الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
عن يزيد بن يوسف أنه سألَ يزيدَ بن أبي حبيب رحمه الله عن الشطرنج، فقال يَزِيدُ:(لَوْ مَرَرْتُ بِقَومٍ يلعَبوُنَ بالشِّطْرَنْجِ مَا سَلَّمْتُ عَلَيْهِم!)(1).
قال الشيخ حمود التويجري رحمه الله بعد أنْ أوْردَ هذا الكلام: (قلتُ: وَمِثْل اللاعبين بالنرد والشطرنج اللاعبون في زماننا بالجنجفة (2)، والكيرم، وما أشبه ذلك مِمَّا يُلهي ويصُدُّ عن ذِكْرِ اللهِ وعن الصَّلاة فَلَا يُسلَّم عليهم، ولَا يُسَلَّم أيضاً على اللَاّعبين بالكُرَةِ لأنها مِن أعظم ما يُلهي ويصُد عن ذِكْرِ الله وعن الصلاة، وفيها من الْمَفَاسد نَحْوَ مَا فِي النرد والشطرنج وأعظم) انتهى (3).
وقال رحمه الله أيضاً: (فإذا كانت الدار يُسْمعُ منها الغِناء وأصوات الملاهي فصاحبها مُعْلِنٌ مُجَاهِرٌ يُسَنُّ هَجْرُه أو يَجِب؛ وكذلك إذا كانت آلاتُ اللَّهْو، أو أواني الخمْر، أوْ أوْعِية الدُّخَان الخبيث أوْ آلات شُرْبه تُرى في الدار لا يُخفيها صاحب الدار عن الداخلين، أوْ كانت رائحة الدُّخَان الخبيث أو غيره من الْمُسْكِرَات تُوجَد في فِيِّ
(1) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» برقم (6526)؛ وأورده المزي في «تهذيب الكمال» (32/ 287).
(2)
وهي التي تسمى: (الورقة) و (الأونو).
(3)
«تحفة الإخوان» ، ص (59 - 60).
أحَدٍ أو مِن بيته فصَاحِبُ ذلك مُعْلن مُجَاهر يُسَنُّ هَجْرُهُ أوْ يَجِبُ) انتهى (1).
وَيُوضِّحُ ما تَقَدَّم قولُ شيخِ الإسلامِ رحمه الله: (مَن أظهرَ المنكَرَ وجَب الإنكار عليه وأن يُهْجَر ويُذَمُّ على ذَلك، فهذا معنى قولهم: «مَن ألقَى جِلْبَابَ الحياءِ فلَا غِيبَة له» بِخِلَاف مَن كان مُسْتتراً بِذَنْبه مُسْتخفياً، فإنَّ هذا يُسْتر عليه لكن يُنْصَح سِرًّا، وَيَهْجُره مَن عرفَ حَالَه حتى يَتُوبَ، وَيَذْكرُ أمْرَه على وَجْهِ النَّصِيحَةِ) انتهى (2).
وشيخ الإسلام رحمه الله لَمْ يأتِ بشيءٍ مِنْ عنده في قوله: (مَنْ أظهَرَ الْمُنكَرَ وَجَبَ الإنكَارُ عليهِ) فقد قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ؛ فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ؛ فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ الإِيِمَان)(3)؛ فحالق اللحية، ومُسبل الثياب، وشارب الدخان، وحامل الصور أو آلة التصوير، أو المتشَبِّه بالكفار في لباسهم الْمُحَرَّم، ونحو ذلك؛ كلُّ هذا داخل في قوله صلى الله عليه وسلم:(مَنْ رَأى مِنكُم مُنكَرًا .. ) الحديث.
(1)«تحفة الإخوان» ، ص (63 - 64).
(2)
«الفتاوى الكبرى» ، (4/ 413).
(3)
أخرجه مسلم برقم (49)، وابن حبان في «صحيحه» برقم (306)، والنسَائي في «سننه الكبرى» برقم (11739)، وأبو داود برقم (1140)، وابن ماجه برقم (1275)، والترمذي برقم (2172)، وأحمد في «مسنده» برقم (11166)، وغيرهم؛ وكلهم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً.
وقد قال السفاريني رحمه الله: (وقد هجَرَ الإمامُ أحمد رحمه الله جَمَاعة مِمَّن أجابوا في الْمِحْنَةِ مثل يَحْيَى بن معين وعلي بن المديني وغيرهما مع فخامة شأنِهم؛ وكم إمام هَجَرَ خِدْناً كان أعَزَّ عليه - لولا انتهاكه لِمَحَارِمِ مَولاه - مِنْ رُوحِهِ فَصَار بذلك كالْجماد، بل أدنَى.
قال القاضي أبو حسين فِي «التمَام» : " لا تختلف الرواية في وجوب هجر أهل البِدَع وفسَّاق الْمِلَّة ").
ثم قال: (فينبغي لك إنْ كنتَ مُتَّبِعاً سُنَنَ مَن سَلَف أنَّ كُلَّ مَن جاهرَ بِمَعاصي الله لا تعاضده ولَا تساعده ولا تقاعده ولا تُسَلِّم عليه، بل اهجره) انتهى (1).
ولكن مَن لَمْ يُسلِّم على العصاة اليوم بل حتى الكفرة فأقل ما يقال فيه أنه مستكبر، وهذا الصِّنف لا يعرفون ما أعَزَّ الله به المؤمن من الأنَفَةِ والاشمئزاز مِمَّن عصى معبوده، وقَد قال رجل للحَسَن البصري رحمه الله: إنك مُتكَبِّر!، فقال:(لستُ بِمُتكَبِّرٍ ولكني عَزِيز)(2) - وقدْ تقدَّم ذِكْرُه -.
فمِنْ مَواهبِ اللهِ لِعِبَادِه الصالحين أنْ يجعل في قلوبهم النُّفْرَةِ والبغض لِمَن عصاه، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (3)، وقد
(1)«غذاء الألباب» ، (1/ 222).
(2)
«طريق الهجرتين» ، ص (186 - 187).
(3)
سورة المنافقون، من الآية:8.
قال عَليُّ بنُ أبي طَالب رضي الله عنه: (مَن أراد عِزاً بلا سلطان وكثرةً بلا عشيرة وغِنى بِلَا مَالٍ فليتحوَّل من ذُلِّ المعصِيَةِ إلى عِزِّ الطَّاعَة)(1).
ولِهَذا قال مُحمَّد بن الوَرَّاق:
هَاكَ الدَّلِيلَ لِمَنْ أرَا
…
دَ غِنىً يَدُومُ بِغَيْرِ مَالِ
وَأرَادَ عِزَّاً لَمْ تُوَطِّـ
…
ـدُهُ العَشَائِرُ بِالْقِتَالِ
وَمَهَابَةً مِنْ غَيْرِ سُلْـ
…
ـطَانٍ، وَجَاهاً فِي الرِّجَالِ
فَلْيَعْتَصِمْ بِدُخُولِهِ
…
فِي عِزِّ طَاعَةِ ذِي الْجَلَالِ
وَخُرُوجِهِ مِنْ ذِلَّةِ الْـ
…
ـعَاصِي لَهُ فِي كُلِّ حَالِ (2)
ويكفي في ذلك ما جاءَ في الحديثِ الصحيح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ؛ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ)(3).
فلْيُفَتِّش العبدُ عن نَفْسِه وَليحْذَر مَنْ ألِفَ العُصَاةَ ولَم يجد في نفْسه نفرةً منهم لأنَّ ذلك مِنْ التشاكل والتعارف، وقد يَغْتر بعضُنَا بأنه وإنْ لَمْ يبغضهم لكن هو ليس يعمل بِمَعْصِيَتِهم فيقال: قَدْ يكون فيه أعظم منها وهو لَا يَشْعر!، فقد ذَكَر بعضُ أهلِ العِلْم أنَّ
(1) أنظر: «العِقد الفريد» لابن عبدِ ربه الأندلسي (1/ 302)؛ و «الأنساب» للسمعاني (3/ 503) وقد نسبه لجعفر الصادق رحمه الله.
(2)
«بَهجة المجالس» ، (1/ 40، 85).
(3)
أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (3158) من حديث عائشة رضي الله عنها؛ ومسلم برقم (2638) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الكبائرَ الباطنة أعظم من الكبائر الظاهرة، وذلك مثل الرياء والعُجْب والحسَد ونحو ذلك (1)، والْمُرَاد أنه لَابُدَّ من وجودِ النُّفْرَةِ والبغض لِعِلَّةِ عدم التَّجَانُسِ والْمُشَاكلة، وإلَاّ فإنَّ الأمرَ خطير.
وللمُدَاهنة والمخالطة أضرار تضُرُّ الفاعل وتتعدَّى لِغَيْره؛ ولذلك يقول محمد الزمزمي: (ولَا نُبَالِي بعد ذلك بِطَعن الْمُدَاهنين والْمُجاملين والمرجفين والذين في قلوبهم مرض الذين يزعمون الحكمةَ والسِّيَاسةَ والْخُلُقَ والصَّبر والتسامُحَ مع أهلِ الضَّلال والظُّلم والزيغ والبِدَع والْخُرَافَاتِ والأهواءِ لكنهم إذا مَسَّهم أحدٌ من المسلمين الصادقين الموحِّدين في أمْرٍ من أمورهم الدنيوية انقلبوا وُحُوشاً ضَارية مُفترسة لَا يَرقبون فيه إلاًّ ولَا ذِمَّة ولو كَانَ مِن المقربين!؛ وَلَعَمْرُ الله إنَّ ضررَ هؤلاءِ لعظيمٌ، والبلية بهم شديدة لأنَّ العَامَّةَ يغترون بهم ويغترون بِمَن يداهنونهم فيظنونَ أنَّ أولئك على حَقٍّ وعلى خير فيما سكتوا عنه من الظلم والبِدَعِ والمعاصي والْمُشَاقَّةِ لله ولرسوله، فيعتمد العامَّةُ على ذلك فَيَضِلُّون فتكون تَبِعَتُهُم على الْمُداهنين والْمُجَاملين والسَّاكتين والْخَائِفِين من الناس!) انتهى (2).
وقد قال ابنُ عقيل رحمه الله في كتابه «الفُنون» : (الصحابة رضي الله عنهم
(1) أنظر: «مدارج السالكين» لابن القيم، (3/ 223).
(2)
«إعلام المسلمين بوجوب مقاطعة المبتدعين والفجار والفاسقين» ، ص (40).
آثَرُوا فِرَاقَ أنفُسِهم لأجلِ مُخَالفاتها للخَالِقِ سبحانه وتعالى، فهذا يقول:" زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي "(1)، ونَحْنُ لا نَسْخُوا أنْ نُقَاطِع أحَداً فيه لِمَكانِ الْمُخَالَفَة!) انتهى (2).
وعن عاصم بن أبي النجود قال: مَرَّ رَجُلٌ من الأنصار على زِرِّ بنِ حُبيش وهو يُؤَذِّن فقال: يا أبا مريم قد كنت أكرمك عن الأذان!؛ فقال: إذَنْ لَا أُكَلِّمكَ كَلِمَةً حتى تَلْحَق باللهِ) (3).
وقد هَجَر الإمامُ أحمد الْحزامي، وكان الحزامي هذا قد ذَهَبَ إِلَى ابنِ أبِي دُؤَاد، فَلمَّا أتى إلى الإمامِ أحْمَد رحمه الله أغْلَقَ البَابَ فِي وَجْهِهِ وَدَخَل (4).
إنَّ مصيبة مصائب العصاة في وقتنا أنهم يُكابرون مَن يُنكر عليهم، وَحُجَّتهم مُقَلَّديهم من مشايخِ ونحوهم فَيحتجون بِفِعْلِهم
(1) أنظر: ما أخرجه مسلم في «صحيحه» برقم (1695) وغيره، وفيه قصة " ماعز بن مالك " حيث زنَى فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:(يا رسول الله: طهِّرْنِي)؛ وفيه أيضاً قصة المرأة الغامدية التي زَنت وجاءت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله: إني قد زنيت فَطَهرِّنِي)، وفي آخر القصة بعد أن رُجم " مَاعِز " فمات رحمه الله ورضي عنه - أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة الكرام أن يستغفروا له، ثم قال:(لقد تاب توبة لو قُسِمت بين أمة لوسِعتهم)؛ وقال صلى الله عليه وسلم عن " الغامدية " بعد أن تم رجْمُها فماتت: (لقد تابَت توبة لوْ تابَها صاحب مَكس لغُفر له) ثم صلى عليها ودَفَنها - رحمها الله ورضي عنها -.
(2)
أنظر: «غِذاء الألباب» ، (1/ 223).
(3)
أخرجه ابن سَعد في «طبقاته» (6/ 105)، وابن عساكر في «تاريخه» (19/ 30).
(4)
أنظر: «مناقب الإمام أحمد» لابن الجوزي، ص (250).
وَبِشُبهاتهم التي ضلوا بِهَا وأضلوا مَن قلَّدَهم!، ومعلومٌ أنَّ هذه حُجَجٌ داحِضَة، ولذلك يَرْمُون مُخَالِفَهم بالغُلوِّ والتزمت ونَحو ذلك!، وإذا ترفَّقُوا به رَمَوْه بالْجَهْل!.
وقد قال يحيى بن كثير رحمه الله: (إذا لَقِيتَ صاحبَ بِدعة في طريقٍ فخُذ في طريق آخر)(1).
وقال الْحَسَن البصري رحمه الله: (لا تُجَالس صاحبَ هوى فيَقْذِف فِي قلبك ما تَتْبَعه عليه فتهلك أو تُخَالفه فَيَمْرض قلبك!)(2).
وقال أبو قلابة رحمه الله: (لَا تُجَالِسُوا أهلَ الأهواءِ ولَا تُجَادلوهم؛ فإِنِّي لَا آمَن أنْ يَغْمِسُوكم فِي ضَلَالَتِهم، أوْ يُلَبِّسُوا عَليكُم في الدِّينِ مَا لُبِّسَ عَلَيهِمْ!)(3).
(1) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» برقم (9463).
(2)
«الاعتصام» للشاطبي، (1/ 55 - 56).
(3)
أخرجه اللالكائي في «اعتقاد أهل السنة» برقم (244)، وابن المستفاض في «القدر» برقم (366) وصحح إسنادَه.