المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌دعوى محبة بلا غيرة ولا غضب - إمعان النظر في مشروعية البغض والهجر

[عبد الكريم الحميد]

الفصل: ‌دعوى محبة بلا غيرة ولا غضب

‌دعوى محبة بلا غيْرة ولا غضب

!

كثيرون في وقتنا يدَّعون الْحُبَّ في الله ولكنهم لا يُبغضون فيه!، وهذا من تلاعب الشيطان بهم لأنَّ حقيقةَ الحب في الله لا تحصل إلَاّ بحقيقة البغض فيه، ولَمَّا خفَّ الأولُ وثَقُلَ الثاني اكتفينا بالدعوى!، والله المستعان.

قال شيخُ الإسلامِ رحمه الله: (وكثير مِمَّن يَدَّعي المحبة هو أبْعَد من غَيْرِهِ عن اتباع السُّنة، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، ويَدَّعِي مع هذا أَّن ذلك أكملُ لطريقِ المحبة من غيره لزعمه أنَّ طريقَ المحبة ليس فيه غَيْرة ولا غضب لله، وهذا خلافُ ما دَلَّ عليه الكتابُ والسُّنة) انتهى (1).

وطائفة (التبليغ) فيهم شَبَهٌ كبير من ذلك، وأكثر مَن يَنتَسِبُون للدِّين سلكوا هذا الْمَسْلكَ وهم لَا يَنتمُون إلى هذه الطائفة!.

وقد قال يوسف بن أسباط: سمعت سفيان الثوري يقول: (إذا أحببتَ الرَّجُلَ في الله، ثُمَّ أحْدَثَ حَدَثاً في الإسلام فلم تُبغضه عليه فإنك لَمْ تُحبه في الله!) انتهى (2).

فتأمَّل الميزانَ ومَدَارَ قَلْبِ الصَّادق، وانظر ما كان عليه نبيك

(1)«مجموع الفتاوى» ، (10/ 83).

(2)

«حلية الأولياء» ، (7/ 34).

ص: 55

محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّ شيخَ الإسلام رحمه الله بعد ما ذكر حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (مَا ضَرَبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قَطُّ بِيَدِهِ ولَا امْرَأة ولا خادِماً إلَاّ أنْ يُجَاهد في سبيل الله، ومَا نِيلَ منه شيءٌ قَطُّ فَينْتَقِمُ من صَاحبِهِ إلَاّ أنْ يُنتَهَك شَيءٌ مِن مَحَارِمِ اللهِ فينتقم لِلَّهِ عز وجل)(1)؛ قال شيخ الإسلام بعد أنْ ذَكَرَ هذا الحديث: (فقد تَضَمَّنَ خُلُقُه العظيم أنه لا ينتقم لنفْسِهِ إذا نِيل منه، وإذا انتُهِكَت مَحَارِمُ الله لَم يَقُمْ لغضبه شيء حتى ينتقِمْ لله) انتهى (2).

وانظُر ما ينكِرُه الكثيرون من الغضب إذا انْتُهِكَت مَحَارِم الله، فيكون فاعل ذلك الغضب هو صاحبُ المنكَرِ فيُنكَرُ عليه، ويُرْمى بكلِّ بَليَّة!.

وليَعلم أصحاب الآراء المخالفة لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يحتجُّون برحمة العُصَاة في عدم التغليظ عليهم أو معاقبتهم بالحدود الشرعية أنهم تاركون للرحمة الحقيقية لِخُدَعٍ وهْمِيَّة ضارَّة لهم بترك المأمور وللعصاة بالتمادي في الإصرار والغرور، وتأمل ما ذكره ابن تيمية رحمه الله في هذه المسألة حيث قال: (وبِهَذا يتبين أنَّ العقوبات الشرعية كلها أدويةٌ نافعةٌ يُصْلِحُ الله بها مرض القلوب، وهي من رحمة الله بعباده، ورأفته بهم الداخلة في قوله تبارك وتعالى: {وَمَا

(1) أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (6461)، ومسلم برقم (2328) واللفظ له.

(2)

«مجموع الفتاوى» ، (15/ 169).

ص: 56

أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (1)، فمَن تَرَك هذه الرحمة النافعة لِرَأفَةٍ يجدها للمريض فهو الذي أعانً على عذابه وهلاكه وإنْ كان لا يريد إلَاّ الخير إذْ هو في ذلك جاهل أحمق، كما يفعله بعض النساء والرجال الجهَّال بِمَرْضَاهم وَبِمَن يُربُّونَه من أولادهم وغِلْمَانهم وغيرهم في تَرْكِ تأديبهم وعقوبتهم على ما يأتونه من الشَّرِّ ويتركونه من الخير رأفة بهم، فيكون ذلك سبب فسادهم وعدوانهم وهلاكهم) إلى آخره (2).

فهذا يُبيِّن أنَّ مَن أبطل حدودَ الله والبغضَ والْهَجْر فيه عز وجل بِدَعْوَى الرحمةِ أنه تاركٌ للرَّحمة الحقيقيَّة مُتَسَبِّبٌ للعُصَاة بفسادهم وعُدْوانهم وهلاكهم.

وزماننا هذا مليء بالعجائب والغرائب حتى أنه من الحرص الشديد على تغيير النَّهْج السَّلَفي لِمُخَالفته للمفتونين يرى بعضهم ما سَمَّاه (تجديدَ الخطابِ الدِّيِنِي) ويستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: (ِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا)(3)، ومعنى هذا الحديث صَحيحٌ، ولكنَّ ليسَ الدِّينَ - كمَا يَزعُم الْمُتَّبِع لِهَواه -

(1) سورة الأنبياء، آية:107.

(2)

من «مجموع الفتاوى» ، (15/ 290).

(3)

أخرجه أبو داود في «سننه» برقم (4291)، والحاكم في «مستدركه» برقم (8592) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ وقال عنه السَّخاوي في «المقاصد الحسَنة» ص (149):(إسناده صحيح، ورجاله كلهم ثقات).

ص: 57

يُجاري أهواء الناس وأزمَانِهِم ومُحْدَثَاتِهِم فَيحتَاج كُلُّ زمانٍ إلى مَن يُجدِّده بِمَعنى يُلْبِسهُ مُحْدَثات كل زمان ويُخْرِجه للناس بقَالَب ذلك اللباس الْمُتَناسِب مع ما أحدثوا، بل مَعناه الصحيح داحض لِمَزَاعِمِ أهلِ الْهَوى مُعَاكِس مُعَارِض لأهوائهم حيثُ إنَّ المرادَ بتجديد الدِّين إعادته إلى ما كان عليه في عهد النبوة والخلافة الراشدة بإعادة الناس إليه كما هو بإبطال ما أحدثوا مِمَّا يُفْسِده، وإلَاّ فهو جَديدٌ بنفْسِه إلى نِهَاية الدنيا؛ يُوضِّح ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن مُحْدَثات الأموُر بعد أمْره بالتمَسُّكِ بِهَدْيِه وهَدْي خُلفَائِه الراشدين (1)، وقد خافَ صلى الله عليه وسلم على أمَّته الأئمةَ الْمُضِلِّين (2)، وقد كَثُروا في وقتنا - لا

(1) حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسُنَّةِ الخلفاء الراشدين المهديين، تَمَسَّكوا بِهَا وَعَضُّوا عليها بالنواجِذِ، وإياكم ومُحْدَثات الأمُور .. ) الحديث أبو داود برقم (4607)، والترمذي في «سُنَنه» برقم (2676) - وصحَّحَه -، وأحمد في «مسنده» برقم (17184)، وأخرجه ابن حبان في «صحيحه» برقم (5)، وغيرهم؛ وكلهم من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه؛ وصحَّحَه شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (28/ 493) والشوكاني في «السيل الجرَّار» (4/ 504).

(2)

حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما أخافُ على أمتي الأئمة المضلين) أخرجه أبو داود في «سُنَنه» برقم (4252)، والترمذي برقم (2229)، وأحمد في «مسنده» برقم (22447)، وابن حبان في «صحيحه» برقم (6714)، والحاكم في «مستدركه» برقم (8390)، وغيرهم؛ وكلهم من حديث ثوبان رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الحاكم عقِبه:(حديث صحيح على شرط الشيخين ولَم يُخرِّجاه بِهَذه السِّيَاقة) ووافقه الذهبي.

ص: 58

كَثَّرهم الله -.

والخلاصة أنَّ الدِّينَ جديدٌ أبَداً، وإنما الناس بِبُعدهم عنه وإحداثهم ما ليس منه وتَزَيِّيهم بغير زِيِّه يَتَّسِخُوا!؛ فتجديده قَطْعاً عائِدٌ عليهم برجوعهم له حقيقة، وإلَاّ فهو في الحقيقة جديدٌ بذاته.

فالْمُجَدِّد للدِّين حقيقةً هو مَن يدعو الناسَ إلَى تَرْكِ مَا أُحْدِثَ بعد الرعيل الأول ولزوم مَا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزومه، وهو الصراط المستقيم الذي كان عليه وأصحابه رضي الله عنهم.

ص: 59