوبة والرجوع إلى الحق) (3).

وعن عمَّارِ بنِ يَاسِر رضي الله عنه قال: قَدِمْتُ عَلَى أَهلِي لَيلاً وَقَدْ تَشَقَّقَتْ

(1) أنظر: «فتح الباري» لابن حجَر (10/ 497)، و «الزجر بالهجر» للسيوطي ص (13).

(2)

الموْجدة: الغضب.

(3)

أنظر: «سنن أبي داود بشرح الخطابي " مَعَالِم السُّنن "» ، (5/ 9) ورقم (4600).

ص: 9

يَدَايَ، فَخَلَّقُونِي بِزَعْفَرَانٍ (1)، فَغَدَوْتُ عَلَى النبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمْتُ عَليهِ فَلَم يَرُدَّ علَيَّ ولَم يُرَحِّبْ بِي وَقال:(اذْهَبْ فَاغْسِلْ هَذَا عَنْكَ)، فَذَهَبتُ فَغسلته ثُمَّ جِئتُ وَقَد بَقيَ علَيَّ مِنه رَدْعٌ (2) فَسَلَّمتُ فَلم يَرُدَّ علَيَّ ولَم يُرَحِّبْ بِي وقالَ:(اذْهَبْ فَاغْسِلْ هَذَا عَنْكَ)، فَذَهبتُ فَغَسَلته ثُمَّ جِئْتُ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيَّ وَرَحَّبَ بِي وَقَالَ:(إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَحْضُرُ جَنَازَةَ الْكَافِرِ بِخَيْرٍ، وَلَا الْمُتَضَمِّخَ بِالزَّعْفَرَانِ، وَلَا الْجُنُبَ)، قالَ:«وَرَخَّصَ لِلْجُنُبِ إِذَا نَامَ أَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَنْ يَتَوَضَّأَ» انتهى (3).

فَتَأمَّل هذا وتصَوَّر لَوْ فُعِل مِثلُه اليوم، مع أنَّ هذا الْخَلُوقَ اسْتعمَلَهُ «عَمَّارُ» رضي الله عنه للدواء!؛ فمَا عَسَى أنْ تكُونَ حَالُنا مَع نَبينا صلى الله عليه وسلم لو كانَ حَيًّا ونَحنُ عَلى أموُرٍ وَعظائم لَا يُحِيطُ بِعِلْمِهَا إلَاّ اللَّهُ تعَالَى!؛ وَقَد يَسْهُلُ عَلى كلِّ أحَدٍ أن يُنكَر مَا لَا يُوافِقُ مُرَادَه وهَواهُ مِنْ الْهَجْر والتغْليظِ على العُصَاةِ، ويسْهلُ عليه أنْ يَعِيبَ وَيَشتُمُ ويُكابِرُ!، فَهَذا كُلُّه وَارِدٌ مِنْ نفُوسٍ لَمْ تُزَمْ بِزِمَامِ التقوى حتى ولَوْ كانَ مَا يُنكِرُه

(1) خلَّقوني؛ أي: جعلوا الخلوق من قماش ونحوه في شقوق اليد للمداواة؛ أنظر «عون المعبود» لمحمد العظيم آبادي (11/ 155).

(2)

ردْع؛ أي: لَطْخ من بقية لون الزعفران؛ أنظر «عون المعبود» (11/ 155).

(3)

أخرجه أبو داود في «سننه» برقم (4601)؛ والبيهقي في «سننه الكبرى» برقم (8754)، وأحمد في «مسنده» برقم (18906)، وأبو يَعْلَى في «مسنده» برقم (1635)، والبزار في «مسنده» برقم (1402)؛ وهو حديثٌ حَسَن.

ص: 10

ويعيبه حَقًّا، أمَّا الْمُتَّقِي فيتذَكَّر رُجُوعَه إِلَى رَبِّهِ وَوُقوُفِهِ للمُحَاسَبَةِ وَيَعْلَم أنه بِغَيْرِ وَزْنِهِ الأمورَ بالْمِيزَانِ الشَّرْعِيِّ مُقْدِمٌ عَلى تَهْلُكَةٍ!، وقد أصبحَ من الْمُسْتَغْرب في زَمَانِنَا الإذعانُ للحَقِّ لا رَدُّهُ وَإِنكَارُهُ!.

وعن الزهري رحمه الله أنَّ رجلاً سلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فلم يَرُد عليه!، فقيل له: لِمَ؟!، قال:(إِنَّهُ ذُو وَجْهَين)! (1).

وقال أبو داود بعد أن ذكر أحاديث فيها النهي عن هجر المسلم؛ قال رحمه الله: (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَجَرَ بَعْضَ نِسَائِهِ أربعينَ يَوْماً، وابنُ عُمَرَ هَجَر ابناً له إِلَى أنْ مَاتَ) انتهى (2)، ويأتي - إنْ شاء الله تعالى - في أثناء الكتاب غير ما تقدم من هجره صلى الله عليه وسلم.

وفي صحيح مسلم رحمه الله (3) أن قريباً لعبد الله بن مغفل خَذَف فنهاه فقال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الْخَذْف وقال: (إِنَّهَا لَا تَصِيدُ صَيْدًا وَلَا تَنْكَأُ عَدُوًّا وَلَكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ)، قال: فعاد، فقال: أحدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه ثم عُدْتَ تخذف لا أكَلِّمك أبداً.

قال النووي رحمه الله على حديث عبد الله بن مغفل: (في هذا الحديث هجران أهل البدع والفسوق ومُنَابِذِي السنة مع العلم، وأنه يجوز

(1) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» برقم (25464).

(2)

أنظر: «سنن أبي داود» ، (4/ 279).

(3)

برقم «1954» .

ص: 11

هجرانه دائماً؛ والنهي عن الهجران فوق ثلاثة أيام إنما هو فيمن هجر لحظ نفسه ومعايش الدنيا، وأما أهل البدع ونحوهم فهجرانهم دائماً، وهذا الحديث مِمَّا يؤيده مع نظائر له كحديثِ كعب بن مالك وغيره) انتهى (1).

وقد جاءَ أنَّ محمَّد بن سِيرين حَدَّث بِحَدِيثٍ فقال رَجُلٌ: قال فلانٌ كذا؛ فقال ابنُ سيرين: (أحَدِّثك عن رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وتقول: " قال فلان كذا "، لَا أكلِّمُك أبَداً) انتهى (2).

وعن الزهري رحمه الله عن سَالِم بن عبد الله أنه قال: أعرستُ في عهد أبي فأذِن (3) أبي الناس، وكان أبو أيوب فيمن آذنَّا، وقد ستروا بيتي (4) ببجاد أخضر (5)، فأقبل أبو أيوب فدخل فرآني قائماً، فاطَّلَع فرأى البيت مُستَّراً ببجاد أخضر فقال: يا عبد الله أتَسْترون الْجُدُر؟!، قال أبِي واستحيا:" غَلَبَنا النساء يا أبا أيوب "، قال:(مَن خشي أن يغلبنَّه النساء فلم أخش أن يغلبنك!)، ثم قال:(لا أطْعَم لَكُم طعَاماً ولا أدخُل لكُم بيتاً)، ثُمَّ خَرَج رضي الله عنه (6).

(1) أنظر: «شرح النووي على صحيح مسلم» ، (13/ 106).

(2)

أخرجه الدارمي في «سننه» برقم (441)، والقاسمي في «قواعد التحديث» ص (295).

(3)

آذن: دَعَا.

(4)

البيت: الغرفة.

(5)

هو جنس من الأنماط أو الثياب يستر بها الجدران قاله ابن الأثير.

(6)

أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (4/ 118، 119)، وابن عساكر في «تاريخه» (16/ 50)، وسنده قوي؛ وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 55):(رجاله رجال الصحيح)؛ ورواه البخاري في «صحيحه» (5/ 1986) تعليقاً.

ص: 12

وهذا مِن نُصْحِه رضي الله عنه لئلَاّ يَرْكَن الناسُ إلى زخَارِفِ الدنيا وَزِينَتِهَا؛ كيف لو رأى الصحابة رضي الله عنهم ما نحنُ فيه!، فهذا جِدارُ طينٍ غايته أنه سُتِر بِخِرْقةٍ وفي لَيلة عُرْسٍ!، واللَّهُ المستعان.

ص: 13