الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
قال الرافعي في «شرح المسند» : (حَقُّ الْمُبتدع أن يُهْجر، وأن يُحَذَّر عن مكاتبته وَمُجَالسته) انتهى (1).
إنَّ مصائِبَنا في هذا الوقت لا تحصى، ومنها مصائب قاتلة؛ وهي أنَّ أكثر وأعظم مَا وَقَع الناسُ فيه مِن بِدَع ومَعَاصٍ بل وَكُفْر لا يَعدُّون ذلك مُخَالِفَة للشَّرْع حيث سَوَّغه لَهُم مشايخ هَانَ عليهم وَعِيدُ الْجَبَّار وتهاونوا بقوله تعالى:{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} (2)، فدَخَل الناس في الظلمات أفواجاً إلَاّ مَا رَحِمَ الله.
قال ابن عبد البَرِّ رحمه الله: (وجَائِزٌ أنْ يَهْجُر مَن لَمْ يسمع منه ولَمْ يُطِعْه، وليس هذا من الهجرة المكروهة، ألَا تَرى أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أمَرَ الناسَ ألَاّ يُكَلِّمُوا «كَعْبَ بن مالك» حين تَخَلَّف عن تبوك، وهذا أصلٌ عند العلماء في مُجَانَبة من ابتدع وهُجْرته وقطْع الكلام معه)(3)؛ وقد حَلَف ابنُ مسعود رضي الله عنه ألَاّ يُكلِّم رجُلاً رآه يضحك مع جنازة حيث قال له: (أتضْحَك وأنتَ تَتَّبِعُ جنَازة!، واللهِ لا
(1) أنظر: «الزجر بالهجر» ، ص (28).
(2)
سورة النحل، آية:25.
(3)
«التمهيد» ، (4/ 86).
أكَلِّمُكَ أبَداً!) (1).
انظر قول ابن عبد البر: (وهذا أصلٌ عند العلماء في مُجَانَبَةِ مَن ابتدع وَهِجْرته وقطع الكلام عنه) مَع أنَّ كعباً وصاحببيه ليسوا مُنَافِقِين بل مُؤمِنِين وقد هجرهم النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم حتى نزلت توبتهم، والذنب فقط هو التخلُّف عن غزوة فكيف بِمَا نحن فيه الآن؟!.
وانظر الآن إلى ما حصل من النبي صلى الله عليه وسلم مع صاحب قُبَّةٍ مُشَرَّفَةٍ وهَجْرِه له وإعراضه عنه؛ فَعَن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خَرَج فرأى قبة مُشَرَّفة فقال: (مَا هَذا؟!)، قال له أصحابه: هذه لفلانٍ - رَجُلٍ مِن الأنَصار -؛ قال: فَسَكت وَحَمَلَهَا فِي نَفْسِه حتى إذا جَاء صَاحِبُهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُسَلِّم عليه في الناس أعْرَضَ عنه - صَنَع ذلك مِرَاراً -، حتى عَرَفَ الرَّجُل الغَضَبَ فيه والإعراضَ عنه، فَشَكا ذلك إلى أصحابه فقال: والله إني لأُنكر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؛ قالوا: خرج فرأى قُبَّتَك؛ قال: فَرَجَع الرَّجُلُ إلى قُبَّتِهِ فَهَدَمَهَا حتى سَوَّاها بالأرضِ، فَخَرَج رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذاتَ يومٍ فَلَمْ يَرَها، قال:(مَا فَعَلَتْ القُبَّةُ؟!) قالوا: شكى إلينا صاحبها إعراضَك عنه فَأخْبَرناه فَهَدَمَهَا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمَا إنَّ كُلَّ
(1) أخرجه البيهقي في «شُعب الإيمان» برقم (9271)، وابن عبد البَرِّ في «التمهيد» (4/ 87)، وغيرهم.
بِنَاء وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ إلَاّ مَالَا، إلَاّ مَالَا) - يَعْنِي مَا لَا بُدَّ مِنْه - (1).
وإذَا كان هذا في قُبةٍ مُشَرَّفَةٍ من الطين فكيفَ بِمَا نَحْنُ فيهِ مِن التنافسِ على مَسَاكِنِ (الخلود) في الدنيا؟!، مَع أنَّهَا تَشَبُّهٌ بالكفَّار في مَسَاكِنِهِمْ، وتُنفق في بنائها الأموال الكثيرة، وغير ذلك من آفات ليس هذا موضع ذكرها، وهذا من نصحه صلى الله عليه وسلم لأمته وشفقته ورحمته لئلا يغْتَروا بالدنيا وَيَرْكنوُا إليها ويَطُول فيها أمَلُهُم، فهل يَتَناسب ما نَحْن فيه في هذا الزمان مَع قَول النبي صلى الله عليه وسلم:(كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأنَّكَ غَرِيبٌ أوْ عَابِرُ سَبِيلٍ)(2)؟!، أو مَع مَا فَعَلَ مَع صَاحِبِ القُبة؟!، وتأمَّلْ بِهَذه المناسَبَةِ كلامَ «ابن حزْم الأندلسي» حينما رأى تشاغُلَ حُكَّامِ زَمَانهِ وهُمْ يَتشبَّهُون بالكفار في تشييد الدنيا وغفلتهم عن الدِّين حيث قال: (اللَّهُمَّ إنَّا نَشْكُو إِلَيْكَ تَشَاغُلَ أهْلِ الْمَمَالِكِ مِنْ أهْلِ مِلَّتِنَا بِدُنْيَاهُمْ عَنْ إِقَامَةِ دِينِهِمْ، وَبِعِمَارَةِ قُصُورٍ يَتْرُكُونَهَا عَمَّا قَرِيبٍ عَنْ عِمَارَةِ شَرِيعَتِهِمْ اللَاّزِمَةِ لَهُمْ فِي مَعَادِهِمْ وَدَارِ قَرَارِهِمْ، وَبِجَمْعِ أمْوَالٍ رُبَّمَا كَانَتْ سَبَباً إِلَى انْقِرَاضِ أعْمَارِهِمْ وَعَوْناً
(1) أخرجه أبو داود في «سننه» برقم (5237)، وابن ماجه في «سننه» برقم (4161)، والطبراني في «المعجم الأوسط» برقم (3081)، وأبو يعلى في «مسنده» برقم (4347)، والضياء المقدسي في «الأحاديث المختارة» برقم (2747)، وأخرجه أيضاً برقم (1537) وحسَّن إسناده؛ وقال المنذري في «الترغيب والترهيب» (3/ 76):(إسناده جيِّد)؛ وكذا قال ابن مفلح في «الآداب الشرعية» (3/ 408)، والسيوطي في «البدور السافرة في أمور الآخرة» ص (71).
(2)
أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (6053) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
لأَعْدَائِهِمْ عَلَيْهِمْ!) انتهى (1).
فإذا كان «ابنُ حزْم الأندلسي» يقول ذلك عن سَادَةِ زَمانه فَمَاذا عسَاه أنْ يَقُول لَوْ رأى الناسَ فِي زَمَانِنَا حُكَّاماً وَمَحْكُومِينَ وهُمْ يَتَشَبهُونَ بالكفَّار في تَشْييدِ الدُّنيا بِمَا لَا مَثيلَ لَه مِن قَبْلُ إِلى غَايَةِ أنه لَوْ صَاحَ صَائِحٌ من السَّمَاءِ وقال: (يَا أهْلَ الدُّنْيَا خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ) لَمَا زَادُوا عَمَّا هُمْ عَلَيهِ في تَشْييدِهِم ذَلِكَ! (2).
ثم انظُرْ مَا تَقَدَّم ذِكْرُه من تغليظِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه على مَن رآه يضحك وهم في جنازة!، كيف لو رأى السلفُ الْمُشيِّعين للجنائز اليومَ ومَا هُمْ لَاهُون لَاغُون فيه مِنْ ضَحِكٍ وكلامٍ في أمورِ الدنيا وجوَّالَاتٍ مُصاحِبة لهم ومراكب جائلة في الْمَقابر!، وهذا لا يَدل على شيء إلَاّ على قوله تعالَى:{لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} (3)!، أمَّا لو تذكَّر الإنسانُ أنَّ هذا مصيره وقد أُخفي عليه حِينُه وتذكَّر ما وَرَدَ في شأن القبر وكَوْنه رَوضة من رياض الجنة أو حفرة من حُفَر النار وسؤال «مُنكَر ونكير» لصارَتْ له حالٌ غير هذه الحالة الإستكبارية الْجَفَائية الْمُعلِنَةُ أنَّ صَاحِبَهَا فِي شأنٍ غير الشأن الذي خُلِق له وأمِر به، وأنَّ العقْلَ عازبٌ، وفي أودية طول الأمَل ذاهبٌ!.
وحينما نَظَر أبو الدَّرداء رضي الله عنه إلَى رَجُلٍ يَضْحك في جِنَازةٍ قال له:
(1)«رسائل ابن حزم» ، (3/ 41).
(2)
أنظر للفائدة كتابنا: «عيوب تشييد البناء في دار الفناء» .
(3)
سورة الأنبياء، من الآية:3.
(أمَا كَانَ فِي مَا رَأيتَ مِنْ هَوْلِ الموْتِ مَا يَشْغَلك عَن الضَّحِك!)(1).
وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: (كَانَتْ تَكونُ فِيهِمْ الْجِنَازَةُ فَيَظلُّون الأيام مَحْزُونِينَ يُعرَفُ ذَلِكَ فِيهِمْ!)(2)، وقال أيضاً:(كُنَّا إذَا حضَرْنا جِنَازَةً أوْ سَمِعنَا بِمَيِّتٍ عُرِفَ ذلك فِينَا أيَّامًا؛ لأنَّا قَدْ عَرَفنا أنه قَد نَزَل به أمرٌ صَيَّرَه إِلَى الْجَنَّةِ أو إلى النَّارِ)، ثم قال:(فَإِنَّكُمْ فِي جَنَائِزِكُمْ تَحَدَّثونَ بِأحَادِيثَ دُنيَاكُمْ!)(3).
وعن الأعمَشِ رحمه الله أنه قال: (إنْ كُنَّا لَنشهَد الْجِنَازَة فلَا نَدري مَن نُعزِّي مِنْ حُزنِ القَومِ!)(4)؛ فتأمَّل ذلك ومَا نَحنُ فيه اليوم! (5).
(1)«تاريخ دمشق» لابن عساكر، (47/ 194).
(2)
«الزهد» لوكيع ص (232)، و «حلية الأولياء» لأبي نعيم (4/ 227).
(3)
«الزهد» للإمام أحمد ص (365)، وانظر:«البداية والنهاية» لابن كثير (9/ 160).
(4)
«مُصَنف ابن أبي شيبة» ، (8/ 318)، ورقم (169).
(5)
أنظر قصيدة مهمة للمؤلف في هذا الموضوع بعنوان: «القبور الواعظة» ، وهي ملحقة بالطبعة الثانية من كتاب «معرفة المأمور به والمحذور في زيارة القبور» ص (73 - 75).