المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المداهنة المداهِن يَضُرُّ نفْسَه بمخالفته ويضر المدَاهَن بتهوين معصيته ويغرُّ مَن - إمعان النظر في مشروعية البغض والهجر

[عبد الكريم الحميد]

الفصل: ‌ ‌المداهنة المداهِن يَضُرُّ نفْسَه بمخالفته ويضر المدَاهَن بتهوين معصيته ويغرُّ مَن

‌المداهنة

المداهِن يَضُرُّ نفْسَه بمخالفته ويضر المدَاهَن بتهوين معصيته ويغرُّ مَن يقتدي به، ومِن هنا واللَّهُ أعلم قالوا:(الْمُدَاهِن شَرٌّ من العَاصِي!).

قال سفيان الثوري رحمه الله: (إذا أثنى على الرجل جيرانه أجمعون فهو رَجُل سوء)، قالوا: كيف؟!، فقال:(يراهم يعملون بالمعاصي فلا يُغَيِّر عليهم ويلقاهم بوجْهٍ طَلِق) انتهى (1).

وفيه أنَّ العصاة لا يُلقون بوجه طلق، وفيه أنَّ العِبْرة بلزوم الاستقامة، وليس الْمَطْلب ثناء الناس أو الْهَرَب من ذَمِّهم سواء جيران الإنسَان، أوْ غيرهم؛ فكم من مغرور بالثناء والمدح، وكم من فارٍّ من الثلب والقدْح دون ميزان شرعي!، فهذا ميزانه جاهلي.

بعد هذا ماذا يقول مَن أنكر هجر العصاة؟!.

ولقد سَمِعْتُ العَجَبَ من أهل زماننا حتى أنَّ كثيراً منهم يُحيلون هذا الفِعْل إلى سوء أخلاق الهاجر وتشدده وتزمُّتِه وضيق عَطَنِه ونحو ذلك؛ ولقد غَرَّهم أمران وهما:

(1)«حلية الأولياء» (7/ 30)؛ وانظر: «سير أعلام النبلاء» للذهبي (7/ 278).

ص: 29

الأول: جُرْأتهم على مَحَارم الله وَقِلَّة خَوْفه.

الثاني: مداهنة الْمُتَدَيِّنين لهم، وَحَسْبُ المداهِن أنْ يُوصف بأنه شيطان أخرس فقد زادهم بذلك فُجُوراً وغروراً.

ولقد كاد أنْ يَغِيبَ الفرقانُ الشرعي في زماننا إلَاّ ما شاء الله حيث أصبح الدِّين الحق في غاية الغربة.

وقد قال ابن القيم رحمه الله عن المداهنين بعد أن ذكر الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة لله ورسوله وعباده ونصرة الله ورسوله ودينه وكتابه؛ قال: (فهذه الواجبات لا تَخْطر بِبَالِهِم فضلاً عن أن يريدوا فِعْلها، وفضلاً عن أن يفعلوها.

وأقَلُّ الناس دِيناً وأمْقتهم عِند الله مَن تَرَك هذه الواجبات وإنْ زهد في الدنيا جَمِيعِهَا.

وقَلَّ أن ترى منهم من يَحْمَر وجهه ويُمَعِّرُهُ لله، ويغضب لِحُرُماته ويبذل عِرْضَه في نَصْرِ دِينه، وأصحاب الكبائر أحسن حالاً عند الله من هؤلاء) انتهى باختصار (1).

تأمل قوله رحمه الله: (يَحْمرّ وجهه ويمعِّره لله ويغضب لحرماته، ويبذل عرضه لنصر دينه) مع أنَّ هذا عند أكثر أهل الوقت - لا كثرهم الله - تَشَنُّجاً وتزمُّتاً وضِيق عَطَن، وصاحبه مُصَابٌ بأمراض نفسيه!.

وقائل هذا الكلام ونحوه عند انتهاك محارم الله يكون فيه من

(1)«عدة الصابرين» ، ص (143).

ص: 30

صفات الشيطان الأخرس بتركه إنكار المنكر ومن صفات الشيطان الناطق لِطَعْنه على المنكِر للمنكَر، وما أكثر هؤلاء!، فالله المستعان.

قال شميط بن عجلان رحمه الله: (مَن رضي بالفسق فهو من أهله)(1).

وقال الأوزاعي رحمه الله: (إذا رأيت العالِم كثير الأصدقاء فاعلم أنه مُخَلِّط لأنه لوْ نطق بالحق لأبغضوه!) انتهى (2)؛ وهو وَصْف المداهن، وَيوضحه ما جاء عن سفيان الثوري رحمه الله أنه قال:(كثرة الإخوان من سَخَافَة الدِّين!)(3)، وقال:(كَثْرةُ الأخلَاّء مِن رِقِّةِ الدِّين!)(4).

ولا ريب أن لِمُدَاهنة الفساق والعصاة آثار سوء، وكُتُبُ أهلِ السُّنة حافلة ببيان هذا والتحذير منه.

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ

(1)«الزهد» للإمام أحمد، ص (229)؛ وانظر:«صفة الصفوة» لابن الجوزي (3/ 341).

(2)

«فيض القدير» للمناوي، (4/ 274).

(3)

«التواضع والخمول» لابن أبي الدنيا ص (69) ورقم (42)، و «الورع» للإمام أحمد ص (193)؛ وانظر:«الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم الرازي (1/ 94).

(4)

«الطبقات الكبرى» للشعراني، (1/ 46).

ص: 31

وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً) (1).

وقال صلى الله عليه وسلم: (لَا تُصَاحِبْ إِلَاّ مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَاّ تَقِيٌّ)(2).

وقد ذكر أهلُ العلمِ أنَّ «عبدَ الرزاق بن هَمَّام» ما دخل في التشيُّع إلَاّ بعد أنْ سَمِعَ وصَحِب «جعفر بن سليمان» (3).

ورُمِيَ بالقَدَر «ابن أبي ذئب» حينما تلطَّف مع القدرية وأدخلهم مجلسه؛ قال الذهبي: (كان حَقُّه أن يكفهرَّ في وجوههم، ولَعَلَّه كان يُحسن الظنَّ بالناس) انتهى (4).

وقد كان «عِمْران بن حطان» من أهل السنة، وحينما تزوَّج

(1) أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (5214)، ومسلم برقم (2628)، وغيرهم؛ وكلهم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

(2)

أخرجه أبو داود في «سننه» برقم (4832)، والترمذي في «سننه» برقم (2395)، وأحمد في «مسنده» برقم (11355)، الحاكم في «مستدركه» برقم (7169)، وغيرهم؛ وكلهم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ وقال الحاكم عقبه:(هذا حديث صحيح الإسناد ولَم يُخرجاه) ووافقه الذهبي؛ وحسَّنه البغوي في «شرح السنة» (6/ 468)، وحسَّنه - أيضاً - ابنُ مفلح في «الآداب الشرعية» (3/ 527).

(3)

أنظر: «تذكرة الحفاظ» للذهبي (1/ 241)، و «سير أعلام النبلاء» (9/ 570)، و «الكامل» لابن عدي (5/ 315).

(4)

«سير أعلام النبلاء» (7/ 141).

ص: 32

خارجية صَارَ من أئمة الخوارج؛ قال ابن عساكر: (وعمران بن حطان كانَ رَجُلاً مِنْ بَنِي سدوس أدرك جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وصار في آخر أمره أنْ رأى رأي الخوارج؛ وكان سبب ذلك فيما بَلَغَنَا أنَّ ابنة عمٍّ له رأتْ رأيَ الخوارج فتزوَّجَها ليردَّها عن ذلك فصَرَفَتْه إلى مذهبها!) انتهى (1).

قال ابن مسعود رضي الله عنه: (اعتبروا الناس بأخدانهم فإنَّ المرءَ لا يُخَادِن إلَاّ مَن يُعجبه)(2).

وعن عمرو بن قيس أنه كان يُقال: (لَا تُجالس صاحب زَيْغٍ فيزيغ قلبك)(3).

وقال يحيى بن سعيد القطان: لَمَّا قدم سفيان الثوري رحمه الله «البصرة» جعل ينظر إلى أمْرِ الربيع بن صبيح وقَدْره عند الناس فسَأل: (أيُّ شيءٍ مذهبه؟!)، قالوا: مَا مَذهبه إلَاّ السُّنة؛ فقال: (مَن بطانته؟!)، قالوا: أهلُ القَدَر؛ فقال: (هُوَ قَدَرِي!)(4).

قال ابنُ بَطَّة رحمه الله مُعلِّقاً على كلام «سفيان الثوري» بعد أنْ

(1) أنظر: «تاريخ دمشق» لابن عساكر (43/ 490)، و «تهذيب الكمال» للمزي (22/ 323).

(2)

أخرجه ابن بطة في «الإبانة» برقم (381)، وابن أبي الدنيا في «الإخوان» برقم (38).

(3)

«الإبانة» ، رقم (371) و (395).

(4)

«الإبانة» ، رقم (426).

ص: 33

ذكَرَه: (لقد نطق بالحكمة فَصَدَق، وقال بالعلم فوافق الكتاب والسنة، وما تُوجِبُه الحكمةُ، ويُدركه العَيانُ، ويعرفه أهلُ البصيرَةِ والعَيانِ، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} (1)) انتهى.

وقد قيل للأوزاعي رحمه الله: إنَّ رَجُلاً يقول: " أنا أجالس أهل السنة وأهل البدع "؛ فقال: (هذا رجل يُرِيدُ أن يُساوي بين الحق والباطل!)(2).

وقال سفيان الثوري رحمه الله: (ليس شيء أبلغ في فَسَادِ رَجُلٍ وصَلَاحِه مِن صَاحِب!)(3)، يعني تأكُّد تأثُّره به.

ولذلك يقول عديُّ بن زيد (4):

عَنِ الْمَرْءِ لَا تَسْألْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ

فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِي!

وَصَاحِبْ أُوْلِي التَّقْوَى تَنَلْ مِنْ تُقَاهُمُ.

وَلَا تَصْحَبِ الأرْدَى فَتَرْدَى مَعَ الرَّدِي

وقال الفُضَيل بن عِيَاض رحمه الله: (ليس للمؤمن أنْ يَقْعُد مع كُلِّ مَن شَاءَ لأنَّ الله عز وجل يقول: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا

(1) سورة آل عمران، من الآية:118.

(2)

«الإبانة» ، رقم (434).

(3)

«الإبانة» رقم (504).

(4)

«بَهجة المجالِس» لابن عبد البر، (1/ 151).

ص: 34

فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (1)) انتهى (2).

قال شيخ الإسلام رحمه الله: (ورُفع إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله قومٌ يشربون الخمر وكان فيهم جليس لَهُم صائم فقال: «ابدؤوا به في الْجَلد، ألم تسمع الله يقول: {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} (3)») ثم قال ابن تيمية بعد ذلك: (فإذا كان هذا في الْمُجَالسَة والعِشْرة العارضة حين فِعْلهم للمُنْكَر يكون مُجَالِسُهُم مِثْلاً لَهُم فكيف بالعِشْرَةِ الدائمة!) انتهى (4)؛ فليتأمل الْمُداهن هذا!.

وقد قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (وَمِن أنواعِ مَكايده وَمَكْره - أيْ الشيطان -: أنْ يدعو العبدَ بِحُسْنِ خُلُقِهِ وطلاقَتِه وَبِشْرِه إلى أنواعٍ من الآثام والفجُور، فيلقاه مَن لَا يُخَلِّصُه مِن شَرِّه إلَاّ تَجَهُّمه والتعبيس في وجهه والإعراض عنه، فَيُحْسِّن له العدوُّ أنْ يلقاه بِبِشْرِه وطلاقة وجهه وحُسْن كلامه، فيتعلق به فيروم التخلص منه فيعجز، فلا يزال العدوُّ يسعى بينهما حتى يُصيب حاجته، فيَدْخُل على العبدِ بِكَيده مِن بابِ حُسْنِ الْخُلْق وطَلَاقة الوَجه!، ومن هَهُنَا وصَّى أطباءُ القلوبِ بالإعراضِ عن أهل البِدَع وأنْ لَا يُسَلِّم

(1) سورة الأنعام، من الآية:68.

(2)

«الإبانة» ، رقم (514).

(3)

سورة النساء، من الآية:140.

(4)

«مجموع الفتاوى» ، (15/ 315).

ص: 35

عليهم، ولا يُرِيهِمْ طلاقةَ وجْهِهِ، ولَا يلقاهُمْ إلَاّ بالعبوس والإعراض) انتهى (1).

ص: 36